الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / كتاب: مقدمة في العلاج الجمعى “من ذكاء الجماد إلى رحاب المطلق: الفصل الثالث: “… والأصل فى الوحْداتِ أن تُجَمَّعا” (2)

كتاب: مقدمة في العلاج الجمعى “من ذكاء الجماد إلى رحاب المطلق: الفصل الثالث: “… والأصل فى الوحْداتِ أن تُجَمَّعا” (2)

نشرة “الإنسان والتطور”

الأحد: 11-10-2020

السنة الرابعة عشر

العدد:  4789

   كتاب: مقدمة في العلاج الجمعى  

 “من ذكاء الجماد إلى  رحاب المطلق  (1)

الفصل الثالث:

 “… والأصل فى الوحْداتِ أن تُجَمَّعا” (2)

……………..

ثالثاً: علاقة هذه النزعة الطبيعية للتجمع المنظم بالعلاج الجمعى:

بلغنى من واقع الممارسة أن ما يجرى فى العلاج الجمعى (وفى أى تجمع إيجابى بشرى بقائى، إيمانى أو حضارى إبداعى)، هو الأصل وهو الأقرب إلى الطبيعة الأصلية لنظام الكون كما خلقه الله.

رابعاً: إن التجمعات حتى فى نظام هادف ليست إيجابية على طول الخط، وإلا لما انقرض هذا العدد الهائل من الأحياء 999 من كل ألف، وهم يتجمعون ربما بغباء يفسر انقراضهم.

خامساً: إنه بقدر ما يحتاج التجمع الإيجابى البشرى إلى تفاعل مستويات متعددة من الوعى معا – فى العلاج الجمعى كمثال – يقتصر التجمع السلبى على المستوى السطحى الظاهر أو المستوى البدائى الخائف، كما يحدث فى مظاهرات الفوضى والتخريب.

سادساً: إن اللعب فى الوعى بالتحريك المغرض (غسيل المخ) فى تجمّعٍ ما على مستوى واحد من الوعى أسهل وأسرع كثيرا فى تحقيق التهييج والإثارة والفوضى، فى حين يستعصى مثل هذا الأمر إذا كان التجمع يجرى على مستويات متعددة من مستويات الوعى، يتخلق منها الوعى الجمعى، هنا يصعب إعادة توجيه أو إجهاض أو إحباط مثل هذا التجمع الإيجابى الهادف إلى تحقيق أهداف الطبيعة الأصلية.

سابعاً: إن التجمع بتنشيط مستويات الوعى المتعددة يتم على مستوى حركية المعلومات: بالمعنى الأشمل للمعلومات، أكثر مما يتحقق على مستوى الاقتناع بالمعنى الظاهر، ويمكن الإقرار أن تجمع المعلومات الحيوية هو أصلب وأبقى، أما تجمع الأفكار والأيديولوجيات فهو أضعف وأهوى.

ثامناً: فى حين ينجح أو يفشل الذكاء الجماعى، فيما هو دون الإنسان حسب صراعات البقاء غير المدركة على مستوى الدراية أى التى تقتصر على البرمجة الوراثية، والاستيعاب التلقائى لبرامج التطور البقائية، فإنه يضاف إليه فى حالة الإنسان فى التجمعات الإيجابية – والعلاج الجمعى – كمثال: “تبادل حركية الإدراك” و”المواجدة” (التقمص العاطفى Empathy).

تاسعاً: إن ما يسمى “الذكاء الجماعى” غير ما يسمى “الذكاء الاجتماعى” فالأول مرتبط بالتطور والبقاء وتخليق الوعى الجمعى إيجابيا، وأيضا هو فى ناحية مرتبط بغريزة القطيع سواء لحفظ الحياة والنوع أو نحو الهلاك الجماعى فى الظروف السلبية، أما الثانى – الذكاء الاجتماعى – فهو مرتبط بالسلوك التكيفى الظاهر بين البشر، وهو أقرب إلى ما يسمى حديثا “ذكاء العاطفة أو الذكاء الوجدانى Emotional Intelligence وفى العلاج الجمعى يتخلق ويتنامى الذكاء الجمعى الإيجابى وهو أهم وأكثر فاعلية حتى من الذكاء الاجتماعى الذى قد يمارس أكثر فى نوع من العلاج السلوكى المعرفى، الذى يوصف أحيانا كنوع من العلاج الجمعى (برغم تحفظى).

