من فيض نبض:
الطب النفسى (1)
“أنت معنى الكون كله!!”
أ.د. يحيى الرخاوى
2020
الإهـداء
إلى:
أحفادى جميعا: من ظهرى ومن علمى وكدحى
وفقهم الله جميعا، ونفع بهم
مقدمة
مقدمة
هذا العمل هو الجزء الأول من تجميع عدد من سلسلة مقالات صدرت مع أول عدد من روز اليوسف اليومية ([1]) حين تفضل الابن “محمد هانى” مدير التحرير بدعوتى للكتابة وأخبرنى أنهم قد أفردوا لى صفحة كاملة أسبوعيا، وقد انزعجت من هذا الكرم بقدر ما انزعجت من هذه المساحة، وأيضا بقدر ما تحفظت أو تخوفت أن أكتب فى صحيفة قومية أسبوعيا بهذه الرحابة، وحين اشترط ُّعليهم ألا تكون هذه الصفحة متخصصة فى الطب النفسى أو الصحة النفسية دُهـِـشت أنهم قد استضافونى وهم يعلمون ذلك تحديدا، بل ويكاد هذا نفسه يكون هو مبرر اختيارهم لقلمى كما قالوا.
لا أميل كثيرا إلى هذه الطريقة فى إصدار الكتب، أعنى جمع مقالات متفرقة ظهرت فى ظروف مختلفة لأغراض متباينة، لكننى أحيانا أتعرف من خلالها –هذه الطريقة- على طيف متكامل من المعلومات التى تـُبلغنى ما يشغل الكاتب فيشغلنى، فأصاحبه أو أحاوره ما وجدت إلى ذلك سبيلا.
بقدر ما تسمح ذاكرتى كان اقتراح الابن محمد هانى وموافقتى، أو العكس لا أذكر، أن تكون هذه الصفحة بمثابة قراءة مشتملة عن النفس البشرية، وهو ما أسميه مؤخرا “النص البشرى”، وهو تعبير استلهمته من موقفى العلاجى الذى اختزلته في: “نقد النص البشرى” بمشاركة النص نفسه، وكان العنوان الأصلى الذى صدرت به هذه المقالات هو “الإنسان“، إلا أننى فضلت تغييره إلى العنوان الحالى “ربى كما خلقتنى”، أثناء مراجعتى له إعدادا للطبع مجتمعا.
لم أحاول أن أعيد ترتيب المقالات فى أبواب حسب الموضوع، لكننى أوردتها فى ترتيبها الزمنى تقريبا كما ظهرت أسبوعيا من 19/8/2005 إلى 30/12/2005
وأخيراً، ينبغى أن أنوه إلى أن أجزاء من هذه المقالات قد ظهرت إلكترونيا أيضا فى النشرة التى أصدرها يوميا فى الموقع الإلكترونى الخاص بى، أو غير ذلك من إصداراتى الأخرى، فعذرا للتكرار، وإن كنت أتصور أن له فائدة ما،
هذا ولم يحدث أى تغيير جوهرى فى المقالات كما ظهرت أول مرة، وإن كان قد تم تصحيح بعض الأخطاء المطبعية والصياغية، كما أضيف عدد قليل من الهوامش، كذلك أضيفت بعض العناويين الفرعية، كما تم حذف عدد قليل من الاستطرادات التى رأيت أنها قد تبعد القارئ عن الفكرة المحورية بعدًا مـُخلاًّ.
[1] – أول إصدار لجريدة روزاليوسف اليومية بتاريخ 19-8-2005
الفصل الأول : الإنسان العادى والمعرفة
الفصل الأول : الإنسان العادى والمعرفة
استهلال:
هى محاولة لنتعرف على ما هو “إنسان” بعد كل الذى كان ويكون([1]).
الإنسان (كل إنسان) دون سائر الأحياء، لا يكون كذلك إلا إذا تميز بالوعى، وأيضا تميز بجدل محاولة عمل علاقة بآخر من نفس جنسه، علاقة تتجاوز مجرد “الاستعمال” و”الكر والفر”. كل واحد منا، على هذا الأساس، مهيأ – دون وصاية معقدة- أن يفعلها، أن يعرف من هو وإلى درجة أقل: إلى أين. لا يمكن أن نفعل ذلك إلا إذا بدأنا من إنساننا نحن، وتحديدا من واقع ثقافتنا الراهنة.
من نحن؟ من هو؟ كيف هو؟ ماذا يستطيع؟ وكيف يضيع؟ وكيف لا يضيع؟
لا نملك إجابات جاهزة، لكننا نحاول تحمل مسئولية السؤال وكل تركيزنا على الشخص العادى، متلقيا ومحاورا وناقدا ومبدعا. نحن نقدر منذ البداية خطورة الطموح، وصعوبة التواصل، إلا أن الصعوبة لا تعنى الاستحالة على أية حال.
وقع بعض العلم أو أغلبه فى مأزق حقيقى: وذلك حين تصور أنه يستطيع أن يحل محل المعرفة والخبرة المباشرة، تماما مثل مأزق بعض الفقه الرسمى حين تصور أنه يمكن أن يحل تماما محل الإيمان الفطرى، العلم المؤسساتى أصبح باهظ التكلفة، فاحتكره أو كاد يحتكره من يملك تكلفته، دون ضمان حمل أمانته.
العلم أخطر وأنبل وأهم من أن يـُـترك للعلماء
المعرفة أكبر من العلم وأشمل، لكن العلم أنصع وأدق.
والوعى أوسع من العقل وأرحب، لكنه لا يلغيه ولا يحل محله تماما!
يقول أينشتاين:
العلم ليس سوى إعادة ترتيب لتفكيرك اليومى.
كما يقول:
لا يمكننا حل مشكلة باستخدام العقلية نفسها التى أنشأتها.
لم يحدث من قبل فى أية لحظة من لحظات التاريخ أن أتيحت فرصة لتقارب البشر بعضهم من بعض بكل هذه السرعة والمبادرة، بغض النظر عن النوع والدين واللون والهوية.
فى نفس الوقت لم يتعرض البشر لاحتمالات الانقراض بهذه الوسائل التدميرية العملاقة الجاهزة الغبية مثلما يتعرضون له الآن، من هنا لزمت المواجهة على كل الجبهات.
لكى ننجح فى هذه المهمة، لا بد أن نعيد التعرف على ماهية الإنسان من جديد، هذا التعرف هو مهمة كل فرد دون استثناء، يقينى أن الله سبحانه وتعالى سيسأل كل واحد منا على حدة عن مدى كدحه فى هذا المقام كدحا، من هنا جاءت ضرورة الاهتمام الشامل بالتأكيد على ضروة فتح الأبواب، كل الأبواب، للمعارف المتنوعة من كل المصادر.
نحن نولد ونحن نحمل تاريخ معارفنا الأساسية، نولد ونحن “نعرف”، وأيضا ونحن “على استعداد أن نعرف” أكثر فأكثر، وأنفع فأنفع،، ثم بعد ذلك تتواصل المعرفة من كل المصادر عبر الوعى والحواس، بالخبرة والممارسة جميعا. لا ينبغى أن نستثنى أى مصدر، ولا أن نستبعد أية قناة من قنوات المعرفة. لماذا نفعل ذلك؟ نستبعد ماذا؟ لصالح من؟ (بأمارة إيه؟)
وسوف نتناول لتوضيح بعض ذلك ثلاث نقاط تمهيدية كأمثلة طبيعية:
أولاً: تعدد قنوات ومناهل المعرفة
المعرفة، والحاجة إلى المعرفة، تبدأ من الناس، مما هم، لتصب فيهم، فى محاولة الإسهام فى تشكيل وعيهم: الوعى الشعبى هو البنية الأساسية المشتـَـمـِـلة “هنا والآن”، والتراث الشعبى لا يقتصر على الأمثلة العامية، أو الأغانى الشعبية، أو الرقص الشعبى. الوعى الشعبى (الآني) بكل ثقله ووعوده وعيوبه وأخطائه، هو التجلى المباشر لأحوال عامة الناس ظاهرا وباطنا فى لحظة بذاتها. (وهو ليس بالضرورة ما يظهر فى قياسات الرأى العام).
دون الدخول فى تفاصيل يحتشد وعى الكائن البشرى – بالإضافة لمنظومة الموروث البيولوجى – بكل ما يصله من معارف وخبرات وجمال وقبح من خلال قنوات متعددة، من أهمها: المعلومات العلمية، وفعل الفلسفة([2])، (وهو غير تنظير التفلسف) ومنظومة التراث الشعبى، والوعى الشعبي، ثم منظومة الفنون والآداب، ومنظومة الوعى الإيمانى (وهو غير الفتاوى الدينية) فتتجلى محصلة كل ذلك وغيره سلوكا ظاهرا وكامنا فى الممارسة اليومية.
إن أية بداية صحيحة لتعريف الناس ببعض ما ينبغى أن يعرفوه لينطلقوا منه لا بد أن تنطلق من واقع الناس، ليس بمعنى استفتائهم، أو استرضائهم، وإنما بمعنى فهم وتعميق أحوالهم المثيرة للكشف، والمتجذرة فى الوعى، كما أن أى تشكيل بنّاء للوعى لا بد أن يصب فى صالح الناس وأن يقاس بمقاييس حركية الحياة نحو الأرقى، بغض النظر عن قيمته الأكاديمية المجردة الحقيقية أو المزعومة.
إن ما يجرى فى المعامل وما يخرج منها من معلومات ليس هو غاية المراد، وإنما هى وسائل تستلهم توجهاتها من حاجات وآمال ومشاكل الناس، وبالتالى فإن حقيقة نجاحها تقاس بما تصبه فى حياتهم، وما توجه به مسارهم، وتؤكد استمرارية بقائهم، فتطورهم.
إن حس الشخص العادى ومنطقه البسيط - حتى لو أخطأ – لا بد أن يؤخذ فى الاعتبار من جانب من يتصدى لتقديم البديل المناسب للثقافة الأنفع، وخاصة فى البلاد النامية. إن معطيات العلم تتفاعل بشكل مستمر مع كل المعارف الأخرى: مثل التقاليد، والدين الصحيح، والدين المشوه، والحدس الشعبى الصادق والكاذب، والأغانى الهابطة والراقية، وجمال اللغة وتجديدها، وتشويهها، بما فى ذلك لغة الشباب الجديدة الجميلة والمشوهة أيضا. ليس المطلوب أن يقف العلم فى مواجهة تصادمية مع ما لا يستسيغه من هذه المصادر، هذا موقف غير علمى، وإنما عليه أن يرصدها، ويستلهمها، ويتجادل معها ليتطور، وهو يطورها.
منظومة الفنون والآداب هى مصدر رائع للمعرفة، بقدر ما هى تنسيق للوعى الجمالى. لم يعد الخط الفاصل بين منظومة الفنون والآداب، وبين منظومة العلوم بنفس التحديد الفاصل الذى شاع بيننا ردحا من الزمن.
إن أية معلومة تُحشر فى الدماغ دون أن تكون قابلة للحوار، أو الاختبار، يمكن أن تكون رائعة، أو نادرة، أو لامعة، لكنها قد لا تسهم فى تشكيل الوعى إلا بمقدار ما تغيـِّـر من سلوك، وتثير من حوار، وتدعو إلى نقد، وكل هذا إنما يتحقق من خلال الممارسة اليومية بشكل أو بآخر(ليس بالضروة بقصدٍ واعٍ)
من خلال كل ذلك يمكن أن يعيد الشخص العادى تشكيل وعيه باستمرار، وأن يجدد ثقافته بانتقائية ليست فى متناول العلم المنعزل عن الممارسة اليومية.
ثانياً: مدخل من النقد الأدبى
أغلبنا يعرف ما يسمى “التفسير النفسى للأدب”، وأحيانا “التحليل النفسى للأدب”، وبالرغم من إسهام هذا النوع من النقد النفسى فى تطبيق بعض التفسيرات والمفاهيم النفسية والتحليلية النفسية على بعض النصوص الأدبية نقدا، إلا أن الأمر اشتط أحيانا حتى بدا وكأن العلوم النفسية، وبالذات التحليل النفسى لها وصاية ما، سابقة أو لاحقة، على الإبداع الأدبى، الأمر عندى هو بالعكس تماما حتى أننى اقترحت عنواناً مضادا ومكمّلا معاً هو “التفسير الأدبى للنفس”([3]).
الإبداع هو صاحب السبق فى فهم وكشف، وتعرية، وتشريح، النفس البشرية، ومنه نستلهم ونتعلم ما هيتها وأبعادها، بل وأحيانا غايتها ومآلها. وفيما يلى عينة من ذلك، نبدأ من نجيب محفوظ كمثال:
النص: حلم 3: من أحلام فترة النقاهة: ([4])
“هذا سطح سفينة، يتوسطه عمود مقيد به رجل يلتف حوله حبل من أعلى صدره حتى أسفل ساقيه، وهو يحرك رأسه بعنف يمنة ويسرة، ويهتف من أعماقه الجريحة: متى ينتهى هذا العذاب؟ وكان ثلاثتنا ينظرون إليه بإشفاق ويتبادلون النظر فى ذهول،
وتساءل صوت:
– من فعل بك ذلك؟
فأجاب الرجل المعذب ورأسه لا يكف عن الحركة.
– أنا الفاعل.
– لماذا؟.
– هو العقاب الذى استحقه.
– عن أى ذنب؟.
فصاح بغضب
– الجهل.
فقلت له:
– عهدنا بك ذو حلم وخبرة
– جهلنا أن الغضب استعداد فى كل فرد
وارتفع صوته وهو يقول:
– وجهلت أن أى إنسان لا يمكن أن يخلو من كرامة مهما يهن شأنه
وغلبنا الحزن والصمت.
القراءة:
الحلم صورة حية.
هو تشكيل آنىّ،
وهو فى نفس الوقت حركة مستثارة مثيرة لأكثر من توجه معا،
ثم هو تجاورٌ وتجاوز للزمن فى آن.
وهو ليس رموزا جاهزة،
ولا مجرد تحقيق رغبة!
إن مجرد إثارة التساؤل عما إذا كان محفوظ يحلم إبداعه، أو هو يبدع حلمه، يبدو أبعد ما يكون عن فهم طبيعة كل من الحلم والإبداع. حتى أننى وضعت فرضا يقول: إن الشخص العادى لا يحكى حلمه تسجيلا لما حدث أثناء نومه، وإنما هو يروى ناتج ما شكـّله مما أتيح له من معلومات قبيل يقظته.
يقول هذا الفرض([5]):
إن الشخص العادى يلتقط فى زمن قصير جدا ما تبقى من معلومات مستثارة أثناء نشاط النوم الحالم، فهو يلتقط ما تبقى قريبا لوعى يقظته حالة كونه “يستيقظ”، فيشكل منه حلمه تشكيلا، الحلم الذى يقال عنه “تحقيق رغبة”، والحلم الذى يختزل إلى رمز واضح، هو أبعد ما يكون عن الحلم الأصلى الحقيقى المبدَع.
محفوظ مبدع بالضرورة، وهو قبل ذلك وبعد ذلك شخص عادى يبدع أحلامه التى لا يحكيها لنا – مثلما يفعل بعضنا- ، لكنه حين يفعلها وهو يقظ مبدع مسئول، فهو يشكل الصورة ويخلـّق الجمال ويرِّوض الحركة، هذا شىء آخر: هو إبداع لا أكثر ولا أقل، هو إبداع قـُـح: سواء كانت مادته حلما أو غير ذلك. الحاصل أن محفوظ قد اضطـُر، فاختار، أن يصقل هذه الطريقة الإبداعية حتى أضاف إلى الشكل الأدبى هذا النوع النادر من الإبداع، وإن كانت معالمه التداخلية المركبة قد ظهرت من قبل فى كل من “رأيت فيما يرى النائم”([6])، و”ليالى ألف ليلة”([7])، ثم إنه مارس هذا النوع من الرسائل الموجزة المكثفة المخترِقة فى “أصداء السيرة الذاتية”([8]). تـُرى هل كان حدسه يعدّه لهذا النوع الخاص جدا من الإبداع حين يضطر إليه؟ ربما.
إبداع محفوظ المسمى أحلاما هو إثراء شديد التحريك للمتلقى ليتعرف على ماهيته – إنسانا – بطريقة مختلفة، لا أشك أن محفوظ نفسه يتعرف على نفسه وعلينا وعلى الإنسان من خلالها. المبدع يكتشف ما تيسر من نفسه وحقائقها فى إبداعه مثل المتلقي، ثم يأتى الناقد يتناول العمل ليبدعه من جديد، فيرتد إبداع الناقد إلى المبدع، وهكذا يتواصل الإبداع على مستوى الانشاء والنقد باستمرار.
يبدأ هذا الحلم باسم الإشارة “هذا”.. سطح سفينة”، فيضعنا على الفور أمام الصورة التى يقدمها لنا، قبل وبعد الحكى، ثم هو يضعنا فى بؤرة “الآن”، فلا نملك إلا أن نشاهد التشكيل بكل أبعاده معا: المعذب المصلوب، والمحيطين من الداخل والخارج(!).
شخوص التشكيل كُـثـْر، فبالإضافة للمعذب المصلوب نجد الثلاثة المذهولين شفقة، ثم الصوت، فالحاكى (الراوى)، ثم إن الموضوعات التى حضرت فى الصورة شديدة التنوع رائعة الإثارة، وهى تترجح بين الألم، والتكفير، والجهل (بالطبيعة البشرية)، والشعور بالذنب، والصبر والحزن، مع إلماحة إلى الحلم والخبرة.
أما التقابلات والتناقضات المثيرة أيضا فهى عديدة منها: تواكُـب الصَّلب والتقييد مع الحركة التى لا تهدأ، ثم تواكُـب الشعور بالذنب فالتكفير مع اكتساب حدة البصيرة، كذلك تواكُـب الذهول مع الدهشة، وأخيرا الصبر مع الحزن.
ثمة اختراقات أخرى إبداعية صادمة تفاجئنا حين يقدم لنا محفوظ الجهل باعتباره رذيلة تستأهل هذا العقاب، وإن كانت قد وصلتنى فرحة لما أضافه الحلم هنا حين حدد نوعا هاما من الجهل، وهوالجهل بطبيعتنا البشرية: سواء بطبيعة الغضب، أم بنبل الكرامة.
يغوص بنا هذا الحلم أيضا إلى مستوى رائع العمق حين يرينا أن “المجروحة” هى “الأعماق” (ويهتف من أعماقه الجريحة)، مع أن ظاهر الصورة يمكن أن يلفت أنظارنا إلى البحث عن آثار الجروح الناتجة، على اليدين والجسم مثلا، من فرط الحركة مع حبكة القيد.
الأعماق جرحُها أكثر إيلاما خاصة إذا واكَبَتْهَا قيود كبلّت صاحبها عن تصحيح ذنبه.
نعود لنتساءل: من هؤلاء الثلاثة؟
ولماذا هو “صوت” هكذا “نَكِرَةْ”؟
وهل الراوى هو أحد هؤلاء الثلاثة، أم هو عينٌ خارجية راصدة؟
وما العلاقة بين أن المصلوب صاح “بغضب” أن ذنبه هو الجهل، وانه جهلٌ بطبيعتنا الغضبية بالذات؟ ثم يلحق بعد ذلك: وأيضا بكرامتنا الإنسانية. هل اختيار محفوظ لتعبير “وصاح بغضب” هو لبيان أن المصلوب يطلق لغضبه العنان بعد أن اكتشف كيف تجاهله زمنا فاستحق ما يلقاه، علما بأنه هو صالب نفسه، هل هو مجرد شعور بالذنب فالتكفير؟ الأرجح عندى أنه ليس كذلك، زخم الحركة فى الحلم ينفى تجميد الموقف عند لوم النفس وعقابها تكفيرا. الحوارالغاضب والوعى المتجدد، ينبهنا أن المسألة هى إعلان نقلة تائبة، تحفــِّـز إلى الاعتراف بحقنا فى الغضب من جهة، كما نبهنا المصلوب:”جهلنا أن الغضب استعداد فى كل فرد”، وفى نفس الوقت: ممارسة التعبير الغاضب فى إعلان امتداد البصيرة إلى التمسك بالكرامة الإنسانية مهما بلغت الإهانة الظاهرة. هل يريد محفوظ أن يوصـِّـل لنا أن بصيرتنا فى “حقنا فى الغضب” ثم حسن استعمال هذا الحق هو الذى يمكن أن يحفظ كرامتنا، وأن إنكارنا هذا الحق، ومثله، يصيبنا بالعمى النفسى بما يستتبعه من ضياع الكرامة أو التنازل عنها؟
كل ذلك كشفٌ مكثف لطبيعة النفس البشرية وهو كشف معرفى إبداعى يتجاوز تناول الغضب كانفعال شارد يتخطى حدود الضبط والتحكم (مثلما يفعل سوء فهم بعض العلوم النفسية أحيانا). إن هذا الكشف يُبْلغنا كيف يتواكب “حق الغضب” مع “الكرامة البشرية”. فلا يعود الغضب، رذيلة على طول الخط، ولا تعود “النفس المطمئنة جدا” هى غاية المراد! إلاّ وهى راجعة لتدخل فى عباد الله قبل أن تدخل جنته سبحانه راضية مرضية!!
ثم إنه يمكن أن نقرأ كل هؤلاء الشخوص باعتبارهم “ذوات الداخل”، وهى تمارس جدل النمو: هؤلاء الثلاثة المذهولون فى دهشة يمكن أن يكونوا تمثيلا لحالات الذات الثلاثة التى تقول بها نظرية التحليل التفاعلاتى Transactional analysis وليس التحليل الفرويدى، كل واحد منا هو “كثير فى واحد”([9]) كل واحد منا يحمل (على الأقل) ثلاث حالات للذات (هم ذوات فعلا) بصفة مبدئية: الذات “الطفلية”، و”الراشدة”، و”الوالدية” هذه التقسيمة يساء فهمها عند العامة وبعض الخاصة حين يتوقفون عند هذا التحليل التركيبى دون النظر فى جدلية النمو بين هذه الذوات الثلاثة([10]) إلى ما يسمى “الراشد المتكامل”، الذى لا يتحقق أبدا، وإن كان يتخلق إلى غايته طول الوقت، لانه ” فى حالة تكوّن مستمر”([11]).
نحن – كبشر ليس عندنا ذوات ثابتة تحدد ماهيتنا، لكننا نخلـّقنا تخليقا طول الوقت. نرى ملامح بعض ذلك فى هذا النص المحفوظى المكثف بما يمثله كل من: الصوت، المتململ، والبصيرة المستعادة، وأخيرا “فعلا: الصبر والصمت”. بلغنى الصمت هنا باعتباره لغة أخرى أعمق وأهم إذ هى تتصل بالزمن القادر على احتواء الحركة، دون أن تـُجهض بالإفراغ فى رموز متاحة (الكلام والتفكير المعقلن)، كما أن الحزن فى هذا السياق (وهو غير الاكتئاب) بلغنى أنه الحزن الحيوى([12]) الذى يعلن الوعى اليقظ بالسعى إلى عمل علاقة حقيقية مع “الآخر” برغم صعوبتها الموضوعية، الأمر الذى يحافظ على الإنسان إنسانا، ومن ثّمَّ الكرامة !!
وبعد
إن هذه الإضافات لمعرفة النفس الإنسانية تصل إلى المتلقى لهذه القصيدة/الصورة/ التشكيل/الحلم، دون حاجة إلى كل هذا التنظير. إن هذا النقد هو مجرد اجتهاد يضاف إلى المبدع والمعرفة، يصح أو لا يصح، يـُقبل أو يرفض، من المبدع أو من ناقد لاحق، كل هذا وارد، لكن يظل النص يبعث رسائله، ليعرفنا أكثر فأكثر بما هو إنسان كما خلقه بارئه.
……..
استطراد لاحق (2007):
تصادف أنى كتبت نقداً آخر لهذا الحلم نفسه حين بدأت نشرتى اليومية فى الموقع وذلك بتاريخ 25/10/2007 وكنت قد نسيت أننى كتبت هذا التفسير الباكر، وفضلت أن أثبت القراءة النقدية الواردة فى النشرة، بهدف المقارنة بين القراءتين، ولأطرح الدعوة إلى أن التلقى الناقد، هو تشكيلات متغيرة، حسب الزمان والمكان حتى من نفس الناقد([13]) ، وهذا هو نص النقد السابق.
نبدا من الآخر:
(1) “الغضب استعداد فى كل فرد”،”
(2) أى إنسان لا يمكن أن يخلو من كرامة مهما يكن شأنه”.
يبدو أن هذه البديهيات التى نتصور أنه لا جدال حولها، خاصة ونحن نرددها ليل نهار، ونتصور أننا بمجرد أن ننطقها قد حققناها، يبدو أن حلم محفوظ هنا ينبهنا إلى احتمال أننا فى حقيقة الأمر – ننساها- حتى لو ظللنا نرددها دون أن نختبرعمق وحقيقة ممارستها بتسطيحٍ أو تزييفٍ أو كذب.
أما أن الغضب استعداد فى كل فرد، فقد شغلتنى هذه المسألة طويلا حتى صغتها حديثا (2007) فى شكلها الأبسط فى صورة أغنية للأطفال “داخلنا وخارجنا”، أكتفى بالإشارة “الحق فى الغضب” فى كتابى: “أغانى مصرية عن الفطرة البشرية للأطفال” ([14])
ثم إننى شُغِلْت قبل ذلك (1980) بما وراء هذا الغضب الإيجابى، حين رحت أدافع عن الوجه الايجابى لغريزة العدوان التى عادة ما ننكر دورها الإيجابى خوفا من حضورها التحطيمى السلبى الأشهر، كانت أطروحتى عن “العدوان والإبداع” من أول ما نظّرت فى مسألة الغرائز، وأكتفى أيضا بالإشارة إلى ذكر موقعها فى النشر الأول ([15])
الجهل ذنب خطير:
حين ننكر هذا الحق (حق الغضب) جهلاً أو تجاهلاً، ونتنكر- ضمنا- لإيجابيات هذه الغريزة (العدوان)، فنحن نختزل طبيعتنا البشرية فنستحق العقاب، أقسى العقاب، وهذا هو ما بلغنى مما يمثله هذا الرجل المقيد نفسه على عمود السفينة؟ وهذا هو الجهل الأول.
الجهل الثانى: (الذى يبدو أيضا أنه تجاُهُل، فإنكارْ)، هو أن نخص الكرامة (التى أكرم الله بها كل خلقه)، بفئة دون أخرى، وسواء فهمنا كيف أن الكرامة نابعة أساسا من أن الله “كرَّم الإنسان”، من حيث هو إنسان، أو فهمناها بذاتها لذاتها بمعنى العزة والحرية والإباء، فإن جهلنا بها أو تخصيصها لفئة من البشر دون أخرى يترتب عليه ذنب آخر يستحق نفس العقاب، أو مضاعفته، وهو ما جاء فى هذا الحلم وأعلِنَ بعد صدمة إفاقة.
