نشرة “الإنسان والتطور”
الأحد: 7-2-2021
السنة الرابعة عشر
العدد: 4908
كتاب: مقدمة فى العلاج الجمعى
“من ذكاء الجماد إلى رحاب المطلق” (1)
الفصل الحادى عشر
العوامل العلاجية والفروق الثقافية
ورأى “يالوم” (2)
…………………
(2) الشمولية Universality
يبدأ “يالوم” هنا بالتذكرة بأن كل مريض (كل شخص) عنده فكرة فى عمقٍ ما من تركيبه بأنه ليس كمثله أحد فيما يعانيه، وأن حالته فريدة فى نوعها، ويقول “يالوم” أن هذه الفكرة تهتز بمجرد مشاركة المريض مع مجموعة من المرضى، إذ يكتشف أنه مثله مثل كثيرين، ولو اختلفت التفاصيل، وأيضا يتبين أن هناك من يراه (أو يرى حالته) مثلما يرى هو حالتهم، ويعتبر “يالوم” أن هذا فى حد ذاته باعث لنوع من التهدئه أو الطمأنة، حين يكتشف المريض وجه الشبه فى بعض المناطق، واحتمال الألفه فى بعض التفاعلات، وأن أفراد الجماعة يركبون نفس الزورق على حد تعبيرهwe are in the same boat ، وأن البؤس يحب الونس، Misery loves company، بل إنه يقول إن وجه الشبه يمتد بحيث يكتشف المشارك أن مساحة التشابة بين كل الناس أوسع بكثير مما كان يتصور.
أورد “يالوم” تجربة أجراها حين وزع ورقة على أعضاء مجموعةٍ ما، وطلب أن يكتب كل منهم – دون ذكر اسمه- عن ما هو العامل “السرى” الأهم الذى يصعب عليه إعلانه ويرى أنه يعرقل ولو نسبيا المشاركة فى المجموعة، واكتشف أن هناك وجه شبه بين كثير من الاستجابات، وقد وجد عاملين على قائمة الاستجابات هما “الشعور بعدم الكفاءة“، و”صعوبة عمل العلاقة اغترابا“، بمعنى أنه بالرغم من ظاهر التواصل فإنه يصل للكثيرين أن أحدا لا يهتم بالآخر فى واقع الأمر. ثم أشار إلى بعض الصعوبات الخاصة التى تحول دون تنشيط عامل الشمولية (فالتماثل)، ومنها الفروق الثقافية الفرعية (ولم يذكر اختلاف الدين) وإن كان قد ذكر بعض الانحرافات الجنسية.
فى خبرتنا الخاصة
لم يكن الأمر كذلك تماما وفيما يلى بعض الملاحظات:
أولا: نحن لا نشجع، ولا حتى فى البداية، فرط الحديث عن كشف ما بالداخل!!، وكلما ذكر أحدهم أنه هنا “عشان أطلّع اللى جوايا” تكون إجابتنا غالبا، لا ليس تماما الآن هكذا، دع ما بالداخل بالداخل حالياً، وسوف يصبح ما يفيد منه حاضرا “هنا والآن” فى الوقت المناسب. (وسنأتى إلى هذه النقطة عند الحديث عن العامل العلاجى المسمى “التفريغ” غالبا) وعادة ما يقاوم المرضى بشدة هذا النوع من المنع، فنؤكد أن هذا مـُـتـَـضـَـمـَّـن فى الاتفاق العلاجى الأساسى الذى يشترط اتباع قواعد المجموعة وخاصة مبدأ “أنا أنت” “هنا والآن”، وأننا حين نمارس حضورنا الجاهز “هنا والآن” (كما يظهر خارجنا) فإنه سيجرجر ما بداخلنا وينشطه فى حدود ما يمكن تغييره غالبا، وبالتالى لا تأتى فرص المشاركة لتحقيق مبدأ الشمولية كما ذكره “يالوم” إلا من خلال ما يجرى “هنا والآن”، بين من هو “أنا أنت” ليس للتماثل، وإنما لحوار الوعى البينشخصى (ثم الوعى الجمعى).
