الوفد: 14/3/2001
لا تستهينوا بما حدث فى نقابة المحامين
لست متأكدا أن القارئ الأصغر يعرف أصل حكاية”تلبس مزّيكا”؟ أحكى له من الأول.
كنا فى زفتا (تُـكتب أحيانا زفتى. هل تذكر مسلسل جمهورية زفتى؟) وكانت فرقة موسيقى البلدية تعزف كل يوم جمعة، وأحد، بعض الألحان الوطنية وخلافه، كانت تمر الفرقة عازفة “مارشات” فى الشارع الرئيسى قبل أن تصل إلى الحديقة العامة، كان العازفون (بما في ذلك ضابط الإيقاع والآلات النحاسية) ثلاثة أو أربعة، لكن المطلوب أن يبدو فريق العزف أكثر عددا من ذلك، فكان الباشجاويش المسئول، أو شيخ الحارة، لست أذكر، يستأجر بعض الناس المناسبين، مقابل نصف فرنك، (قرشين صاغ) أو ربما شلن (خمسة قروش)، ويلبسهم لباس العازفين، ويمسّكهم آلات موسيقية كيفما اتفق، ويشترط عليهم ألا يقتربوا منها أصلا، فقط يشوّحون بأيديهم، أو ينفخون أصداغهم وهم يسيرون مع العازفين الحقيقيين. خلاصة القول أن لبس المزيكا لا يتطلب عزفا أصلا، بل إن شرطه الأساسى للحصول على الأجر، ألا يقترب لابس المزيكا من الآلة التى يلبسها مع الرداء الخاص. هى مسألة تتم لمجرد زيادة عدد العازفين أمام الناس، والأهم أمام المأمور أو زواره. وكلما كان الزائر شخصا مهما ، كان عدد من يلبسون مزيكا أكبر، ولا بأس من زيادة العدد مهما بلغ، ما داموا لن يمسوا الآلات التى علقت على أكتافهم، أو علت كروشهم. وهكذا كان السؤال “تلبس مزيكا؟” يعني “هل تريد أن تشارك – بمقابل- استكمالا للمنظر” ؟ . فصارت مثلا.
حزام السيارة المضروب
تذكرت ذلك بمناسبة هيجة حزام السيارات، والكلام عن الحزام المضروب ، والحزام القماش، والحزام العيرة، والحزام الذى يمسك بطرفه راكب التاكسى بجوار السائق، كل ذلك تحت دعوى أن الحكومة – أكثر الله خيرها- تخاف علينا ، وعلى حياتنا، وتعمل على مصلحتنا (مِرسيه!!)، فى نفس الوقت الذى تترك فيه العربات تكسر الإشارات، وتقف صفين وثلاثة، وتركب صهوة الأرصفة، وتسير فى عكس الاتجاه، بل إن عربات محملة بالحديد المسلح تسيرفى الطرق السريعة (والبطيئة)، وقد برزت أسياخ التسليح منها كذا متر خلفها، دون أضواء خلفية أو حتى عاكس، كل هذا لا يعنى الحكومة إلا أحيانا، فقانون المرور بعيدا عن الحزام يتبع قانونى الصدفة، ودعاء الوالدين، وهما من أحدث قوانين “العلم والإيمان”.
كنت أنوى أن أجعل هذا المقال لنقد هذا الإجراء الشكلى المضحك، لكن حماس الحكومة همد فجأة، فسمحت لتفكيرى التآمرى أن يتصور أن المهمة انتهت، لمّا خلصت دفعة الأحزمة وأغطية الرأس من عند الذى استعد لكل ذلك، أرزاق يسهلها الله لعباده، ثم “أبوك عند اخوك”. فعلام أكتب؟ ولمن ؟ عدلت، إلا أن نظرة أخرى للعنوان أظهرت لى أن معنى “لبس المزيكا” يمكن أن يكون أعم من مجرد لبس حزام السيارة المضروب، بل إنني وجدت أن مسألة “لبس المزيكا” هى مسألة عالمية ، غير قاصرة على حكومتنا السنية؛ ربما هى من أسس النظام العالمي الجديد ، يديره الماليون والمضاربون، وهو يلبس جميع صنف الحكومات مزيكا.