الذى يجهل (يتجاهل / يُنْكر) حق الغضب (مع أنه استعداد فى كل فرد)، كما يجهل (يتجاهل/ينكر) أن أى إنسان لا يمكن أن يخلو من كرامة، لابد أن يدفع الثمن؟
وهو نفسه الذى يصدر الحكم على نفسه (كَفَىٰ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا).
لكن: كيف يكون الجهل جريمة تستحق العقاب؟. أى ذنب اقترفه هذا الجاهل؟
كثيرا ما أكرر مثل ذلك على طلبتى حين أجد أن شركات الدواء قد أغلقت عقولهم إلا على ما يخدم أموالها، فى حينُ يلقى المرضى فى وعينا من “المعرفة والمعانى” ما يعيننا على مساعدتهم ورؤية أنفسنا وإياهم، لكننى أجد مقاومة شديدة من طلبتى وزملائى لفهم أبسط هذه الرسائل، فأقول لهم: “إن الله سيحاسبنا على ما نعلمه : ماذا فعلنا به، وعلى ما لم نعلمه : لماذا نعلمه بعد أن وصلنا أنه وثيق الصلة بالأمانة التى حملنا إياها، وخاصة إذا كانت قد أتيحت لنا فرصة تعلُّمُه، معرفته، إدراكه([16]).
العقاب:
طيب ما هو العقاب الذى نلحقه بأنفسنا إذا ما أذنبنا فى حق أنفسنا فعشنا أنقص مما خـلــقــنا الله به، بمعنى أدنى، وأقل، وأكثر تشويها؟
نقرأ الحلم:
مسرح الحلم هو سطح سفينه، هل هى مقابل سفينة نوح؟
“صدمة الإفاقة” التى يحملها لنا الحلم، نحملها ونحن نركب الفلك لعلها تنقذنا من الاغتراب التخديرى الذى وصَلْنَا إليه على مستوى العالم؟.
بالصدفة البحتة بعد أن كتبتُ المسودة الأولى لنقد هذا الحلم وصلنى من زائرة (قارئة) كريمة تعليقا جاء فيه: “… طلب “هوشى منّهً” قائد الثورة الفيتنامية من رفاقة أن يربطوه بسارى مركب، ولا يفكوه مهما تأثروا بصراخه، حتى يتسنى له الكف عن تعاطى الأفيون“. هزتنى هذه المعلومة وأنا أربطها بحدس نجيب محفوظ الإبداعى برغم عكس الرسالة، ذلك أن “هوشى منّهً” يربط نفسه ليفيق من المخدّر، فى حين أن رجلنا هنا يربط نفسه عقابا على أنه استسلم لتخدير الاختزال والاغتراب وتشويه الفطرة.
ما وصلنى من تشكيل هذا الحلم أن نجيب محفوظ يبلغنا بهذا الحلم أنه:
مهما بدا العقل الفوقى حليما وحكيما، ومهما بدا يقظا متلفتا، فهو قاصر عن الإحاطة بكلية الوجود، لأنه أغلق بقية قنوات المعرفة بما فى ذلك قناة “الحركة” وقناة “الجسد”.
العلم المعرفى
العلم المعرفى الأحدث (خاصة فى العشرين سنة الاخيرة)، يحاول تصحيح هذا الذى لحق بالوجود البشرى اختزالا واغترابا حتى التخدير، وذلك حين يذكرنا أن العواطف لها برامجها المعرفية، وأن الجسد (بما هو جسد) يشارك فى التفكير([17]) كما يعلمنا متصوفونا ومتصوفوا العالم – المبدعون لا الذاهلون – أهمية بقية قنوات المعرفة المشاركة مع (وليست البديلة عن) العقل المنطق الأحدث.
النتيجة!!:
هكذا يحدد هذا الحلم بصورة تشكيلية شديدة الإيجاز والتكثيف الأمور على الوجه التالى:
(1) إننا قيدنا وجودنا كله، حتى الشلل حين حلّ هذا الرأس المتلفِّت: العقل الفوقى، محل حركتنا الاستكشافية المعرفية (الإيمانية).
(2) إنه سواء كان التلفت إلى اليمين (أى يمين) أو إلى اليسار (أى يسار)، فالنتيجة واحدة والضياع واحد، والعقاب حتمى.
(3) إن هذا الاغتراب التخديرى المُعقْلَنْ إنما يجرحنا فى غور وجودنا إذ يختزلنا حتى تستغيث أعماقنا “متى ينتهى هذا العذاب”.
المشاهدون والصوت:
لكن من هؤلاء الثلاثة الذين ينظرون إليه باشفاق ويتبادلون النظر فى ذهول؟
خطرت ببالى عدة احتمالات لرقم “3” هنا، رفضت إثباتها جمعيا خوفا من التعسف، ومع ذلك احترمت أنهم ثلاثة (ليسوا واحدا) احتراما شديدا، دون تعليق.
أما هذا الصوت: الذى يتسأءل: “من فعل بك ذلك؟
فقد يكون صوت أحد الثلاثة
كما يمكن أن يكون صوت الزمن
أو صوت الشخص المقيد على السارى (على نفسه بصيرة).
ننبه أيضا إلى أن إنزال العقاب ليس مرادفا للشعور بالذنب، العقاب هنا هو أن يعيش الإنسان ناقصا عاجزا برغم حدة انتباهه “فى المحل”.
ثم أن الرجل لم يكن مشدودا إلى صليب يتألم فوقه بل كان مقيدا بحبال عقله الأعلى لا أكثر.
هذا العقاب هنا يتمثل فى الحرمان من بقيه مناهل المعرفة من ناحية، سواء كانت المعرفة بالجسد أم بالحدس أم بالحركة أم بالوجدان، كما يتمثل فى العزلة والعجز والحركة البندولية بين اليمين واليسار.
هامش:
قبل أن أشير إلى خاتمة الحلم، وكيف وصلتْنى، أنبه إلى قول المشدود (لاالمصلوب) “وجهلنا أن الغضب استعداد فى كل فرد”… مقارنة بقوله: “جهلتُ أن الإنسان لايمكن أن يخلو من كرامة” وكأنه جعل الجهل “العام” (نحن) بإنكار “العدوان والإبداع”، هو الخلفية التى جعلته فرداَ، يميز البشر إلى “من عنده كرامة، ومن لا يستحقها”.
النهاية:
أرجو أن ينتبه قارئ الحلم لنهايته بدقة مناسبة، ذلك أن الحزن والصمت لم يكونا من مشاعر المحكوم عليه بالقيد والجمود، حتى لو شعر بالذنب، وعاقب نفسه هكذا، واعترف بجريمة الجهل. نهاية الحلم كانت حزن وصمت الجماعة “الثلاثة أو الثلاثة زائد الصوت أو الثلاثة زائد الصوت زائد الرجل المقيد، أو نحن جمعيا بنى البشر“.
حزننا هو لهذا الانقسام الذى بتر الوجود البشرى إلا من عقله الأعلى المتمنطق حتى لو اتصف بالحلم والخبرة.
ربما يكون هذا هو الحزن الدافع الأقوى لتحمل غموض وضرورة العلاقة بالآخر فى آن.
أو الحزن الذى هو التفاعل المناسب المصاحب لصدمة تعرية الحقيقة.
أما الصمت بعد هذه الرؤية فقد وصلنى على أنه ذلك الصمت المفعم بوعود اليقين وضرورة مواصلة السعى الممتد كدحاً إليه.
وبعـد
1- هل يمكن أن يقول تشكيلُ حلم بهذا التكثيف والإيجاز، كل ذلك؟
2- وهل لو عرضت هذه القراءة على مبدع الحلم– محفوظ نفسه- يقبلها؟
3- وهل من حقى أن استقبل هذا الحلم/التشكيل المكثف بكل هذا التفصيل الناقد الصعب؟
الاجابة عن السؤال الأول هى: أن نعم،
فإن لم يكن الحلم قد قاله فهذا هو ما حضرنى نقداً.
الإجابة عن السؤال الثانى هى: سواء قبلها المبدع الأول أم لم يقبلها، فهذا الأمر ليس من حقه، فالمبدع يبدع، ثم “يسهر النقاد جراها ويُختصُم”.
الاجابة عن السؤال الثالث هى: متضمنة فى الاجابة عن السؤالين السابقين.
ثالثا: الحاجة إلى الشوفان
تجربة خبراتية
فى هذا الجزء الثالث سوف نعرض بإيجاز شديد لبعض عينات محدودة، من محاولات تلقائية، لكشف ماهية الإنسان، من خلال حركية الوعى الخبراتى الذاتى، مجرد مثال لعرض مشاركة الشخص العادى فى رؤية خبراتية ذاتية تضىء بعض جوانب ما هو “إنسان” فينا.
يقال (فى العلم أيضا) إن الإنسان يحتاج أن “ُيـُـشاف”([18]) منذ الولادة حتى الموت، وتسمى هذه الحاجة بــ: “الحاجة إلى الشوفان”، وقد تسمى أحيانا بدقة أقل: الحاجة إلى “التقدير”، أو الحاجة إلى “الاعتراف”، وإن كنا نرى أن الحاجة إلى الشوفان أساسية أكثر، لأنها تتعلق بالإدراك المباشر، بالحس المشارك، أكثر من تعلقها بالتقييم الفكرى، أو التقدير الأدبى.
بدلا من ذكر التجارب التقليدية والمشاهدات التى يمكن أن تبحث فى أبعاد هذه الحاجة الأساسية، “الحاجة إلى الشوفان” قمنا بتجربة خبراتية، مع أشخاص عاديين، حيث يطلب قائد المجموعة من المشارك أن يكمل عبارة ما، حتى لو لم يكن مقتنعا بها، ليكتشف، ولو تمثيلا، ما يتراءى له.
قدمنا عبارات كان على المشاركين أن يكملوها([19])، وسوف نعرض اثنتين بإيجاز شديد لنظهر كيف يصل الشخص العادى إلى حقائق موضوعية دالة.
العبارة الأولى تقول:
“أنا نفسى حد يشوفنى كلى على بعضى حتى لو…..”
ثم يـُـطلب من المشارك أن يكمل بسرعة ما يخطر، أو حتى ما لا يخطر، على باله:
أكمل المشاركون الأربعة بالإضافة إلى الأستاذ (أنا) قائد المجموعة العبارة على الوجه التالى:
- الأول: أنا نفسى حد يشوفنى كلى على بعضى حتى لو: شاف عيوبى.
- الثانى: حتى لو شاف الحتت المكسرة فـيـَّا
- الثالث: حتى لو أنا وحش.
- (الأستاذ) حتى لو ما استحملتِشْ الشوفان ده.
- الخامس: حتى لو: أنا شايف إنه ظالمنى.
وبمناقشة هذه الاستجابات معا أقر أغلب المشاركين (وهم اشخاص عاديون عدا الأستاذ) أنهم رأو هذه الحاجة رأى العين، وأن هذه الرؤية تمت دون وصاية أو تلقين، وأن شيئا ما داخلهم قد تحرك نحو إضاءة ما.
واحد قال:
” أنا استنتجت إننا كلنا متفقين ان أحنا عايزين نتشاف، حتى لو اتشافت مساوئنا، ماكنتش متوقع إن الواحد مستعد إن الناس تشوف مساوئه للدرجة دى”.
الآخر قال:
“يا خبر دا احنا محتاجين إننا نتشاف بالحتت الوحشة اللى عندنا ونتقبل…إلخ
لم تقتصر التجربة على تعرية الاحتياج للشوفان، والمخاطرة بمايترتب عليه، بعد مناقشة الشوفان المشروط، والشوفان المتحيز، والشوفان الصفقة، أمكننا أن نتقدم خطوة أخرى نبحث عن توقعات المحتاج لهذا الشوفان من خلال عبارة (لعبة) أخرى تقول:
دانا لو حد شافنى بصحيح يمكن….، (ثم يطلب من المشارك أن يكمل)
فجاءت الإجابات كالتالى:
- د أنا لو حد شافنى بصحيح……. يمكن أتغير،
- ……. يمكن أتحسّن،
- ……. يمكن يحبنى
- …….يمكن أصدق
- ……. يمكن أطـّـمئن شوية،
الخلاصة:
هذا النوع من التجريب المباشر يمكن أن يجرى كل يوم، دون أن ندرك أنه يجرى، يحدث ذلك بيننا وبين أنفسنا، أو بيننا وبين بعضنا، تظهر نتيجته سلبا أو إيجابا فى السلوك أو الوعى دون تحديد تفاصيل خطواته.
وبعد
يمكن إذا رجعنا إلى حلم محفوظ كما قدمناه حالا، نلاحظ الفرق بين رؤية المصلوب لعماه وجهله، مع أن المحيطين به عرفوه حليما خبيرا كمثال يحتذى “…عهدنا بك ذو حلم وخبرة”. ثم ها نحن نكتشف من خلال هذه التجربة عن الشوفان أن شحذ بصيرة الشخص العادى ليرى حاجته، وشروطه، هو أمر متاح، وبشكل مباشر أكثر كثيرا من تحفظاتنا المسبقة.
فنستنتج معا أنه:
- لا يكفى أن تسد حاجتك إلى أن يراك الناس، بأن تعترف بذلك
- ولا يكفى أن يروك كما تشاء أن يروك، بل قد يضرك ذلك
- كما لا يكفى أن يروك كلك بعيوبك ومحاسنك
- بل يلزم أن تأخذ كل هذه الرؤى وترى نفسك بنفسك، دون أن تعتقد بصواب ذلك أو ثباته، كما رأى المصلوب فى حلم محفوظ حقه –حقنا- فى الغضب، ومن ثم الكرامة الإنسانية.
ملاحق الفصل الأول:
من كتاب الأطفال “الحق فى الغضب” وهو شعر بالعامية المصرية، على لسان الأطفال (بداخلنا وخارجنا) وهو ما أثاره قول المشدود على سارى المركب “جهلنا أن الغضب استعداد فى كل فرد”
تقول الأرجوزة على لسان الطفل:
-1-
الغضب من حقَّى برضُهْ،
الغضبْ مِشْ كلُّه يعنى زى بعضُهْ.
ما هو لازم إنى أغضبْ،
لما يحصل إِللىِ يِـغْـضِـبْ.
-2-
الغضبْ للحق واجبْ
الغضب مع بعض ضدّ المفترى،
يبقى ثورة ضد ظالمْ، ضد غاصبْ.
-3-
بس يعنى،
لو غَضَبْ كده والسلامْ
زى كورهْ فرقعتْ، لما شاطها الجون قوامْ
بعد ما دخلت شبكـْتُـهْ
راح عاملها يدارى خيبتـُهْ
يبقى مش هوّا اللَّـانا قصدى عليه،
نعمل ايه؟!!!!
-4-
لمَّا نغضب ننتبه: إمتى، وإيه،
ضد مين؟ ولْحدّ فينْ؟ وبكامْ، وليهْ؟
لما تغضبْ وانتَ مش قادر تحس،
باللى جنبك.
يعنى تتفجر وبسْ،
باللّى عندك،
تبقى باظت حسبتكْ، مهما حاولت
يبقى طاش سهمك، ياريتك ما غضبت
-5-
لمّا ازعّق وى خلاص دا مش غضبْ
دا ساعات يمكن يكون قلّـة أدبْ
لما باغضب وانفجرْ،
مش باجمّع يا خسارة،
يفلت المعيار كإنى وحش كاسر
لسه طالع من مغارة
بانسَى نفسى، …. بالـْغِـى حِسّى
يجروا منّى،……….ألقى إنّى:
مرمى منبوذ غَصْب عنى
-6-
إنما غضبى اللى هوَا، .. لسّه جوّهْ،
ده يا خويا حاجه تانيه، بس “هوّه”.
آه دا لو وجّهنا طاقته ناحية اللى يستاهلها
راح تكون ثورة بصحيح،
…بس يورثها الْعـــامِلْها
مش تروح ثمرتها للى كان بيتفرّج علينا
واحنا نتسوح ونرضى مرة تانية باللى فينا
[1] – جاء فى استهلال هذه السلسلة “من فيض نبض الطب النفسى” ما فضلت أن أحتفظ به فى الهامش لتغير موقع النشر، ونص ذلك:
نشأتُ – مثل جيلى – فى رحاب مقالات إحسان عبد القدوس السياسية فى روزاليوسف فى الأربعينات وحتى قامت الثورة. كنا نستنشق من خلالها عبير تلك السيدة العظيمة التى لم تعد كيانا بشريا له ولد ومجلة، بل كانت وما زالت “معنى” متجددا دائما.
[2] – استعمل تعبير “فعل الفلسفة” لأنفى به تصور العامة أن الفلسفة هى نقاش كلامىّ تنظيرىّ معقد، فهى بالنسبة لى “موقف”، أو “توجه”، أو”تساؤل فاعل” فى الوعى، بما يثيره إلى التحريك فالإبداع.
[3] – بعد ظهور هذا المقال بأكثر من عامين صدر لى كتاب فى النقد إصدارات الهيئة العامة لقصور الثقافة وكنت قد اقترحت له اسم “التفسير الأدبى للنفس” لكن أ.د. مصطفى العقاد اقترح له – متفضلا– اسما أدق، هو “تبادل الأقنعة” سيكولوجية النقد” الهيئة العامة لقصور الثقافة (2006)، وقد قبلته فرحا، وفيه تناولٌ لما استلهمته من ديستويفسكى وغيره، لتأكيد أن الأدب أسبق فى معرفة النفس من العلوم النفسية.
[4] – القراءة الأولى لهذا الحلم صدرت لى فى كتابى: (“عن طبيعة الحلم والإبداع” دراسة نقدية: فى أحلام فترة النقاهة لنجيب محفوظ ) – دار الشروق 2011، وقد تم تحديث هذه القراءة فى هذا العمل الحالى.
[5] – هذا الفرض موجود بالتفصيل فى كتابى الذى صدر عن المجلس الأعلى للثقافة (2007) بعنوان: “حركية الوجود وتجليات الإبداع” (الفصل الأول: “الإيقاع الحيوى ونبض الإبداع”)، وقد سبق أن صدر فى مجلة “فصول” (المجلد الخامس-العدد الثانى-1985) كما أننى عدت إليه فى مقدمة كتابى عن (دراسة نقدية فى “أحلام فترة النقاهة” لنجيب محفوظ: “عن طبيعة الحلم والإبداع”) – دار الشروق (2011).
[6] – نجيب محفوظ: رأيت فيما يرى النائم، مكتبة مصر، 1982
[7] – نجيب محفوظ: ليالى ألف ليلة، مكتبة مصر، 1979
[8] – نجيب محفوظ: أصداء السيرة الذاتية، مكتبة مصر، 1995
[9] – سوف يردُ تفصيل لاحق لهذه الفكرة/النظرية فى هذا الكتاب، وفى كتاب “الوحدة والتعدد فى التركيب البشرى” (تحت الطبع)، وفى أعمال كثيرة للمؤلف مثل: “تزييف الوعى البشرى، وإنذارات الانقراض.. بعض فكر يحيى الرخاوى“، الطبعة الأولى (2019) منشورات جمعية الطب النفسى التطورى.
[10] – تطور فكرى وشاهدت فى خبرتى أن عدد الذوات (حالات الذات) هى بلا حصر كما نشرته فى موقعى ومقال مجلة سطور (سبتمبر 2002): “تصالح مع الذات؟ أم تكامل الذوات ؟” وأيضا نشرات “الإنسان والتطور اليومية” وكمثال نشرة (14/4/2013) “اختبار فرض تعدد الذوات: تطبيق عملى مع أسوياء“.
[11] – تعبير “حالة تكون مستمر” هو تعبير شديد الأهمية، لأنه يشير إلى حركية النمو، وأن ما يسمى اثبات الذات Self actrualizationهو وقفة مؤقته على طريق نبض النمو الحيوى، وقد حاولت بإصرار فى كل أعمالى تقريبا أن انبه على التركيز على ما يفيده هذا التعبير “فى حالة تكون مستمر” وهو ما يقابل التعبير الانجليزى always in the making وقد نحت له لفظا يصف الحالة هو فى “اليتكوّن” (بما يخالف قواعد النحو) بإدخال ألف لام التعريف على فعل يتكون ولست متأكدا من مدى قبولها على المستوى العام لاحقا.
[12] – أشاع أغلب الأطباء النفسيون بإلحاح مثابر أن الحزن ألمٌ كريه وأسموه “الاكتئاب” وأنه يصيب كذا فى المائة من الناس (20% من المصريين مثلا)، ما أشير إليه هنا يتضمن رفضا لهذا التعميم، تعبير الحزن الحيوى اخترته مقابل تعبير أكاديمى آخر هو الاكتئاب البيولوجى النشط Active biologic depression إلا أن تعبير الحزن الحيوى أقرب إلى ثقافتنا وأسهل وهو يشير إلى الألم النفسى الخلاق الذى يعلن الوعى بالصعوبة (خصوصا فى مجال العلاقات دون التراجع عن تحملها، كما يفيد محاولة الرؤية الموضوعية دون التوقف عند نقلها ومفاجأتها.
– يحيى الرخاوى “الطب النفسى: بين الأيديولوجيا والتطور” الطبعة الأولى (2019) منشورات جمعية الطب النفسى التطورى.
[13] – هذا هو الفرض الأساسى فى عمل آخر ظهر فى كتابى عن نقد وتقاسيم على أحلام فترة النقاهة، “عن طبيعة الحلم والإبداع، دراسة نقدية فى أحلام فترة النقاهة، لنجيب محفوظ، دار الشروق (2011).
[14] – يحيى الرخاوى: “أغانى مصرية: عن الفطرة البشرية للأطفال ó الكبار وبالعكس” منشورات جمعية الطب التطورى (2017).
[15]– يحيى الرخاوى: “العدوان والإبداع” مجلة الإنسان والتطور الفصلية عدد يوليو (1980)، ثم مجلة فصول (المجلد العاشر العددان 3-4 ) ( 1992)، بموقع المؤلف www.rakhawy.net
[16] – ذات مرة رحت ألقى محاضرة على شباب مبعوثين تابعين لوزارة التعليم العالى إعداداً لهم لمواجهة ما يسمى “الصدمة الثقافية” عند سفرهم للدراسة فى أوربا، وكان من بين ما قلته لهم إن هناك ما يمكن أن يتعلموه من ثقافة مختلفة متقدمة، وأيضا هناك ما يمكن أن يغلقوا وعيهم عن تعلمه، وهم يقاومون أن يصل إليهم من هذه الثقافة الغريبة، وأضفت أن الله سبحانه سيحاسبهم على ما تعلموه وعلى ما رفضوا أن يتعلموه!! (ولم يفهم أغلبهم الجملة الأخيرة)
[17] – Lackoff, Philosophy in the Flesh: the Embodied Mind & its Challenge to Western Thought Paperback – 8 October, (1999).
[18] – ملحوظة: “شاف” كلمة عربية، فعل عربى فصيح جميل، “إن الكريم إذا يـُشاف رأيته مبـْرَنـْشـِقـًا، وإذا يُـهـَانُ استـزْمرا”، وهى أيضا كلمة عامية بديعة “يا عم شفنا، يا عم احنا هنا”، كما أنك يمكن أن تستنتج وجودها بشكل غير مباشر “أنا اللى تحت يا سيد!!” إلخ.)
[19] – فى برنامج “سر اللعبة” “لعبة الشوفان” القناة الثقافية” بتاريخ 22/5/2004 والحلقة مثبتة فى موقع المؤلف www.rakhawy.net، وسوف تصدر كاملة فى كتاب: (“ألعاب نفسية”: تكشف وتعلــّم”) وهو تحت الطبع بعد أن ظهر مسلسلا فى النشرة اليومية أيضا.
الفصل الثانى : موت الموت من ذكريات طفل، ووحدة مريض
الفصل الثانى : موت الموت من ذكريات طفل، ووحدة مريض
فى هذه المداخلة سوف نستلهم المعرفة أساساً من نص أدبى، (أيضا: “أصداء السيرة الذاتية. محفوظ) ثم نص بشرى يعانى المرض (حالة مريض وأحواله).
أولا: قراءة فى النص الأدبى
من أصداء السيرة الذاتية: نجيب محفوظ ([1])
الفقرة (2):
“رثاء”
كانت أول زيارة للموت عندنا لدىَّ وفاة جدتى. كان الموت مازال جديدا، لا عهد لى به إلا عابرا فى الطريق، وكنت أعلم بالمأثور من الكلام أنه حتم لا مفر منه، أما عن شعورى الحقيقى فكان يراه بعيدا بعد السماء عن الأرض، هكذا انتزعنى النحيب من طمأنينتى فأدركت أنه تسلل فى غفلة منا إلى تلك الحجرة التى حكت لى أجمل الحكايات. ورأيتنى صغيرا كما رأيته عملاقا، وترددت أنفاسه فى جميع الحجرات فكل شخص تذكّره وكل شخص تحدث عنه بما قـُسم.
وضقت بالمطاردة فلذت بحجرتىلأنعم بدقيقة من الوحدة والهدوء، وإذا بالباب يفتح وتدخل الجميلة ذات الضفيرة الطويلة السوداء وهمستْ بحنان: لا تبق وحدك.
واندلعتْ فى باطنى ثورة مباغتة متسمة بالعنف، متعطشة للجنون، وقبضت على يدها وجذبتها إلى صدرى بكل ما يموج فيه من حزن وخوف.
مقدمة القراءة ([2])
باكرا باكرا، وما زال طفلنا الشيخ ينصت إلى أصداء طفولته فيعيد إبداعها ليحكيها، كما فعل لاحقا أصعب وأصعب فى مادة أحلامه، وبعد الفقرة الأولى من الأصداء التى حكى فيها عن الطفل قبل السابعة، وهو يحمل بذور الثورة الفطرية الجميلة، التى أسماها “حنين للفوضى”. بعد هذه الإلماحة الهادئة فى الفقرة الأولى لكآبة الأطفال الشقية، ينقلنا طفل محفوظ فى هذه الفقرة الثانية مباشرة، وفجأة، لنواجه معه حزمة من المشاعر نتعلم منها بعض ماهية العواطف عند الأطفال كما ينبغى، كما هى.
نحن – الكبار– نُسقط على الأطفال مشاعرنا نحن، ونحبسهم فى خيالنا الضيق، متصورين أن هذه هى مشاعرهم وأن تلك هى حدود خيالهم.