من هنا نحن نحاول الإقلال حتى النهْى عن استعمال ألفاظ التعميم مثل “الناس” “أصلنا.. كـُـُلنا” “الواحد”…الخ
ثانياً: كثير من المشاركين، وخاصة فى الجلسات الأولى يمدح فكرة العلاج مستعملاً المثل القائل: “من شاف بلاوى الناس هانت عليه بلوته”، وأنا شخصياً أرفض هذا الموقف الذى يمثله هذا المثل حتى أكاد أنهر قائله، إلا أن نكون فى بداية البداية، فأتراجع، وأكتفى بالتذكرة بأن المستشهد بهذا المثل تفوح منه رائحة الشفقة بل لعل فيه قدر من الشماته: اللاشعورية على الأقل، وأنبهه أن ما تقدمه المجموعة هو أنه: “من شاف بلاوى الناس زادت عليه بلوته”، بمعنى: أنه إذا تخلى الشخص عن موقف الحكم الفوقى والشفقة الجاهزة، فإنه سيحمل هم بلوته شخصيا، جنبا إلى جنب مع بلوة غيره، فيزيد الحمل، ليخف عنهما معا بالمشاركة بطريقة أخرى نتعلمها معا فى المجموعة، وقد يجرنا هذا إلى التفرقة بين “زعلان عليه” (يا عينى! يا حرام!) وزعلان “معاه” مشاركا شاعراً بمشاعره (المواجدةEmpathy)، والأهم: شاعرا بمشاعر نفسه القريبة من مشاعر المتألم، وقد يسأل أحدهم أحياناً هذا المشارك: انت حزين معاه يعنى شايف حزنه، ولا سمحت لحزنك انت إنه يقرّب، فقرّبت منه”، وكثيرا ما تأتى الإجابة ولو فى فترة متأخرة من نمو المجموعة، بأن حزن زميله شجعه أن يسمح لحزنه أن يقترب من نفسه، فيتقاربا. هذا المعنى يختلف فى عمق المستوى عن المعنى الذى أورده “يالوم” تحت عنوان “الشمولية”، من حيث أن هذا النوع من الشمولية الأعمق ينقلنا إلى عمق التشابه بيننا وبين بعضنا ليس فقط فيما نكتمه من أسرار، أو ما نعانى منه من شعور بعدم الكفاءة، وإنما هو يرجعنا إلى درجة من الوعى بالطبيعة المشتركة للبشر كافة، وخاصة الحقوق المنسية أو المنكرة مثل الحق فى الحزن، أو الحق فى الغضب، أو حتى حق الحقد، ونحن نتعامل مع هذه الطبيعة البشرية بالاعتراف والرؤية والقبول ابتداءً، ثم نرى ماذا يمكن أن نتصرف فيما نسميه “خـِلقةْ ربنا”، ونعنى بذلك أصل الطبيعة البشرية عادة دون أى معنى دينى ضيق.
وأيضا عن “الشمولية” نحن عادة نتخطى – دون نسيان- مستوى تشابه مشكلات، أو مشاعر، أو تشابه داخل المرضى بعضهم ببعض إلى التشابه بين المرضى والأسوياء بما فى ذلك المعالجين بدءًا بالمدَرِّب (المعالج الرئيسى) إلى المتدربيين (فالمعالجين المشاركين) وكثيرا ما ينبه المعالج الرئيسى المعالج المساعد إلى الالتفات إلى التفرقة بين مشاعر المشاركة (المواجدة Empathy) ومشاعر الاعتمادية، ولهذا جذوره فى ثقافتنا الشعبية، يقول الموال المصرى:
صاحبت صـاحب وقلت فْ يوم يشيل حـِمْــلي
جــاب حـِمـْلـــه التقيـــل وحطــُّـه على حـِمْــلي
لفـِّـيت جميع البلاد على صاحب يشيل حـِمْــلي
وتـْعبــت وشْـــــــقيت، لــكن بـــدون فـــــايدة
واللى اشتكيلـُهْ يقولـِّى: وَنـَا مين يشيل حـِملي
هذا موقف أصدق من المثل: من شاف بلاوى الناس، هانت عليه بلوته، بل هو أيضا أقرب إلى المثل المقترح!! “من شاف بلاوى الناس زادت عليه بلوته”
وهو لا يقرّ حقيقة بل هو يتضمن نهيا أخلاقيا عن المشاركة السطحية لاستغراق كل واحد فى ذاته.
مشاعر الشفقة Sympathy لاتخلو – ولو فى السر- من الفوقية والحُكمية أيضا”، وفى حدود الاتفاق المبدئى فى التدريب وحق المتدرب أن يعتذر فى البداية وللفترة التى يراها تناسبه متى شاء إذا رأى أن جرعة التفاعل أكبر من احتماله، لكنه لا يسمح للقائد بهذا الاستثناء، وما يسرى على أى مريض مشارك يسرى عليه، (2) وليس من حقه أن يعتذر عن المشاركة.
إن الكشف عن وجه الشبه بين السليم والمريض، وبين المعالج والمتعالج، سواء فى تفاعل مشترك أو فى لعبة يمارسها الجميع واحدة واحدة، يفيد كثيرا فى تأكيد مبدأ الشمولية، ليس فقط شمولية المعاناة والأعراض وإنما شمولية الطبيعة البشرية والآلام العامة والفرحة الأساسية (دون أسباب) والمعالج يستجيب لتداخلات المرضى أو ملاحظات المساعدين (أو المتدربيين) ومثل ذلك يسرى على المتدرب بعد انتهاء مرحلة الأمان (حق استعمال النور الأحمر= حق الاعتذار عن المشاركة الآن:) التى يحددها المتدرب بنفسه دون شروط ودون ضغط من المدرب (المعالج الرئيسى) .
