الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / كتاب: مقدمة فى العلاج الجمعى “من ذكاء الجماد إلى رحاب المطلق: الفصل التاسع علاقة هذا العلاج بأنواع العلاج الجمعى الأخرى (2)

كتاب: مقدمة فى العلاج الجمعى “من ذكاء الجماد إلى رحاب المطلق: الفصل التاسع علاقة هذا العلاج بأنواع العلاج الجمعى الأخرى (2)

نشرة “الإنسان والتطور”

الأحد: 27-12-2020

السنة الرابعة عشر

العدد:   4865

   كتاب: مقدمة فى العلاج الجمعى  

 “من ذكاء الجماد إلى  رحاب المطلق” (1) 

الفصل التاسع

علاقة هذا العلاج بأنواع العلاج الجمعى الأخرى (2)

………………..

ثانيا: العلاج الجشتالتى: (1 من 2):

اعتبر الباحث (2) – بحق–  أن مدرسة الجشتالت منطلقة من الفلسفة الوجودية أساسا من حيث التركيز على “كلية وجود الشخص” وليس الاكتفاء بالتعامل مع الأعراض، وقد تركز الاهتمام فى هذه المدرسة على أن النظرة الكلية للإنسان يمكن أن تستعيد له حقه فى، وقدرته على: التكامل واضطراد النمو، وبالتالى يستطيع أن يحتوى ويتجاوز ذلك الاستقطاب الذى غلب على الإنسان المعاصر (3) فى صور: “العقل مقابل الجسد” و”التفكير مقابل الوجدان”، و”تحقيق الذات الفعلية مقابل تحقيق صورة الذات”، واعتبر “بيرلز” أن الإنسان يلعب أدوارا شكلية تبعده أكثر فأكثر عن نفسه وعن الآخرين وتـُـعـَـمـِّـق تجزئته على حساب كليته، وبالتالى فإن هدف هذه المدرسة هو أن يتعرف الشخص على كلية ذاته ويقبلها ويتحمل مسؤولية وجوده، فإن فعل فإن اضطراد النمو يصبح نتيجة طبيعية تلقائية.

وفيما يلى بعض القواعد العامة التى تميز هذه المدرسة ونوعية تطبيقها فى العلاج الحالى.

أولاً: شحذ الادراك بالحواس وتجاوزها:

يستعمل المعالج الجشتالتى عينيه وأذنيه جسدا ووعياً، وربما كلـّه فى متابعة وإدراك التعبير غير اللفظى أكثر من محتوى كلام المريض، يقول بيرلز: “إن المعالج الجيد لا ينصت إلى محتوى رطان المريض بل إلى صوته، إلى موسيقى كلامه، وهو يواصل ملاحظة تردده، كما أن هذا المعالج لا يستعمل “التفسير” أو يرحب بالتعليل وقد عبر عن ذلك صراحة بقوله “إن: “لـِمـَاذَا“… و”لِأَنّ“: كلمات “قذرة” “سيئة السمعة” فى العلاج الجشتالتى “بل إنه أوصى: “أن تزيح عقلك جانبا وتستعمل حواسك”.

وفى خبرتنا كان لكل ذلك موقعه وفائدته وتطبيقاته التفصيلية التى سوف يأتى ذكر بعضها فى عرض الأمثلة، وقد لاحظنا فى هذا الصدد أن كل هذا يؤكد على دور “الإدراك” بمعناه الأوسع وخاصة فيما يتعلق بالادراك المتجاوز للحواسExtrasensory Perception ، حيث قد يصل الأمر إلى أن يُطلب من بعض المشاركين أن يلاحظ (أو يترجم) ما تقوله عينا زميله أو ما يبدو على وجهه فى لحظة معينة، كذلك كان من فضل حدة ملاحظة المعالج (ثم بقية أعضاء المجموعة) أن أصبح من السهل أن نلتقط هزة ساق أو شكل جلسة، ونركز عليها ونبدأ منها التفاعل أو قد توحى “بلعبة ما”، أو “مينى دراما” (انظر بعد) وقد تطور الأمر إلى ابتداع لعبة تكشف احتمال التواصل بدون كلام أو بجوار الكلام مثل لعبة “أنا لو حاقول كلام من غير كلام يمكن….” وسوف نناقشها مستقلة (4).

