نشرة “الإنسان والتطور”
الأحد: 22-11-2020
السنة الرابعة عشر
العدد: 4830
كتاب: مقدمة فى العلاج الجمعى
“من ذكاء الجماد إلى رحاب المطلق (1)
الفصل السادس:
من “العزلة وتشكيلات الارتباط الثنائى”
إلى تخليق الوعى الجمعى (2)
مقدمة:
استكمالا لما جاء فى نشرة الأسبوع الماضى، وخاصة فى الجدول الجامع الصعب المكثف – الذى ننصح أن يكون في المتناول أثناء قراءة نشرة اليوم، على الأقل فى نصفها الأول – جاءتنا تعليقات وتساؤلات أرجو أن تجد بعض إجابتها فى نشرة اليوم.
أولاً:
لا يمكن وضع حد فاصل بين أنواع هذه الترابطات وبعضها البعض، ففى حين تتصف أحياء بذاتها بنوع خاص من الترابط، فإن الإنسان الذى يحمل تاريخ كل الأنواع، وتتكرر دورات نموه (تطوره) خلال عمره كله، وهو يمر بكل تنويعات نبضاتها، هو كائن جدير وجاهز أن ينتقل من نوع من الترابط إلى آخر، تبعا لحيوية تجربته، وتفتح مسار نموه، أعنى نموهما، كل على حدة، و”معا”
ثانياً:
فقد يبدأ الارتباط طفيلا، أو حتى تهلكة (أموت فيك وتموت فياّ) حتى إذا استنفد أغراضه يفيق أحد الطرفين أو كلاهما فيصبح تعايشيا أو حتى تكافليا.
والعكس صحيح، فقد يبدأ تكافليا لنفع الاثنين كل على مساره، ثم يُنهك أو يُستهلك، او ينتهى عمره الافتراضى نتيجة سوء تعهده، فينقلب طفيليًّا: حين تنسحب المرأة – مثلا – من المجتمع الأوسع، من العمل، من الناس، تلقائيا أو بفعل فاعل، فتتنازل عن استقلالها، أو حين يُنهك الرجل أو يكسر لسبب ما، فيتراجعً عن مسيرته لتتبناه المرأة: معتمِدًا تماما فيصبح طفيليًّا عليها، وهكذا …إلخ
ثالثاً:
إن الانتقال من نوع إلى آخر لا يسير فى خطى تصعيدية أو تراجعية خطية، وإنما هو يتذبذب تطوراً أو نكوصا حسب المراحل، وحسب تأثير عامل الزمن سلبا وإيجابا، وحسب الوسط المحيط، وحسب الظروف الضاغطة وبقدر الفرص المتاحة وتنوعها.
رابعاً:
إن فرص التحول من نوع من الترابط إلى آخر تظل متاحة باستمرار، وفى نفس الوقت هى تتأثر ببرامج التطور الملائمة، وبثقافة المجتمع المحيط وأيديولوجياته وقيوده، ومساحة الحرية، والسماح بالتغير وفرص الإبداع (إبداع الذات خاصة).
خامساً:
إن علامات فشل نوع من هذه الترابطات تُعلَنُ بأشكال مختلفة، ليست قاصرة على إعلان الاختلافات الزوجية (أو الثنائية) بالطريقة المباشرة، فقد تظهر فى شكل عَرَض نفسى أو مرض نفسى، أو جسدى، أو ربما يعلن الفشل من خلال تغيّر مُنذر فى أى من مجالات التواصل بينهما (التواصل الجسدى أو الفكرى أو الوجدانى أو كل ذلك … إلخ) كما قد يتجلى أو يتفاقم الخلاف مع ظهور سلوك مُبَاعِد فى ذاته، أو تداخل بديل يحرك مستوى آخر من التواصل لأحد الطرفين يبعده عن شريكه بشكل مباشر أو غير مباشر.
سادساً:
إن ظهور أى من إنذارات أو أعراض فشل أى نوع من هذه الأنواع يعتبر فرصة “مفترقية” (على مفترق الطرق) لإعادة النظر، ومن ثم إمكانية التقدم نحو نوع أكثر إيجابية وأطول عمرا، أو قد يحدث أنه بإعلان الفشل تماما ربما تظهر لأى طرف من الاثنين أو لكليهما فرص أخرى بشكل أو بآخر، فيبدأ مسيرة أنجح.