هيا نستلهم من هذا النصٍّ المحفوظىّ غور ما هو طفل، وما هو نحن، ونحن نقرأ هذا الصدى:
القراءة:
يضعنا محفوظ فجأة فى مواجهة الموت ونحن نستمع إلى أصداء وقع الفقد. الطفل يفقد جدته، فننتبه – أيضا من البداية – إلى دلالات نقلات الذاكرة الخاصة، من طفل طائر إلى شاطئ السعادة نتيجة لإطلاق حريته إثر مظاهرة ثورية عابرة (الفقرة الأولى)، إلى جدة تموت دون توقع أو تصور أو استعداد من حفيدها. لكنه ليس الفقد الذى بعده العدم، بل هو، الوجه الآخر للوجود الذى يعطى للحياة معنى، وهو الموت الذى تتفجر منه الحياة فى معظم الأحيان، كما علـَّمنا محفوظ فى الحرافيش وغيرها: إن الوعى بالموت هو حافز الحياة، وأن أوهام الخلود على هذه الأرض هى الموت الحقيقى. الموت هنا، وفى معظم الأصداء، هو كيان حاضرٌ ممتلئ حركىّ.
محفوظ يعامل الموت هنا باعتباره كائنا حيا لا عهد له به إلا عابرا فى الطريق، ثم هو يحكى عن الموت إذ يتسلل، ثم وهو يصيرعملاقا له أنفاس تتردد فى كل الحجرات، وفجأة ينقلب الموت شبحا يطارد الطفل شخصيا، فيجرى أمامه ليلتقى بالحياة، الجميلة – ذات الضفيرة. هذه الوصلة بين الموت والحياة هى لعبة نجيب محفوظ المفضلة.
يتبين لنا هنا -أيضا- الخيط الرفيع الذى لمحناه من البداية وهو الذى يربط بين الداخل والخارج، فإذا كان الدعاء للثورة (المظاهرات) التى أعفت طفلنا من المدرسة وارد فى الفقرة الأولى، فإن الثورة المباغته التى اندلعت فى باطنه هنا كانت حركة حيوية داخلية، آثارها فَـقْـدُ جدته، وقد جاءت هذه الحركة (لاحظ الصفات): مباغتة، متسمة بالعنف، متعطشه للجنون. أى طفولة حية هذه التى يسترجعها شيخنا بهذا الوضوح حتى يعلمنا جمال انفجارات وعى الأطفال الداخلية، تلك الانفجارات التى تغلف بالجنس دون أن يكون بالضرورة جنسا (ولا يمنع أن تشم فيها رائحة جنسية دون أن يكون كذلك كما يفهمه العامة) لتنتهى الفقرة بالالتحام بالجميلة التى تكسر وحدته “لا تبق وحدك” بحنانها الدافئ، وبدلا من أن نتصور أنها لذة النجاة بسبب الهرب من الشعور بالفقد، بالموت، نفاجأ بأن طفلنا جذب الجميلة إليه ولم يرتم فى حضنها خوفا من الموت المطارِد، ومع أنه هو الذى جذبها وهو فى ثورته المتسمة بالعنف المتعطشه للجنون، إلا أن الجذب كان بكل ما يموج به من حزن وخوف.
حين يتذكر الشيخ (أىْ تبدع ذاكرته) هذا المزيج الجميل الذى يجمع فيه تداخل العواطف البشرية هكذا فى نسق متفاعل يرفض الاستقطاب والاختزال، نعرف أننا أمام أصداء تتردد أكثر منها أحداث تحكى مجزأه، أو ترمز إلى مفاهيم محددة مسبقا. محفوظ يدعونا أن نعامل اللغة بطريقة متجددة، ربما هى أقرب إلى الطريقة التى نقرأ بها الشعر.
الثورة التى ذكرت فى الفقرة الأولى، ثورة المظاهرات الباعثة للحنين بالفوضى (فالأجازة) غير هذه الثورة المباغتة المتسمة بالعنف المتعطش للجنون والتى تجذب وتنجذب إلى “الآخر” بزخم الحيوية الطفلية التى لا تستبعد رائحة الجنس حيث الصدر يمتلئ بكل ما يموج فيه من حزن وخوف، حزمة من المشاعر “معا” دالة على عمق الوعى بحركية الوجدان.
هل نذكر فى الفصل السابق كيف انتهى حلم محفوظ والمصلوب يحكى سبب صلبه نفسه؟ انتهى الحلم إلى التنبيه على تأصيل الكرامة لدى البشر، ومن ثم تعقيب السائل أو السائلين أنه “وغلبنا الحزن والصمت“.
يمكن أن نراجع حضور لفظ الحزن هنا متفجرا من تلك الثورة المباغتة المتسمة بالعنف المتعطشة للجنون، وكيف تواكب الحزن مع الخوف، فى حين تواكب الحزن هناك مع الصمت فى نهاية الحلم.
هل يصح، ونحن نتعلم من هذا الحدس المحفوظى المكثف، أن نستسلم لبعض الأطباء وهم يختزلون الحزن إلى ذلك الأسى الهامد دون غيره؟ نشكرهم إذْ أطلقوا على الحزن المرضى لفظ الاكتئاب ثم نتركه لهم حتى لا يتشوه منا هذا الحزن الرخيم، حتى يتركوا لنا زخم الحزن الجميل لنقرنه مرة بالصمت، ومرة بالخوف نتاجا للثورة المتسمة بالعنف المتعطشه للجنون. (لاحظ تعبير: المتعطشة للجنون).
ثم: ألا ينبهنا هذا الحشد من الوجدانات المتضفرة، المتفجرة من طفل جميل يواجه الموت بالحياة، ألا ينبهنا إلى كيف يختزل أهل العلوم النفسية، ومن ورائهم العامة، عواطف البشر إلى صفات مفهومية نقية منفصلة عن بعضها البعض أو مضادة لبعضها البعض، أو مسجونة فى لفظ يستحيل أن يحيط بنبضها وجيشانها، مهما بلغ من دقة وحبكة؟. هذا يتواكب مع مراجعة دور العواطف واعتمالها فى إثراء الوجود البشرى، وإسهامها فى النشاط المعرفى،([3]) جنبا إلا جنب مع دور الجسد كأداة للمعرفة أيضا، تتم وتتواصل بشكل رائع متلاحق يجرى على قدم وساق فى أكثر من مجال معرفى/ علمى/ إبداعىّ عبر العالم.
هى دعوة للقارئ الكريم ألا يطمئن كثيرا وهو يكتفى بإطلاق ألفاظ تعبر عن خوفه أو حبه أو حزنه، لعله قد عرف مما تقدم أن المسألة أعمق أو أرسخ، وأحيانا أجمل – مما قال.
ثانيا: قراءة فى النص البشرى (مريض)
موت الموت
(من حالة مرضية مسجلة فى لقاءات متتالية سنة 2005)
هو رجل فى منتصف العمر(40 سنة)، كان يعمل نادلا (جرسون) فى فنادق الدرجة الأولى، فى أحد فنادق مصر وخارجها، أحضرته أخته للاستشارة والعلاج.
من نص ما قال عند الحضور:
“أنا مش عيان، أهلى مش مستحمـِلـِنِّى، أنا بعيد عنهم وماباتكلمشى مع حدّ، قاعد فى الأوضه قافل على نَفسى، نِفسى أنزل للشغل أو أمارس حياتى تانى، أنا كنت با شتغل كويس وباكسب فلوس كثيرة بس الجواز ضيع كل حاجة. نومى كله قلق، ماليش نفس، ماليس نفس للأكل، مش عايز آكل معاهم، وحاسس إن دول مش أهلى، وأنا اتأكدت إن دول مش أهلى، بصيت فى بطاقتى ولقيت فصايل الدم مختلفة، أنا مش إبنهم. أنا رئيس الجمهورية، مش عارف ازاى.
وقال أيضا:
أمى طول عمرها بعيد عنى، مهتمة بالطبيخ وشغل البيت وخلاص، مالهاش دعوة بيّـا، بتقعد مع اخواتى أكتر منى، بتتكلم معاهم، بتديهم فلوس وانا لأه، أنا متأكد ‘إنها مش أمى، إن دول مش أهلى، باقول لك: أنا بصيت فى البطايق، فى بطاقتى، ولقيت فصايل الدم مختلفة يعنى أنا مش ابنهم.
ثم قال كذلك:
أنا لما لقيت نفسى منسِى رحت مْـنَسِّى نفسى.
كما قال
“الموت مات، مفيش موت، مفيش حاجة إسمها موت”.
ومن نص أقوال أخته:
“هو تعبان من 12 سنة إنعزل وبقى يقعد لوحده فى الأوضة ويقفل على نفسه، لا يكلم حد ولا يروح الشغل. بقى يهمل فى نظافته ومابيستحماش إلا بالضغط، من حوالى 8 سنين بدأ يعمل تصرفات غريبة، والحكاية دى زادت عليه قوى من سنة يقطـّع قميصه، ويلبس الياقه بس، بدأ يعمل حركة بإيده يجيبها على دقنه وبعدها على صدره، ساعات يتعصب علينا ويقولنا أنا الباشا وأنا الريس وأنا صاحب القرار، من شهر بدأ يقف ويقلع ويلبس الشبشب كذا مرة حوالى ربع ساعة ويضحك مع نفسه من غير سبب.
لمحات موجزة من تاريخ حياته:
هو من أسرة من المستوى المتوسط الأدنى، أو المستوى الأدنى، الثانى من سبعة إخوة وأخوات. لا يوجد فى الأسرة تاريخ إيجابى للمرض النفسى، الوالد بعيد منشغل بنفسه، والأم عواطفها فاترة نحوه بالذات، أو هو استقبلها كذلك، كما ذكرنا سابقا.
تخرَّج من معهد فندقة متوسط، وعمل أثناء الأجازات الصيفية منذ كان طالبا، كان مريضنا ناجحا فى دراسته جدا، كما كان موفقا محبوبا فى عمله حتى مرض، وقد كان يتقاضى أجرا مجزيا هنا، وفى الخارج أكثر (السعودية).
فى سن 21 خطب جارة له، لكن الخطوبة فُسخت لأسباب مادية، ثم عاد فى سن 26 فخطب جارة أخرى، ثم تزوجها فى إحدى إجازاته من عمله فى السعودية ومكث معها ثلاثة أسابيع قبل أن يسافر إلى عمله. قبل سفره مباشرة أخبروه باحتمال أن زوجته حامل، وقد رجح ذلك باختبار للحمل، لكنه بعد سفره بأسابيع وصله من أهله نبأ أن الحمل ثبت أنه حمل كاذب، وأن الاختبار الأول لم يكن دقيقا، وأن الزوجة تركت بيت أهله إلى أهلها طالبة الطلاق، وتم الطلاق بترتيب ما.
لكنه حين عودته فى الأجازةالتالية عاد حاملا هدايا لزوجته وملابس ولعبا لابنه المزعوم.
وفورا: بدأ المرض بعد عودته بالصورة السالفة الذكر، وظل كذلك طول تلك السنين، وقد عولج المريض أثناء هذه المدة أكثر من مرة بالعقاقير والجلسات (تنظيم الإيقاع)، واختفت الأعراض، لكنه لم ينتظم على العقاقير أو المتابعة، ولم يرجع إلى عمله فكان ينتكس باستمرار، وما زال بعد التحسن المحدود لا يواظب على المتابعة حتى تاريخه.
القراءة الأولى:
فى حدود القراءة الطبية التقليدية المألوفة يركز معظم الأطباء أساسا، وأحيانا تماما، على الوصول إلى التشخيص ابتداء”. التشخيص ليس هدفا فى ذاته، هو مسألة تصنيفية تنفع فى الإداريات والإحصاءات ولشركات التأمين وأمام المحاكم، لكن تظل الحالة هى الحالة سواء شخصت كذا أو كيت. بينى و بينك: هذه الحالة بالذات سوف تأخذ نفس العقاقير تقريبا، مهما تعددت احتمالات التشخيص. (لن أذكر اسما محددا للتشخيص الأرجح، أولا: لقلة المعلومات المعروضة، وثانيا: للتأكيد على أن التشخيص لا يأتى فى المقام الأول، لأن العقاقير التى تعطى لهذه الحالات بغض النظر عن التشخيص هى واحدة تقريبا مع كافة التشخيصات المحتلمة كما ذكرنا).
القراءة الثانية:
وهى الأكثر جاذبية مع أنها بنفس التسطيح والمباشرة هى ما يمكن أن نسميه القراءة المسلسلاتية، نسبة إلى مسلسلات التليفزيون، وهى قراءة تبريرية تأويلية عادة. وهى تركز على البحث عن الأسباب والتفسير التأويلى، وهى تستلهم بسطحية أو اجتهاد، مفاهيم ومصطلحات التحليل النفسى عادة، وهات يا عقد، وهات يا “صعبانية”، وهات يا تبرير، وربما احتد حماس هذه القراءة حتى تعتبر صدمة فسخ الخطوبة بمثابة الجرح الغائر الذى مهد لصدمة الطلاق الذى نتج عنه ما نتج. مثل المسلسلات الخائبة، هذه القراءة تريح الناس عامة، لانهم يصبحون مشاهدين على مسافة، المشاهد عادة يطمئن فى استسلام إن هو استطاع أن يربط الأحداث ربطا سببيا خطيا مباشرا بشكل أو بآخر.
إذا كان التشخيص يأتى فى مرتبة متأخرة فى الأهمية، وإذا كان البحث عن سبب مباشر للحالة، يختزلها إلى مسلسل فاتر أو حتى مثير، فما هو المطلوب للغوص أكثر فى هذه الحالة فى حدود ما اقتطفناه منها ونحن نقرأها بمنهج آخر، هو كالتالى.
القراءة الثالثة:
المنهج النقدى (نقترح له اسم: النقد الكلينيكى) ([4])
نحاول من خلال هذا المنهج، أن نقترب، ونتقمص هذا الإنسان الذى يعانى، ونحن نركز فى محاولة فهم معنى الأحداث والمظاهر المرضية، دون التوقف عند أسبابها كما، نحاول ألا نكتفى بأن نتفرج عليها من الخارج، وألا يكون كل همنا هو الوصول إلى تشخيص ثم بذل نصائح وكتابة وصفة، نحاول ألا نمصمص الشفاه أو نصدر الأحكام الفوقية، أو نرفع حواجبنا دهشة، وإنما نبحث عن ما يقابل ما نقرأ فى الحالة ونراه فى داخلنا، لعلنا نتعلم منها، فى نفس الوقت الذى نحترمها ونساعدها إذا ما كنا فى موقع هذه المسئولية. نعرض القراءة النقدية لهذا النص البشرى على الوجه التالى:
نبدأ بوضع فرض([5]) يفسر أغلب (وليس كل) معطيات الحالة، هذا الفرض يتيح لنا عادة أن نفهم “ماذا يقول المريض بمرضه”، أكثر من تركيزنا على “سبب المرض” كما يفعل أغلب الناس والأطباء والمعالجين. إن السبب عادة هو أمر فى الماضى، ومهما استرجعناه، فهو لا يزول بمجرد التفريغ والحكى كما تـُصـَوِّره المسلسلات عادة.
الفرض:
هذا الرجل الطيب لم يعش طفولته أصلا: كأنه قد ولد كهلا، ثم مَرِضَ حين تذكر وفكّر فى إحياء طفله المحنط داخله، (الذات الطفليلة)، هو لم يعش طفولته بالمعنى التلقائى البسيط، لم تهتم به أمه مثل إخوته، أو هذا ما وصله. انطوى على نفسه من ناحية، ثم عوض ذلك باجتهاده تلميذا، وبمثابرته فى عمله من سن مبكرة (حتى فى الإجازة الصيفية وهو تلميذ)، وقد نجح دون توقف. كان تلميذا ناجحا، وجرسونا شاطرا، وخلاص. لم تصله رسالة أن أحدا رآه، أن أحداً أقر وجوده، أن أحداً وقـّع على حقه فى طفولته وتلقائيته، وحين عمل، اجتهد، شقى، كسب ما يسمح له أن يتقدم للخطوبة لعل وعسى، فشلـَت المحاولة وأحبط، لكن الحكاية فاتت على خير (ظاهر)، ثم عاد و خطب وتزوج، وفجأة أشرقت طفولته له فى حمل زوجته بعد أيام من الزواج. الفرض الذى نضعه هنا يقول (من عمق وعىٍ غير ظاهر):
“إن مشروع الطفل فى رحم زوجته لم يكن ابنه القادم، بل كان طفله من داخله، طفله الذى أجهض من قديم داخله فظل كامنا محنطا حتى تحرك فى رحم زوجته”.
فى مجتمعنا بوجه خاص، كثيرا ما نتعامل مع أطفالنا الذين نلدهم باعتبارهم أطفالنا الداخليين نحن، أطفالنا داخلنا، هذا فى حد ذاته هو إلغاء لوجود أطفالنا الحقيقيين خارجنا، وهو استعمال بشع لهم فى نفس الوقت.كما أننا نشوه أنفسنا بدورنا حين نُحْرَم بذلك من فرصة تكاملنا مع طفلنا الداخلى وغيره من ذوات متجادلة، المهم، حين وصل صاحبنا فى غـُربته نبأ أن حمل زوجته كان كاذبا، وأن زوجته هجرت البيت وطلبت الطلاق، لم يستطع أن يتحمل هذا الواقع المفاجئ المر، لم يستطع أن يحترم إلا بعضه فطلق زوجته واقعا، لكنه – فى خياله – لم يكن قد طلق إلا زوجته ولم يطلق “أم طفله”، وكأنه شقها اثنتين، فأحضر لأم طفله الخيالية التى مازالت على ذمته، أحضر لها الهدايا عند عودته، كما أحضر ملابس ولعب طفله المزعوم، وابتدأ المرض ليعلن به ومن خلاله:
(1) إن أهله، وبالذات أمه ليست أمه، الأم لا تكون أما إلا إذا امتد الحبل السرى العاطفى بينها وبين وليدها بعد الولادة، هذا التواصل العاطفى يقوم بالدور الذى كان يقوم به الحبل السرى الطبيعى داخل الرحم. الاعتراف يأتى أولا من الأم حين تعترف بوليدها كيانا منفصلا عنها، وفى نفس الوقت يستمر تواصل عطائها له وحمايتها إياه حتى تتحقق الولادة النفسية التى قد لا تتم فى بلدنا إلا بعد عشرات السنين، وربما لا تتم أبدا. حين يفتقد الطفل فالرجل هذا الحبل السرى العاطفى الذى يحصل من خلاله على الاعتراف والشوفان: يعلن، حالة كونه مريضا، أن أمه ليست أمه.
(2) كُسرت صلابة الرجل بعد مشوار طويل من التعويضُ بالنجاح، لم ينفعه تفوق الدراسة، ولا نجاح العمل، ولا جمع النقود، عوّض كل ذلك بشطح مرضّى متماد حتى عين نفسه أنه “صاحب القرار” قرار خلق عالمه الخاص والاحتفاظ بطفل لم يوجد أبدا، وبما أن صاحب القرار عندنا واحد عادة وهو الرئيس(!!!) ، فقد عين نفسه رئيسا للجمهورية (هذا أضمن حل، من ذا الذى يستطيع أن ينتزع طفل رئيس الجمهورية) “أنا رئيس الجمهورية”، وبأمانة شديدة يضيف أنه “ومش عارف ازاى”.
(3) نأتى إلى ما يستحق وقفة أعمق وأكثر دلالة، وقفة تربط ما بين الحدس الذى وصف حالة جلد النفس بالمرض أو بالحزن أو بالعزوف عن الحياة، جلـْد الذات انتقاما من جلـْد الآخرين لها، شىء أشبه بالتقمص بالمعتدى، نقرأ ذلك فى قول صاحبنا:
1- “أنا لما لقيت نفسى مّنسى رحت مـِنـَسّى نفسى”.
فى نص شعرى سابق للكاتب (سر اللعبة 1972)([6]) جاءنى أصل هذا المعنى تحديدا وأنا أكتب السيكوباثولوجى شعرا “سر اللعبة” واصفا مرحلة فى الفصام:
فكما اغتلتم أمسى.. ألغيتُ غدى
يا سادة:
ماذا يتبقى إن فُصِلتْ روحى عن جسدى الثائر؟
يا سادة:
لم تختبئون وراء اللفظ الداعر؟
إذ لو صَدَقَ الزعم
فلماذا أُتْرَكُ هُمْلا؟
أين الحب المزعوم إذا لم ينقذ روحى طفلا؟
افتقر مريضنا الحب بدءا من ضمور الحبل السرى الوجدانى الذى يصل بينه وبين أمه، ثم بينه وبين أهله، فلم تنقذ روحه طفلا، وحين بعث هذا الطفل الداخلى من تابوته ليتحرك فى رحم زوجته، ثبت أنه وهم (حمل كاذب)، لكن كان الأوان قد فات، فتمسك الخيال المريض بالطفل المزعوم، ثم تصادم الخيال مع الواقع، فكانت الكسرة، فالتفسخ، فتوقف الزمن.
2- المقتطف الأصعب من كلام المريض هو ما نختم به قراءة هذه الحالة، وهو المقتطف الذى يقول فيه صاحبنا:
“الموت مات، مفيش موت، مفيش حاجة إسمها موت“.
من السهل أن يتعجب الشخص العادى من هذا القول ويعتبره تخريفا، ومن المألوف أن يسارع الطبيب بتسميته باسم عرض ما، لكن حين نحترم عمق هذا القول يمكن أن نقرأ فيه عدة أبعاد:
1- فى قراءتنا لصدى فقرة “رثاء” من سيرة أصداء محفوظ حالا قرأنا تعبيراً يقول “الموت الذى تتفجر منه الحياة فى معظم الأحيان”، هذا بعض ما علمنا إياه محفوظ فى الحرافيش بالذات: قد تكرر: إن الوعى بالموت – على أى مستوى من مستويات الشعور وليس بالضرورة فى بؤرة الشعور الواعى- هو الدافع الأهم لزخم تدفق الحياة المتجدد، علّمنا محفوظ أيضا فى الحرافيش أن أوهام الخلود على هذه الأرض هى الموت الحقيقى (خاصة شخصية جلال صاحب الجلالة). حين يقول مريضنا هنا أن الموت مات، نقرأ قوله هذا انطلاقا من قراءتنا لمحفوظ وليس لكتب الطب التقليدى أو كتب الفسيولوجيا، فهو إذ يعلن أن الموت مات إنما يعلن أنه أصبح خالداً لا يسرى عليه موت (وهو الموت المحفوظى الحقيقى)، فى ملحمة الحرافيش حين أعلن جلال (لصاحب الجلالة) وممثل ضلال الخلود لرفيقته زينات أن “الموت مات يا جاهلة” وراح يواصل تحدى الموت بالخلود المزعوم الذى هو الموت الحقيقى، ولم يتبين الحقيقة حتى قضى نحبه فى حوض الدواب وهو ينكر سكرات الموت حتى قضى نحبه ونصفه فى ماء الحوض والنصف الآخر على الأرض وكفنته الظلمة الحالكة فى تلك الليلة المثيرة للفزع من ليالى الربيع!!([7])
هذا القول نفسه يؤكد أن الابن المزعوم هنا الذى أجهض وأعلنت مراسم دفنه فى سرادق ما هو “حمل كاذب”، هذا الجنين الذى لم يوجد أصلاً: ما زال حيا فى خياله، لأنه: “مفيش حاجة إسمها موت” فيحضر له هدايا مثل أمه.
نفس القول يمكن أن نقرأه ونحن نبحث عما حدث لبُعد الزمن عند صاحبنا. فى مثل هذا المرض، تتوقف عنده حركية الزمن تماما، يتجمد الوجود عند لحظة بذاتها ليس لها ما بعدها. وهذا يفسر جزئيا طول وقفته معاقا لا يعمل، وإزمان مرضه، ومعاودة نكساته طوال هذه السنوات.
[1] – نجيب محفوظ “أصداء السيرة الذاتية” مكتبة مصر (1995)
[2] – هذه الفقرة سبق قراءتها نقدا فى (تقاسيم على أصداء نجيب محفوظ – أكتوبر العدد 59- سنة 1997)، فى كتابى: (“أصداء الأصداء”: تقاسيم على أصداء السيرة الذاتية نجيب محفوظ) الطبعة الأولى (2006) المجلس الأعلى للثقافة ، والطبعة الثانية (2017) منشورات جمعية الطب النفسى التطورى.
[3]– Emotionally Procesing Mind. العقل الوجدانى الاعتمالى
[4] – وهو بعض ما أسميناه لاحقا “نقد النص البشرى”
[5] – كل قراءة نقدية للنص البشرى تبدأ بفرضٍ ما، وليس بتفسير جازم، وبتطور الفرض ويتعدل ويستبدل أحيانا كلما حصلنا على مزيد من المعلومات، وأيضا مع مسيرة العلاج حين يصبح المريض مساهما فى إعادة التشكيل (النقد معاً)
[6]– يحيى الرخاوى: ديوان “سر اللعبة“، قصيدة “هربا من هربى” ص (101-108) الطبعة الثالثة 2017 منشورات جمعية الطب النفسى التطورى.
[7]– نجيب نحفوظ : رواية “ملحمة الحرافيش” (ص 440) الناشر: مكتبة مصر (1977)
الفصل الثالث من أنت وأين أنت؟ أنت معنى الكون كله
الفصل الثالث من أنت وأين أنت؟ أنت معنى الكون كله
وقعت السلطة العلمية مؤخرا (ليس مؤخرا جدا) فى نفس المأزق الذى وقعت فيه السلطة الدينية سابقا (وحتى الآن). استولت المؤسسات الدينية على احتكار معانى الإيمان، مع أنه نشاط الوعى البشرى لكل الناس، الوعى الأرقى والأكرم كدحا إلى وجه الحق سبحانه وتعالى، كذلك استولت المؤسات العلمية (الممولة جدا، عادة) على ناصية المقدسات العلمية، بما فى ذلك العلوم الإنسانية. احتكرت السلطة الدينية تفسير النص الإلهى، كما كادت السطة المؤسساتية المعرفة العلمية أن تحتكر المعرفة العملية بصفة عامة.
الإيمان يدخل القلب دون أن يستأذن أية وصاية رسمية، نبهنا القرآن الكريم من قديم إلى ذلك: “قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا، قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَٰكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِى قُلُوبِكُمْ” (الحجرات: الآية 14). على نفس القياس، يمكن تصور أن بعض من يشتغل فى العلم لم تدخل المعرفة فى وعيهم، وبالتالى عجزوا عن استيعاب نبضها، وحمل مسؤوليتها، ونقلها إلى اصحابها (عامة الناس: أصحاب المصلحة).
