دورية نجيب محفوظ: الخطوة الأولى
العدد الأول: ديسمبر 2008
المجلس الأعلى للثقافة
نجيب محفوظ: آخر البدايات
… يراوغنا نجيب محفوظ عادة وهو يلوح لنا بأن ثمة نهاية، لكننا نكتشف دائما أنه لا ينتهى إلا ليبدأ.
حين طُلب منى أن أساهم فى سرد بعض ما عايشت من بداياته، لم أتردد، وفى نفس الوقت لم أستطع أن أحدد ما هو أحق بالحكى.
منذ شرفت بصحبته متأخرًا، لاحظت أنه لا ينقطع عن البدايات أبدًا. المعروف عن نجيب محفوظ أنه شديد الانضباط فى حياته اليومية، وكأن اليوم يتكرر عنده بحذافيره، اكتشفت أنه ليس تكرارا وإنما هو محاولة إحاطة بقفز البدايات من محيط الإبداع,
نجيب محفوظ يبدأ جديدا فى كل ما يأتى ويبدع.
حين جرى ما كان، وشرفت بصحبته ردحًا من الزمن، أتيح لى أن أرصد بداية من بداياته الجديدة القديمة، بداية معاودته الكتابة ضد كل التوقعات والحسابات العلمية والعملية، تعلمت ما لم أكن أتصوره، علما وواقعا. عايشته وهو يعيد تأهيل نفسه ليبدأ الكتابة من جديد حتى انتصر على الإعاقة بتدريب يومى طوال خمس سنوات، حتى استطاع أن يكتب بنفسه ما كتب لا يوجد طبيب أعصاب ف الدنيا يمكن أن يتصور أن العطب الذى لحق بالعصب المسئول عن حركة يد بعد الحادث الغادر كانت يده أعجز من أن تمسك أى شىء بأى درجة من الاتزان، ناهيك عن أن تمسك بقلم يتحرك سنه على ورقة، لكنه فعلها: كل يوم، كل ضحى، كل يوم، كل يوم تال، كل يوم .. كل يوم .. راح يدرب نفسه على التحريك الطليق (شخبطة)، ثم على التحريك البطىء، ثم راح يتصور أنه يكتب شيئا ما، واكتفينا بملء صفحة واحدة فى كراسة تلو الكراسة، كانت الصفحة تأخذ فى البداية سطرين أو ثلاثة على الأكثر، ثم أربعة، لم أكن أتبين فيها حرفا واحداً يمكن قراءته، وكنت أتابع تقدمه ساعة بساعة، وأسأله عن “عمل الواجب” يوميا تقريبا (هو الذى اقترح هذه التسمية، وهو يقدم كراسة الواجب صباح كل يوم)، فيبتسم مداعباً وينبهنى إلى أنه تلميذ حريص على التقدم، فأفرح بشطارته وأداعبه بما يناسب، وأنا أتعلم منه كيف يكون حب الحياة مثابرة وإصراراً، راح يتدرب يومياً، حتى بعد أن نجح أن يكتب ما يمكن قراءته.
فى السنة الأولى كنت أفرح فرحا لا يخفى حين أنجح أن أقرأ حرفا واحدا بين كل ما “شخبط”، بدأت الحروف تتميز فى شكل هلامى أسفل يسار كل صفحة. لم أسأله، تبينت بعد شهور طويلة أنه توقيعه، اسمه، لكن ماذا تحت ما يشبه التوقيع، أشكال أخرى ليست حروفا، وبعد شهور تبينت أنها أرقام. ثم بعد عام وبعض عام عرفت أنه تاريخ اليوم الذى كتب فيه “الواجب”. وكان يشاركنى فرحتى وأنا أبلغه بعض ما نجحتُ فى قراءته، أعنى كنت أشاركه فرحته، وحين استطاع بعد أكثر من عامين أن يكتب جملة على بعضها كان هذا هو عيدنا الكبير، ورحت أميز فى بعض الصفحات “رب اشرح لى صدرى”، “إن الله مع الصابرين”، “سبحان الملك الوهاب”، وكذلك: “سالمة يا سلامة”، “خفيف الروح بيتعاجب”، ثم لمحت اسمه أيضا ليس فى أسفل الصفحة، ما هذا؟ إنه يسبقه اسم آخر، آه!! هذا هو: إنها فاطمة نجيب محفوظ، أم كلثوم نجيب محفوظ، فأدعو لهما وله.
