الدستور
28-4-2010
تعتعة الدستور
كل شىء هادئ فى الميدان الشرقى!!
…. تعجب بعض الأصدقاء من دعوتى لثقافة الحرب وهم يعرفون عنى مدى كراهيتى للحرب ورفضى لها، سـألونى هل الدعوة لثقافة الحرب، هى دعوة إلى الحرب؟ كيف ذلك وأنا أعلن حرجى، – بل رفضى لو استطعت – أن أزهق روح محارب لا أعرفه وراءه أسرة تنتظره، لمجرد أنه أطاع رئيسه ليكون فى مرمى مدفعى، فى ميدان قتال حضَرَهُ ليقتلنى؟
ما هذا التناقض؟
رحتُ أبحث فى أوراقى، وذاكرتى:
أنا أكره الحرب كره العمى، عادى، وقد بدأت كراهيتى لها منذ صباى (14 سنة) حين قرأت رواية “كل شىء هادئ فى الميدان الغربى” للكاتب الألمانى “إيرش ماريا ريمارك” (1929)، نفس بداية الصديق على سالم فى كراهيته للحرب، وله ما انتهى إليه، ما دام يتحمل مسئوليته، فى حين انتهيت أنا إلى أن ثقافة الحرب، هى قانون البقاء، هى حالة استنفار دائم لوعى يقظ محب للحياة، جاهز للانقضاض على أعدائها الظلمة القتلة، حالة لا تهدأ أبدا حتى بالسلام، الذى هو – كما ذكرت – “سكتة” بين حربين. ثقافة الحرب هى الجهاد الأكبر، هى تآمر مستمر لصالح الحياة، شريطة أن يتم تحت مظلة عدل حقيقى بفرص متكافئة. ثقافة الحرب هى هذا الوعى الدائم بحالة حرب حياتية يمكن أن تفرز إبداعا، أو تصنع قنبلة ذرية، أو تنتصر فى معركة، أو تنهزم فنتعلم فنحارب من جديد. لعل هذه الحالة هى التى قفزت منى منذ ربع قرن فى مقال “قصة” يؤيد العمليات الانتحارية مادام ليس لها بديل، لتنشر فى الأهرام (17/ 10 /1985). اكتشف الآن أننى –برغم تأييدى لمعاهدة السلام- مازلت أعيش ثقافة الحرب كما ظهرت فى هذه القصة:
القصة:
“الذراع ..والحزام”
تمتد الذراع الأفعى الى حيث لم أحتسب، تنسحب اليد اللزجة فوق المجرى المخفى فى ثنايا الستر، تلصقنى الأخرى على قفاى، يتنخم صوت خشن دون توقف حتى أتبين أنها قهقهة تصدر من أمعاء مخمور لم يتقيأ، يبصق على وجه ابنتى النائمة فى حجرى قائلا: ”.. كله بثمنه .. واللى عاجبه”
الممثل الأكبر يدهن شعره المصبوغ بشحم نتن، يتحدث عن العدل القاتل والرد الملغوم، وصدور تشريع أحدث لتقنين النذالة والوغدنة المُوَجّهة، أى والله، أتقيأ شِعرِى، أوزان قصائده حجارة من سجيل تلطم وعيى، أفتح درج مكتبى لأبحث عن نتائج آخر بحث علمى لم افسِّر بعد نتائجه، أرقام مرصوصة فى جداول معقدة، يشغلوننا طول الوقت بهذا العبث الدائر حول جزئيات الجزئيات، أعثر مصادفة على عقد زواجى فأخفيه بعيدا خشية تمزيقه، ألعن ميثاق الأمم المتحدة والوصايا العشر، وإعلانات العمرة السياحية. أخجل من مجرد التفكير، لا أجرؤ أن أتطلع فى وجه حفيدى، يستدير- نائما- يخفى وجهه فى رحم وسادة صغيرة، ليست نظيفة، ألعن الانتخابات، والصحف، وأبراج المساكن، والمدن السياحية وأسعار الدولار، أطمس إحساسات غافلة لم تطمس بعد، ما عاد يجوز.. ما عاد يجوز..،
اتحسس خيط الدم يجرى فى كل دروب وجودى، فهو القتل. فرض كفاية؟ أظن كفاية، بل فرض عين لا يسقط أبدا، لا يسقطه ان تحارب كل الأجنة فى بطون أمهاتها، لا يسقطه ان يتبدل الناس غير الناس، العار يصبح عارا أبشع إذا عبثت به عتمة الذاكرة او مؤتمرات القمة.
سوف أقبل الدعوة، هذا هو رقم تليفون قريبى الذى كان يعمل بالمخابرات، يكرههم أكثر من كراهيته لذئب مسعور يجرى جائعا فى روضة اطفال، سوف يدلنى على نوع المتفجرات وطريقة التشغيل، لابد أن تكون الزيارة ‘العلمية’ الثالثة او الرابعة حتى يطمئنوا، زملائى حسنو النية مهدوا الطريق، الأسس النفسية للتفاوض الدولى (!!) ليكن بحثا علميا يحتاج لمقابلة الصقور والحمائم مجتمعين، سيكولوجية العلاقات الحازمة الإثنية (أى كلام بلا معنى: بكاهلشا رونميزيز)- الحزام رقيق السمك تماما، والتحكم من خلال قلم حبر جاف، يحتد النقاش العلمى، أنفجر، بى- فيهم .. معلنا وصيتى، رسالتى.
أنتقل عبر الحاجز غير المرئى اشعر انى أخف وزنا حتى اتصور - فرحا- أن الطيران اللولبى الصاعد سوف يدوم إلا ان ثقلا يدب فى أطراف أصابع القدمين، يتسحب للساقين فالجذع، يجذبنى الثقل الى أدنى أهبط أهبط فى رعب ساحق، لماذا؟ ألم افعل ما ينبغى؟ الا يكفى؟
أحاول ان افيق مرتين بلا جدوى. لا أعرف السباحة والبركة آسنة بلا قاع، أغوص – رغم زئبقية القوام – فى منقوع العار والمرارة (لم تكتب سناء المحيدلى قصة، لم تقرض شعرا، ولا قامت ببحث علمى لمؤتمر يستمنى)
لا أجد عذرا أنتحله، عنين يتوارى خجلا من استمراره حيا.
….
انتهت القصة، ولم تنته الحروب!! بالرغم من أن “كل شىء هادئ فى الميدان الشرقى”