ثانياً المأزق:

يمثل المأزق موقفا جوهريا فى العلاج الجمعى الجشتالتى، والمعالج إذْ يلاحظ ما يحاول المريض تجنب الخوض فيه، يحاول من خلال “الإحباط الماهر المقصود” أن يحول دون أن يتمادى المريض فى هروبه، وإذا بالمريض فى مأزق تخلى الدعم السابق، وفى نفس الوقت لا يكون قد اكتسب القدرة على اكتساب أدوات استقلاله بنفسه فينشأ “المأزق”، وحين يقدم المريض على خوض المأزق ويفعلها، ويتحمل نتائج ما اسماه بيرلز “المشى فى النار” Passing into fire وأسميناه نحن “المشى على الصراط” (5) ويتحملها فإن قدراته قد تنطلق بما يعلن احتمال التغير النوعى مع عبور المأزق الذى يعتبر من أهم معالم النقلات فى العلاج الجشتالتى.

وفى خبرتنا: بدا أن المأزق مهما كان طفيفا فهو ضرورى للحكم على نقلة النمو وما إذا كانت نوعية بلا رجعة، أو سطحية شكلية، وكثيرا ما تظهر أعراض جديدة فى بداية المأزق وقمته وخاصة الألم النفسى (يسمى الاكتئاب أحيانا ونتجنب تسميته بذلك لتجنب الخلط) أو تغير الذات Depersonalization أو أى تغير نوعى فى الإدراك، أو اختلاف نوع الأحلام أو حتى ظهور الأفكار الانتحارية، ونادرا فرط التوجس.

ثالثاُ:  الكرسى الساخن: (التأكيد على الفرد فى المجموعة).

الكرسى الساخن يعنى التركيز على فرد بذاته فى المجموعة تأكيداً لغلبة فكرة “الفرد فى المجموعة” على فكرة المجموعة ككل فى هذه الجزئية من تقنيات الممارسة الجشتاليتة.

وفى خبرتنا اكتشفنا أننا نرجح – دون قصد – مبدأ الفرد فى المجموعة لأنه يستحيل ألا توجد المجموعة فى خلفية التفاعل طول الوقت مهما تركز العمل على أفراد.

ولا يتم اختيار الشخص الذى يحتل الكرسى الساخن لأسباب معينة، حتى لو بدا أنه يمر بأزمة خاصة تحتاج عناية خاصة، لكن هذا الاختيار يعتمد على مسار المجموعة ومهارة المعالجين وهو ليس بالضرورة مرتبط بمدة معينة ولكنه يفرض نفسه حين يكون فرد بالذات فى حالة أزمة خاصة تستدعى تركيزا معينا للشخص فى الكرسى الساخن. وتختلف مدة ومرّات شغل شخص ما لمأزق الكرسى الساخن أيضا حسب مهارة المعالج ومسئوليته ليس فقط عن الشخص فى المأزق وإنما عن بقية أفراد المجموعة وبالنسبة أيضا لوقت المجموعة، وكثيرا ما سأل المشاهدون (6) (غير المتدربين داخل المجموعة) عن أحقية فرد واحد يأخذ وقتا قد يزيد عن نصف وقت المجموعة فى جلسة واحده، ولا يكون الرد – فى المناقشة بعد انصراف المرضى – بتعداد أسباب ذلك، ولكن بالتأكيد على أن المسألة ليست تقسيم الوقت بالتساوى، وإنما هى تتوقف على مدى المسئولية عن متابعة آنية لانتباه الأغلب وجرجرتهم بين الحين والحين إلى المشاركة أو التفاعل بشكل أو بآخر فى التعليق ثم العودة إلى الكرسى الساخن أو شغله بشخص آخر أو الانتقال إلى آلية أخرى من آليات العلاج، ثم التذكرة أنه مهما بلغ الوقت الذى يبذل مع فرد واحد فإن مشاركة الباقين – دون تدخل مباشر تجرى بدرجة مناسبة فى أغلب الأحيان وهكذا.