سابعاً:
إن المطلوب ليس هو الإصرار على أن تكون البداية جيدة (تكافلية مثلا) من أول الطريق، لأن ذلك أمر دونه توافر مقومات التكافل الحقيقية لضمان ممارسة بنّاءه على أرض الواقع، وإنما نلفت النظر إلى أهمية الحركة والمرونة إلى ما هو أبقى مهما كانت البداية.
ثامناً:
إن أية بداية – مع ضمان حركية التطور من حيث المبدأ – بأى نوع من الترابط قد تتيح فرصة لتطوير العلاقة (بعد، ومن خلال، أزمات نمو العلاقة، ونمو الطرفين أيضا) إلى نوع أفضل وأفضل نحو التكامل…
تاسعاً:
إن احترام مسيرة الواقع من خلال الممارسة المفتوحة لكل الاحتمالات هو الذى يسمح لدورات النمو والتصحيح بإعطاء أكبر فرصة لحركية النمو بالمراجعة والتصحيح الفعلى.
عاشراً:
إن هذه كلها فروض قابلة للمناقشة والاختبار، وربما احتجنا لكى نقبلها أو نستوعبها أن نرجع نتعلم من حوارات الوعى فى العلاج الجمعى مما يعيننا على ذلك:
من التعدد إلى التكامل “معا”: مفتوح النهاية
كثيرا ما تكون البداية فى العلاج الجمعى ليست من صعوبات أو مضاعفات العلاقة الثنائية، وإنما من الانغلاق الأساسى على الذات فى الحوصلة الشيزيدية، (الشكل) وفى هذه الحال قد تنتقل المسيرة عبر أى من الصعوبات الثنائية أو تتجاوزها مباشرة إلى الإسهام فى تكوين الوعى الجمعى بأقل حاجة إلى الوقوف طويلا فى المرحلة الثنائية، حسب تطور كل حالة، وتطور المجموعة.
انتبهنا إلى أن الفكرة المركزية فى ممارستنا للعلاج الجمعى تنبع من فروض تعدد كيانات الوجود البشرى فى الفرد الواحد، وذلك فى طريقها المفتوح النهاية إلى الواحدية، وأن هذا يتحقق أكثر، وينشط علاجيا من خلال تقنيات تتناول هذه المسألة بحرفية لعدد من المرضى (أو البشر عموما) بحيث يتخلق من معيتهم معا وعيا جماعيا يحتوى التعدد نحو كلٍّ يتوحد، وفى نفس الوقت تنشط مسيرة النمو للأفراد فى محيط هذا الوعى الجمعى.
وفيما يلى نقدم جذور انتمائنا للفكرة منذ ظهرت:
الوحدة والتعدد فى الكيان البشرى (2)
دراسة الإنسان شديدة الصعوبة، شديدة الخطر، فهى شديدة الصعوبة منهجا، شديدة الخطر جوهرا وعواقبا، وحين أقول “دراسة الإنسان” فأنا إنما أعنى دراسته:
(1) كيانا،
(2) وجوهرا،
(3) وتركيبا،
(4) وسلوكا،
(5) وغاية،
(6) وجزءا من كل إكبر.
إن إشاعة دراسة الإنسان كانت -ومازالت- تخضع لعوامل عديدة تكاد تبعدنا عن حقيقتها، وفيما يلى نعرض بعض التصور المرتبطة بهذه المحاولات:
1- الإنسان هو الشىء “الممكن دراسته“ أعنى أن الظاهرة الإنسانية قد تختزل الى ما يقع فى قدرة أدوات الدراسة ومدى المنهج المستعمل، فاذا قصر المنهج عن رؤية بُعْدٍ ما فى الوجود البشرى فالحل هو إهمال هذا البعد واعتباره غير موجود أصلا ضمن الظاهره الانسانية، وهذا موقف متواضع عاجز، ورغم أنه عملى ومنطقى، إلا أن الحماس ضاعف من عملية الإنكار هذه حتى أصبح الإنسان مجموعة ظواهر قابلة للقياس والفحص حتى ولو لم يكن كذلك فقط، أو لم يكن كذلك أصلا.