طقم الصيني وكمال الدين حسين
لكننا أصحاب سبق دائما أبدا: لمّا ركن جمال عبد الناصر كمال الدين حسين على الرف، وقبل أن يسلّم الأخ كمال العهدة رسميا ونهائىا، اختفت صوره وأخباره من جميع الصحف والإذاعات، (عادى!!) لكننا كنا نلاحظ أنه ما إن يحضر زائر عربى، وربما أجنبى ،لا أذكر، حتى نراه واقفا منطورا بجوار جمال عبد الناصر، وهات يا تصوير، وهات يا ابتسامات، فنحسب أن المياه رجعت إلـى مجاريها (مجاري المياه)، لكن ما إن ينصرف الزائر حتي يختفى الأخ كمال من جديد، فنتعجّب، ونتساءل فى سرنا عما يجرى، ثم شرح لى أستاذى عبد العزيز عسكر- رحمه الله- أن جمال عبد الناصر- الله يرحمه- يستعمل زملاءه المركونين مثلما تستعمل أمى طاقمها الصينى ، حيث لا تسمح له بالظهور من رَكْـنته فى البوفيه إلا لاستكمال المنظر أمام الضيوف، وما أن ينصرف الضيوف حتى يعود الطقم إلى ركنه المظلم ثانية . ربطتُ بين ذلك وبين موضوع اليوم فرجحت أن جمال عبد الناصر -غفر الله له – كان إذا غضب على بعض رجاله، وقبل أن يبعدهم علنا، كان يستعملهم ديكورا فى المناسبات، أى أنهم كانوا يلبسون مزيكا مع المنع من العزف. ولم يكن عبد الناصر فى حاجة أن يـُلبس أحدا من الشعب مزيكا، لأن الأغانى كانت تردد ليل نهار “احنا اخترناك وحانمشى وراك”، (ليس مهما إلى أىن) فلم يكن ثم داعٍ أن يلبسنا مزّيكا، ربما اكتفى أن يلبسنا العمّة (وهو تعبير مصرى قد يعنى الاحترام، ولكنّه غالبا ما يعنى الاستغفال، أى “القرطسة” ولا مؤاخدة).
الأحزاب ولبس المزيكا
لكن بعد أن استرد الله وديعته من زعيمنا خالد الذكر، وجاء بعده المرحوم السادات ، ظهرت الحاجة أن يـُلبس الرئيس الجديد الشعبَ هذه المرة مزيكا. ربما استجابةً لطلبات المفهوم الجديد للحكم الذى يتطلب أن نتحلى بفضائل العالم الحر بزعامة أمريكا ، حفاظا على حقوق الإنسان (الأمريكى) ومصالحه طول الوقت. وهكذا نشأت المنابر، ومن المنابر إلى الأحزاب، كما لزم أن تمُثــل الأحزاب (خفيف خفيف) فى مجلسى الشعب والشورى، وهكذا نستطيع أن نُفحم العالم الحر: تريدون أحزابا؟ عندنا الأحزاب. تريدون معارضة ؟ هاكم المعارضة . تريدون الرأى الآخر ؟ ألف رأى آخر، وأصلحْهُ، لا يضر. وهكذا بدا شكلنا لائقا بمتطلبات السيد الجديد. ويتردد الحديث عن “دولة المؤسسات ” ثم عن “هامش الديمقراطية”، ثم عن “التعددية الحزبية”، ثم عن ” الانتخابات الحرة ” (إلا قليلا)، ثم الانتخابات الحرة (إلا كثيرا)، ثم الانتخابات المدعومة بالبلطجة الرسمية (لكنّها مازالت تسمى حرة حتى يثبت العكس)، ثم يتم التراجع عن البلطجة المباشرة إلى آخر التفاصيل التي تشير كلها إلى مساحة ما من الحرية، وتلوّح بأمل ما فى المزيد. لا أحد يستطيع أن ينكر – والشهادة لله- أننا نتمتع بحرية صحفية أكبر بكثير من الدول التي لا تتمتع بنفس الحرية (إحسبها أنت من فضلك مع ذكر ثلاثة أسماء لدول يتراوح نظام الحكم فيها بين القبلية والعسكرية والشمولية). نحن أفضل ألف مرّة، من هؤلاء الثلاثة، هل تريد أن تنهب ؟
ثم ظهرت أصوات عاقلة، تنبهنا، وتركز على تنبيه المعارضة، أن المسألة ليست سائبة، وأن حكاية “تداول السلطة” هذه تعتبر عيبا (وقلة ذوق) فى بلادمثل بلادنا يتصف أبناء شعبها بالحكمة وحسن الخلق، وأن التعبير هو لاستكمال المنظر وليس للتطبيق أصلا (مزيكا).
خلاصة القول أن المسألة اتضحت بلا خفاء : إن المطلوب ، أو المسموح به، هو إنشاء أحزاب “تلبس مزيكا”، تنشر مبادئها وآمالها على صفحات صحفها كما تشاء ، لكن ممنوع أن تقترب من أوتار آلات االعازفين الأصلين على أعلى الكراسى العالية. مسوح بـإنشاء أحزاب تفسّر الأحلام، وتفتح مدارس لتعليم الحلاقة، وتصدر صحفا جيدة ، وصحفا رديئة، وصحفا نصف نصف، بل مسموح جدا ولدرجة غير مسبوقة أن تنشر هذه الصحف كلاما مثل الذى أكتبه الآن، وهذا وحده دليل على أن الكتابة فى الصحف هى من أجمل ملابس المزيكا. يلبسها من يريد أن ينضم إلى”صفوف” فرقة العازفين على شرط ألا يقترب من أى آلة من آلات العزف على كرسى السلطة، فإذا سمح للبعض من الاقتراب من آلة السلطة (آلة العزف)، فيمكن أن يقوم بشد الأوتار، أو تلميع صندوق العود الخشبى، أو تسخين جلد الطبلة، أما أن يطمع أحدهم فى أن يشارك في العزف، فبعيدا عن شاربه، فإذا تجرأ وتمادى وتصوّر إمكانية أن يصبح مايسترو ، فعينك لا ترى إلا النور في ليلة القبض على النغمة النشاز التى تجرأت أن تفسد اللحن الأساسى (“نحن لم نتفق على هذا يا أبله”).