ولا يتزامن “المأزق” مع شغل الكرسى الساخن بشكل مباشر وإن ارتبطا أحيانا بدرجة ما، بمعنى أنه أحيانا يكون شغل الكرسى الساخن متواكبا مع ما اسماه بيرلز الإحباط الماهر  Skilful Frustration لكن هذا ليس قاعدة ولا هو مطلوب دائما، وأحيانا ما يكون الكرسى الساخن مطلبا صريحا أو خفيا من أحد أفراد المجموعة (ليس بالألفاظ الحرفية!!)، وهذا ليس دليلا دائما على حاجته إليه، فقد يكون نوعا من “غيرة الاخوة” Sibling rivalry أو لجذب الانتباه ومن ثم الاستجابة، وقد يتكرر شغل الكرسى الساخن بشخص واحد فقط عدة جلسات متتالية، لكن ينبغى ألا يتمادى الأمر وخاصة مع تنبيه أفراد المجموعة أو ملاحظة المعالج المساعد احتمال طرح أو طرح مقابل transference   &   Counter & Transference   ويتم تناول ذلك بأقل قدر من الاتهام وأكبر قدر من المسئولية المشتركة.

ولا ينتظر من التعامل على الكرسى الساخن ما ينتظر من المشى على الصراط (المأزق) حيث أن الأول، وحتى بحسب الاسم ، هو نوع من تسخين التفاعل وتعميق التفاعل، أما الأخير فهو أزمة نمو ممتدة إذا أحسن الإعداد لها وتم اجتيازها يحدث بعدها عادة نقلة نوعية إيجابية على مسار النمو.

رابعاً: “هنا والآن”:

يؤكد بيرلز على أهمية التركيز تماما على هذه القاعدة كأساس جوهرى للعلاج الجمعى خاصة، وهو يقرر أنه لايوجد شىء يعمق المسؤولية مثل هذه القاعدة حتى اعتبر كما أسلفنا أن كلمتى “لماذا” “ولأن” كلمتان مرفوضتان (أو بتعبيره كما ذكرنا: قذرتان، سيئتا السمعة Dirty words of bad reputation)  وفى خبرتنا (وأيضا بمراجعة معظم أنواع العلاج الجمعى) وجدناه على صواب نسبى حتى لو بدا فى الأمر بعض المبالغة.

وقد بدا لنا أن الالتزام بهذه القاعدة أصعب فى ثقافتنا ربما لأنه يعلن كيف تغلب فى حوارنا آليات “وضع اللوم” Putting The Blame والتبرير Rationalization  والأرجح أن وسائل الإعلام العامة وكثيرا من الدراما والمسلسلات قد دعمت هذا الموقف الشائع بشكل أو بآخر حتى كاد يترادف عند الكثيرين مع “العلاج النفسى أو التحليل النفسى”.

ويحذق أفراد المجموعة عادة، استعمال هذه القاعدة (هنا – الآن) برغم صعوبتها فى البداية، لكن تظل متماوجة بسبب إصرار المعالج المطلق على الإلتزام بهذه  القاعدة (هنا والآن) .

خامساً:  “أنا” “أنت”:

تكاد لا تنفصل هذه القاعدة عن القاعدة السابقة، “هنا والآن” وهما يـُذكران معا بصفة شبه دائمة “أنا – أنت” & “هنا والآن” (أنا وانت هنا ودلوقتى)، ويتم ذلك بالتنبيه على توجيه الخطاب (والتفاعل) إلى شخص مفرد باستمرار فى “هنا والآن” ومن ثم ينمى المسؤولية اللحظية فالممتدة.

 وفى خبرتنا: ساعدتنا فى ذلك قواعد فرعية مارسناها جعلت الأمر أكثر صعوبة لكن أكثر تحديدا وإلزاما ومن ذلك -كما ذكرنا-:

أ) منع – ما أمكن ذلك – استعمال ألفاظ النكرة أو التعميم “الواحد” “الناس” “الشخص”.

ب) يطلب من المتكلم أن يذكر اسم المخاطَبْ تحديدا فى بدء المواجهة “يا فلان…” وأحيانا يُرَد إلى ذلك إذا حاد عن القاعدة.

ج) الإقلال حتى المنع أحيانا من المخاطبة بطرح الأسئلة المتلاحقة أو النصائح الفوقية، فيقال للمتكلم أن يواصل حواره: “من غير سؤال ولا نصيحة”، أى يجرى الحوار دون أسئلة ما أمكن ذلك ودون نصائح.

د) الانتباه إلى الحد من استعمال ضمير الغائب ( هو – هى – هم) ما أمكن ذلك.

ملحوظة: يتكرر السؤال فى آخر خمس دقائق عن مدى ضرورة الإلتزام بهذه القواعد فى الحياة العادية، والإجابة تكون برفض التوصية بمثل هذا الإلتزام إلا إذا جاء عفوا.