العلم الذى لا يصب فى عامة الناس لا لزوم له، وقد يضر (مثل القنبلة الذرية، والإعلام المغرض) على المتلقى أن يمارس حقه فى استعمال عقله النقدى وعقله الاعتمالى الوجدانى، فى صالح تلقى المدركات، وبالذات: فيما يتعلق بالعلوم الإنسانية.
قلنا من البداية أن المعرفة هى حق متاح للجميع، وهى تأتى من أكثر من مصدر، وأنها أكبر وأرحب من العلم، تماما مثلما أن الإيمان أكبر وأرحب من التفسيرات الدينية الرسمية.
خطأ قراءة المعلومة العلمية وارد عند الشخص العادى، كما هو وارد عند طالبى العلم والعلماء سواء بسواء. كثير من المختصين يخطئون حين يستسلمون للحروف المطبوعة، حتى فى أحكم المجلات العلمية إذا هم قرأوها كنصٍّ مقدس، دون أن ينتبهوا إلى ضرورة القراءة النقدية.
نبدأ هذه المرة بأن نحوم، بحذر شديد، حول حـِمـَى ما يسمى “علم النفس”، وهو العلم الذى يعتقد العامة، بل وكثير من الخاصة (من أول رجال الإعلام حتى المبدعين) أنه الأكثر معرفة بما هو “إنسان”. إذا كان الأمر كذلك (وهو كذلك إلى درجة ما)، فلا بد أن نتعرف مجددا باستمرار على النقد الشائع حول هذا العلم، خاصة إن ما يجرى فى العالم كله الآن فى هذا الشأن هو شىء رائع، نتعرف على بعضه.
نبدأ بتقدمة نص من أحد تجليات ما يسمى “علم النفس الثقافى” فيما يخص “الذات الإنسانية”.
النص:
من مقدمة كتاب علم النفس الثقافى للذات الإنسانية The Cultural Psychology of Self ([1]) بعنوان فرعى يقول: المكان، والأخلاقيات والفن فى عالم الإنسان”. وهو كتاب لم يترجم بعد، وهو يؤكد على علاقة الإنسان بالموضع/المكان/ المحيط.
يقول النص:
“…. أن تعرف من أنت، وكيف أنت، هو الناتج الطبيعى لمعرفتك “أين أنت“،
إن هذا الكتاب هو سلسلسة من الانطباعات حول تيمة “الذاتية” فى علاقتها بـ”الموقع”، ومن ثم طريق التواجد والانتقال فى داخل عوالم البشر.
إن كلمة “موقع” نادرا ما تظهر فى فهارس كتب علم النفس مع أنها تبدو لى قادرة تماما على تنظيم كثير من التفكير المعاصر “الفلسفى/النفسى/الجمالى”
القراءة:
علم النفسى الثقافى هنا يؤكد على أن الذات لا توجد إلا وهى متموضعة فى المكان، ثم انطلاقا من “مكانها فى العالم” تكتشف ذاتها فى حركتها مع ما حولها. إن علاقتنا بالوجود “فى المكان”، وبالوعى بالزمن بما هو، وبكونه (الزمن) مكان مرن جدّا (أيضا)، هى علاقة ضعيفة للغاية بعد أن طغت العقلنة على المعرفة، وطغت المعلومات المرموزة على الخبرة المعيشة.
فكرة “الهنا والآن” أصبحت أساسية فى معظم الممارسات العلاجية وهى جديرة بالنظر فى الحياة العادية.
تطبيقا للدعوة لاستعمال العقل النقدى، والتجربة ندعو من شاء من القراء أن ينظر إلى نفسه وفى نفسه وسط ما يحيط به فعلا – من ناس وأشياء- الآن حالا،
ثم يعود ينظر إلى نفسه وفى نفسه – كما اعتاد – منفصلا عن كل ما حوله إلا من تبادل ألفاظ تصل أو لا تصل.
ثانيا: قراءة فى نص صوفى
(من مواقف مولانا النفرى)
قبل النص
للأسف، نحن حين نتكلم عن التراث، وعن الأصالة، نلجأ إلى أكثر التراث جمودا، وأثقله وصاية، وندعى أن هذا هو تراثنا، ودمتم، أو نفعل ما هو أقبح من ذلك، بأن نقتطف نصا من التراث، ثم نترجمه إلى ما هو معاصر جديد من علم جزئى، وهات يا فخر، وهات يا اختزال، ونحن لا نعرف أننا بذلك نتنازل عن تراثنا لا نحييه.
التراث لا يحيا بإعادته، ولا حتى بمحاولة تفسيره بلغة أحدث هو لم يعرفها أصلا، وهو غنى عنها فعلا. التراث ينبغى أن نعامله باعتباره حوار بين مستوى الوعى الحالى والوعى السليم السابق، فيصبح مصدر إلهام، ومنار معرفة كلية، معرفة إن كنا أهلا لها، كما ندعى، فسوف تتجلى فينا وبنا حالة كوننا نمارس وجودنا الحالى فعلا بشكل أرقى وأعمق، ومعنى أجمل وأشمل، وحضورا أبدع وأكثر جدوى.
هذه الثروة الهائلة التى تركها لنا العارفون (من المتصوفة العظام وعامة الناس الذين لم يتشوهوا) دون وصاية مؤسساتية، لماذا لا ننظر فيها ونحن نحاول أن نتعرف على أنفسنا، على ماهية الإنسان؟ لماذا يحتفل الغرب بهذا العارف بالله مولانا النفرى أكثر من احتفالنا به؟ لماذا يقدرون عمر الخيام عالما رياضيا، وشاعرا وجوديا، ومفكرا مخترقا، أغلبنا لا يعرفونه إلا تائبا خائفا؟
فكرة “الاستلهام” التى ندعو إليها فى هذا العمل ليست جديدة، هى غير التفسير وغير التأويل، وغير الشرح، وغير التبرير. الاستلهام يكاد يكون “إبداعا على إبداع”. يصلك النص كله، تفحصه جميعه أو تفحصه جزءا جزءا، لكنه يعود يملأ وعيك كله، ثم تدعه جانبا، فيلهمك ما يتجلى منك وبك فعلا وحضورا وإبداعا هنا والآن.
مولانا النفرى ترك لنا مواقفه ومخاطباته، فاحترنا فيها. هى من الغموض على العقل العادى بحيث يمكن أن يرفضها المنطق السليم، أو حتى المفسر الدينى التقليدى، وهى من الإشراق فى الوعى الذى لم يمُتْ بحيث توحى إليك بشجاعة على الحق، واختراق لسجن اللفظ، فتصل بك من خلالها إلى ما تستطيع.
دون الدخول فى التفاصيل للتعريف بالنفرى، ندعو القارئ أن يتأمل جرأة هذا الرجل، وهو يسمح لوعيه، بعد أن امتلأ بالحق ربه سبحانه، أن يخرج هكذا مباشرة بتعبير” وقال لى كذا وكيت”. هو لم يدّع أن الله خاطبه أو أرسل له وحيا قال ما قال، لكنه استلهم من النص الإلهى، ومن الحضور الإلهى فى وعيه ما سمح له بأن يقول مثل ما نقتطفه الآن من : موقف أنت معنى الكون (ص 5(
النص
“وقال لى: أنت معنى الكون كلّه”
حين يستلهم النفرى من وعيه الممتلئ بربه سبحانه، أن الحق تعالى قد قال له “أنت معنى الكون كله”، هل يليق أن نرجع إلى السلطة الدينية نستسمحها أن نقرأ هذه الكلمات الست، ثم نستأذنها أن نفهمها، ثم نسألها كيف نستوعبها؟ أم أن من حقنا أن نقف أمام حقيقة بسيطة ترد فى هذا النص تؤكد على أن الإنسان، لكى يكون كذلك (إنسانا)، لا بد أن يكون هو ذاته “معنى”.
ها هو النفرى يأتى فيقول لنا إن ربه أكد له أنه “معنى”، ولا أحسب أنه يعنى نفسه شخصا، وإنما هو يشير إلى وجوده إنسانا (فى الأغلب).
لو أن شابا أحسن الاستماع إلى هذا القول الذى يتكون من ست كلمات، ثم صدّقه كما هو، ألا يكون هذا حافزا أكثر فأكثر أن يصبح إنسانا بحق بدلا من أن يسارع خائفا يستشير من لا يعرف مجرد اسم النفرى؟
إذا قرأ شاب هذه الكلمات الست، وسمح لها أن تدخل وعيه دون وصاية (وليس أن تـُـرَصَّ فى عقله بفعل فاعل)، ثم صدَّقها، هل يمكن أن يغش فى الامتحانات بعد ذلك؟ هل يمكن أن يعيش بلا هدف؟ هل يمكن أن يسمح لنفسه أن ييأس أو يهرب؟
فإذا كان لهذا النص بعض هذا الأثر، فكيف لا نقدمه المرة تلو المرة لوعى الناس، دون شرح، ليستلهم كلٌّ منه ما شاء كيف شاء، ثم لا نرى نتيجة ذلك إلا فى فعل مبدع، أو أداء راق، يليق بأن يكون الإنسان، كل إنسان: “معنى الكون كله “؟! مع الحذر من التفرد والتشرذم دون نقد أو حساب.
حين حاولت أن أستلهم هذا النص بما تيسر لى، قمت بذلك مع د. إيهاب الخراط نستلهم نفس النص، قمنا بذلك كل على حدة، وإن كانت لى فرصة أن أقرأ استلهامه قبل أن أسمح لما وصلنى أن يتجلى فأكتبه. صديقى (إبنى) هذا مسيحى، طبيب نفسى، قس، شديد النشاط، راسخ الحضور. لم أستأذنه فى كتابة ما تحرك عندى وخاصة بعدما رجعت لأصل “النص”([2]) كما تجلى لى، قلت، مستوحيا قول النفرى مخاطبا الحق تعالى الذى قال ما قاله للنفرى حين امتلأ به وعيه، قلت أخاطب ربى ([3]):
حين يملأ الكونُ وعى العابر إليك يتجلّى المعنى،
أنا لست “أنا” حين أكون “معني“.
حتى لو كنتَ تطمئننى بهذا التكريم، فانا لا أريد أن أطمئن ساكنا.
أصدِّقك فرِحا مرعوبا،
لكننى لا أصدق أنك تقصدنى” أنا” بـهذه الـ”أنت“.
ومن أنا حتى تخاطبنى هكذا؟ إذا كنتُ أنا أنا، فلا معنى لى، ولا فائدة مني. وإذا كنتُ أنا أنت، ضعتُ فى غباء الغرور الـمستسهِل.
أما إذا كنتُ وسيلة “معناكَ” إليهم، فأنا معنى الكون كله.
أنا، الذى هو ” لست أنا”، أكون معنى على قدر ما يربطنى هذا المعنى بالآخرين، فالكون.
يا فرحتى بالمعنى حين لا يعنى إلا أن أنبض فى رحاب الدورات داخلا خارجا، وبلا إعادة.
هل يمكن أن أحمدك إلا بأن أجعل لأيامي”معنى؟” فأكون “معنى” الكون.
يتجلى معناىَ فى كل ما هو أنا بهم، أصبحُ أنا معنى الكون بفضلـِك، تدوم أنت كما هو أنت الذى نسعى إليه، دون أن تفارقنا، أو ننسلخ عن أنفسنا، ليتحقق المعنى ونحن نشكِّلُهُ باستمرار دون نهاية.
[1] – Ciaran Benson: (2000) “The Cultural Psychology of Self: Place, Morality and Art in Human Worlds” Publisher: Routledge (London & New York)
[2] – يحيى الرخاوى، إيهاب الخراط “مواقف النفرى بين التفسير والاستلهام” الطبعة الأولى 2000، جمعية الطب النفسى التطورى والعمل الجماعى
[3] – كتاب “المواقف والمخاطبات” لمحمد بن عبد الجبار بن الحسن النفّرى (1935) مكتبة المتبنى- القاهرة.
الفصل الرابع كيف يكون الاختيار بين الحب والحياة؟
الفصل الرابع كيف يكون الاختيار بين الحب والحياة؟
هل يمكن أن يجد أحد نفسه فى موقف يرغمه أن يختار- فى عمق وجوده- بين الحب والحياة؟ هل يمكن أن يعلمنا الإبداع الأعمق معنى آخر لما لا نكف عن ترديده حول الحب والثقة والكره والقتل؟ هل يمكن أن يسعى الإنسان بعد طول رحلة تطوره إلى نوع آخر من العلاقات؟ نوع أعمق، وأخطر، وأجمل، وأصعب؟. هل هناك أصلا ضرورة للاختيار بين الحب والحياة، وما معنى هذا الحب وما هى تلك الحياة؟
هى رواية “العطر: تأليف باتريك زوسكند 1997([1])
هى رواية تتناول فى جوهرها الطبيعة البشرية فى سجن وحدتها، وحتم حركتها نحو كسرها، وفى نفس الوقت فى سعيها الفاشل المرعب نحو تواصل غريب مستحيل لا يستبعد القتل سبيلا إليه، وهى تضع الحب نقيضا للحياة بالنسبة لمسيرة بطلها، عكس ما نعرف ويشاع، وقد غاص فى هذا التحدى كاتب الرواية حتى النخاع، وخرج منه بما يضيف إلينا ما ينبغى معرفته عن طبيعتنا البشرية الرائعة الغامضة، أعمق وأكثر اختراقا من إسهامات العلم.
المقتطف
ص23
…. كان غرينوى شديد المقاومة كالبكتيريا المنيعة، وقنوعا كقرادة ضئيلة تقبع مستكينة مكتفية بقطرة الدم الوحيدة التى اقتنصتها قبل أعوام. كان جسمه قادراً على الاكتفاء بالحد الأدنى من الغذاء والملبس، أما روحه فلم تكن بحاجة لأى شئ. فالطفل غرينوى كان بغنى عن الشعور بالأمن والدفء والحنان والحب، أى عن كل هذه التسميات التى يزعم البعض أن الطفل بحاجة إليها. ولكن يبدو لنا أنه قد تعمد الاستغناء عنها منذ البداية، كى ينجو بحياته. إن الصرخة التى اطلقها عقب ولادته، من تحت طاولة السـَّـلخ والتى دعا بها نفسه الى الحياة وأمه إلى المقصلة، لم تكن صرخة غريزية بحثا عن الشفقة والحب…. اراد بها الوليد الجديد أن يحسم أمره ضد الحب ولصالح الحياة. وفى ظل الظروف المهيمنة لم يكن هذا ممكنا دون ذلك….. لقد كان شنيعاً منذ البداية، فاختياره الحياة كان نابعاً من إحساسه بالتحدى والكراهية فحسب.
إنه لأمر بدهى مفهوم أن غرينوى لم يمارس عملية الاختيار، كما يفعل البالغ الراشد الذى يستخدم إرادته؟،…. إنما كان اختياره نباتياً، أى كالحبة المرمية التى عليها أن تختار بنفسها، إما أن تنمو أو تموت، أو كحشرة القرادة القابعة على جذع شجرة، والتى ليس لدى الحياة ما تقدمه لها سوى النجاة المتكررة من كل شتاء،……. ومثل غرنوى كمثل هذه القرادة الوحيدة، المتكورة على نفسها فوق شجرتها، صماء بكماء عمياء وهى تتشمم فحسب، تتشمم وعلى مدى السنين والمسافات دم الحيوانات العابرة والمتجولة…. هذه القرادة العنيدة المتعفنة والمقرفة تصر على الحياة وتنتظر تنتظر حتى تسوق لها الدم، صدفة عجيبة، فى صورة حيوان ما، الى تحت شجرتها تماما، حينئذ فقط كانت تتخلى القرادة عن تحفظها، فترمى بنفسها فوق اللحم الغريب لتتكالب عليه وهى تعض وتنهش…
والطفل غرنوى كان مثل هذه القرادة، فقد عاش متكيسا على نفسه بانتظار الزمن الأفضل. لم يقدم للعالم من ذاته سوى غائطه، لا بسمة ولا صرخة ولا التماعة عين، ولا حتى رائحته…
القراءة:
غرينوى، بطل الرواية، هو لقيط أُنقذ بمحض الصدفة من أن تقتله أمه فور ولادته، وأُعـْدِمت أمه بتهمة قتل أولادها (غيره) غير الشرعيين الواحد تلو الآخر، ولد بلا رائحة تجذبه إلى البشر أو تجذب البشر إليه، (بالمعنى العيانى والمجازى معا). هذه الحقيقة تكتشفها المرضعة تلو الأخرى، ثم تـَـبـْـلغه فتبدأ رحلته المتحدية، بعد أن لفظته أمه حتى قبل ولادته.
الاختيار الغريب الذى تطرحه الرواية منذ البداية هو أنها تضع لنا الحب ضد الحياة، كما ذكرنا فى البداية، التحدى الأكثر إبداعا هو أنها تظهر لنا كيف أن قرار الحياة يتم تحقيقه عن طريق الكره بإرادة خفية أقرب إلى إرادة الحياة، نهاية الرواية تؤكد هذا التوجه أيضا.
الرواية تدعونا إلى أن نفكر كيف نتجاوز المألوف فى فهم العلاقات البشرية. إن تصويرنا للتربية المثالية، والعلاقات الجميلة، والحب الرائق، والسياسة الناجحة، بشكل سلس آمِل: إنما يصلح لمستوى معين من التواصل التكيفى بين البشر، أو لتنظيم الأسرة وترتيب المجتمع، أو لتحديد الحقوق والواجبات، أما حقيقة العلاقات البشرية فلها عمق آخر لا مفر من مواجهته بإبداع منشئ، ثم إبداع ناقد، فاختبار فتعديل فتطوير لا ينتهى.
إن وضع غرينوى فى هذه الرواية لا يمثل تنويعا مقبولا من الوجود البشرى. إنه الجانب الجاف الصـّلب الذى يتصادم مع الشائع الذى نعرفه، ونروجه، وبدون هذا الجدل لا يمكن أن نعرف هذا الإنسان على حقيقته. إن الرواية تقدم الطبيعة البشرية العارية فى صورتها الشرسة المنفصلة التى تجعل الحياة تتواصل بالقتل والكراهية، بقدر ما تظهر الحب وكأنه هو الخطر الحقيقى على الحياة إذا كان مسطحا أو ملتهما أو خاملا أو لاغيا.
من منطلق آخر، فإن غرينوى فى العطر – من أول الرواية حتى آخرها بدا نيزكا منفصلا عن الناس والكون معا، فتجاوز الناس إلى التألّه الفاشل، لكنه لم يتجاوزهم فقط بالاستغناء عنهم، بل تجاوزهم أيضا بأن يستعمل بعضهم، ويتحدى جمعهم، ثم يقتل من تيسر منهم ممن يظن أنهم يحملون “رائحة” الحياة الأصل، كما يريدها ويتصورها ليؤلف من تشكيل عطورهم عطره الخاص الفريد ليتأله به، ومع أنه تنازل بذلك عن بشريته التى لا تتحقق إلا بالتواصل مع بشر آخر، ومع أنه قد حقق ألوهيته الزائفة عن طريق قتل العذارى الواحدة تلو الأخرى، فإنه حين نجح فى ذلك وفاح منه عطره الساحر المتفرد الذى ليس كمثله عطر، جاءت نهايته عدما فى بطون أكلة لحوم البشر الذين حين فعلوها “..كانوا فخورين إلى أقصى حد، فلأول مرة فى حياتهم فعلوا شيئا عن حب”!!!
ماذا يقول العلم موازيا؟
العلم الأحدث يزعم أن كل ما يحتاجه الطفل ليحصل على الثقة ويواصل المسيرة: هو الرعاية الحانية والحماية التسكينية، ندع فرويد جانبا فقد صاغ الصعوبة بطريقته الخاصة (أوديب والخصاء، والتنافس المحارمى…إلخ) التى لم تعد كافية.
إريك إريكسون هو الذى أضاف فى كتابه الرائع “الطفولة والمجتمع” ما يفيد أن الإنسان يولد من جديد فى كل دورة نمو من الولادة حتى الوفاة (ثمان عصور – ولادات- لكل منا على الأقل)، وأنه فى كل ولادة جديدة يجد الواحد منا نفسه بين منطلقين يبدوان على طرفى نقيض. يكفينا هنا أن نتوقف عند المرحلة الأولى عقب الولادة مباشرة، وهى مرحلة لا تختفى أبدا مهما لحقتها مراحل أنضج فأنضج (مثل سائر المراحل). لا تختفى وإن ظلت كامنة داخل سائر المراحل! هى مرحلة تسمى “الثقة فى مقابل اللاثقة” Trust versus Mistrust.
إذا كان لنا أن نتحدث عن ضرورة توفير الثقة كأساس صلب للوجود البشرى، فلا بد أن نقبل أن الثقة الحقيقية الجدلية البناءة إنما تتولد من اللاثقة، ثم إنه من خلال هذا الجدل المبدئى، تتحرك عملية النمو إلى ما تـَـعـِـدُ به من مراحل تالية كلها فيها نفس الفكرة.
فى مدرسة أخرى هى مدرسة العلاقة بالموضوع Object relation theory (المدرسة التحليلية الإنجليزية) يمر الطفل بعد الولادة بقليل بموقف توجسى حذر”، وذلك لأنه حين يتعرف على العالم، وأن هناك يوجد كيان آخر غيره، يتوجس من ذلك الشر فيستعد له بالتوجس والشك والحذر، ومن ثم بالكر والفر، هو لا يستغنى عن هذا الأخر فهو لا يكون إنسانا إلا به، وفى نفس الوقت هو لا يأمن له ويخشى الاقتراب منه خوف الالتهام. من هنا نواجه حتمية الشك وحتمية اللاثقة، تلك الحتمية القادرة على أن تتفجر منها الثقة – دون إلغاء ضدها- من خلال جدل خلاق.
برغم صعوبة هذه اللغة على القارئ العادى إلا أننى أشعر أنها ضرورية إذا ما أردنا أن نكشف عن بعد أعمق من الطبيعة البشرية، بـُـعـْـدٍ قد يجعلنا أقدر على فهم طبيعة ما هو علاقة نحاول إرساءها فيما بيننا بشكل أعمق وأبقى وأكثر إثراء ونبضا وجمالا. هذا الموقف التوجسى المبدئى الذى تبدأ به حياة البشر يبدأ بإعلان أن حضور الآخر فى وعى الإنسان (الطفل النامى أساسا) هوضرورة مواجهة بداية الطريق نحو تأنيسه (أن يكون إنسانا).
إن “الآخر” لا يكون آخرا بالنسبة لى إلا إذا كان كيانا مستقلا عنى، عن ذاتى أنا، أى كيانا “حقيقيا”، الأمر الذى نزعم أننا نمارسه حين نتكلم عن الحب وعن قبول الآخر وعن الثقة، فى حين أننا قد نكون فى عمق المحاولة نمارس خدعة أننا لا نعمل علاقة إلا باحتياجاتنا نحن، وإسقاطاتنا نحن. إن حضور هذا الآخر فى وعينا يبدأ – طبيعيا – باعتبار أنه خطر يهدد وجودنا، خطر بمعنى أنه قد يسحقنا فيلغى وجودنا لحسابه، أو قد نلتهمه نحن احتياجا أو خوفا، فنلغى وجوده، وفى نفس الوقت نحرم أنفسنا منه، ومن هنا يتراجع الجدل.
إن هذا النوع من العلاقة، وهى تسمى علاقة الكر والفر Fight Flight إنما يعلن أن وجود الآخر هو الخطر بعينه، لكنها مرحلة لا تدوم وإن كانت تكمن أيضا جاهزة للتنشيط، فهى تسمح لنا بأن نستدعيها كلما احتجنا إليها (أى كلما لزم الأمر للكرّ والفرّ)، وأحيانا تقتحم الوعى الظاهر – خاصة بعد كبت طويل – دون استئذان وبعنف، فى شكل مرضى.
فى هذه المرحلة يعتبر الحب تهديدا، ويعتبر أى اقتراب أكثر من المسافة التى تسمح بمواصلة “الكر والفر” غير مرغوب فيه، لعل فى هذا ما يفسر موقف غرينوى السالف الذكر: “الحياة ضد الحب ” النص التالى يوضح ذلك تفصيلا
النص: من ديوانى “سر اللعبة” ([2])
-1-
لا تقتربوا أكثرْ..
إذ أنـّـي:
ألبس جلدى بالمقلوبْ،
حتى يُـدمى من لمسٍ ‘الآخرْ’
فيخاف ويرتدْ
إذ يصبغُ كـفذـيْـه نزفٌ حىْ
وأعيش أنا ألمى،
أدفع ثمنَ الوحدة.
-2-
……………..
أهرب منكمْ،
فى رأسى ألفىْ عينٍ ترقبكمْ،
تبعدكْم فى إصرارْ.
أمضى وحدى أتلفتْ.
-3-
… لكن حياتى دون الآخر وهم:
صفر داخل صفر دائر
….
لكن الآخر يحمل خطرَ الحبْ
إذ يحمل معه ذل الضعفْ
…..
يتلمظ بالداخل غولُ الأخذْ
فأنا جوعان منذ كنتْ
بل إنى لم أوجد بعدْ
من فرطِ الجوعِ التهمَ الطفلُ الطفلْ
فإذا أطلقت سعارى بعد فوات الوقتْ،
ملكنى الخوف عليكمْ.
اذ قد ألتهمُ الواحَد منكمْ تلو الآخرْ،
دون شبعْ.
-4-
يا من تغرينى بحنانٍ صادقْ، فلتحذرْ،
فبقدر شعورى بحنانك:
سوف يكون دفاعى عن حقى فى الغوصِ الى جوف الكهفْ،
وبقدر شعورى بحنانك:
سوف يكون هجومى لأشوِّه كلَّ الحبِّ وكلَّ الصدقْ،
فلتحذرْ
إذ فى الداخلْ
وحشٌ سلبىٌّ متحفـزْ
فى صورة طفل جوعانْ
وكفى إغراءَا
وحذارِ فقد أطمعُ يومًا فى حقى أن أحيا مثل الناسْ
فى حقى فى الحبْ.
ألبسُ جلدى بالمقلوبْ
فلينزفُ إذ تقتربوا
ولتنزعجوا
لأواصلَ هربى فى سردابِ الظلمةْ.
نحو القوقعةِ المسحورةْ
……
لكن بالله عليكم: ماذا يغرينى فى جوف الكهف،
وصقيعُ الوحدة يعنى الموتْ؟
لكنَّ الموتَ الواحدْ:… أمرٌ حتمىٌّ ومقدرْ،
أما فى بستان الحبْ،
فالخطر الأكبرْ:
أن تنسونى فى الظلْ،
ألا يغمرنى دفء الشمسْ
أو يأكل برعم روحى دود الخوفْ.