ثم أفلح أن أقرأ تعليقا فى نصف سطر على حدث سياسى آنىً… إلى آخر ما احتفظت به وسلمته للأستاذ الدكتور جابر عصفور المسئول الأول عن جمع تراثه فى اللجنة المكلفة بذلك، وقد سمح لى بنسخة من كل ذلك، آمل أن يتم تصميفها لدراستها مع الابن الصديق د. حسين حمودة.
هذه الخبرة الفريدة أكدت لدىّ يقيناً – كان فرضاً – بقدرات وتحديات هذا الجهاز الرائع، نعمة البشرية عبر التطور بفضل الله، الجهاز المسمى “المخ البشرى” نشأ الفرض أصلاً وأنا أتابع أستاذى وصديقى المرحوم أ.د. أبو شادى الروبى بعد أن فقد النطق نتيجة لجلطة فى شريان الدماغ المغذى لمركز الكلام فى النصف الطاغى من المخ، لكنه استطاع أن يتحدى ليستعيد أبجدية الكلام، كلمة كلمة، كان ذلك عن طريق اكتشافه مصادفة حقيقة علمية لم يكن يعرف هو شخصيا، لعدم التخصص، عنها شيئا: وهى أن النصف الآخر (غير الطاغى) مختص بحفظ الصور الكلية والأنغام. أكتشف د. أبو شادى ذلك بالصدفة فعلا. ذلك أنه بعد أن فقد النطق تماما، اكتشف أنه يميز إحدى السيمفونيات التى يحبها، لكنه لا يعرف أن يسميها، فأخذ يعيدها مئات المرات وهو يستعيد الاستمتاع بكل مقطع فيها دون اسمها، حتى نجح فجأة فى تسميتها، فعرف الطريق وراح يواصل العناد وهو يواصل حب الحياة بطريقته التى يمكن أسميها الآن: الطريقة المحفوظية، راح صديقى أ.د. أبو شادى الروبى يقلب فى مكتبته الموسيقية، وهو يتعرف على الأنغام دون الأسماء، هذه هى السيمفونية، التى .. وذاك هو هو الكونشرتو الذى أعرفه فعلا.. فقط لو .. وتلك هى السوناتا هى فعلا ولكن .. وسيمفونية أخرى، فسوناتا أخرى، فكونشرتو آخر، فلست أدرى ماذا، ثم إنه بعد أن جمع أبجدية مناسبة من الألفاظ، راح يكمل معجمه الجديد بحل الكلمات المتقاطعة بمثابرة منقطعة النظير، حتى استعاد كل أبجديته وأغلب ذاكرته، قال لى يوماً إنه حين نجح أن ينطق الرقم ثمانية “8” بعد أن ظل يرسمه عشرات المرات، كان يعرف معناه وترتيبه ودلالته، والرقم الذى قبله والذى بعده، دون أن يعرف نطقه تحديدا، نطق الرقم “ثمانية” راح يحاول كل يوم، كلما صادفه، راح يكتبه مئات المرات، والرقم يتأبى ويراوغ، وحين نجح فجأة أن ينطقه شعر أن ولد من جديد “أى والله عرفت الولادة من جديد، هل تصدقنى يا يحيى”؟ هكذا كانت ألفاظه حرفيا يرحمه الله، ولم أحتج أن أقول إننى ولدت معه وهو يحكى، فكيف لا أصدقه!.