2- ثم تأتى فى الطرف الآخر دراسة الانسان من منطلق محتوياته: الانسان هو مجموع ما يحوى من مخزون وطاقة يحددان سلوكه ومعالمه جميعا، وتخضع دراسة هذا الذى يحتويه هذا الوعاء لاستنتاجات منطقية وعينات محتملة من هذا المحتوى وتفسيرات رمزية تترجم هذا المحتوى إلى تصور ممكن.
ويتساوى هذان الإتجاهان فى أنهما يجعلان الإنسان مجموعة أجزاء، سواء كانت نتاج جزئيات السلوك، أم تراكمات المحتوى فهل هو كذلك؟
3- ثم يقفز مفهوم كلى لاحت معالم واحديته منذ الخمسينات، يتناول الإنسان باعتباره “كيانا كليا واعيا وإراديا” وقد سمى أغلب المتدرجين فى هذا الإتجاه باسم شامل غير واضح المعالم وهو “ الاتجاه الإنساني“، واستعملوا لغة عامة أقرب الى لغة الشعر متصورين أنهم بذلك قد تخطوا التجزيء والتفتيت، إلا أنهم فى حماسهم نحو الكلية ضد الجزئية قد تخطوا أصلا إحتمال التعدد، وأصبح الانسان لديهم وحدة نامية بشكل متصل، وهم لم يبسطوا الأمر لدرجة التسطيح الذى قد يبدو من ظاهر تقديمى، فالانسان عندهم كيان مركب شديد التعقيد والتكثيف، لكن تركيز هذا الاتجاه على كلية ووحدة الإنسان يتخطى بشكل ما احتمال تعدد تركيبه ووجوده جميعا.
فالاتجاهات الثلاثة قد سلَّمت بشكل أو بآخر باعتبار الانسان”وحدة” – من البداية للنهاية – بشكل أو بآخر، وهذا أمر بديهى بل وضرورى لأنه تترتب عليه أمور عملية ووظيفية لا تحتمل غير ذلك، فأى فرد كائنا ما كان وبغض النظر عن “ما هو”، هو يقوم من نومه ويغسل وجهه ويذهب الى عمله ويحيى الناس ويكسب قوت يومه … الى آخره، وعامة النـاس لا تقبل فى أى شخـص كائنا من كـان هـو، (أو ” مـا هو”) أن يكون غير ذلك، ولا تستطيع أن تعامله إلا بصفته الواحدية المفردة واذا ما كان الأمر غير ذلك، فإن الدهشة تبدأ، والأحكام تصدر، فاذا كان”هو” أحيانا “هو”، وأحيانا ”ليس هو” وإنما هو آخر، (وفى الحالين فهو واحد مفرد) قيل أنه متقلب أو غريب الأطوار أو ذو وجهيـن، وقد يتحذلق البعض فيصفونه بالازدواج، فإذا زادت الحذلقة وُصف بالانفصام وهلم جرا، وهذه الأوصاف تختلط فى أذهان العامة وعلى ألسنتهم، كما أنها تعنى التعدد (أو الازدواج) فى أزمان مختلفة وليس فى نفس الوقت عادة.
فاذا كان الأمر كذلك عند العامة، فهل يكون هو كذلك عند العلماء؟ حتى هذه المرحلة من التقديم يبدو أنه يمكن أن يكون كذلك أيضا عند بعض العلماء، إلا أن المتأمل للغة المستعملة فى بعض النظريات النفسية سوف يكتشف أن الإشارة ظهرت من قديم تشير إلى احتمال التعدد فى الكيان البشرى الفرد فى آن واحد، رغم ظاهر الوحدة والتفرد:
(أ) ويمكن أن نبدأ بالإشارة الى حدس يونج الأعمق لما هو كيان داخلى سواء فى إشارته الى “القناع” (السلوك الخارجي) فى مقابل ” الظل” ( الكيان الداخلى) أو إشارته إلى ” الأنيما” فى مقابل ” الأنيمس” (بمعنى وجود الكيان الأنثوى داخل الإنسان الذكر والكيان الذكرى داخل الإنسان الأنثي)، ثم وهو يشير الى النماذج المتوارثة عبر الأجيال، بل عبر الأحياء ” الأركيتايب” Archetypes، كل ذلك إنما يدل على تركيبات تنظيمية متكاملة تمثل كيانات لا أجزاء.