فتموت الوردةْ فى الكفنِ الأخضرْ،
لم تتفتح
و الشمسُ تعانقُ من حولى كل الأزهارْ،
هذا موتٌ أبشع.
لا..
لا تقتربوا أكثر،
جلدى بالمقلوبْ
والقوقعةُ المسحورةْ
تحمينى منكمْ. ([3])
هذا ما فعله غرينوى، تقريبا بالضبط، فقد لجأ فى الرواية إلى كهف الجبل (القوقعة المسحورة) يحتمى به من البشر، من روائح البشر، لكنه خرج من كهفه أكثر ضراوة وشراسة وبدائية وقتلا، وحين نجح أن ينفصل تماما برائحته الخاصة الألوهية، التهمه أكلة لحوم البشر فى مقبرة “الأبرياء” فى باريس ليعلن الكاتب المبدع بذلك فشل الانفصال النيزكى حتى لو كان مفروضا على صاحبه منذ البداية، كما يعلن أيضا فشل تجاوز ما هو نيزك إلى ما هو إله، دون مرور بجدلية العلاقة مع بشر حقيقيين مهما كانت روائحهم.
كان غرينوى فى العطر يريد أن يخلق لنفسه عطره الخاص، لا ليستمتع به داخل الغار أو داخل القوقعة، ولكن ليفرض نفسه على الآخرين يشمون رائحته متفردا، وحين نجح فى ذلك حتى أسكرهم نشوة وانبهارا، سُحروا انجذابا، فالتهموه إعداما، وهم يعلنون أنها المرة الأولى التى يعملون فيها شيئا عن حب.
إن اقتراب الآخر منا ونحن فى هذا الموقف التوجسى للكر والفر حتى الاختفاء، فتحسس الظهور، فالعودة الحذرة، فالاختفاء، يصاحبه تساؤل لحوح عما إذا كان هذا الآخر يرانا حقيقة وفعلا، أم أنه لا يرى إلا ما يريده منا، يستعملنا فقط، وهو فى جميع الأحوال يلغينا بالعمى، أو يستعمل جزءا منا دوننا، أو يستعبدنا من فرط جوعنا بعد أن يتمادى فى تعجيزنا. إن تردد المحبين أصحاب الوعى اليقظ فى تقبل الحب السهل، ومواصلتهم التساؤل عن طبيعة العلاقة، وذهابهم وعودتهم بلا كلل، هو مظهر من مظاهر هذا الجدل الحى، دون ضمان بنهاية واثقة بدرجة كافية، لان ذلك هو موقف بلا نهاية، برغم حتميته، وألامه، وروعته، ووعوده. يتجلى كل ذلك أو أغلبه فى نص آخر بالعامية المصرية (لنفس الكاتب) هذه المرة
قراءة من “ديوان أغوار النفس”([4])
قصيدة : جلد بالمقلوب:
النص:
والعين الخايَفَةْ اللى بْتِـلْمَعْ فى الضَّلْمَهْ
عمّالة تِختبرِ الناسْ:
بِتقرّب من بَحْر حَنَانْهُمْ،
زى القُطّ ما بـَيـْشـَمـْشمْ لَبَن الطفل بشاربُه.
عمّالَـهْ بْتِسْأَل:
عـــايزينّى؟
طبْ ليه؟
عايزينَّى ليه؟
إشـِمعنى الْوقْـِتـِى؟
بـِصحـِيحْ عـَايـْزِنَّـى؟
بقى حـَدْ شايـِفـْنـِى يـَا نـَاسْ؟
مِـشْ لازم الواحـِد منكم يعرفْ:
هوّه عـَايـز مـِينْ؟
بقى حد شايـِفـْنـِى أنا؟
أنا مينْ؟
أنا أطلـع إيه؟
وازاىْ؟
طبْ لـِيه؟
الله يسامـِحْـكُمْ. مـِشْ قصدِى.
(2)
أنا قاعـِد راضى بْخوفِى المِـشْ راَضـِى.
أنا قاعده لامّم أغـْراَضـِى.
أنا قاعد راصدْ حركاتكْمْ،
قاعد اتْـصنـَّتْ، على همس المِـشْ شايفينِّى،
وأسَهّيهم، واتمَسّح فِ كْـعوب رجليهم.
أخطف همسة “أَيـْوَه”،
أو لـَمـِسـَة ْ “يـِمـْكـِن”.
واجرى اتدفَّى بـْ “يَعْنِى”،
وانسَى الـْ “مـِشْ مـُمْكـِن”.
(3)
وأُبص لْكم مِن تَـحْـتِ لـْتَـحْـت،
واستَـخـْوِنـْكُـم،
واتعرّى يـِمـْكـِنَ اطـَفـَّشـْكُـمْ،
وأبويَا النِّمر يفكّركم:
زى ما هوَّه بياكل التعلبْ،
أنا باكل الفارْ.
لكنى لمّا بقيت إنسان:
باكـُـلْ نفسِى
وباحَلـِّى بميّةْ نارْ،
(4)
ما تخافُوا بقى منَّى وتتفضّوا
مِنـتــِظْرينْ إيه؟
.. لسّه الحدوتة ما خُــلـْصـِتْـشِى؟
”ما لْهاش آخر”؟
(طب قولىّ كان فين أولها ؟…،
أو مين كان أصـْلهُ اللى قايلها؟)
بتلوّح بالحضن الدافى ؟
طبْ هِهْ…!!
راح اسيب
………
(6)
أنا جِسمى اتبعزقْ،
زىّ فطيرة مشلتتة لسّهْ ما دخلتشِى الفرنْ.
…….
يا حلاوة الحنّيةْ الهاديةْ الناديةْ:
لا بْتسأل مينْ؟ ولاَ ليهْ!!
وانا برضه نسيت أنا فينْ،
… وانا إيهْ؟
ولا عاد لى إيد ولا رجلْ
ولا عارف اتـْــلـَـمّ.
(7)
ولإمتى كده؟؟
لأ مش قادرْ.
أصـْل انـَا خايفْ
أنا خايفْ موتْ،
إخص عَــلىَّ،
خايفْ من إيه؟
من لمس أْدِينْ أيها واحدْ.
بيحب صحيح !
……….
أهى كِـدا باظتْ،
باظت منّى،
رِجـْعـِـتْ “لكـنْ”:
رجـْـعـِـت “لأّه”،
رجعت: “مش ممكن”، “لأ لسَّه”!!!
……
خايف تِـفْـعـَصـْنـِى يا روح قلبى،
وتقولّـّـى باحبْ !!
ما هو كل الناس بيقولو برضَكْ، قال إيه:”بنحبْ”
ولا واحد فيهم يقدر يسمع دقة قلب
إيش عرّفكمْ باللِّى ما كانشِى،
باللِّى ما لُوهشِى،
باللِّى ما بانْــشىِ.
عمّاله باحـْسب هـَمـْس حـَفِيفـْكـُمْ.
باحـْسـِبْ خوْفكُـمْ.
خوفـِى مـِنْـكُـم.
مخّى مصـَهـْللِ، وبـْيـِتـفرّج،
ولا فيش فايدة.
(8)
نـطـّ منّى، غصب عنّى،
بَصّ بَرّقْ؛ بيعايرنـِى
“…سِـبْتت ليه..؟؟؟؟!!! “
هوّا مين ؟
هوّأ إيه ؟
شككنى فى الكُـلْ كليـِلهْ.
رجّعنى للوِحدة النيلة!
لمَّيـْتـنِى، وياريتْنِى لقيتْنى.
(9)
فينك يا مّه؟……………. نفسى اتكوّم جوّاكى تانى،
بطنك يامّه أَأْمـَنْ واشرف من حركاتـْـهم.
– وانْ ما قدرتيش؟
=”إلموت أهون”.
– وان ما حصلشِى؟
= تبقى الفُرجَة، وْشـَك الغُــرْبـَة، وشـُوكِ الوحـْدهْ.
– طب ليه!!؟؟ طب ليه؟؟!!؟
= ” أهو دا اللى حصلْ”.
(10)
راجع ْ “كما كُـنْـتْ”
قاعْد استنى،
وانا باتمنى،
اخطــفْ حتة ْ نظرة،
أو فتفـُوتـِةْ شوف،
لا حافتـّش فيها،
ولا حاسأل مين اللى رامِــيـــهــَا
واجرى آكلها لوحدى
تحت الكرسى الـْ”مِش باين”.
ما هو كله ضلام فى ضلامْ
والكدْب ما لوش عنوانْ
وبعـد
هذه التعرية الصارخة، لا ينبغى أن تشككنا فى قدرة الإنسان على الحب، هى فقط تنبهنا لصعوبة المسيرة، وضرورة احترام أصل الحكاية.
ثم ها نحن نرى كيف تتكامل النصوص بكل لغة ومن كل مصدر، لتعلن نفس الموقف، ربما تحفز إلى حركة أصوب، حتى ولو كانت فى اتجاه أصعب، لكنها المعرفة الأعمق، والنمو الأجدر بمن يقف على قمة الهرم الحيوى ويلقب باسم “الإنسان”.
[1] – رواية “العطر” رواية للكاتب الألماني” باتريك زوسكيند” ترجمة: نبيل الحفار، 1997، دار المدى للثقافة والنشر، وكان النشر الأول للرواية سنة 1985 دار النشر السويسرية “Diogenes Verlag AGوقد (ترجمت إلى أكثر من 20 لغة).
[2]– يحيى الرخاوى، ديوان “سر اللعبة“، قصيدة “جلد بالمقلوب”، الطبعة الثالثة 2017 منشورات جمعية الطب النفسى التطورى
[3] – هذا النص استشهدت به فى أكثر من عمل نقدى مثل “يقين العطش” لإدوار الخراط فى كتابى “صراع الوحدة وجدل العلاقات البشرية.. انطلاقا من رواية يقين العطش” الطبعة الأولى (2019)، و”اسم آخر للظل” لحسنى حسن، وأعتقد أننى سوف استشهد به كثيرا إذ يتكشف لى كلما مرّ الوقت عن احتمال أن يكون موقفا محوريا فى كثير من صعوبات التواصل البشرى.
[4]– يحيى الرخاوى: ديوان “أغوار النفس” العين الثالثة: “القط” الطبعة الثانية (2017) منشورات جمعبة الطب النفسى التطورى.
الفصل الخامس نِعـْمَ الحقيقة الشغف والمنازل الجسد: الأصل/ الوعى/الإبداع
الفصل الخامس نِعـْمَ الحقيقة الشغف والمنازل الجسد: الأصل/ الوعى/الإبداع
برغم أنك تقرأ هذا الكلام بعينيك، وتقلب الصفحة بيديك، كما تغلق التليفزيون بأصابعك على الريموت أو مباشرة، ثم تذهب إلى الحمام سائرا على قدميك، لتعود عليهما، ثم تستلقى و تتمطى قبل أن تنام، أو تلقى بجسدك على السرير فيتقلب منك أو لا يتقلب، حتى تستغرق فى النوم، برغم كل ذلك فأنت – مثلى غالبا- ليس عندك خبر أن لك جسدا، بما هو كما هو، مع أنك أنت شخصيا – مثلى أيضا- لستّ إلا جسدك أولا: وليس أخيرا، تصور؟!
لا يمكن أن تتعرف على جسدك بحق من خلال رأى عقلك فيه، أو تصوير عقلك له، الجسد له أولوية فى الوجود، وكذلك عبر تاريخ التطور. كانت الكائنات الأولية تفكر بجسدها، وتحفظ بقاءها بجسدها، وتحافظ على نوعها بجسدها، وتمارس مشاعرها بجسدها، كل ذلك قبل أن يتخلق لها دماغ (مخ) أصلاً.
جسدك ليس فى حاجة إلى توصية من عقلك المحترم حتى تعترف به.
كيف السبيل لنتعرف معا على ما نسيناه حتى ألغيناه؟
بالنسبة لما نحاوله معا هنا والآن، للأسف ليس هناك سبيل إليك، إلينا، إلا من خلال عقلك الذى تقرأ به هذا الكلام. أليست القراءة هى وظيفة عقلية حتى لو كانت تمر من خلال عضو إحساس رائع، هو “العين” التى لم نعد نستعملها إلا مَعْـبرَاً لما نتجاوزه؟
ومع ذلك دعنا نحاول:
ماذا طرأ على مفهوم الجسد عند الإنسان المعاصر؟ وبالتالى ماذا طرأ على ما هو جسد؟ عند أغلبنا ؟. لقد انتهى الأمر بنا وبأجسادنا إلى اغتراب منذر. (برجاء عدم التعميم).
لا نريد أن نطيل فى التنظير المبدئى قبل أن نعرض للنصوص الملهِمة، نقرأها سويا قراءة نقدية كما اعتدنا، لكن الأمر يحتاج إلى البدء بالنظر فيما آل إليه الحال كالتالى:
(1) تم إهمال الجسد، أو تهميشة، لحساب ما يسمى العقل، فنحن نعرف أجسادنا من خلال ما شاع عنها فى كلامنا وأحكامنا، أكثر مما نعرفها من خلال ما يصلنا منها مباشرة، اللهم إلا فى حالات المرض (أو توهم المرض الجسدى: المُـراق Hypochondriasis )، وبعض حالات الجنون، وأحيانا الإبداع حتى لا نظلم الجميع.
(2) تم احتقار الجسد، أو ازدرائه، لحساب ما يسمى الروح. ومع أن الروح من أمر ربى، فالأفضل ألا نفتى فيها، فإنه ما أسهل على أى واحد لا يعرف جوهر دينه أن يضعها استقطابا على أقصى الناحية الأخرى من الجسد، يحدث هذا فى التدين المنغلق المنشق، كما يحدث حتى فى بعض أنواع العلاجات تحت مسمى “الروحانية”، فيصل هذا الاستقطاب بين الروح والجسد، وكأنهما نقيضان، إلى الشخص العادى ليسود الحديث عن طهارة الروح، وعشق الروح الذى ليس له آخر، “لكن عشق الجسد فانى، عشق الجسد فانى!!” (أهكذا ؟؟)
(3) يصل الأمر إلى أن نعامل الجسد كمجرد أداة، أو وسيلة لغيره، ومن ذلك:
- أن نقصر دوره على أن يكون وعاء ثم مطبخا لطحن الطعام وهضمه وأيـْضِـهْ، (تمثيله الغذائى) ليمدنا بالطاقة، وأحيانا نبنى من خلال ذلك بعض وحدات من الخلايا البديلة نعوّض بها ما تلف منا.
- كما قد نستعمل الجسد أداة للمتعة بما يحقق لنا ما تيسر من لذة أو يطفئ ما أثير من شبق.
- كذلك قد يستخدم الجسد معرضا للممتلكات حين نضع عليه ما نملك من إكسسوارات لزوم رموز الطبقة للإعلان على أننا نمتلك من المال ما يمكن الاستغناء عنه ووضعه على رف الجسد للإعلان والتنويه.
- ثم إنه كثيرا ما يستعمل الجسد كلوحة تتلقى عبث الوشم المؤقت، أو الدائم، كلافتة تعلن عن هوية صاحبه أو رغباته أو احتياجاته أو حتى موقفه السياسى أو المذهبى أو الدينى.
- وأيضا: راح أهل السوق والشطارة يستغلون أجسادنا كمجال ومرتع لتسويق بضائعهم، سواء كان جسدنا يحتاج هذه البضائع أم لا.
- وقد يبدأ استعمال الجسد لما ليس له منذ الطفولة، كأداة للتنافس المسعور، وذلك مثلما يحدث حين يعدّ الأهل بناتهن ليصبحن أبطالا فى ألعاب القوى، فتظل الطفلة فالفتاة فالبطلة تقوم بتدريباتها سنين عددا لتكسر الرقم القياسى، أو تفوز على منافستها بواحد على ستة عشر من الثانية (أى والله!!)، والأكثر قسوة أننا نفرح بذلك ونصفق لها وهى طائرة فى الهواء، أو سابحة فوق الحاجز!!!
(4) مع زيادة الاهتمام بالصحة الجسمية والوقاية من الأمراض والتلوث والمخاطر ينقلب تعاملنا مع الجسد إلى اعتباره سلعة لها ظروف تأمين خاصة، حتى نكاد نوصى أن نمسكها من الناحية التى بها أسهم إلى أعلى لأنها تحتوى محتويات قابلة للكسر، ونظل نتبارى فى إطالة عمرها الافتراضى، بغض النظر عما تعنيه أو تحتوية هذه السلعة، وبغض النظر عما ستقوم به فى السنوات التى طالت بفضل حرصنا على سلامتها.
خامسا: فى العلم، والطب، والتطييب، يتم اختزال الجسد – عادة – إلى وحداته الأولية، باعتباره خلايا ومشتبكات، ترسل رسائلها إلى أعضاء وعضلات، ليصدر عنها سلوك وحركات….إلخ
وبعد
إن الجسد هو كيان متكامل بكل وحداته، بما فى ذلك الدماغ/المخ،، وفى نفس الوقت فإن له تجلياته التى لها استقلالها من حيث المبدأ، لكنها تصب فى حركية التكامل مع تجليات مكونات الوجود الأخرى.
ليس من حق العقل أن يصيغ الجسد رمزا مجردا.
للجسد حضوره كوعى قائم بذاته.
نحن نحتاج إلى منهج حياة آخر يسمح لجسدنا بالحضور من جديد وعيا فاعلا متكاملا يعرف وينبض ويضيف، ثم إننا لا نقصد التركيز على الجسد، على حساب كل ما عدله، ثم إن الزعم بأن الجسد هو أحد مجالات “تجليات الوعى” لا يعدو أن يكون شكلا آخر من وضع الجسد فى موضع ثانوى، لأن الجسد ليس مجالا لوعى بعيد عنه بقدر ما هو “وعىٌ متعيـّنْConcretized consciousness .
نعم. إن استعادة دور الجسد لا تتم ونحن جلوس على المكاتب نمارس تجريده بالألفاظ، ولا هى تتحقق بتدريبات الوعى به، ولا بدراسة وحداته كل على حدة. لا مفر من إعطائه حق الحضور ممارسا مشاركا بأعلى تجليات الحوار والإبداع. الرياضة البدنية – برغم أهميتها- ليست هى المقصودة بذلك، خذ مثلا: رياضة “واحد اتنين”،” واحد اتنين”،هذه رياضة ليس لها علاقة بالجسد بالمعنى الذى نقدمه، أو خذ الرياضة المسماة كمال الأجسام أو رفع الأثقال أو أى من ألعاب القوى كل ذلك هو أبعد ما يكون عن الجسد الوعى.
إن الجسد يحضر متناغما أكثر من خلال الحب والعمل الجسدى/اليدوى الفاعل، يتم فى مساحة مكانية يتحرر فيها الجسد من الاحتقان والاختناق. ثم إنه بالتواصل الحسى والجنسى على مستوياته المختلفة، يمكن أن تجرى الأجساد حوارا أعمق بعيدا عن وصاية العقل القابع أعلى الهامة، حوارا يتجاوز اللذة وهو يشتملها، وهو لا يتوقف عندها ولا يلغيها.
وأخيرا فإنه بالتكامل الكلى، مرورا بالطبيعة إلى الكون المفتوح النهاية، يمكن أن ينطلق الجسد الوعى الممتد إلى ما بعده ليتناغم مع كل “التالى” بلا نهاية.
وحتى اختفاء الجسد الفرد بالموت، لاينهى دور هذا الجسد، فثم فرض يقول: إن الجسد وهو يرحل، وقبل أن يرحل، يترك بصمته الحيوية فى أجساد آخرين، كما قد يسلمها إلى أنغام الكون دون أن ينمحى فيها، الأمر الذى قد يكون مدخلا لتفسير كثير من الظواهر الفيزيقية، وربما الميتافيزيقية “الأرواح”.
إسهامات العلم – فى حدوده الحالية – لاستعادة دور الجسد والتعرف على حقيقة ما آل إليه ليست قليلة، خصوصا الاجتهادات الأحدث لإسهامات العلم المعرفى، والعلم المعرفى العصبى، وبعض الهندسة الوراثية، وعلم النفس الثقافى، والطب النفسى التطورى، وكلها إسهامات رائعة لكنها متواضعة لاتكفى،
أما إسهامات الآداب والفنون فهى شديدة العمق رائعة الدلالة، وهاكم بعض ذلك:
عودة إلى أصداء محفوظ ([1])
النص: الفقرة 112: ([2]) (أجلتُ العنوان قصدا)
“فوق السطح وقفا يتناجيان، هو أطول قامة وهى أجمل وجها، أما أنا فألعب بالطوق مرة، ثم أراقبهما ولا أفهم. ويغيبان فى حجرة السطح قليلا ثم يرجعان فأعود إلى استراق النظر بمزيد من الحيرة. وجاء الإدراك متعثرا من خلال الأعوام الحامية”.
القراءة:
هل لاحظت وظيفة النظر وهو يتبادل ويتكامل مع الحركة، وطفلنا محفوظ يتحسس الطريق إلى التعرف على الطبيعة البشرية بشكل مباشر؟ هل لاحظت التنقل ما بين اللعب بالطوق واستراق النظر إلى الحبيبن حتى التقط طفلنا بتلقائية عفوية تلك الفروق المميزة لهما وفيما بينهما، دون أن يسجنه الفهم (ثم أراقبهما ولا أفهم)؟ هل يلهمك ذلك أن تـُـراجع كيف يتعلم الواحد منا الجنس العلاقاتى الأرقى؟ هل نتعلمه بالدروس!!؟ أم بالشرح النظرى؟، أم بالنمو التلقائى؟ أم بالتقليد؟ أم بالممارسة؟ أم بالكشف؟ أم بكل هذا وغيره مما لا نعرف؟.
يعرض محفوظ هنا منظرا عاديا يتعلم الطفل منه معنى الغرام، حالة كونه طفلا يلعب بالطوق. إذا طلبت منك الآن أن تسمى هذه الفقرة بعد أن أخفيتُ اسمها عنك قصدا، فـبـمَ تسميها بالله عليك؟ ثم قبل محاولة تسميتها: هل لاحظت نهايتها التى تربط بين هذه الخبرة الحسية المعلوماتية المباشرة، وبين الإدراك التالى الذى جاء متعثرا مع الأعوام الحامية .
العنوان الذى عنون به محفوظ هذه الفقرة لا بد أن يدهشك ويعلّمك كما أدهشنى ونبّهنى كان العنوان يقول: ” ذكاء الجسد“. تصور؟ وهل يحتاج الأمر إلى مزيد من تعليق؟
الفقرة: (116)([3]) “سيدتى الحقيقة”
ماذا تتوقع قبل أن تقرأ متن الفقرة؟ ولأزيد الأمر عليك صعوبة وإلغازا، لتكتمل الفزورة، سوف أقول لك كيف انتهت هذه الفقرة وهى تقول: “نِعْـمَ الرفيق الشغف والمنازل “. ثم خذ عندك البداية أيضا لعلها تسعفك، تقول البداية: “عرفت منازل الحقيقة فى عصر الفطرة”.
إذن فنحن عندنا حقيقة، لها منازل، يمكن التعرف عليها فى عصر الفطرة، لننتهى أنه “نعم الرفيق الشغف والمنازل“. تصور ما شئت، ويا حبذا لو توقفت عن إكمال ما تقرأ، (!!) لنقرأ معا ما بين تلك البداية وهذه النهاية تحت ذلك العنوان: هكذا:
الأصداء فقرة “سيدتى الحقيقة” (116)
“”عرفت منازل الحقيقة فى عصر الفطرة. عندما تقرفص المرأة أمام طشت الغسيل أقرفص قبالتها فتلعب يدى فى الماء وتسترق عيناى النظر. عندما ألهو فوق السطح فى الليالى البدرية أمد يدى فى الفضاء لأقبض على وجه القمر. عندما نزور القبر فى المواسم أركز عينى على جداره لأرى.
نعم الرفيق الشغف والمنازل.”
هل كنت تتصور أن يبدأ التعرف على الحقيقة فى عصر الفطرة، من قرفصة طفل يسترق النظر إلى حقيقة الجسد والفخذان منفرجان حول طشت الغسيل، ثم ينتقل إلى استراق الخيال وهو يمد يده يقبض على وجه القمر، ثم ها هو يهم باقتحام جدار القبر أثناء زيارات المواسم وهو يكاد يخترقه بنظراته ليتعرف على حقيقة ماوراءه، هل واكبتنا ومحفوظ يأَرجِـحـُنَا لنعرف الحقيقة ونحن نترجّح بين بؤرة جسد امرأة، وحضور وجه القمر، ومحاولة استكشاف معنى آخر للموت، لتنتهى القصيدة بهذه الحركة النابضة: “نِعْمَ الرفيق الشغف والمنازل“
تقدم لنا هذه الفقرة ذكاًء آخر لا يقتصر على ذكاء الجسد، وإنما تتكامل به وسائل المعرفة بالانتقال النشط بين العارى الفج، والخيال الحى، على أرض واقع الوعى اليقظ، المرتبط برفيق لم يظهر، ومنازل لم تتحدد. هل هذه المنازل هى متدرج الوعى النامى، أم متعدد الخبرات اللاحقة، ولكن كيف يكون الرفيق هو الشغف برقته وجماله، ولماذا عَطَفَهُ محفوظ على المنازل؟ المسألة لا تحتاج إلى الرجوع إلى المعاجم، وإنما تحتاج إلى إعادة قراءة الفقرة وتركيزك على الحركة، والرؤية، والإدراك، و”الجسد الوعى”، لتتأكد بوعى جسدك بدورك أنه: “نعم الرفيق الشغف والمنازل”.
ثالثا: نص من خالدة سعيد
فى نقد أنسى الحاج:([4])
(ص 65 )
“… تراجع أنسى الحاج، انسحب من العالم الخارجى المضىء اللامع الثابت المستقر، إلى عتمات الجسد حيث التشوش الفظيع فجأة لكل نظام، حيث النظام المؤسس للانهيار ضمن حدود الجلد أدرك وحدته، وأنه، حتى حلفه مع جسده باطل ومتداع، وأن جسده مفكك وخائن لبعضه البعض الآخر.
فى عالمه الداخلى ذاك، بدا شعوره المتضخم بجسده، ففى قصيدة “فقاعة الأصل” تبدو “شارلوت” ذات شخصية مستقلة لها سلوكها، واتجاه حياتها، تبدو عدوا للشاعر، حتى قد يلتبس الأمر على القارئ المتسرع ويحسبها امرأة. شارلوت، هذه الشخصية الغريبة، هى ما تنسله الإصبع فى منتهاها قبل بداية الظفر”. شارلوت هذه “تخطت القافلة كشافة تتجسس”. إذن فأجزاء جسده تستعد للسفر، للتخلى عنه، وها هى تنذره “إن العقد سينفرط، إننا متخلون عنك، إنك مبدد شر تبدد”، إذن جسده الذى حسبه حليفه الوحيد سينفرط و”ينسل نسلة نسلة حتى يبدو لحمه العارى، ثم ينهار لحمه العارى ويسفر عن عظامه، ثم تلقى عظامه فى الليل”، وما تلك النسلة إلا “علامة”….