تصوير أمريكاني
التعبير الأحدث للبس المزيكة هو: “صّورهم أمريكانى”. وتفسير ذلك لمن لا يعرف أورده في المثال التالى : حين يتجمع الأطفال حول مصور صحفى ، أوأثناء تصوير لقطة خارجية فى مسلسل تليفزيونى فى الشارع، ويطلبون أن تلتقط لهم الصور، فأفضل طريقة لصرفهم هى أن تدّعى أنك تصورهم ، فتضغط على زر “عيرة” فى آلة التصوير التي تصدر صوتا ما، فينصرفون فرحين في حين أن المسألة كلها “أمريكانى”، ولا تظهر صورهم أبدا طبعا. الفرق بين لبس المزيكا زمان، وبين التصوير الأمريكانى الآن، هو أن لبس المزيكا كان يتم برضا واتفاق بين لابسها وبين مؤجره، أم التصوير الأمريكانى فهو خدعة تشبه ما تعمله أمريكا معنا، وبالذات بصفتها “راعى مسيرة السلام”، فهو ترعى المسيرة “أمريكانى”، هات يا اقتراحات ، وهات يا مشاريع ، وهات يا وعود، وهات يا مفاوضات ، وهات يا “قمم”، كلها “أمريكانى”: ضغط على الزر، وسماع “تكّة” دون تصوير. يا خبر ما هذا التداعى ؟ أخطر مثال على من لبسوا المزيكا هو الزعم بأن ثلاثين دولة اشتركت في حرب الخليج الثانية وضربوا العراق ثمان وعشرون دولة كانت تلبس مزيكا، والست أمريكا تعزف بالسموم والقنابل،
ولو أرد التعميم أكثر فسوف تكتشف أن هيئة الأمم المتحدة شخصيا أصبحت ديكورا من لابسى المزيكا ، لا من عازفي اللحن الأساسى، بل إنه يخيّل إلى أن الأعضاء غير الدائمين فى مجلس الأمم كثيرا ما يلبسون مزيكا لا أكثر، وحتي مجلس الأمن نفسه يلبس مزيكا أما إغارات الناتو وضرب العراق.
البحث العلمي ولبس المزيكا
بل إن الحكومة لم تعد تنفرد بتلبيس المزيكا، فقد تبنى الشعب المصرى الألمعى الشاطر المطيع نفس السلوك فى أكثر من موقع حتى وصل الأمرإلى مجال البحث العلمى : واحد يقوم بالبحث، ربما أستاذ وربما طالب علم (فى رسالة ماجستير أو دكتوراه ، أو “بدون)، ثم تفاجأ بالبحث ينشر وعليه ثمان أسماء باسم الله ما شاء الله. حلّت البركة بالباحثين ولبسوا المزيكا ووضعوا أسماءهم فوق الورقة ونالوا الترقية وربما جوائز الدولة، وليكن لكم فى الحكومة وأمريكا قدوة حسنة.
كنظام وزارة المعارف العمومية
فى نفس التاريخ تقريبا، أوائل الأربعينات، كانوا يصرفون لنا كراسات عليها اسم ” وزارة المعارف العمومية”، وكانت تباع في المكتبات كراريس تشبهها مكتوب عليها “كنظام” بخط صغير، ثم تحتها: “وزارة المعارف العمومية”. حين تذكرت حكاية لبس المزيكا هذه، وربطت بينها وبين تكرار المن علينا بهامش الديمقراطية ، قلت لعلى أخطأت، ولعلنا نعيش “كنظام” الديمقراطية (وهو تشبيه أخف من لبس المزيكا) وأننا حين ننجح إن شاء المولى ونستلم كراسات العام القادم سوف نستلمها مكتوب عليها “الديمقراطية” وليس ” كنظام الديقراطية “، لكننى اكتشفت أن ما نعيشه لم يصل حتى إلى هذه المرحلة ” كنظام الديمقراطية”.
ومع تحفظاتى على تقديس الديمقراطية الغربية، والديقراطية بالنيابة بوجه خاص انتبهت إلى أن المسألة ليست بالساهل، وأن المارد إذا انطلق من عقاله فلا يستطيع مُطلقه أن يعيده بسهولة، بدليل ما حدث فى انتخابات نقابة المحامين مؤخرا، ولكن لهذا حديث آخر.