أخبار الأدب
نشرت بتاريخ: 10 مارس2013
نبض الناس
الحزن، والتنازل عن الحرية لإحيائها (3)
مَسختْ مزاعم الرفاهية واستسهال التقليد وكثير من النفسيين “الحزن” حين أطلقوا عليه لفظ “الاكتئاب”، مع أن موقف الحزن الخلاّق هو الذى يميز الكائن البشرى وهو يمارس حريته فى حضور آخر. مُسخت الحرية أيضا حين اختزلناها فى المعنى السطحى القائل: “حريتى تنتهى عند بدء حرية الآخرين“، وأولى بنا أن نقول : “حريتى تبدأ حين تلتحم جدلا ولافيا مع حرية الآخر”، أما الثمن الذى ندفعه لهذا الاقتحام المتبادل مع “آخر” فهو الحزن العظيم، مهلا: إنه الثمن الذى نقبضه وليس الذى ندفعه، ذلك لأن هذا الحزن الحيوى إنما يعلن حضور نوعية الوعى البشرى المتكامل (المتعدد معا) فى مواصلة سعيه للتفاعل الموضوعى مع وعى بشرى آخر يقوم بنفس الدور، فهو نتيجة تحمل مسؤولية الاعتراف بصعوبة التواصل وضرورته فى آن، فهو نوع ناضج من الحرية يكاد يختص به الكائن البشرى، إن الاختبار الحقيقى لفعل الحرية لا يكون فى فراغ، إذ لا بد من حضور”آخر” موضوعى ماثل تتم مواجهته والتفاعل معه على نفس المستوى .
قلنا الأسبوع الماضى إن المجنون (بدءا بالفصامى) قد اختار أن يسلب نفسه حق الاختيار بممارسة اختيار زائف حين اختار حرية الجنون بإرادة جزئية ذاتية منغلقة ، بمعنى أن الجنون هو فعل الحرية لتستحيل، فى حين أن الحرية الحقيقية إنما ترتبط بحضور الآخر فى الخارج وفى الوعى معا بكل موضوعيته وتحدياته، ومن ثم صعوباته مع ضرورته، هذا النوع من الاكتئاب يكاد يكون خاصا بالإنسان دون سائر الأحياء، إن معايشة هذا الحزن اليقظ هو الدليل على قبول الواحد منا أن يحافظ على علاقته بالآخر، بالتنازل النسبى عن حريته، حين لا ينسحب من مواجهته، ولا يلغيه، ولا يستبدله فى نفس الوقت، وهو إذ يفعل ذلك يجد أن عليه أن يتحمل الوعى بحضور كلـّية الآخر وبمخاطر الاقتراب منه مختلفا ككلٍّ موضوعى، و هو يقوم بذلك دون يقين باستمرار هذا الحضور، فيعايش احتمال أن يهجره هذا الآخر طول الوقت، فيتولد هذا الاكتئاب الحيوى أكثر إيلاما وحيوية ونبضا، وهو يعلن حركـيّة الحرية بشكل عميق متجدد. اختيار الاستمرار مع آخر دون اختزال أو إجمال هو العامل الأساسى الذى يولد هذا الحزن الحيوى الذى أسميته فى العلاج: “إحياء ديالكتك النمو” حيث يهدف هذا العلاج إلى تنمية الوعى، وليس التخلص من الحزن دون تصنيفه. علاقة كل ذلك بالإبداع علاقة وثيقة تماما، وهو ما سنعود إليه لاحقا.
إن تعريفنا لما هو إنسان بأنه الكائن الذى اختار أن يحمل الأمانة حتى دون أن تُعرض عليه عندما اكتسب الوعى، ثم الوعى بالوعى، ثم راح يمارس عبء ما اكتسبه هذا مع كائن بشرى آخر له نفس المواصفات، هو الذى فرض علينا هذا النوع من الوجود المبدع الذى أصبح هو هو ممارسة حريتنا من خلال قدرتنا على “أن نحزن معا” لنمارس حمل أمانة العلاقة مع بعضنا البعض معا، “لنفرح معا”، فنحزن معا، فنفرح معا ، لنتخلق معا من جديد، وباستمرار: فهو الإبداع
نختتم اليوم بأن نقول: إذا كان الجنون هو فعل الحرية لتستحيل، وبالتالى فهو فى النهاية مقصلة الحرية، فإن الصحة الفائقة، المرادفة للإبداع، هى بمثابة “فعل الحرية لمداومة تخليق كائن مسؤول مشارك فى إعادة إبداع ذاته عضوا فى جماعة”، أو بتعبير آخر: إن الإبداع الحياتى يشمل التنازل عن الحرية لإحيائها، بما يشمل المعايشة الإيجابية لذلك الحزن الحيوى النمائى العظيم.