(ب) ثم يأتى بعد ذلك بعض الفكر التحليلى الأحدث ليكلمنا عن “الأنا الناكص” و”الأنا المضاد للذة”) المضاد لليبيدو egoAintilibidinal )، و”الأنا اللذى الليبيدى”ego Libidinal وكيف أن هذه الكيانات التى هى فى الداخل لها شخصيتها وصفتها وطلباتها و “حضورها” ومظاهرها الصريحة فى الحلم والجنون، ومظاهرها الخفية الرمزية فى العصاب وبعض السواء، وكل ذلك أكثر: بلغة مدرسة “العلاقة بالموضوع” Object Relation Theory ، ثم يأتى بعد ذلك ذكر المواضيع الداخلية Internal Object لا لتشير الى محتويات الوعاء الإنسانى كجزئيات متجمعة أو ذكريات قابلة للاسترجاع، وإنما لتشير إلى الحياة الداخلية الحاوية للموجودات الكيانية التنظيمية، ورغم تسمية هذه المدرسة لهذه المحتويات بالمواضيع الداخلية إلا أن المتعمق فى المعنى المراد والوظيفة لكل منها سوف يجد أنها إنما تعنى شخوصا بأكملها فى داخلنا، لا مجرد مواضيع، إذن فكيفية تواجد هذه الشخوص فى الداخل لا ينبغى أن تؤخذ بمعنى “الوعاء والمحتوي” لأن الوعاء – فى حالة الإنسان- هو هو المحتوى كما سنرى”.
(جـ) وفى ضربة حدس (وهى فى نفس الوقت ضربة حظ، ومأزق وعى) يرى إريك بيرن – صاحب مدرسة التحليل التفاعلاتى – الإنسان أمامه متعددا بشكل واضح ومميز، ويعيد – بتواضع شديد – رسم خريطه الكيان البشرى فى صورة “تثليثية” محددة (الأنا الوالدى والأنا اليافع- الناضج- والأنا الطفلى) (3)، كيانات وتنظيمات (لا مجرد أجزاء ودوافع وطاقه محكومة وقوى) تتبادل وتتعاون وتتنافر وتتصارع وتتعدد وتنمو (فى بعضها مع بعض) إلى كيانات أكبر فأكبر وهكذا، وينشىء “بيرن” نظرية تركيبية متكاملة تبدأ بالتحليل التركيبى Structural Analysis وتمتد إلى التحليل التفاعلاتى Transactional Analysis الذى يعنى ببساطة: أنه ما دام التركيب البشرى متعدد الشخوص، فإن التفاعل بين شخص وآخر ليس تفاعلا بين شخص واحد وآخر واحد، بل انه يجرى على مستويات متعددة فى نفس اللحظة وتشير هذه المستويات الى علاقات متبادلة ومتداخلة بين هذه الزحمة من الكيانات بعضها مع بعض، وهذا ما يحدث كل يوم وكل لحظة فى الاحوال العادية فى نفس اللحظة وإن كان لا يظهر على السطح إلا مستوى ظاهر واحد فقط (للناظر غير المدقق طبعا).
وتنتشر هذه النظرية، ويشاع استعمالها، ثم يساء استعمالها لأنها تؤخذ من مدخل التبسيط والإختزال، أكثر مما تؤخذ من مدخل التركيب المتداخل والمسار النموى المعقد.
ولا تكتفى هذه النظرية بالحديث عن هذا “التثليث” للكيان البشرى بل تتحدث- دون وضوح كاف -عما أسمته “وحدات الأنا” Ego Units التى يتركب منها الكيان البشرى، والناظر المتفحص الى ما يعنيه هذا التعبير يكتشف ان هذه الوحدات ليست إلا كيانات (شخوصا) متكاملة متراكمة يتكون منها وبها الوجود البشرى المفرد.
(د) ثم تأتى ممارستنا الإكلينيكية الخاصة تطبيقا منهجيا: وهى أقرب إلى المنهج الفينومينولوجى لهذا المنطلق، فأواجه “الزحمة” المتناهية داخل التركيب البشرى فى الجنون والحلم والشعر خاصة (4)، وكل التجارب القريبة والموازية لهذه الخبرات الإنسانيه المركبه، وتؤكد لى مشاهداتى ومعايشتى طبيعة هذا التعدد والتكاثف، وأتبين أن التعلم بالبصم (الطبع) Learning by Imprinting ليس سوى انطباع كيانات خارجية على الجوهر الانسانى المتلقى النامى، لتُسْتَوعب وتُمثل Assimilated فيما بعد، أو تظل قلقة جاهزة للتعتعة فى الحلم والشعر والجنون وما إليها.