عاشراً: يتخلق الذكاء الجماعى الإيجابى (الوعى الجمعى) بالتواصل البينشخصى والجماعى بدرجات متناهية الصغر لكنها قادرة على التراكم فالتوليف فالتخلق والإبداع فى كيان ضامّ فاعل، كما أن التغيرات الحادثة قد تتم أيضا فى وحدات زمنية متناهية الصغر لا يمكن رصدها عادة فى حينها.

شحذ تخليق الوعى الجماعى

رجعت من جديد إلى ذكاء الجماد، مع التوسع طبعا فى مفهوم طيف الذكاء، وكيف أن التنسيق الذرى للمادة يمكن أن يكون نوعا من الذكاء، وأنه إذا اختل، ترتـَّبَ عنه ما نعرف من آثار  هائلة مدمرة وغير ذلك مما نسمع عنه فى تفتيت الذرة، الأمر الذى قد يكون تدخلا فى ذكائها الذى يحفظ عليها تماسكها.

ما فائدة كل هذا فى موقفى من الذكاء الجمعى الذى أفضل أن أسميه “شحذ تخليق الوعى الجماعى”، والذى أرى أنه الأصل فى الحياة والعلاقات كما أشرت سابقا، حين أشرت أيضا إلى كيف انه يختلف عن الذكاء الاجتماعى، وقبل ذلك نبهت إلى اختلافه عما يسمى عقل الجماعة المرتبط بغريزة القطيع.

أعتبرت  كل هذا تمهيدا للنقلة التى ألمحت إليها أيضا بالنسبة لمسألتين جوهريتين سواء بالنسبة لممارستنا العلاج الجمعى فى ثقافتنا الخاصة، أو بالنسبة للنقلة من الوعى البين شخصى، إلى الوعى الجماعى، إلى الوعى الطبيعى، إلى الوعى الكونى، إلى وجه الله.

انطلاقا مما أشرت إليه سابقا من أن الأصل فى الوجود (وليس فقط فى الحياة) هو “التجمع فى نظام”، يسمح أو لا يسمح بالتفكك إلى وحداته، بنظام أيضا، ونادرا بغير نظام، لاحظت أثناء ممارستى العلاج الجمعى، ذلك تماما دون أن أنظّر له مسبقا، أو حتى أقرأ عنه، ورحت أتابع في خبرتى تكوين المجموعات العلاجية الواحدة تلو الأخرى، ثم انفضاضها، وطفقت ألاحظ أن ثـَمَّ رباطا غير مرئى يربط بيننا يحفظ علينا تماسك المجموعة من جهة، وقد يكون هو ما يستحق أن يسمى “العامل العلاجى” من جهة أخرى، ثم ربطت ذلك – كما ألمحت مرارا- بتخليق الوعى الجماعى المرتبط بشكل أو بآخر بالوعى الكونى ربما مرورا بالوعى الجماعى خارج المجموعة، وربما الوعى الاجتماعى بشكل مختلف ودرجات متباينة.

رحت بعد ذلك ألاحظ ما يتردد فى ثقافتنا عن أن “الله هو الشافى” بالمعنى الإيجابى البسيط، وما أعرفه وما يصلنى من فعل الدعاء، وما أومن به وأمارسه من معنى الحديث الشريف “اجتمعا عليه وافترقا عليه” فقدّرت أن هذا التجمع النظامى هو أعمق من، وأسبق عن، ما نعرفه عن ما هو حياة، وأيدنى فى ذلك ما ورد فى الكتاب الذى أناقش بعض ما جاء فيه عن “التاريخ الطبيعى للذكاء” فى حدود ما ورد فيه من تحديث، بل تثوير لمفهوم الذكاء، واسترشدت ببعض العلاقات الطبيعية فى المادة مثل الرابطة التساهمية، ووصلنى شىء أشبه بتجمعنا فى دائرة بالذات فى العلاج الجمعى، الأمر الذى لاحظته فى كل الصور التى حصلت عليها مما تحت يدى من مراجع.