رحت أعيش مع شيخى نجيب محفوظ مثل هذه الاحتفالات بولادة أى حرف جديدة وسط “الشخبطة” العنيدة المتكررة، كنا نتهته على الورق، هو كتابة وأنا قراءة، ومع ذلك لم يكن الحمل عسيراً، ولم تتوقف فرحتنا بالولادات المتلاحقة الراقصة العابثة: الأولاد الحروف، والبنات الكلمات، كنت أحاورها وهى تلعب شقية غامضة على الورق، وخيل إلى أنها كانت أحيانا تخرج لى لسانها لتثبت لى أنها انتصرت على زعم العجز الدائم حسب تكهنات العلم التقليدى.
حين تمت ولادة الحروف فالكلمات، بدت الأحوال جاهزة للتقارب معا لتصنع إبداعا جديدا، تيقنت من متابعتى ما يكتب فى تدريباته اليومية أنه أصبح قادراً على أن يصيغ أفكاره هو، وليس فقط أن يخط اسمه أو اسم إحدى كريمتيه أو آية قرآنية كريمة، تأكدت أنه على وشك أن “يعملها”، تجرأت فسألته، هل ثم شىء فى الطريق؟ أجابنى مبتسما وهو يشير إلى دماغه أنه يشعر “بنغبشة” ربما يتمخض منها شىء ما، وقد كان، فكانت “أحلام فترة النقاهة”.
هذه الذرية الجميلة لم يكن يمكن حبسها فى حجرته أو أدراج مكتبه، فجاءت حفلة السبوع الجماعية ضاخبة جميلة حين ظهرت أولى “أحلام فترة النقاهة” للناس فى مجلة أسبوعية “نصف الدنيا”.
ها هى فرصة معايشة بداية جديدة وهى معاودة التواصل مع ناسه، لقد كان نشر الأحلام هو نوع أخر من تجديد البدايات: ها هو الرجل الذى عاش بالناس وللناس يظهر عليهم جديداً على الملأ، نعم، وصلتنى بداية النشر على أنها بمثابة ولادة جديدة على مستوى آخر، فقد أعاد له تواصله مع ناسه/وجوده، صحيح أن نبل أصدقائه لم يترك له ثانية فراغ واحدة، وأن عائلته الكريمة ظلّت تحيطه بكل ما يلزمه وأكثر، كل هؤلاء شىء، وناسه – كل الناس – شىء آخر، هذا رجل لا يستطيع أن يعيش إلا للناس وبالناس، ليس فقط لمن حوله وبمن حوله من الناس، ولكن لكل الناس، ثم إنه لا يكفى أن يعيد الناس قراءة ما سبق أن كتبه، فهو إنسان يتفجر طزاجة مدهشة مبدعة ناضجة فائفة متجددة، واستمراره يتوقف على ما يصل من هذا الجديد لأصحابه، كل الناس.
وأخيرا،
فإنه حتى الموت لم يستطع أن يبلغنى منه أى معلم من معالم أية نهاية.
حين أشفق شيخنا علينا فلم يستأذن أيّا منا وهو يختار أن يرجع إليه ليرضى “… وعجلت إليك ربى لترضى”، رضى الله عنه فرضىَ عنه، رحت أعيش جزع الفقد ولوعة الفراق، لكن لم يخطر ببالى أبدا أنها النهاية، أو أنه الموت أصلا، كان بداخلى يقين أنها ليست إلا بداية جديدة، فقط هى بداية معالمها ليست فى متناولنا “الآن”.
ينتقل الوعى الفردى إلى الوعى الكونى إلى وجهه الله تعالى، فأين النهاية؟!!
إلى هذه البداية كان شيخنا يسعى طول عمره حتى تحقق له ما أراد،
فإذا لم يكن فى مقدورنا أن نحيط بإبداعه الجديد هذا “الآن”، فلنشحذ أدوات كدحنا، ونحن نقتفى بداياته المتجددة أبدا، أعنى بداياتنا، ربما يصلنا بعض ما تيسر مما أراد توصيله بكل ما “كان” وما “فعل” و”يفعل” و”نفعل”..!!