ولهذا المدخل أهمية خاصة بالنسبة للشخص العادى، كما له مخاطر لا تخفى:
إن تغير النظرة إلى الإنسان كوحدة إستاتيكية (أو حتى ديناميكية) إلى إعتباره “مجمع شخوص” يمثل موجزا للتاريخ ومحتوى العالم فى آن واحد، خليق بأن يقلب كثيرا من الموازين السائدة حاليا عن مفهوم الإنسان ومفهوم الحضارة ومفهوم النمو الفردى ومفهوم التطور البشرى جميعا، بما فى ذلك من مخاطر ومفاجآت وفيما يلى بعض الأمثلة:
(أ) ماذا يكون موقف الشخص العادى أمام نفسه ؟ صورته لذاته؟ فخره بها؟ تحديده لها ؟ لأنه إذا كان “هو” ليس “هو” بل “هم” أو “نحن ” فكيف يتحدد أو يتميز؟ وبأى واحد من “هؤلاء يفخر؟”
(ب) ماذا يكون الموقف من قرارات الشخص لنفسه، وإختياره لفعله؟ من الذى اختار؟ ومن المسئول؟ (وقد يمتد هذا البعد إمتدادا خطرا -ولو من الناحية النظرية- ليشمل المسؤولية الجنائية…..، تصور!!)
(ج) كيف نعامل بعضنا بعضا، وكيف نتفق ونتحاب ونحن قد أصبحنا ” حفلة” موجودات ولسنا إرادة أفراد؟
ويمكن أن نستطرد فى هذه التساؤلات الى مدى بعيد، حتى نستشعر الخطر الأكبر الذى أدى بعضه الى سوء إستعمال نظرية التحليل التفاعلاتى حتى أصبح المخطىء- كمثال من الحياة العادية – يقول “لعن الله طفلى” (Dam my Child) يعنى بذلك أن المسئول عن الخطأ أو التقصير هو ذلك الكيان الطفلى الداخلى يقول ذلك بدلا من أن يتألم من المسئولية هو ككل ، ويتعلم من الخطأ….وقس على ذلك.
والآن …
إذا كان القبول بهذا التعدد هو فتح لباب سلبيات لا نعرف الى أين ستؤدى بنا، أفلا يكون ذلك مبرراً لأن ننكره إبتداء؟ وهنا يبدأ الخطر على العلم والمعرفة، حين يصبح الاعتراف بالحقيقة الفعلية أو المحتملة جدا معتمدا على آثارها وليس على حقيقتها الذاتية، فاذا صح أن الكيان البشرى الفرد هو بالضروة عدة شخوص بعضها فى بعض، وصح أن هذا المفهوم هو مفهوم خطر – من حيث المبدأ - على حدود الذات وعلى استمرار النمو وتحديد المسئولية فلابد أن حلقة مفقودة تكمن بين هذا الذى صح، وذاك الذى صح بما أن الكائن البشرى قد أثبت بالتاريخ ثبات خطاه نحو التقدم، واستمرار بقائه برغم قوى الانقراض المحيطة والملاحقة وهنا يبدا البحث الجاد بكل ما يصحبه من معاناة عن تلك الحلقة المفقودة.
فما الحل إذا؟
الحل الأسهل هو أن نسارع فننكر هذا التعدد ونقصره على درجته القصوى من التناثر فى الجنون وخاصة “جنون الفصام” تحت عناوين نفـْسمراضية مثل “فقد أبعاد الذات، Loss of Ego Bounderies وتعدد الكيانات، وتساوى التكافؤ” وأمثال هذه المصطلحات التى تشير إلى أن التعدد ما هو إلا مرض بالضرورة؟
ولكن ماذا عن الحلم ؟ هذه الشخوص التى تظهر فى الحلم أليست كيانات متعتعة من الوحدة ظاهرة التماسك فى اليقظة؟ أليست هى جزء من تكويننا الداخلى حيث المحتوى هو الوعاء ذاته كما ذكرنا؟
قد يأتى الرد أنها ليست سوى ذكريات مسجلة قد يسمح لها بالإستعادة بشكل خاص فى غياب وعى اليقظة أثناء النوم، لكن الدراسات العميقة والمتأنية تكشف أن:
“الحلم فعلٌ كيانى” نوابى تنظيمّى مستقل وليس تكرارا ذهنيا مسطحا، وأنه إعادة خلاّقة وليس استعادة متناثرة فقط، وأن وظيفته تشكيليه “تمثيلية” Assimilative وليست مجرد وظيفة تفريغية ترويحية!