القراءة:
قبل أن أدعوك لقراءة هذا النقد معنا، أرجو أن تنظر إلى أحد أصابع يديك، وأن تركز على تلك المساحة التى ركـّـز عليها شعر أنسى الحاج، أو هو شخصيا، وهو يتعرف عليها،المساحة التى بين نهاية الإصبع وبداية الظفر، هل ترى شيئا ؟ هل ترى نسلة صغيرة من لحم عار؟ الإجابة هى بالنفى على الأرجح (لقد رأيتها أنا شخصيا الآن). أنس الحاج شاعر قصيدة النثر، حكايته مع الشعر والجنون والسرطان تحتاج إلى تفصيل آخر، لكن الذى يهمنا هنا فى نقد خالدة سعيد هو ما التقطته من رؤية الجسد يتحلل، ثم وهو يحضر بتحلله فى وعى الشاعر، ثم تتبدى استقلاليته فى ما أسمته الناقدة “عتمات الجسد” حيث التشوش الفظيع فجأة لكل نظام. هذا التناهى فى التركيز على تفسخ الجسد وتناثره، يكاد يقابل التناثر الفصامى الذى يفكك كل شىء عن كل شىء، والذى يصيب الفكر بقدر ما يصيب الوعى، هو التفسخ الذى يقابل هنا تحلل الجسد هكذا فى رؤية أنسى الحاج شعرا، وليس جنونا وانسحابا. إن أنسى الحاج يعرف جنونه بوجه خاص هو يقرنه بالحرية. هو الذى يقول: “إما الاختناق أوالجنون، بالجنون ينتصر المتمرد ويفسح المجال لصوته كى يسمع، الجنون هو الوصمة التى يحملها من اختار أن يكون حرا، أن يتحرر من عبودية المفاهيم المعممة والسلوك المألوف والضياع بين الأرقام…” وأيضا كما تقول الناقدة عنه: “فى الجنون لا قوالب، لا نسب للجمهور، اللعنة حرية العذاب الداخلى.. فى السقوط حرية الفوضى، حرية التوغل فى الجسد” فتلاحظ أن التوغل فى الجسد زاده تفرقا أولا قبل أن يجمعه وعياً.
ما العلاقة بين هذا التفسخ الذى حضر فى الوعى/الجسد بهذه الصورة الشعرية فالنقد، وبين اغترابنا نحن العاديون عن أجسادنا؟ إن ما يصفه أنسى الحاج وتلتقطه خالدة سعيد بهذه الصورة المرعبة، إنما يذكرنا كيف أنا نعيش فى سجن صنعناه من أجسادنا المخمَّدة المغتربة، فلا نحن تحررنا من سجنها، ولا هى تحررت فأعفتنا أوهـْـامـُـنا المعقلنة منها، فيزيد الضغط والاحتقان. الجسد المغترب المهمش المستعمل من الظاهر يصبح سجنا جاثما ليس على الحركة والنمو فحسب، بل على نفسه أيضا. يمكن للإبداع أن يحتوى هذا التناثر كما ظهر لنا فى شعر أنسى الحاج، الذى استطاع أن يرصد تحلل جسده بفضل شاعريته حتى ضبط تلك النسلة بين الإصبع والظفر، وأسماها “شارلوت” وحادثها واستنطقها وغاص حتى النخاع فى تفاصيلها. نتعلم من هذا الشعر كيف تتناثر أسوار الجسد السجن فى ثورة التحرر سواء أدت إلى الشعر أو إلى الجنون.
لم يبق أمامنا إلا أن نستشهد بقصيدة لكاتب هذه السطور، قصيدة تصف مرحلة باكرة نسبيا قبل هذا التفسخ الذى وصل إلى درجة التناثر الجسدى كما لاحظنا، مرحلة يستقل فيها الجسد كله أو بعضه وتختلط معالمه، إعلانا عن حركية ثورة مهددة بالإجهاض فى الجنون، هى بعنوان:
“الخطوات”([5])
-1-
النجدهْ!
إياكم والنجدهْ!!
….
السوطُ، السوط، السردابْ.
المسمارُ، الثقبُ البابْ .
الوجهُ قفاىْ.
-2-
تاريخى ليس بواقعْ،
وملامح وجهى تشويهٌ فاقعْ
والقلبُ المهزوُم يئـِنُّ بحشرجةٍ ثـَكْـلَى،
وَحروف الكلمات بتجويف الفمْ،
تَأْبَى أن تَنْعـِى اللَّفْظ الميِّت
-3-
تقفز منى الخطوات؛
ألاحِقُهَا.
ألحقـُهَا،
لا ألحقـُها.
الأرجلُ مقطوعهْ،
والسيقان بلا أعينْ،
آثار الأقدام تشير إلى طرقٍ شتَّى،
فأسير بكل منها شوطاً.
-4-
والوجْه الأْملسُ،
والذَّنَبُ المقطوع.
وجنين الوعىِ المجهضِ،
يلفظ أنفاسَهْ.
والألفاظ الأطفالْ،
تبحثُ عن مْأوَى.
…لا جدْوَى.
غُصَّتْ صفحاتُ شروحِ المُعْجَمْ.
عندى رغبة ألا أقرأ هذا النص ناقدا لأدعه يكمل الموضوع بما هو بلا زيادة أو وصاية. كما أدعو القارئ إلى أن يرى هو بنفسه ما يتراءى له، لعلنا نأتنس.
خامسا: استلهام من نص دينى
اتفقنا- دون إعلان محدد- أن النصوص الصوفية والنبوية والإلهية ليست نصوصا للنقد، ولا حتى للتفسير، إنها مصدر إلهام متجدد، لذلك وجب التنويه فى كل مرة دون كلل.
جاء فى معنى الحديث الشريف وصفا لصهيب، بعد أن أنكره الحاضرون، ووصفوه بأنه: “إذا حضر لم يُستَـشرْ، وإن غاب لم يُسأل عنه”، إلخ، جاء النص النبوى الشريف يرد لصهيب حقه بما معناه:
النص:
“… صهيبُ مؤمن نسى، إذا ذُكّر ذكـَرْ،
خلط الإيمان بلحمه ودمه،
ليس للنار فيه نصيب”
من يقرأ هذا الوصف الشريف قد ينتبه إلى آخره دون أوله، وهو قد ينتبه أكثر وهو فرح كيف أن صهيب ليس للنار فيه نصيب، لكننى انتبهت أكثر إلى أنه “نسِى”، صهيب مؤمن نسى، وأنه “إذا ذكــَّـرَ ذكر”، ثم إنه “خلط الإيمان بلحمه ودمه”.
الذاكرة التى تـُدرس وتوصف وكأنها كتاب به معلومات مرصودة، وغلاف محكم، ومكان على أحد أرفف المخ، ليست هى الذاكرة الحقيقية الأشمل التى تمثلها ذاكرة الجسد، ذاكرة الجسد كله شاملا المخ تكون فيها كل خلية بلا استثناء ممثلة لسائر الوجود، هذه الذاكرة تصبح أكثر فاعلية حين لا تعود ذاكرة، إذْ تصبح جزءاً لا يتجزأ من وعىٍ مشتمل. صُهيبُ هذا نسى نسياناً بمعنى التمثــُّـل، وليس بمعنى التخزين المغلق، أو التآكل أو الكبت، ومن هنا نفهم –استلهاما- كيف أن صهيبا حين نسى ازداد معرفة، بمعنى أن هذا النسيان ليس محوا أصلا، إنه استيعاب تام للمعرفة المدخلة بحيث تصبح غير قابلة للاستعادة كما هى، لكنها قادرة أن تتخلق منها الخبرة الموازية عند الطلب، هذا هو المعنى الذى استلهمته من أن صهيب “إذا ذُكِّر ذَكَر”. هذا التذكر ليس إحضار معلومة من مخزن، لكنه إحياء فطرة كامنة تم تدعيم تشكيلها حتى تخلَّقَتْ بالإيمان المتجدد، من هنا لا يمكن أن يكون للنار فيها نصيب، فالنار لا تلتهم إلا النيازك الساقطة بعيدا عن هارمونية الكون والجسد.
المسألة إذن ليست مسألة اعتقاد فكرى محدد، أو سلسلة رموز مترابطة، الأمر الذى قد يلزم لضمان جدية المسار، بأن المسألة الإيمانية الأعمق التى تتأكد من هذا النص هى النجاح فى “خلط الإيمان باللحم والدم” حتى يلتقى جمال الفطرة بجمال الكون فى رحاب الحق سبحانه، هذاهو ما يمثل لقاء الوعى الجسدى الفردى بالوعى الكونى الممتد، وهو الذى لا يسمح بالنيازك أن تتساقط، حتى لو حاول عقل صاحبها أن يفرض وصايته على كل ذلك.
وبعد
إن الدعوة المطروحة ليست دعوة للاعتراف بالجسد، وإنما هى دعوة أكثر لإعادة التعرف عليه من جديد، أولا بالتوقف عن نفيه وتهميشه، وثانيا بتعديل ما أمكن من سلوكنا العادى لعلنا نستعيد التعود على الإنصات للغته، واحترام حواره مع جسد آخر، ليس باعتباره ذنبا أو لذة، وإنما باعتبار ذلك أقدر على التعبير الأعمق والأبقى والأكثر إبداعا، أى إيمانا.
[1] – نجيب محفوظ “أصداء السيرة الذاتية” (1995) مكتبة مصر.
[2] – نجيب محفوظ “أصداء السيرة الذاتية” صفحة (94)
[3] – نجيب محفوظ “أصداء السيرة الذاتية” صفحة (97)
[4] – خالدة سعيد: “حركية الإبداع” دار العودة، بيروت (1979)
[5] – يحيى الرخاوى، ثلاثة دواوين (1981 – 2008): الديوان الثانى: “شظايا المرايا” قصيدة “تقفز منى الخطوات” (ص 131) الطبعة الأولى (2018) منشورات جمعية الطب النفسى التطورى.
الفصل السادس: كيف يتكلم الصمت
الفصل السادس: كيف يتكلم الصمت
نبهنا فى الفصل السابق كيف كانت الكائنات الأولية تفكر بجسدها، وتحفظ بقاءها بجسدها، وتحافظ على نوعها بجسدها، وتمارس مشاعرها بجسدها، كل ذلك قبل أن يتخلق لها دماغ (مخ) أصلاً. ولم نكن بذلك نشير إلى أن علينا أن نفعل مثلها، لكننا كنا ننبه إلى أنه لا يصح أن يحل الأحدث محل الأقدم فيلغيه، وإنما هو يحتويه ويتكامل معه.
فى هذا الفصل نتقدم خطوة أخرى نحو الإنصات لما يقوله الصمت، لا لأنه أصدق أو أهم من الكلام، ولكن لنتكامل بشرا لنا تاريخنا الحيوى الجدير برحلة تطورنا، يلزم ذلك أكثر فأكثر بعد أن اغترب أغلب الكلام حتى كاد يصبح رطانا بلا فحوى.
راح صلاح عبد الصبور يصرخ بلسان نبيه الذى يحمل قلما ينتظر نبيا يحمل سيفا أنه: “لاأملك أن أتكلـّم”، وحين امتلأ صمته بكل ما لا يـُسكت عنه فاض بما فيه حتى صاح: “فليتكلم عنى صمتى المُفْعم”.لأنه “لا أملك إلا أن أتكلم”([1]). وهكذا تكلم الصمت يحذرنا أنه “رُعـْبٌ أكبر من هذا سوف يجىء….” إلخ،(ليلى والمجنون).
كيف يتكلم الصمت؟!!
المشكلة، مثلما كان الحال ونحن نعيد التعرف على أجسادنا، أننا كما اكتشفنا أننا لا نملك إلا أن نستعمل العقل (وهو المتهم بتغييب الجسد) لاستحضار الجسد والاعتراف به، لا مفر هنا أيضا من أن نستعمل الكلام (مكتوبا) لنتعرف على الصمت.
بدائل الكلام كثيرة: الموسيقى، النحت والرسم، ولغة الإشارة، كلها كلام بحروف أخرى: وإن اختلفت الأبجدية والأدوات. إذن ماذا ؟
للمنهج العلمى القح إسهاماته فى هذه المنطقة، لكنها إسهامات مازالت متواضعة لا تكفى، أما الأدب فهو يقول أعمق واخطر بما يعلن وبما يخفى سواء بسواء. النصوص الأدبية الأصيلة تقوم باللازم فى صمت باعتباره كلاما يتجاوز الكلام.
من وفرة ما حضرنى من نصوص تتناول دور الصمت وتشكيلاته، احترت ماذا أختار من بينها، حتى تصورت أن لنا عودة فى نفس الموضوع يوما ما.
نبدأ بخير البدء:
(1)
نجيب محفوظ
قرب نهاية الأصداء، يعلمنا محفوظ على لسان الشيخ عبد ربه التائه، كيف أن الزمن يحقق أهدافه دون أن يسمع له صمت
النص: فقرة “الزمن” (204) من أصداء السيرة ([2])
قال الشيخ عبد ربه التائه:
يحق للزمن أن يتصور أنه أقوى من أى قوة مدمرة، ولكنه يحقق أهدافه دون أن يُسمع له صوت.
القراءة:
هل توجد دعوة أقوى من ذلك تنبهنا أن ما تحقق عبر تطور الحياة لم يكن نتيجة لآراء أو كلمات، ولا لحروب وانتصارات، ولا لأرقام وحسابات، وإنما كان بقوانين لا تحتاج إلى إعلان اصلا، قوانين ليس لها صوت !! التطور يتواصل بقوة تفوق أى قوة، وفى نفس الوقت هو يتحدى أى تدمير غبى لم يستطع أن يوقف المسيرة حتى تاريخه.
لكن محفوظ فى الأصداء أيضا يقدم لنا صمتا آخر أبسط وأرق، يقول محفوظ:
النص: فقرة “الحياء” (160) ([3])
قال الشيخ عبد ربه التائه
ما تجلى لعينى إلا نور الوجنات وعذوبة الحياء
أكرر السؤال فتغوص فى الصمت أكثر.
تجود بكل ثمين ولكنها من الكلام تجفل.
هذا الصمت الذى تعلنه هذه الفقرة التى رسمها محفوظ لصاحبته وهى تجفل من الكلام، له لغته الخاصة التى تصلنا من خلال نور الوجنات وعذوبة الحياء. ربما يسهل عليك أن ترى الوجنات منيرة بحمرة الخجل، لكن أن تستمع لهمس عذوبة الحياء، هذا يحتاج لإنصات من نوع آخر لحديث صمتٍ آخر.
(2) (ليلى والمجنون) صلاح عبد الصبور
….
….
لا أملك أن أتكلم،
فلتتكلم عنى الريح، لا تمسكها إلا جدران الكون
لا أملك أن أتكلم
فليتكلم عنى موج البحر
لا يمسكه إلا الموج على حبات الرمل
لا أملك أن أتكلم،
فلتتكلم عنى قمم الأشجار
لا يحنى هامتها إلا ميلاد الأثمار
لا أملك أن أتكلم،
فليتكلم عنى صمتى المفعم.
(هذا ما خط مساء اليوم الرابع)
يا أهل مدينتنا
يا أهل مدينتنا
هذا قولى:
رعب أكبر من ذلك سوف يجىء
لن ينجيكم أن تعتصموا منه بأعلى جبال الصمت
أو ببطون الغابات
لن ينجيكم أن تختبئوا فى حجراتكم، أو تحت وسائدكم، أو فى بالوعات الحمامات ….إلخ
القراءة:
الصمت المفعم الذى راح ينذرنا بهذه النذُر، يهاجم صمت الأحياء الموتى، يهاجم ذلك الصمت الجبان الذى لا يتكلم رعبا وتخليا وتقية، يهاجم ذلك الصمت المختبئ فى جوف جباله أو فى بطون غابات الكلام المفرغ من معناه، أو فى حجرات الصفقات، أو تحت وسائد النفاق، أو فى بالوعات التخلى واللامبالاة.
هكذا نتبين أن الصمت أنواع،
قالوا: وكيف كان ذلك؟ إليكم بعض إسهاماتى الشخصية:
(3)
…. من كتاب “حكمة المجانين”([4])
الصمت أنواع:
– الصمت الميت: وهو أنانية وإلغاء للآخرين.
- والصمت الجبان: وهو المحافظة على مظهر الحكمة، مع الخوف من التعرى دون حساب .
- والصمت الخبيث: وهو الذى يشترى ولايبيع، اتقانا لصفقة الشطار.
- والصمت الساخر: وهو الذى ينظر من أعلى على كل آخر.
- والصمت المتأمل: وهو الذى يحسن الاستماع ليستوعب التفاصيل
- والصمت اليقظ: وهو الرحلة المتصلة الصادقة بين الداخل والخارج وبالعكس، احتراما للكلمة الفعل المسئولية.
****
ربما لا يحتاج هذا النص إلا إلى إضافات محدودة:
- الصمت الميت: هو إعلان عن استكفاء ذاتى خادع، يغلق مسام التلقى، ويجهض أى احتمال لحوار قبل أن يتخلّق، إنه صمت يقول: “أنا مستغنٍ، لست فى حاجة إلى أخر، إليك، فلا داعٍ للكلام معك”.
- والصمت الجبان: هو الذى يرسل رسالة غامضة تعطى فرصة للآخر أن يتصور ما يخشاه وما لا يخشاه، وهو تغطية للذات ولما بداخلها، هو نوع من ممارسة مبدأ السلامة بالانسحاب الباكر والدائم، وهو عادة يرجح التراجع قبل البدء تحسبا للأحوط، وتجنبا للاختبار من حيث المبدأ.
- أما الصمت الخبيث: فهو نوع من المناورة الصفقاتية، التى ترجح فيها كفة المهارة المحسوبة، تجنبا لخطأ عشوائى يمكن أن يؤدى إلى خسارة صاحبه، ويظل هذا الصامت التاجر محتفظا بمعظم مستنداته وهو يتصور أنه بذلك يربح الصفقة (وهو كثيرا ما يحدث فى المفاوضات السياسية اللئيمة)
- ثم الصمت الساخر: الذى يستهين بما يقال، حتى يصل الأمر إلى اعتبار المتكلم لا يستحق الرد أصلا، لا لأنه يقول ما نـَكـْره فقط، ولكن استهانةً بالقائل تكبرا واستعلاءً([5]).
- الصمت المتأمل: (صمت التلقى) فى قراءتى الآن انتبهت إلى أن التأمل لا يكفى لاعتبار الصمت إيجابيا، وقدرت أنه يمكن تطويره لتسميته “صمت التلقى”، بمعنى أن يتجاوز التأمل الإمعان فى التفاصيل إلى التهيؤ لاستقبالها ليهضمها فيتمثلها لعله يكون “بها إليك”،
- وأخيرا: الصمت اليقظ، ربما هو التفعيل الختامى لصمت التلقى الجاهز للحركة، وهو صمت لا يكتفى بمجرد التلقى من الآخر،لكنه يواصل حركته الداخلية النشطة، يعيد بها تنظيم الذات ليكون صمتا أقرب إلى ما وصفه المقتطف: بأنه يحمل كلا من حضور الفعل، ووعى المسئولية.
وبعد
إن ما انتهى إليه هذا المقتطف هو تحذير من تعميم لغة الصمت، وتأكيد على أنه كما للكلام أنواع ومستويات، فإن للصمت أنواع ومستويات، وأنه ليس معنى أننا ننبه إلى ضرورة الاهتمام بلغة الصمت، أننا نعلى من شأنها أكثر من لغة الكلام.
طاغور -1 ([6])
“……………
……………..
وقال الألم: سألوذ بصمت عميق كآثار خطاه
وأجابت حياتى: سأموت وأنا فى منتهى الكمال.
وقالت الأرض: إن أنوارى تلثم أفكارك فى كل لحظة.
وقال الحب: وتمضى الأيام ولكننى أنتظرك
وقال الموت: سأقود زورق حياتك عبر البحر
القراءة:
نحن لا نحسن الإنصات إلى رسائل الطبيعة المتجددة، ولا إلى همس الحياة الزاخر بالمعنى والحب والحياة بل ووعود الموت الجميل، نحن نحسب أن كل هذه المخلوقات، مثل شتى تنويعات الوجود التى لا تتكلم بألفاظنا (بما فى ذلك الموت) نحسبها صامتة، مع أننا نحن الذين لا نحسن الإنصات. حين أنصت طاغور بكل رقته وآلمه وحبه، استمع للموت وهو يبعث الحياة، واستمع للحياة وهى تموت فى منتهى الكمال، ليس هذا فحسب، بل إن الألم هنا مع طاغور هوالذى لاذ بالصمت، فأصبح صمتا زاخرا عميقا كآثار خطى الألم. اعتدنا أن نلغى الألم أو ننكره أو نلغيه بالصمت، لكن طاغور جعل الألم يلوذ بصمت عميق كآثار خطى الألم، ياه!!! ثم إنه جعل الحب هو الذى ينتظر بلا كلل، ولا ييأس من مرور الأيام فهو قائم حاضر مهما طال الزمن، يتخلل ذلك اعتراف الأرض أن أنوارها تلثم أفكارنا فى كل لحظة. أىَ همسً، وأىً حوار!!.
هل يستطيع أى منا أن يصم أذنيه عن كل هذا الكلام، الصادر من صمت الطبيعة المفعم؟ هل يدفعنا ذلك أن نراجع أنفسنا لنتصور كما قال محفوظ فى الصدى الأول كيف حفظت خطى الزمن الواثقة استمرار الحياة المتدفقة دون كلمة واحدة؟.
ولماذا نذهب بعيدا، هل يولد الطفل متحدثا ؟ هل تأملنا كيف يمضى الطفل شهوره الأولى وهو يتكلم أعمق لغة بلا لفظ واحد من ألفاظنا المنطوقة أو المكتوبة؟ نستمع إلى لغة هذه المرحلة التى تقابل بشكل ما لغة التطور قبل نشأة الكلام، نستمع إلى طاغور مرة ثانية بأقل قدر من التعقيب.
طاغور -2
درب الطفل
إن الطفل الصغير يحيط بجميع ضروب الكلام السديد، غير أن الذين يدركون معناها فى الأرض قلائل
فليس عبثاً ألا يرغب فى الكلام
إنه الشئ الوحيد الذى يتشوف إليه هو أن يتلقَّن كلمات أمّه من شفتيها، ولهذا يتراءى بريئاً نقيّاً.
إنّ فى حوزة الطفل الصغير أكواما من الذهب واللآلئ، ومع ذلك فقد قدِم كشحاذ إلى هذه الأرض
إنّ لديه سببا يحفزه على أن يقدم فى هذا التنكر.
أجل. إنّ هذا الشحاذ الصغير الأثير العريان يصطنع العوز الشديد ليتيسّر له أن يطالب أمّه بكنز حبّها
لقد كان الطفل الصغير حرّاَ من أى رباط فى هذه الأرض التى يتسامى فوقها الهلال الصغير
فليس عبثاً أن يتخلى عن حريته
….
القراءة:
وهل يحتاج هذا الكلام إلى تعقيب نؤكد به أن صمت الطفل عن الكلام هو حريته التى تسمح له بكل هذا التحاور الخلاق الذى يحفظ حياته، ويثرى وجودنا حتى يكمل بالكلام الحقيقى/المعنى (أو لا يكمل بما نصنعه فيه!).
(5)
صمت الفصامى
ننتقل أخيرا إلى الإنصات إلى صوت المريض الفصامى حين يصل به المرض إلى البكم الذى سنكتشف أنه احتجاج صارخ على ما آل إليه اغتراب الكلام، وأنه انسحاب فى مواجهة عدم الإنصات إلى صرخته المستغيثة (قارن ذلك الشحاذ الصغير فى طفل طاغور الجميل، بهذا الشحاذ الفصامى المتجمد إهمالا وإنكارا) كما وصفتـُهُ فى ديوانى”سر اللعبة”([7])
النص:
……
وهتفت بأعلى صمتى:
يا أسيادى
يا حُفّاظ السقر الأعظم
يا حمّال سر المنجم
يا كهنة محراب الفرعونْ
يا أفخم من لاك الألفاظ تموء كقططٍ جوعَى فى كهف مظلم
يا أذكى من خلق الله وأعلم
يا أصحاب الكلمة والرأى،
هل أطمع يوما أن يُسْمَع لي؟
هل يُسمح لي؟
هل يأذن حاجبكم أن أتقدم؟
لبلاطكمو التمس العفو ؟
أنشر صفحتى البيضاء؟
أدفع عن نفسى ؟
أتكلم؟
أحكى فى صمت عن شئٍ لا يُحْكَى؟
عن إحساسٍ ليس له اسم
إحساس يفقد معناه، إن سكن اللفظ الميت؟
شىء يتكّور فى جوفى
يمشى بين ضلوعِى
يَصَّاعد حتى حلقى
فأكاد أحس به يقفز من شفتىّ؟
وفتحت فمي:
لم أسمع الا نفسا يتردد
إلا نبضَ عروقى
وبحثت عن الألف الممدودةْ،
وعن الهاء
وصرخت بأعلى صمتى،
لم يسمعْنى السادة،
وارتدتْ تلك الألف الممدودةُ مهزومة
تطعننى فى قلبى.
وتدحرجت الهاء العمياء ككرة الصلب..،
داخل أعماقى،
ورسمتُ على وجهىِ بسمة،
تمثال ٌمن شمع،
ورأيت حواجب بعضهمو ترفع
فى دهشةْ،
وسمعت من الآخر مثل تحية،
ظهرت أسنانى أكثر،
وكأنى أضحك
ومضيت أواصل سعيى وحدى
وأصارع وهمى بالسيف الخشبىّ
السيف المجدافِ الأعمي..
والقارب تحتى مثقوب
والماء يعلو فى دأب
والقارب تحتى يتهاوى..
فى بطء لكن فى إصرار
فى بحر الظلمة … فى بحر الظلمة.