ثم إننى من خلال رحلتى فى ملف الإدراك([1]) وأيضا من خلال ألعاب عدم الفهم([2]) وغير ذلك تبين لى كيف أن هذه الحلقة الجماعية فى العلاج الجمعى تقوم بتنشيط مستويات الوعى المتعددة – كما ذكرنا- عند سائر أفراد المجموعة بدرجات متفاوتة تسهم كل بالقدر المتاح فى تكوين الوعى الجماعى الذى هو أكثر نشاطا وحركية نحو مستويات وعى تدركها ثقافتنا بلغة الدين الشعبى، والإيمان الفطرى بشكل أوضح وأرسخ من الدين المؤسسى، والإرشاد الدينى اللفظى وقهر العلم السلطوى.

من هنا خطر لى معنى جديد لتسبيح الجماد لله سبحانه وتعالى([3])، والسماء والأرض، وما بينهما، والطير، وكل شىء، الأمر الذى لو استقبلناه – دون الحديث عن سَبْق أو إعجاز أو تفسير علمىّ للنص الإلهى!، استقبلناه باعتباره من أساسيات ذكاء المادة، وارتباطها بكل دورات وتشكيلات ونغمات تشكيلات ما حولها، تصعيدا إلى ما هو أعلى فأعلى حتى ما لا نعرف (الغيب)، إذن لأمكن أن تسعفنا فروض عاملة قد تفسر “العامل العلاجى” فى العلاج الجمعى، بما يتفق مع ثقافتنا من جهة وبما يتواصل مع دوائر التوازن الجمعى من أول ذرات المادة حتى مطلق الغيب من جهة أخرى مرورا بكل الأحياء فجماعات البشر.

رجعت إلى جارودى وانبهاره بدور “الجامع” فى الإسلام، وتصورت أنه التقط معنى الحث على صلاة الجماعة ، وفى المسجد بوجه خاص، كما حسبت أن هذا الانتظام المتواكب مع الإيقاع الحيوى الطبيعى، جنبا إلى جنب مع التلاقى البشرى الخلاق (دون وعظ لفظى مبالغ فيه أو ترهيب أو ترغيب) مع التأكيد على معنى أن يتوجه كل أصحاب دين بذاته إلى نفس البؤرة من كل أنحاء المعمورة فى نفس التوقيت النسبى، تصورت أن كل ذلك يتسق مع هذه الحقائق التى وصلتنى من العلاج الجمعى دون تأكيد أو حماس أو مغالاة أو تعسف، لكننى لم أجد أن جارودى كان عنده فرصة لمثل هذا الربط، برغم كل تقديره لدور “المسجد” على أكثر من مستوى، ومثله فى أى دين لم يتشوه.

ملحوظة:

سبق أن ذكرت أنه بالرغم من وضوح الأسس الإدراكية لهذه الفروض التصاعدية هكذا، فإننى أتجنب فى جلسات العلاج الجمعى،  إلا نادرا، استعمال اللغة الدينة، اللهم إلا لفظ الجلالة أحيانا، وكثيرا ما أنبه أننى لا أعنى به ما يتبادر للذهن مما اعتدنا عليه، وإنما أربطه بحضوره فى الوعى “هنا والآن”، قبل وبعد كل مكان، ولا أستبعد أننى أنجح أحيانا، لا أعلم إلى أى مدى.

[1] – يحيى الرخاوى: “ملف الإدراك” نشرات “الإنسان والتطور”  (10/1/2012 إلى 10/3/2013) بموقع المؤلف:  www.rakhawy.net

[2] – مثلا لعبة “دانا لما ما بافهمشى يمكن”، وكذلك من خلال لعبة “أنا خايف أقول كلام من غير كلام لحسن” ثم الكتاب الثالث فى سلسلة العلاج الجمعى: “حركية الإدراك وجدل مستويات الوعى” تحت الطبع.

[3] – انظر الفصل الثالث عشر

admin-ajaxadmin-ajax (1)