فأين نخفى كل هذه المعطيات هربا من مواجهة حقيقة تعددنا؟
ثم يأتى الشعر ليعرى كيان الشاعر (الانسان) الذى يصب وجوده فى ألفاظ لها كيانها الجديد ووظائفها الجديدة. اذ ترتسم الصور الجديدة فى تشكيل الإيقاع الجديد، يعلن الشاعر هذا التعدد مباشرة ويحاول بكل وسيلة فنيه أن يؤلف بين تراكيبه وشخوصه، فتنطلق من تحت عباءته الكيانات قادمة من كهوف التاريخ، وتناقضات الحاضر، متجهة إلى صنع الولاف الأعلى فى توليد الآلهه فى طريقها الى الاله الواحد الأحد، وليس هذا مجال أمثلة أو تفاصيل، إلا أنى أعلن فى هذا الإستطراد أن هذا هو المدخل الأصعب لاستيعاب الشعر واستقبال رسائله المكثفة، ولكن الذى يهمنا هنا هو دلالة هذا التعدد والتناقض والتكثيف والقدرة على التحول (مثلا) “… التى تجعل من حضور مهيار ذاته عند أدونيس نفيا واثباتا، خلقا وتدميرا فى نفس الوقت” (5) وهذا التعدد الذى يشمل الذوات والطبيعة وما بعدها فى حركة ذاتية نحو إعادة التنظيم وتنظيم اللقاءات فى الكيان المتخلق الجديد… يجدها كل قارئ يقظ شجاع فى كل شعر حقيقى (6).
هنا يجدر بنا أن نتوقف لنحل هذا التناقض الظاهر:
1- الانسان متعدد فى كيان ظاهرى واحد.
2- التعدد خطر وقد يفتح أبواب السلبية والتناثر ما لم يواصل التقدم.
3- الإنسان مستمر، حالة كونه يتقدم مضطرد النمو.
4- الإنسان يتطور ويرتقى ويبقى من خلال كل ذلك “معا”.
5- الإنسان تتجمع وحداته حول تخليق واحدية لا تكتمل ولا تهمد.
6- الإنسان يعاود هذه الدورات باستمرار.
الخلاصة
الإنسان جـّماع حركة غائية إلى توحد واعد مفتوح النهاية إليه!
فهل يواكب العلاج النفسى، والعلاج الجمعى خاصة هذا الاحتمال ويدعمه؟
هذا ما سوف نتدارسه فيما يأتى!.
[1] – يحيى الرخاوى (مقدمة فى العلاج الجمعى (1) من ذكاء الجماد إلى رحاب المطلق) (الطبعة الأولى 1978)، (والطبعة الثانية 2019) منشورات جمعية الطب النفسى التطورى، والكتاب متاح فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مركز الرخاوى: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا بموقع المؤلف www.rakhawy.net وهذا هو الرابط.
[2] – يحيى الرخاوى، مجلة الإنسان والتطورالفصلية – عدد أكنوبر 1981 www.rakahwy.net
[3] – وتطورت أفكاره حتى راح يصف تعددا أكثر أسماه “وحدات الأنا Ego Units بلا حصر وليس فقط حالات الأنا الثلاث.
[4]- كما فى فنون أخرى لا مجال للتطرق، وكذا فى التصوف، الذى لم أذكره الآن لأنه خبرة معقدة تجمع هذه الأطراف جميعا، وهى غير قابلة للدراسة العادية بشكل مباشر بحيث لا يفيد الإستشهاد بها هنا.
[5] – أقنعة الشعر المعاصر: مهيار الدمشقى ( جابر عصفور) مجلة فصول ( يوليو 1981) السنة الأولى المجلد الأول – العدد الرابع.
[6]- ومثال عابر - خشية الإستطراد- يقول: ” فينيق مت، فينيق ولتبدأ بك الحرائق، لتبدا الشقائق” أو “مزدوج أنا، مثلث”… (نفس الشاعر فى نفس المقال).