القراءة:
لا يزعجنى من الشخص العادى، ولا من بعض الزملاء، أكثر من استهانتهم بما يقوله الفصامى بصمته، وتخشّبه، وتفسخه، لا يزعجنى أكثر من اختزال ما هو “فصام” إلى مجرد سلوك متناقض أو متغير من النقيض إلى النقيض، ناهيك عن الاختزال الكيميائى. هذا ليس وقت ولا مجال مناقشة هذه القضية، لكنها تقدِمة لازمة قبل أن نقول:
إن الفصامى ثائر حقيقى لكنه ثائر فاشل مهزوم، الفصامى يكتشف اغتراب الكلام ولا جدواه، لكنه يفشل فى تشكيله بعد أن يفكـِّـكه، فى حين ينجح الشاعر.
الفصامى علاقته باللغة بالغة الرهافة، ثقيلة المسئولية، حتى أنه يرزح تحت وطأتها، فيتجمد ويبكم من أثر ثقلها على وعيه، إذْ هىَ تحمل عنده حقيقة معناها، لذا هو لا يقدر أن يلفظها، فيبكم، أو تتناثر منه.
النص السابق يُظهر بعض ذلك على لسان الفصامى، ومع روعة دلالته فما أسهل أن نصف الفصامى – نحن الأطباء- فى النهاية بلغة الأعراض بأنه: قد أصيب بالبكم، mutism وأنه يبتسم ابتسامة لا معنى لها facile smile وأنه انسحب من عالم الواقع إلى قوقعة خياله.
(6)
استلهام نص صوفى
النص:
من مواقف النفرى
وقال لى:
أصمت لى الصامت منك، ينطق الناطق ضرورة([8])
القراءة:
لقد تعجبت لهذا الموقف من مولانا النفرى، فهو استلهام من الله رب العالمين كما استلهمه النفرى فى وعيه، فلماذا يطلب الله سبحانه من النفرى أن يـُـصمت الصامت فيه، ربما هو تنبيه لاحتمال تداخل بعض أنواع الصمت السلبى فى دور الصمت المفعم بلغات أخرى أقدر وأعمق، فإذا صمت الصامت المشتبه فيه نطق الصمت الناطق ضرورة!!
(7)
هامشان
الهامش الأول:
من الذاكرة: مسرحية آه ياليل يا قمر – نجيب سرور: الباشجاويش (لا أذكر اسم الممثل) يقول لسهير البابلى:
الكلام ممنوع يا ست،
فتسكت، فيكمل قائلاً:
“والسكات ممنوع يا ست”
فتصرخ مندهشة
“والسكات ممنوع كمان”؟
فيرد الباشجاويش
“السكات مشروع كلام”.!
الهامش الثانى:
أحمد فؤاد نجم من قصيدة “سكات”.
سكات سكات سكات،
لكن لسكاتنا معنى: أَنـْطـَقْ من الكلام،
وكل مِنْ سِمِعنا،
يفهمنا بالتمام.
إلى هنا وهذا المقطع يؤكد ما ذهبنا إليه، لكن القصيدة تواصل كالتالى:
“… وحق مِن جمعنا: لينطق الكلام،
ويقول الصمت مات، ويصرخ فى السكات، سكات، سكات سكات”.
……..
……..
قراءة سريعة:
السكات الأول هو “أنطق من الكلام” هو سكات له معنى
أما الكلام الأخير الذى أعلن موت الصمت، فهو ما يقابل قول عبد الصبور:
لا أملك إلا أن أتكلم …. وهو ما قد يقابل ما جاء فى قراءة الرد على مولانا النفرى “الصمت الناطق”.
[1] – صلاح عبد الصبور، مسرحية “ليلى والمجنون” قصيدة “يومياتُ نبى مهزومٍ, يحملُ قلماً, ينتظر نبيّا يحمِلُ سيفا” الناشر: دار العودة (1981).
[2] – نجيب محفوظ “أصداء السيرة الذاتية” صفحة (150).
[3] – نجيب محفوظ “أصداء السيرة الذاتية” صفحة (133).
[4] – أصبح عنوانه: “حكمة المجانين: فتح أقفال القلوب” فى الطبعة الأحدث (2018) منشورات جمعية الطب النفسى التطورى.
[5] – ما كلُّ نطقٍ له جوابُ جوابُ ما يُكرهُ السُّكوت (المعرّى)
وأيضا: لو كلُّ كلبٍ عوى ألقمتُه حجرًا لأصبح الصخرُ مثقالاً بدينارِ (يوسف بن على الفارسكورى الشافعي)
[6] – طاغور “روائع فى المسرح والشعر” ترجمة: بديع حقى (ص 120)، الناشر: مكتبة نوبل (1998)
[7] – يحيى الرخاوي، ديوان “سر اللعبة” قصيدة: “وهتفت بأعلى صمتى” (ص 97)، منشورات جمعية الطب النفسى التطورى، (2017)
[8] – يحيى الرخاوى “موقف قد جاء وقتى”، تغيرت قراءتى السابقة له فى (رحاب مولانا النفرى) مجلة الإنسان والتطور الفصلية عدد (57) يناير 1994
– يحيى الرخاوى، إيهاب الخراط “مواقف النفرى بين التفسير والاستلهام” الطبعة الأولى 2000، جمعية الطب النفسى التطورى والعمل الجماعى
الفصل السابع تحركات بين مستويات الوعى الأخرى (أو: كله إلا الواقع!)
الفصل السابع تحركات بين مستويات الوعى الأخرى (أو: كله إلا الواقع!)
لماذا انتشر “هارى بوتر” كل هذا الانتشار؟ لماذا خلدت ألف ليلة وليلة كل هذه القرون، هنا وهناك؟ لماذا حضرت أحلام محفوظ، ومن قبلها أصداء السيرة الذاتية، ومن قبل قبلها ليالى ألف ليلة فى وعينا بهذه الروعة، فالعودة، فالإرواء؟ لماذا وزع السيميائى (كويهلو: ساحر الصحراء) كل هذا العدد مع تواضع مستواه الروائى؟ لماذا تجلت مائة عام من العزلة شامخة بديعة؟ لماذا تسطحت معظم مجلات الأطفال عندنا، وكذا أغلب برامج الأطفال، حتى كادت تصبح ضد ما نريده ونرجوه لأطفالنا، ولنا؟ لماذا خلدت قصص هانز كريستيان أندرسون، فى حين هـُمـّشت قصائد شوقى للأطفال وكأنها سخرية منشورات سياسية للكبار على لسان الحيوانات والأطفال؟ لماذا تراجع الكدح الإيمانى الطليق المتواصل إلى وجه الله تعالى لحساب تعليمات السلطة الدينية المنغلقة؟ لماذا ظهرت قصيدة النثر؟ لماذا اعترضوا عليها؟ لماذا اقتحموَنا بالفيديو كليب ونحن نلعنه، ثم نشاهده جدا؟ لماذا أكتب فى هذا الموضوع؟
إليكم محاولة الإجابة:
تراجعت أحلامنا، أمام واقعنا الراسخ الجاثم تحت مسميات مختلفة، كثير منها زائف أو مصنوع. خذ مثلا واقع الاستقرار، أو رسوخ المنهج العلمى، أو مظهر شكل التنوير، أو إشاعات الأمن والأمان، أو خدر الرفاهية، أو سعادة الرضا الساكن، أو سوء فهم الحلال والحرام، كل ذلك يقدَّم لنا على أنه “واقع ما”، فنستسلم له لأنه ظاهر، وقد لا نكتشف أنه من صنع أوهامنا أو آمالنا بعيدا عن واقعنا الواقع، أو واقعنا الآخر الذى نسميه خيالا، نحن لا نعرف الخيال ولا نتعهده واقعا آخر يثرى واقعنا الفقير أو يصحح واقعنا المزعوم.
الخيال هو مثل طائر طليق، يطير فى واقع حقيقى لا يتحدد إلا من خلال طيرانه، وهو واقع ماثل، لكنه يتخلق بالطيران حسب السرعة والوجهة والمصادفة الغامضة القوية، حين يحط هذا الطائر على شجرة ما، لا يصنعها هو من فراغ، وإنما هو يحط عليها لأنها هناك، ولأنه اختار أن يحط عليها، ثم ينتقل منها إلى زهرة، فصخرة، فيدخل فى مغارة، فتعيق طيرانه، فيفر منها، ليجد نفسه فى سماء (حقيقية) سابعة، دون أن يمر بالسماوات الست، ثم يلتقى بك فى حارة سد، دون أن يستأذنك، فيؤذن للفجر وهو لا يعرف كلمات الأذان، فيوقظك لتصلى، فلا تصلى..أو تصلى. هذا هو الخيال الحى ، وليس ما نصنعه افتعالا باعتبار أنه نقيض ما اتفقنا على أنه واقع.
……
عرض حالة:
تقدمة قبل النص
هو رجل فى الثامنة والثلاثين من عمره، (ولنطلق عليه اسم زيد) وقد عمل منذ طفولته فى نسج السجاد يدويا مع والده، وأحب عمله وأبدع فيه، حتى سافر يمثل مصر فى فرنسا سنة 1992 وظل هناك لمدة عام ينسج ويرسم ويبدع، فيحترمونه ويقدرونه، ويبيع ويفخر. وهو لم يكمل تعليمه المتوسط. تزوج مرة وطلق، ثم تزوج مرة أخرى زيجة لا تخلو من مشاكل زوجية جسيمة، كما أن حياته الجنسية بها ما يستأهل النظر(أنظر بعد).
كان أهم ما جاء فى شكواه بما يشير إلى ما يسمى أعراضا ما يلى:
النص
… حاسس إن دماغى بتلقّ، وماببقاش عارف نفسى.
مش عارف إذا كنت ملاك ولا شيطان وعندى خوف من كل حاجة، خوف من الناس والعمارات والشارع. من سنة 2001 وأنا تعبان. (هذه المقابلة كانت فى أوائل سنة 2005) التعب ابتدا من ساعة ما اتعرفت على ناس مسيحيين فى الفيوم كان لى شغل معاهم. اكتشفت إنهم جماعة تبشير….، وإن لهم أعوان فى كل مكان،…..، قالوا لى اكتب كل حاجة تعرفها وبعدها مشونى وماعملوش حاجة. حسيت انهم بيراقبونى،…..، وفى نفس الوقت كان عندى إحساس إن هوه دا الوقت إللى ربنا اختارنى فيه أنا بالذات عشان أكشف الجواسيس….والصهاينة،…. وإنى أنا المهدى المنتظر إللى حايحرر الناس من اليهود وأمريكا. ولحد دلوقت الإحساس دا معايا وأنا متأكد إنه صحيح………. كنت باحاول أهدى الناس وقلت لهم إن يوم القيامة خلاص جاى، وقلعت كل هدومى فى الشارع عشان استعد لمقابلة ربنا، لكن ما حدش صدقنى،……..، وساعات فيه صوت حقيقى بينادينى من جوه يقول لى : “إنت ذات الله”
وعندى قدرات تانية مش عند أى حد تانى زى إنى باشوف الملايكة والشياطين تظهر لى فجأة وتختفى.
القراءة:
أولا: نتذكر (ونضيف) ابتداء: أن هذا الشخص هو مبدع نجح فعلا، ويمكن أن ينجح أكثر، وأحسن (انظر بعد، وطالع ملامح عمله فى صورة السجادة المنشورة)، وأن كثيرا من أقواله (أزمته فى الفيوم مثلا) ليست نابعة من فراغ مطلق، وأن كل ما ذكره دون استثناء له أصل فى تركيبه “الآن” (وليس فقط: له أسبابه الحقيقية أو الوهمية فى ماضيه أو ذاكرته كما اعتدنا أن نسطح البشر بالدراما المسلسلة أوالتحليل النفسى التبريرى أو النصائح الطبنفسية المباشرة).
ثانيا: نلاحظ أيضا رحابة المساحة التى يتحرك فيها الواقع الداخلى، (دون أن نسرع بتسميته: الخيال المرضى)، كما نلاحظ سهولة وسرعة النقلات، وكذا حضور المتناقضات متجاورة، ثالثا: يظهر لنا هذا النص البشرى كيف تستيقظ الحواس (الشم) كأدوات معرفية وتصنيفية، والأزمة مرضية أصيلة
وأخيرا: نضيف بعض تجليات تشكيل المدركات بالمعنى الذى تقوله غائية المرض:
(….،. وكمان باشوف القطط والكلاب إللى فى الشارع وشـّـها وش بنى آدمين بحقيقى.)
فنلاحظ كيف أن هذه صورة معكوسة لما شاع من خيال (مرضى أو غير ذلك) من أن نرى الناس حيوانات، أو أن نسب بعضنا أو أهالينا بأسماء حيوانات، “زيد” هنا يرى الحيوانات لها رؤوس ناس، فيذكرنا بإبداع آخر (أبى الهول) لكنه هنا يمثل لغة أخرى لغاية أخرى أبدعها المرض.
كل هذه الملاحظات لا ينبغى أن تنسينا أننا أمام مريض، يعانى، وقد يتدهور، وبالتالى فنحن لا نصفق لمرونة حركية واقعه الآخر (الذى نطلق عليه لفظ خيال استسهالا، أويسارع الأطباء ليسمونه بأسماء أعراض مرض كذا أو كيت). نحن أيضا لا نعرض واقعه الآخر لنتفرج عليه، ولكن لنتعلم منه، إذْ أنه هو هو واقعنا الداخلى أيضا، وهو واقع يرزخ تحت عادة وصاية سلطوية جاثمة، ليست بالضرورة هى أفضل الحلول.
وإليكم قراءة أكثر تفصيلا:
……، زيد لم يعد يعرف زيدا، (ما بقيتشى عارف نفسى). هذا ليس تغيرا ووهما بقدر ما هو اكتشاف (وتعرية) مستويات أخرى من الوعى، إذا أضيفت إلى زيد المعروف، أصبح مجهولا، ومع هذا الكشف يصبح الإدراك غير معتاد فيصبح كل شىء مرعبا، لأنه يتعرف عليه من جديد (الناس والعمارات)، وهو أيضا يعيد التعرف على نفسه: فهو لا يعرف إن كان ملاكا أو شيطانا، لعله يطرح احتمال أن يكون ملاكا وشيطانا معا. هذا تساؤل غير التساؤل المائع الذى يخطر على الشخص العادى وهو يتصنع (او يتصور) أنه حائر بين الخير والشر!! ذلك أن زيدا أضاف أن رؤية الشياطين والملائكة هى من قدراته الخاصة الجديدة.
“وعندى قدرات تانية مش عند أى حد تانى، زى إنى باشوف الملايكة والشياطين تظهر لى فجأة، وتختفى”.
ثم إن مرونة نقلاته بين مختلف مستويات الوعى وتفاصيل محتوى الداخل هى التى سمحت له أن يكون المهدى المنتظر الذى سوف يخلص الناس من شرور الجواسيس والصهاينة، وأمريكا واليهود، ثم هو يحتاج أن يقر أن هناك صوت حقيقى (من الداخل مهما أسماه الأطباء هلوسة): “إنت ذات الله”. هذا بعد أن يقول له نفس الصوت “الناس دى مش حاتسيبك فى حالك”.
الواقع المرضى والواقع الإبداعى:
لاحظنا فى الإبداع الفائق فى نص محفوظ أن ثمة نقلات مفاجئة، وتناقضات مفيقة، لكنها فى نهاية النهاية، تتمحور حول محور يتجمع فى دلالات جديدة موقظة وجميلة، مهما بدت غامضة فى البداية. الأمر هنا يختلف، فبرغم رحابة المساحة التى يتحرك فيها الداخل نتيجة ثورة المرض المـُجـْهـَضة، وبرغم وفرة التناقض ودلالاته، إلى أن التناثر والتفسخ هو المعبر الأخطر المتربص، كما يلى:
أولا: إنه فى الوقت الذى يعتقد فيه زيد نفسه أنه المهدى المتظر، وأنه مبعوث العناية الإلهية لكشف الجواسيس والصهاينة، بل يناديه الصوت أنه “ذات ا”لله، فى نفس هذا السياق هو يشم رائحة براز حمار، ويميزها وحده، فيتقمص الحمار، ليصبح هو حمار العزيز.
ثانيا: مع إحياء الحدس الإحساسى كوسيلة معرفية، راح زيد يصنف البشر حسب إيمانهم وكفرهم بروائحم، ربما قريبا مما فعله غرينوى بطل العطر (فى رواية العطر) إن بداية تلك الرواية تنبهنا أن المؤلف عرف الناس بروائحم قبل أن يفعلها جرينوى، فقد راح يقدم لنا العصر هكذا:
“.. كانت رائحة الفلاح كريهة كرائحة القس،…..كانت طبقة النبلاء كلها تنضح بنفس الرائحة الكريهة بما فيهم الملك نفسه الذى كانت تفوح منه رائحة حيوان مفترس، ومن الملكة رائحة عنزة شمطاء….إلخ”
يأتى زيد هنا ويصنف البشر بروائحم وألوانهم، ولكن بصورة مباشرة أقل إبداعا:
”…. وباقدر أعرف إذا كان إللى قدامى دا مرتد وكافر ولا مسلم لو شميت ريحة معينة مش حلوة يبقى مرتد أو كافر، والمسلم الحقيقى له ريحة خاصة…،. ولو شميت ريحة براز حمار – بابقى أنا لوحدى إللى شاممها – أحس إنى أنا الحمار بتاع سيدنا عزيز وربنا أعاد بعثه فى صورتى.
وإذا كان غرينوى بطل العطر، قد أمضى كل عمره يؤلف –يبدع- لنفسه رائحته الإلهية المتميزة الخاصة، فإن زيدا هنا حصل على رائحته الخاصة الجميلة من خلال حيلة مرضية نفت البشر من حوله، فلم تتبق له إلا رائحته الخاصة بمختلف تقلباتها التى ذكرها.
“وممكن أشم ريحة حلوة جداً، من غير مايكون فيه حد معايا أو حد معدّى”
ثالثا: إن تغير الأصوات التى يسمعها من أصوات تبشره باختياره مبعوثا إلهيا، أوأنه ” ذات الله”، إلى أصوات المطاردة، ثم الاقتصار على أصوات العذاب والأنين، يمكن أن يشير إلى: كيف أن محتوى الوعى الآخر هو زاخر بكل آلام البشر، وليس فقط بالآلام الشخصية، تلك الآلام التى عبر عنها زيد كالتالى:
“. وباسمع أصوات رجالة بتتعذب، أصوات آلام وأنين غريب وأصوات صراخ. فى أول التعب كنت أسمع صوت راجل يقول لى: “الناس دى مش حا تسيبك فى حالك” “إنت ذات الله” وساعات أكتر من صوت يتكلم علىّ. لكن دلوقتى كلها أصوات العذاب والأنين”
“زيد المنتظر” فى مقابل “المهدى المنتظر”
واصل زيد تناول بعض العقاقيرالقوية (النيورولبيتات) التى تهدئ ثورة المخ القديم، فى نفس الوقت الذى واصل فيه حضور العلاج الجمعى بشكل متقطع للأسف، لكنه عاد إلى إبداع سجاده، كما نجح العلاج الجمعى فى ترجمة بعض الخبرة المرضية إلى احتمال خبرة إعادة بناء الذات.
مثلا فى إحدى جلسات العلاج الجمعى، عرضت فكرة المهدى المنتظر باعتبار أنها تعلن أن ذواتنا فى تشكل مستمر، وأن زيد “الأن” ليس هو نهاية المطاف، فثم زيد منتظر، وهو يتكون من جماع طبقات وعيه باستمرار، وذلك من خلال إبداعه وعلاجه ومراحل نموه. فى تلك الجلسة العلاجية التى مثل فيها زيد المريض دورا حواريا مع زيد المنتظر(مينى دراما)، عرض على بقية افراد المجموعة العلاجية أن يحاور كل منهم قرينه المنتظر (مثلا: حمدى المنتظر، سعاد المنتظرة، خليل المنتظر…، الدكتور أنس المنتظر- كلها أسماء مستعارة طبعا) ونجحت التمثيلية وحل زيد المنتظر محل المهدى المنتظر.
وبعد: دعوة أخيرة حذرة
هل يقبل القارئ أن يجرب مع نفسه أن يتحسس أو يتبين أو يحاور ما يمكن أن يسميه باسمه المنتظر، أى أن القارئ شكرى مثلا يسمح لنفسه ولو من باب المداعبة، أن يخاطب شكرى المنتظر، ولميس تسمح لنفسها أن تتحسس من يمكن أن تكون لميس المنتظرة، وهكذا؟
صحيح أن أى منتظر هو غير واضح المعالم، لكن لا ينبغى أن ننفيه بسبب هذا الغموض حتى لا نغطيه بوعى زائف، أو ينطلق منا مهديا منتظرا دون إذن.
هل يجرؤ أى منا أن يسمح لواقعه الآخر (ما نسميه خيالا) أن ينشط بمسؤولية مناسبة ليتخلق مع ما نعرف، إلى ما لا نعرف؟ ثم هو يطمئن إلى العودة بيقين مضمون؟
فهو الإبداع.
الفصل الثامن ربّى كما خلقـْـتَنى
الفصل الثامن ربّى كما خلقـْـتَنى
“فطرة الله التى فطر الناس عليها”. وصلتنى تلك الحقيقة من كل مصدر، حتى تيقنت أن الوعى الإيمانى هو أصل فى الوجود البشرى البيولوجى الكيانى الممتد. الفطرة لغة هى”..الطبيعة السليمة لم تُـشَبْ بعيب..” (الوسيط). هذه الفطرة تتجلى فى الأديان عبادات وعقائد: المعتقد يخاطب العقل الظاهر كما نعرفه، أما العبادات فهى تـُـحرك الإيقاع والجسد والحركة والجماعة، تفعل ذلك بانتظام وتكرار لتنقية الوعى السليم نحو ما خلق به، فإن حسنت وانتظمت سهلت الحوار بين مستويات الوعى الممتدة من الفردة إلى الناس إلى المطلق إلى الغيب، فتوجه الفطرة إلى ما جعلت له.
لابد أن نفرق ابتداء بين تصويرنا للطفل كيانا بريئا ساذجا غُفْلا، وأحيانا أبلهاً، وبين حقيقة الطفل مشروعا بشريا واعدا نموا وتطورا؟ لابد-كذلك- أن نتذكر أننا إذ يتقدم بنا العمر، لا يتقدم على حساب ما هو طفْل فينا. المفروض أننا لا نحذف طفولتنا لنحل – كبارا- محلها، وإنما أن نتقدم فى العمر بأطفالنا فينا، فى جدل مستمر، وليس مجرد تبادل نوْبى، وأن هذا يساعد على احتفاظنا بتناغم مستويات الوعى كما أسلفنا حالا.
وأخيرا: فإن البدائية غيرالفطرة، بل تكاد تكون عكسها، البدائية تشير إلى مرحلة كامنة قديمة قابعة متربصة بين جنباتنا، بقدر ما هى خارجنا عشوائية فجة تتمثل فى دوائر مغلقة فى جغرافيا ثابتة فى مكان البدائية يمكن أن تنقض علينا فى أى وقت منفصلة عن باقى ما هو نحن. أخطر أنواع البدائية هو ما لبس ثوب المدنية القاتلة القاسية الميكانيكية العمياء المتعملقة (فى العراق أو فلسطين أو السودان أو أفغانستان أو جواتيمالا مثلا أو …. أو….)، مثلها فى القبح والخطر:
الفطرة السليمة عكس البدائية تماما، الفطرة هى “المشروع البشرى التطورى”. هى البرامج البيولوجية الجاهزة للجدل، الحاضرة نبضا فى الإيقاع الحيوى طول الوقت، طول العمر. الفطرة هى أصل وقوانينَ وبرامجُ ونبضُ وحركةُ وجدلُ معا.
كل هذا يبدأ منذ الطفولة الباكرة.
السؤال العملى الذى يطرح نفسه بإلحاح بعد هذه المقدمة يقول: إذا كان الأمر كذلك فكيف نرعى الطفل الذى يمثل هذه الفطرة أكثر، وكيف نحافظ عليه حتى يصير وعينا “بنا-إليه” هو الطريق السليم أن يحقق ما خلقنا له.
الطفل يولد وهو يحمل كل يقين برامج فطرته القادرة على بسط نفسها فى الاتجاه الصحيح.
كيف نحسن الاستماع إلى تلك الفطرة، بدلا من أن نشكلها قسراً فيما هو ضدها من أوهامنا وضلالاتنا؟ كيف نحافظ على سلامة خطى أطفالنا “بها/نحوها” برغم أننا نزعم أننا نخاف عليهم.
نستمع إلى الحفيد هذا، وهذا درس تعلمته من حفيد لى: أولا وما دار بينى وبينه بعد حادث الأقصر الإرهابى المشئوم.
حكاية (1):
الله أكبر
النص: (نشر النص فى 26/11/1997 نشرت فى روزاليوسف 7/10/2005)
(حين سمعت خبر الاعتداء على السائحين بالأقصر) “… هبطت بى الأرض جزعا وكأنى أتكوم، حططت على أريكة غاصت بى حتى كدت أنفذ من قعرها، وضعت يدى على خدى وصمتّ، ولاحظت زوجتى ما حل بى فسكتت، فهى تعرفنى حين أحزن هذا الحزن فلا أنبس، لكن حفيدى “على” (أربع سنوات) -… تقدم و قال لى فى حذر:”جدى إنت زعلان؟”، رددت فى اقتضاب “أيوه”، فلم تكفه الإجابة إذ يبدو أن جلستى ووجهى بيّنا له درجة من الحزن فوق تصوره، فتمادى:”إنت زعلان قوى؟”، فكررت ردى بنفس الاقتضاب ومازالت يدى على خدى، والأرض تغوص بى أكثر فأكثر: “أيوه”، لم تكفه الإجابة برغم أن صوتى كان أعلى، يبدو أنه لم يَخَفْ، فمضى يقول:”إنت زعلان أكتر من كل حاجة ؟”، قلت بنفس الطريقة، وبصوت أعلى:”أيوه”، وكدت أزيحه بيدى بهدوء بعيدا عنى حتى لا أضطر إلى نهره. يبدو أن حزنى كان أوضح وأشد من أن يجعله يدعنى وحدى، فاستمر مندهشا متعجبا: ” إنت زعلان أكبر من كل حاجة؟ يعنى أكبر من البيت ده بحاله، قلت وقد كدت أزيحه أيوه، فاستمر بإصرار قائلا، يعنى أكبر من ربنا ؟” فقلت مفحما: لا طبعا”، فقال على الفور: أيوه كده، عشان ما فيش حاجة أكبر من ربنا. فهدهدت ظهره ولم أستطع تقبيله، لكن رسالته وصلتنى.….
القراءة:
.. حين قرأت هذا النص الآن بعد ما يقرب من عشر سنوات رحت أتساءل عما نفعله بأطفالنا الذين يقولون بتلقائية مثل هذا الكلام فى سن 4 سنوات، ثم نراهم عكس ذلك تماما بعد خمسة عشرة عاما أو عشرين؟؟ لم أربط آنذاك بين حفيدى فى الرابعة من عمره، وبين “القتلة /الذين قاموا بهذه الجريمة، ألم يكونوا يوما ما أطفالا مثل هذا الطفل؟. ما الذى يجرى لهذا الطفل حين يكبر؟ لماذا لم تصل هؤلاء الشباب القتلة تلك الحقيقة البسيطة التى أوصلها لى “على” أن “الله أكبر”، فخفف عنى بكل يقين، لقد كان أحرى – لو وصلهم مثل ذلك- أن يكونوا غير ذلك. “الله أكبر” !!!
حكاية (2)
نتعلم منهم ونحن نعلمهم
الأرجح عندى أن الأطفال تصلهم أنغام وإيقاع وتراتيل الكلمات مع وبدون معانيها اللفظية الموصى عليها، لا أستثنى من ذلك قراءة القرآن الكريم، لابد وأن ذلك الإيقاع النابض – إن كان فطريا إيجابيا – يحرك الوعى فى اتجاه ما خلق له، سواء فهمنا الألفاظ تحديدا، أم لامست الوعى فى سلاسة كما حدث لحفيدى مع “الله أكبر”، ثم هى تشرق فينا لاحقا حين نحتاجها.
وهذه هى مقدمة هذا العمل([1]) للأطفال خارجنا وداخلنا:
الكلام الحلو عمره ما يبقى حلو،
لو فضل دَشّ وْخلاصْ
الكلام الحلو هو عهدنا،
مع ربنا
نفسى احافظ عَالأمل
والكلام الحلْو، عمره ما يبقى حلو،
إلا لما يتعمـّـلْ
شـُـفـْـتـِـنـِـى إبنك، لكنـَّـك لسّه إبنى
يبقى ممكنْ إحنا نتصاحب ونِبْنى
ويّـا أولادى وأحفادى وبناتى
ويـّا شوَفَانى، وأَّيامى، وآهاتى
……………………..
كنت قرَّبت أقول ما عادْشى فايدة
إنما لْقيت العيالْ، ويّا البناتْ: همّا الفراودة
قلت يالله – رغم كله-… ناخدها جـَـدْ
ما لقيتشى الحارة سدْ
ياللا نعملها سوا: بكره وِ بعُدهْ
مِالنهارده، الحلوِ برُضهْ،
لو نحطّهْ ،عالـَى بعضُـهْ،
القراءة:
هل لاحظتم معى ذلك الكم الهائل من الكلام والنصائح والمواعظ التى نغرق بها – نحن الكبار – وعى أطفالنا بمناسبة، وبدون مناسبة؟
الإشارة الثانية الواردة فى النص، والتى قد لا ينتبه إليها معظم الكبار هى أنه: لو أحسن الكبار الإنصات لما يقوله الأولاد والبنات (الإنصات الحقيقى، باحترام حقيقى، وبلا تفويت من أعلى)، فلربما يكتشفون ما أكتشفه عادة مع أحفادى (ومرضاى)، حين أتعلم منهم، فيكونون هم الوالدين وأنا الأصغر، لكن علينا ألا نبالغ فى هذا الاتجاه، فننسى حاجتهم المتجددة إلى الدعم الأبوى الصريح، من هنا لا بد من الاستدراك، “شفتنى إبنكْ لكنــَّـك لسه إبنى”،..إلخ
إن الذى يجعل الكلام، العلاقات، وتبادل الأدوار، حقيقة ممتدة، هو أن يجمع كل ذلك قاسم مشترك عام يتجمع إليه الكبير قبل الصغير. هذا القاسم المشترك هو أشبه بالعقد الإيمانى الاجتماعى معا الذى يتجلى فاعلا حين يستشعر الجميع أن التعاقد هو بين البشر كافة، لأنهم بشر، وليس بين طرفين فحسب، هو عهد مع الحق سبحانه وتعالى، بمشاركة الأطراف المعنية، هذه العلاقة فيها ما يذكرنا بالفرق فى نوع التواصل تحت مظلة أكبر وبين نوع التواصل الثنائى المنغلق، وكأن العلاقات البشرية المحدودة بين اثنين أو جماعة متماثلة تصبح أقوى وأجمل حين تمتد للأكثر، كذلك هى تصبح أكثر أمانا وثقة حين تكون أنغاما فطرية خلاقة، فى لحن كونىٍّ ممتد.
حكاية (3)
أسئلة الأطفال فلسفة عملية
توارت الفلسفة الفعل، الحقيقية، وراء ما تسمى الفلسفة الكلام وشبه الفلسفة، توارت فى صفحات الكتب، وأحيانا فى قاعات المحاضرات، أو فى بعض الرسائل الأكاديمية. الأطفال ليس لهم شأن بكل ذلك، هم ما زالوا يسألون نفس أسئلة الفلاسفة الأصيلة، يسألون عن الحياة، وعن الموت، وعن الأصل، وعن المصير، نحن عادة نجيبهم بأجوبة حاسمة ومطلقة، وبيقين لسنا نحن على يقين منه، نحن نتصور (ربما دون أن ندرى) أننا نستطيع أن نخدعهم كما خدعنا أنفسنا فى أعماق أعماقنا، لكنهم يعلمون ذلك دون تصريح منا أو منهم، نحن لا نعلم – غالبا – أننا لا نعرف حقيقة ولا يقينية الأجوبة التى نجيبهم بها عن تسائلاتهم الطفلية الفلسفية المقتحِمة.
النص
الحياه هىّ الحياهْ
أغلى حاجه فيها هيّهْ،
إنّى عايشْ:……وِسْط ناسْنا الطيبينْ
حتى ناسنا النـُّـًصْ نُصْ
همّا ناس حلوين بشَاكْل
هما برضه طيبين.
ما انا منهم،
يبقى لازم زيهمْ،
حلو خالصْ
بس انا برضه بالاقينى ساعاتْ:
كده نص نص
قلت أتعلم ، وابُصّ:
***
الحياة الحلوهْ حلوهْ
حتى لو مُرّة وتْتأَمِّل شويهْ
راح تشوفْ مرارتها حلوةْ
الحياة مش هيصهْ سايبه منعكشَةْ
الحياة حركهْ جميلةْ ْ مدهشةْ
بس بتخوّف ساعاتْ
لمّا بتعرِّى الحاجاتْ
باترعب من خطوتى الجايّة، ولكنْ
باترعب أكتر لو انّى فضلت سـاكنْ
كل ما بالـْقانى ماشى: ما بَـنَاتـْـكُمْ،: أنبسطْ.
إيدى ماسكة فى إيديُكم، بابقى خايف إن واحدْ ينفرطْ
داللى حلو ليَّا بيكمْ،
برضو حلو ليكو بيَّا
يا حلاوة لو تكون الدنيا ديَّه
زى ما ربى خَلَقْناَ: هِيّا هيّهْ،
تبقى رايح نحوها، تلقاها جايَّه.
***
الحياة الحلوة تِحلى بْكُلّنا
إنتَ وانَا
كل واحد فينا هوّا بعضنا
بس مش داخلين فى بعض وهربانين
زى كتلةْ قَشّ ضايعةْ فْ بحر طين
كل واحد هوّا نفسُه، بس نفسُه هىّ برضه كلنا
مالى وعيُـــه بربّنا
سألت صديقى الصوفى الأمى عن ما يعنيه، لم يرد. حين تأملته وجدته يعنى تماما ما يقول دون أن يعرف تفاصيله، رأيته يسعى ” بكل ما هو” إليه، يسعى بدون “يعنى ماذا”، ولا “إذن ماذا”؟ يردد مثل هذا النداء كل ساع إلى المعرفة آلاف المرات، حتى دون أن ينطق ألفاظه.
ألا ترى معى فى ذلك تفعيلاً للفطرة دون إلغاء العقل. “ربى كما خلقتنى”، ألا يشير هذا الترديد الهادئ المتزايد عمقاً إلى بعض تجليات ما جاء فيما سبق.
[1] – يحيى الرخاوى: “أغانى مصرية: عن الفطرة البشرية للأطفال ó الكبار وبالعكس”، الطبعة الأولى (2017)، منشورات جمعية الطب النفسى التطورى.
الفصل التاسع: النجاح غاية أم وسيلة
الفصل التاسع: النجاح غاية أم وسيلة
فى حديث الامام الشيخ محمد عبده([1]) مع الفيلسوف هربرت سبنسر (1820/1903) عَلق الإمام على نقد سبنسر لمادية الحضارة الغربية قائلاً:
“….هؤلاء الفلاسفة والعلماء (يقصد: العلماء الغربيين) الذين حققوا كل هذه الاكتشافات فى الطبيعة والمادة “…(وعدد بعضها فى الكيمياء والفيزياء..وغيرهما)… أفلا يتيسر لهم أن يجلوا ذلك الصدأ الذى غشى الفطرة الانسانية ليصقلوا تلك النفوس…؟”
ثم أشار إلى دور الدين والايمان فى الإسهام فى جلاء هذا الصدأ الذى غشى الفطرة البشرية.
لن نجلو الصدأ الذى حل على الفطرة البشرية بأن نفسر نبض الدين بظاهر العلم، أو أن نقرأ آيات تصف من لا يحكم بما أنزل الله، فنختزل فهمها إلى صفقة تهدف إلى “إدارة الدولة”، وصلنى أن الحكم بما أنزل الله – استلهاما لا تفسيرا – هو أن نحسن فهم الطبيعة كما خلقها، الطبيعة البشرية، والطبيعة الكونية، فكل هذا من عنده سبحانه، فهو أنزله، والحكم به هو أن نوجهه “إلى أحسن ما هو”، لعل هذا هو الذى دعى أحد المتصوفة أن يعّرف طريقه إلى الله بأنه: “..أن تملأ الوقت بما هو أحق بالوقت”. نحن أيضا نتعرف على الفطرة كما خلقها الله من الطفولة فى نقائها، ومن الطبيعة فى اتساقها وجمالها، وذلك من خلال كل وسائل المعرفة وقنواتها دون خلط أو استسهال أو تسطيح أو تعسف أو احتكار لأحد المصادر دون غيرها.
حين أقول إن الله أنزل قوانين الفطرة لا أقصد تحديد أى نص إلهى بذاته، وإنما أقصد أن كل علم أو معرفة أو إبداع حقيقيين هو من عند الله، بمعنى أن إبداع المبدع، وإنجاز العالم، هو من عند الله من حيث المبدأ، وهو لإزالة الغشاوة عن الفطرة، بغض النظر عن المعتقد الفكرى للمبدع أو للعالم. هذا الرأى مخالف تماما للتفسير الذى يسمى الإعجاز العلمى للنص الإلهى، لأن هذا الأخير لا يضيف إلى العلم أو إلى المعرفة إلا مغالاة فى التأويل، وتسطيحا للمعرفة، وتشويها للإيمان، اللهم إلا إذا كان إشارة إلى استلهام متجدد لمعنى موازٍ، وليس تعسفا قاصراً على آية نابضة بمعلومة لا تؤخذ إلا فى سياقها الإيمانى.
أين يقع النجاح كما نعرفه اليوم من نبض الفطرة وغايتها؟ هذا هو سؤال اليوم؟.
النجاح: غاية أم وسيلة ؟
قيمة النجاح هى من أعظم القيم الدافعة للتفوق والإنجاز والفرح، هذا ما يؤكده كل شىء تقريبا فى حياتنا. “مالاقيش فرحان فى الدنيا قد الفرحان بنجاحه”، – “الناجح يرفع إيده”..إلخ هذا صحيح يا عم عبدالحليم يا حافظ. أوحشتنا!! من يستطيع أن ينكر أنه يريد أن ينجح؟ وينجح جدا؟ وينجح أكثر من غيره، ويتفوق عليه؟ ما العيب فى ذلك؟ لا يوجد عيب طبعا. ألا أريد شخصيا أن أنجح الآن فى توصيل فكرتى لمن يهمه الأمر، ومن لا يهمه الأمر؟ ألا نتكلم طول الوقت عن نجاح هذا الفيلم وحصده كذا من الإيرادات، وفشل ذلك الفيلم برغم عرضه فى العيد؟ ثم خذ عندك النجاح “الذى هو”، فى المال والتجارة، وكافة أنواع البيزينس والشطارة !!! ثم حديث هؤلاء بدورهم عن “أعداء النجاح”، والحقد الذى يلاحقهم من كل السـّماويين على الأرض. ما حكاية النجاح ومنذ البداية؟ وكيف ينقلب إلى عبء ثقيل وامتحان صعب.
يولد الطفل ليعيش، لا لينجح، صحيح أنه ينجح أن يمشى بعد أن كان يزحف، وينجح أن يكون جافا بعد أن كان يبلل كل ما يرتديه أو من يحمله، لا المشى هدف فى ذاته ولا الجفاف مطلب مستقل.
الذى يحدث غالبا، وخاصة عند الطبقة المتوسطة، هو أن ينقلب النجاح –خاصة فى الدراسة – إلى غاية فى ذاتها، بل إن النجاح يصبح غاية طاردة لغيرها من الغايات الأخرى حتى لو كانت أرقى، وقد تدور عجلة النجاح حول نفسها، فلا يكون بعدها إلا مزيد من النجاح المفرغ من وظيفته مهما حسنت النوايا.
قالوا: وكيف كان ذلك؟
فى مجتمع ذى فرص محدودة، وخاصة لأبناء الأسرة المتوسطة وما دونها، يتم الإعلاء من قيمة النجاح “الغاية”، والتفوق المقدس، فى مجال التحصيل الدراسى، منذ سن مبكرة، الأمر الذى يحتد تماما قرب الثانوية العامة، حيث كثيرا ما نسمع كيف أن المسألة قد أصبحت باختصار “مسألة حياة أو موت”، وحين تحتل قيمة التفوق والنجاح هذا المقام الخطير، قد يتم تحقيقها على حساب قيم نفسية وإنسانية ودينية رفيعة مثل: الأمانة أو التراحم فى العلاقة بالآخر، أو الإبداع، أو الإيمان الحقيقى.
أزمة الثانوية، والابن المشروع الاستثمارى
إن ما يسمى أزمة الثانوية العامة للمتفوقين، أو الذين كانوا متفوقين ثم فجأة تعرقلوا وهم يقتربون من هذه المرحلة، تعلن بوضوح رفض كثير من الأولاد والبنات لما وصلهم، أو لمِاَ صيغوا من أجله حتى هذه المرحلة. هم يدركون – فى داخل داخلهم – فى هذه المرحلة الحرجة من العمر كيف أنهم بالنسبة لأهلهم لم يعودوا إلا أداة مصقولة يتم إعدادها من خلال التفوق لتحقيق النجاح. يبحث الناشئ عن ماهيته، أو هويته، أو وجوده، فلا يجد نفسه إلا كما صوروها له أو تصوروها عنه، باعتبار أنه ليس إلا “مشروع استثمارى” لابد أن ينجح. من هنا يصل إلى وعيه أنه “غير موجود” برغم نجاحه، ثم يدرك بالتدريج أنه – غير موجود- بسبب نجاحه الذى حلّ محله، فهو إنه لم يوجد أصلا إلا ككتاب مصقول يتم التأكيد على نظافته، وجمال إخراجه، ومدى جاذبيته، دون النظر إلى محتواه أو حقيقة معناه، أو فائدة توظيفه.
قراءة من الداخل
فى محاولة قراءة من داخل هذا الناشئ يمكن أن نكتشف أنه لا يرفض النجاح، وإنما هو يرجو أن يستعمله وسيلة إلى ما بعده. إلى ماذا؟ وهل بعد النجاح شىء؟ ترد الفطرة السليمة بقولها: نعم، النجاح ليس إلا وسيلة لدعم الفطرة كما خلقها الله “بما هى لما هى”. قيل وكيف ذلك؟ قالوا: بأن تتطور إلى غايتها فى نمو متصل. قيل يعنى ماذا؟ قالوا: قد يعنى ما يلى:
كيف لنصل هذا للنشء علينا أن نتعرف على فطرتنا كما خلقها بارئها بمختلف طبقات وعينا معا، فنعيد تشكيلها، فنكتشف أنها تتناغم مع كون متسع لا نعرف تفاصيل معالمه، لكننا – من خلال الإبداع والناس والعمل- نتعرف على طبيعتنا – فطرتنا- حالة كوننا نتناغم مع طبقات الناس ودوائر الكون، توجـُّهاً إلى معرفة أشمل بلا نهاية.
لو حاولنا أن نستمع لما يقوله هذا الناشئ (أو الناشئة) فى عمق وعيه، لوجدنا فطرته تحاول عرض ذلك بأبسط الكلمات وأنشط التلقائية. هو لا يرفض النجاح، لكنه يريد أن يضعه فى محله كوسيلة إليه، عن طريق التعرف على نفسه، نحو ربه، جهادا أكبر لإبداع أروع.
النص:
هوَّا حدّ يحب يسقط؟
هوَّا حد يحب يغلط؟
آنا طبعا نفسى أنجحْ
عايز افرحْ.
بس ما يحلّش محلى: “إنى ناجح”
إنت مش واخدْلى بالك، إنت سارح.
فى اللى نِفسك انى اجبيه لحد عندك.
آنا باعبُـد ربنا.
ليه عايزنى أبقى عبدك؟
آنا عبده هوّه وحده
يعنى حاسعى لحد حدّه
بس هوه تعالى خارج كل حد
وانا باسعى له ومش قايل لحدْ
طَبْ حاقولَّك:
آنا طول عمرى هنا من قبل ما انجح
آنا موجود بعد ما انجح
يعنى لو تعترفوا بيـَّا لو سقطتْ
أو غلطتْ
حاعرف انى قد كبرتْ
أرجع أنجح شكل تانى
مش بعيد مالأولانى
بس أجمل
أصل هوّه الأصل يا با، تبقى تعقلْ
تنتبهْلى تشوف طريقى، واللى خلقكْ
حاتلاقينى وصلت قبلكْ
آنا رايح ناحيتُهْ
زى ما هوّا خلقنى بحكمتُه
يعنى مش محدود بوهمى إنّ “انا”
أو كما رسمتْنى أوهامكم هنا
أنا حانجح مش عشانكم
مش عشان خاطر عيونكم
النجاح دا هوّا ليّا، وانا منكم
النجاح الحلو يعنى:
هوّا إنى:
أنتفع بنجاحى لينا، يعنى ليّا
إنى أسعد ليـّـا فيكم، يعنى بيّا
إنى أفـْـهَم نفسى أكَتْرَ
يعنى أفهمكم واقدَّرْ
يعنى أكْبـرَ
النجاح دا زى عربيَّة جميلة،
تبقى حلوة، لو أسوقها،
مش تدوسنى !
نفِسى مرَّة فِى عواطف مالأصيلة
مش تبوسنى:
لما أنجح،
وامّا ما انجحشى كإنى، مش تبعكم
القراءة:
نلاحظ معا تعبير “بس ما يحلش محلى “إنى ناجح”، هذا هو ما أشرنا إليه حالا من حيث أن النجاح هو نتاج الوجود الصحيح، وفى نفس الوقت هو دعامة له، وسيلة إليه. وليس بديلا عنه.
هل يمكن أن يفهم الأهل كيف وضعوا العربة امام الحصان، حين علقوا – ربما لا شعوريا- اعترافهم بابنهم على نجاحه؟ الأوْلى أن يكون نجاحه نتيجة أنه موجود معترف به، وبالتالى قادر على أن يطلق قدراته. هل يستطيع الصغير أن يخترق ما لحق به من إلغاء؟ هل يمكن أن يرد على هذا التجاوز، ليس بتمزيق نفسه وإزاحتها – بالمرض عادة – وهو يتصور أنه لا يمزق إلا كتبه ولا يعطل إلا دراسته؟ هل يمكن أن تهديه فطرته إلى أن تتجه خطواته نحو المعرفة المتصاعدة على سلم النجاح إلى الناس فالعبادة والإبداع بالصورة السالفة الذكر؟
إن الصغير يريد أن يستولى على ناتج نجاحه ليتكوّن به، وفى نفس الوقت يُـسكت أهله عنه باعتبار أنه حقق ما أرادوا، لكن لغير ما أرادوا.
نستمع إليه:
“…. أنا حانجح شكل تانى،
واشترى حتى اللى باعكم
ليكم انتمْ وانا معْكم
هوّه دا الأصل با سيدى !
تبقى تعقلْ،
تنتبهلى تشوف طريقى، واللى خلقك،
حاتلاقينى وصلت قبلك.
آنا رايح ناحيتُهْ، زى ما هوّا خلقنى بحكمتُه،
يعنى مش محدود بوهمى إنّ “انا”،
أو كما رسمتنى أوهامكم هنا.”
هكذا يمكن أن ينقلب النجاح، هو هو، إلى وسيلة للنمو، وليس غاية للتكاثر يقول صاحبنا:
آنا طول عمرى هنا من قبل ما انجح
آنا موجود بعد ما انجح
يعنى لو تعترفوا بيـَّا لو سقطتْ
أو غلطتْ
…حاعرف انى قد كبرت،
أرجع أنجح شكل تانى،
مش بعيد مالأولانى،
بس أحلى”.
الأهل لا يعرفون – غالبا – من معانى النمو إلا التقدم فى السن (بأمارة أعياد الميلاد مثلا) أو أن الولد أصبح أطول من أبيه، أو انه حصل على الشهادة الكبيرة، أو تزوج، كل هذا لا يعلن إلا مرور الأيام، والسنين، أما النمو بمعنى التغيـّر الكيفى، نحو مزيد من التطور، فهذا ما لا يعنيهم، بل قد يرعبهم حتى يعتبروا أن النمو، مثلا فى فترة المراهقة – ليس إلا مرضا مستعصيا.
يقول صلاح جاهين
قصيدة: “الولد والبنت”
النص
“البنت فارت والولد خنشر
يا ميت ندامة ألف بعد الشر
يا ريتها كانت نزلة معوية
ولا وجع فى البطن يتدبر
إلا اللى صابهم كان قضى ونابهم
مالوش دوا ولا طب يا سى أنور
البنت فى الإعدادى لسّاها
كان إيه لزومه الغصن يتدوَّر
والأّ الولد دا يا دوب دخل ثانوى
ليه خده ينطر شوك بدى المنظر
مش لمّا بس يكملوا علومهم
ما كانشى يومهم، يا النهار الأغبر
القراءة
هذا التأجيل: “مش لما بس يكملوا علومهم”، نفهم منه أن الأهل يرفضون حتى البلوغ فى المراهقة، إلا بعد انتهاء مرحلة الدراسة، وكأن للنمو أولويات من حقهم التحكم فيها. إنهاء الدراسة لا يتم أبدا، الدراسة هى نوع خاص من التعلم، والحياة كلها تعلم فى تعلم، ويا ليته وعدٌ جاد.
الفرض
النمو يتم بقوانين التطور بالنسبة للنوع (ربما برامج وضعها الله سبحانه فى أصل الدّنا”DNA)، وإذا بالإنسان، حين تجرأ فحمل الأمانة، راح يسهم فيها بوعيه وإبداعه بالنسبة للفرد والمجتمع على حد سواء. هذا الوعى ليس بنفس شجاعة ومغامرة مسيرة التطور، ومن ثم نُرْعَبُ من مواصلة النمو أفرادا فجماعات، يبدو أن الذى يحدث هو أننا حين نعجز – شخصيا – عن مواصلة النمو كبارا نَحُلّ فى أولادنا حتى قبل أن يولدوا، نتصور، ونأمل، أنهم سوف يحققون ما عجزنا نحن عنه، فينمون نيابة عنا، لكنهم ما أن يولدوا حتى تنقلب الحال، فبدلا من أن نواكبهم آملين مسئوليين داعمين، نسارع بوضع قيم متوسطة للحياة وأهدافها، باعتبارها نهاية المطاف، ومن أهمها “النجاح”، الأمر الذى يعيقهم فيظلون أقزاماً مثلنا.
النمو هو السعى المتصل إبداعا نحو المعرفة المفتوحة النهاية التى تـُوصـّلنا إلى وجه الحق سبحانه وتعالى، فيكون التوقف عند أى هدف دون ذلك، باعتباره نهاية المطاف، هو نوع من الشرك بالحق تبارك وتعالى. كلمة التوحيد”لا إله إلا الله” هى دعوة شديدة العمق للسعى إلى حرية حقيقة تسمح بالنمو و الإبداع كما خلقنا الله بشكل متصل مفتوح النهاية، التوحيد الحقيقى يسمح بحرية إبداعٍ متميز لا يمكن أن يحل محله أمر آخر، يتجلى الشرك بالله إذن حين تحل الوسائل أو الأهداف الوسطى محل النمو المفتوح النهاية بالإبداع والعبادة: نحو الحق سبحانه.
النجاح وسيلة لما بعده
يحدد متن الأغنية موقع النجاح كوسيلة إلى ما بعده، وإلا كان كارثة لمن يتوقف عنده….
من بعض مظاهر، ما يسمى “أزمة منتصف العمر”، أن يكتشف رجل الأعمال الناجح (الشديد الثراء ولا مؤاخذه) أن نجاحه الذى حققه، لم يعد عليه بما يميزه إنسانا، لم يسعده كما كان يتصور، فيصاب بما تيسر من معاناة تصل فى كثير من الأحيان إلى حد المرض، اللهم إلا إذا زاد فى سرعة دولاب الجرى فى المحل، لنجاح أكثر بريقا، يعميه عن أى شئ آخر.
الحل لهذه الأزمة قد يتمثل فى وقفة مراجعة إبداعية تعيد تقييم كل شئ، وذلك مثلا بأن يهتدى هذا الناجح إلى تسخير ناتج نجاحه هذا لما يطمئنه، بالمعنى الأصيل للطمأنينة، الأمر الذى لا يتم إلا بأن يصب نجاحه فى نوعية وجوده الممتد فى الناس إلى الله، فيسمح له ذلك الوعى المراجَع أن يشكل وعيه الفائق برجوعه – بكل ما حصـَّـل وجمـَّـع- إلى تسخيره فى دوره فى تعمير الأرض ودعم برامج التطور الحقيقية لأغلب البشر حملا للأمانة وامتدادا فى الوعى.
[1] – ولد الإمام الشيخ محمد بن عبده بن حسن خير الله سنة 1266هـ الموافق 1849م فى قرية محلة نصر بمركز شبراخيت فى محافظة البحيرة، وقد توفى يوم 11 يوليو عام 1905 م 7 جمادى الأولى 1323هـ توفى بالإسكندرية بعد معاناة من مرض السرطان عن ست وخمسين سنة، ودفن بالقاهرة ورثاه العديد من الشعراء.