سادساً: قلب السؤال إلى إثبات:

وذلك بأن يطلب من السائل (سواء وجه سؤاله للمعالج أو لغيره) أن يحاول أن يجيب هو نفسه على السؤال الذى طرحه، أو أن يقوله بصيغة الإثبات “شيل علامة الاستفهام”.

وفى خبرتنا: اكتشفنا هذه الحقيقة الكامنة وهى أن أى سؤال يحمل معه احتمالات إجابات مهمة، يمكن التعامل معها الأرجح فالأرجح، بما ينمى استقلالية السائل، ويعمق الحوار.

سابعاً: الاختيار بعد تحديد الشكل من الأرضية:

لم أتبين باكرا علاقة العلاج الجشتالتى بعلم نفس الجشتالت، وبالتالى لم أعرف إلا بعد فترة ما هي علاقة هذا العلاج بتحديد الشكل من الأرضية، ثم توصلت من خلال معظم آليات العلاج من أول تحديد “المواجهة” فى أنا/أنت & “هنا/الآن” حتى الألعاب بكل التفاصيل التى سنذكرها لاحقا أن متصل الدراية Awareness Continuum قد يتداخل فيه الشكل مع الأرضية بحيث يصعب حسم الاختيار بينهما فى لحظة معينة أيها الشكل وأيها الأرضية.

المثل البسيط الذى ضربه لى أحد الزملاء ولم أقرأه هو لطالب يذاكر دروسه ولا يستطيع أن يركز لأن مثانته ملآنه، ويتأخر كسلا أوعنادا فى إفراغها فتصعب المسألة أكثر، وحين يحسم الأمر بأن يترك الدرس (الشكل) ويفرغ مثانته (الأرضية) التى كادت تصبح شكلا يحتل بؤرة انتباهه فقراره، تتحدد الخطوط بين الشكل والأرضية ويعود ليختار الاستذكار “شكلا” أكثر تحديدا ووضوحا.

 فى العلاج، مع لعب هذا الدور ثم ذاك بين اختيارين، أو مع تقنيه العكس: أن يلعب عكس ما يعتقد أو يقول، ثم يرى أى الدورين أقرب إليه، فإنه بذلك يحدد الشكل من الأرضية، وقد يحسم حالة التردد والغموض والبلبلة ويقرر ما يشاء، وهكذا.

………..

ونكمل الأسبوع القادم بعرض: العلاج الجشتالتى (2من2) “الألعاب النفسية”

 

[1] – يحيى الرخاوى (مقدمة فى العلاج الجمعى (1) من ذكاء الجماد إلى رحاب المطلق) (الطبعة الأولى 1978)، (والطبعة الثانية 2019) منشورات جمعية الطب النفسى التطورى، والكتاب متاح فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مركز الرخاوى: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا بموقع المؤلف www.rakhawy.net  وهذا هو الرابط.

[2] – مازلنا نشير إلى البحث الذى كان الكتيب الأول الذى نحدثه مقدمة لبحثه.

[3] – مرة أخرى لن أستدرج إلى أى تاريخ سردى أو تأصيل نظرى فى أى من المدارس التى سأشير إليها لأن الغرض هو تقديم خبرتنا فيما يتقاطع مع بعض أفكار هذه المدارس لا أكثر.

[4] – هنا أو فى كتاب مستقل للألعاب العلاجية.

[5] – هذا هو اسم ثلاثيتى الروائية “المشى على الصراط” الذى خصص الجزء الثانى منها باسم “مدرسة العراة”، لعرض خبرة روائية للعلاج الجمعى مستلهمه من خبرة واقعية معظم الوقت، والمفهوم الشائع للمشى على الصراط فى الفكر الدينى الشعبى هو أنه فى الطريق إلى الجنة لى الإنسان القيام بعبور برزخ فوق نار مشتعلة (نار جهنم) مشيا على سلك رفيع جدا من الصلب…الخ.

[6]- إشارة إلى الدائرة الأكبر، دائرة المشاهدة، صامتين للمتدربين والمهيئيين تمهيدا لاحتمال ممارسة هذا العلاج أو مثله لاحقا، ويتم هذا بإذن المرضى فى المجموعة وبعد موافقتهم، وهذه الدائرة الأكبر تناقش ما تشاء بعد انتهاء بعد وقت المجموعة وانصراف كل المرضى .

 

admin-ajaxadmin-ajax (1)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *