نشرت فى الدستور
28-9-2005
كيف نرصد نبض الشارع السياسى؟
الوعى العام يصبح حراكا سياسيا حين يؤثر على قرارات الحكام
وعلى اختيارهم وعلى أدائهم وعلى بقائهم وعلى عزلهم.
على المصطبة فى ليالى الصيف، بقهوة أو بدون قهوة، أحيانا حول راكية ذرة نشويها، كان الشيخ محمد أبو عبد الحافظ (كنا ننطقها بالضاد: عبد الحافض) الكفيف الظريف شديد الوفدية حاضر البديهة، وأخشى أن أقول سليط اللسان، لم يدع سعديا أو دستوريا إلا سلخه، وحين ظهرت جماعات من الشباب من الإخوان توقظ الناس قبيل الفجر، وأحس بوعيه أنها ليست هى، هاجمها من باب الاحتياط. ولم تكن ميكروفونات الأذان قد اخترقت حجب الصمت والنوم والظلام والسياسة بعد.
أغلب من أعرف من مكفوفى قريتنا من حفظة القرآن الكريم كانوا بمثابة المقرئيين المحترفين إلا هذا الشيخ الطيب الظريف، لم أكن أعرف له مصدر رزق محدد، ولا حتى أسرة وأولاد، لم أره يطلب أو حتى يقبل من أحد عطاء ما، كان فقيرا عفا فى مسألته الخاصة، لكنه كان دائما حاضرا جهورى الصوت لاذع التعليق فى الأمور العامة، لم يكن يمر حدث سياسى كبيرا أو صغيرا إلا علق عليه، وحين صوروا أحد المرشحين الوفديين وهو يقدم الحذاء للنحاس باشا عقب صلاة الجمعة، هيج أعداء الوفد الناس ضد هذا المرشح مستشهدين بهذا المنظر، ولم يتوان الشيخ محمد ابو عبد الحافض فى طرح تفسير مضاد للموقف بأنه توقير للكبير، وليس مذلة للزعيم ولا تقديسا له، وأن أى ابن يمكن أن يساعد أباه فى العثور على حذائه وتقديمه له بعد الصلاة. لم يكن يترك وحده سادرا فى تعقيباته، وتفسيراته، كان هناك من يوافق، ومن يسخر، ومن يصحح، ومن يثور، ومن يترك المجلس غاضبا.
هذا هو ما عرفت لاحقا أنه ليس إلا ” الشارع السياسى”.
نبّهت فى التعتعة السابقة عن الشارع السياسى أنه ليس مجرد الصحف المؤيدة، أو المعارضة، ولا هو الصالونات الثقافية، ولا حتى دردشة النت، ولا حلقات الديسكو ولا انسحاب المتبتلين، ولا فرقعات المهيجين، لم أكن أنفى إسهام أى من ذلك فى حراك الوعى الجمعى، ولكننى كنت أحذر من تصور أن ذلك هو ما يمثل صحوة أو إسهام الشارع العام سياسيا، ذلك لأن كل هذا مجتمعا لا يؤثر حقيقة وفعلا فى مجرى إدارة الناس لرعاية مصالحهم = السياسة، ومن البديهى أنه لا يؤثر فى نتيجة أية انتخابات تأثيرا ذا بال.
الوعى العام يصبح حراكا سياسا حين يؤثر على قرارات الحكام، وعلى اختيارهم، وعلى أدائهم، وعلى بقائهم، وعلى عزلهم أو قبول استقالتهم، أما هذا الحراك الموقوف عن التفعيل فهو بمثابة المتفرجين على فرق موسيقى البلدية التى كانت تعزف كل أسبوع فى الحدائق العامة أيام زمان، كما كانت تلف البلد فى المناسبات والموالد، وكانت مكونة من عازفين حقيقين قد يصلون إلى خمسة لا أكثر، أما الباقى فكانوا يسمون “لابسى المزيكة” كل هذه الفئات التى نفيت أنها يمكن أن تمثل الشارع السياسى إنما يتفرجون ناقدين أو راضين أو مصفقين أو لاغيين على فرقة “مزيكا” الحكومة التى لا يعزف فيها إلا بضعة نفر نعرف أقلهم ونخمن الباقى، أما سائر طاقم الفريق الحاكم فالأرجح أنهم من الحكم فى “لابسى المزيكا”.
وبرغم كل ذلك، فقد زعمت فى التعتعة السابقة أن ثم احتمال لولادة شارع سياسى بعد ما كان. إذا أردت أن تقيس ذلك على أرض الواقع حاول أن تحسن الانصات لمحتوى الحوار الذى يدور بين اثنين يلعبان الطاولة فى مقهى فى سوق السلاح، أو طالبان يتناولان ساندوتشا أمام كشك فى الحرم الجامعى، أو زوجان يعلقان على بيان الحكومة فى حجرة النوم، أو شابان يتبادلان القفشات بالسيم الجديد السريع الحاسم (اللغة الشبابية) أو ما يدور فى جلسة مصطبة بدون تليفزيون (إن كانت ماتزال موجوده)، أو أحاديث ثلة عمال وهم يوقعون على دفتر الانصراف، أو حديث هامس بين راكبين فى المترو، فإذا وجدت فى كل هذا موضوعاً سياسيا يتجاوز الشكوى واللعن والسخط والسخرية، وإذا شممت فيه رائحة الاستعداد للمشاركة أو لمحت معالم بارقة اقتراح بديل، فاعلم أنك فى بلد فيه ما يسمى الشارع السياسى.
لن يتحقق أى من ذلك بالخطب والوعود، ولا بملء أوراق الصحف بالسباب، ولا بنشر الفضائح والمعايرة، ولا بإعلان أرقام كاذبة وأخرى مضحكة (عن الاقتصاد والتعليم والوظائف والفدادين الجديدة)، وإنما يمكن أن يتحقق فقط بالممارسة والمشاركة على أرض الواقع لمدة طويلة تحت مظلة عدل حقيقيا.
هل فى ذلك جديد؟
أبدا،
ولكن هل معنى أنه ليس جديدا، أن نكف عن تكراره؟