رابعا: لم تتح لى (لنا) الفرصة لمشاركة من يمثل ثقافة فرعيه دينية من الأقليه المسيحية اللهم إلا مع عدد محدود من المتدربين والمتدربات، فكانت الفرصة ضيقة لتجاوز الحواجز الفاصلة (خاصة اللاشعورية) فى مثل هذه الأحوال، وكثيرا ما وصلنا، حتى من خلال التمثيل أو الإشارات غير المباشرة إلى نوع من قبول الشمولية المرتبطة بحضور الله معنا دون تمييز (ليس من منطلق ما يسمى الروحانية، ولا الزعم السطحى “بقبول الآخر”) وكان هذا الحضور يتجسد بحيث يجمعنا شموليا بغض النظر عن الفروق الثقافية الدينية الأساسية والفرعية .
إلا أن الفرصة أتيحت أكثر ونحن نمارس اختراق الفروق الثقافية الفرعية المرتبطة بنوع ودرجة التدين الفرعى الذى يظهر إما فى شكل الملبس (النقاب) أو المظهر (اللحية)، ويشترط على المنتقبه أن تظهر وجهها على الأقل أثناء الجلسه وإذا رفضت نعتذر عن السماح لها بالمشاركة فى المجموعة أصلا، ونفسر لها ذلك بأننا نتواصل عبر قنوات متعددة، من أهمها تعبيرات الوجه، لكن من حق المنتقبة أن ترتدى النقاب قبل بداية الجلسة وبعد نهايتها.
خامساً: أفادت الشمولية -من حيث المبدأ- أيضا فى التقريب بين أفراد المجموعة فيما يتعلق بالأعراض أو بالحقوق والمشاعر وقد امتد ذلك إلى توحيد العلاقة بالعامل المشترك الأعظم الذى اسميته “الوعى الجمعى للمجموعة” الممتد تلقائيا إلى الوعى الجماعى للمجتمع (ثم للكون إلى وجه الله كما اعتدنا أن نستعمل مثل هذا التعبير بين الحين والحين كما ذكرنا وسنذكر) فَتتُجَاوز بذلك الفروق الفردية فى درجة الالتزام الدينى وحتى الفروق بين الأديان، دون الاختباء وراء زعم التسامح السلوكى الظاهر الذى لا يمس جوهر التمييز الخفى.
سادساً: لاحظنا ايضا من البداية أن الفروق الطبقية (غير موجودة بأية درجة واضحة فى هذه المجموعات، حيث العلاج بالمجان كما ذكرنا، فالطبقات الفرعية متقاربه، والفروق الثقافية والتعليمية محودة نسبياً.
سابعاً: ساعد كثيرا فى كسر الحواجز، والتأكيد على فكرة الشموليه وفائدتها إلزام المعالج الرئيسى (المدرب) بأن تسرى عليه كل قواعد المجموعة بما فى ذلك كما ذكرنا – عدم قبول اعتذاره عن المشاركة مثله مثل أى مريض متى طلب منه ذلك (ليس من حقه استعمال النور الأحمر مثل المتدرب)، وقد ساعدت الألعاب بالذات فى تسهيل إظهار هذه الشمولية وكذلك الطبيعة المشتركه وخاصة الألعاب التى فيها إحراج وكشف عن الطبيعة البشرية بشكل محرج وأحيانا بالغ الإحراج، لكن القائد أو المدرب يلعب أخر فرد خشيه أن يظن بعض أفراد المجموعة أن استجابته هى الاستجابه النموذجية أو المطلوبة: فيقلدها.
ثامناً: امتد تأثير عامل “الشمولية” إلى دائرة الحضور للمشاهدة – وليس للفرجة- والمشاركة فى المناقشة بعد الجلسة، وهى دائرة أغنتنا عن فكرة الجلوس فى حجرة مشاهدة مستقلة لا تسمح بالرؤية إلا من جانب واحد – برغم أنها موجودة وجاهزة – لكننا رفضنا فكرة المشاهدة فى السرّ، وأكدنا – بعد أخذ موافقة المرضى من البداية- أن فرص المشاهدة المتبادلة علانية قائمة، علما بأن الدائرة الكبيرة تضم من عشرة إلى أكثر من ثلاثين مشاهدا متعلما مناقشا بعد الجلسة، فى حين أن دائرة العلاج الجمعى تضم من 8 إلى 12 مشاركا ما بين معالج ومريض (كما ذكرنا سالفا)، ولا يسمح للدائرة الأكبر بالمشاركة ولا بحرف واحد أثناء التسعين الدقيقة المخصصة للجلسة العلاجية، لكن يسمح لمن شاء منهم بالمشاركة فى المناقشة مع المعالجين بقيادة المعالج الأكبر (المدرب) وذلك بعد انصراف جميع المرضى، وتستمر المناقشة لمدة ثلاثين دقيقة تقريبا.
وقد لاحظت أن دائرة المشاهدين تحترم الجارى فى صمت مطلق حسب التعليمات، لكن الحضور فى هذه الدائرة للمشاهدة تشارك فى المناقشة كما ذكرنا بعد انتهاء الجلسة، وقد أقر كثير منهم بكسر الحاجز وممارسة المشاركة الصامته من بعيد مع ما يجرى فى المجموعة، وبتقمص بعض المتفاعلين من المرضى خاصة بوعى أو بنصف وعى، بما يدعم رأى “يالوم” فى فاعلية المشاركة، حتى يكاد يقترب الحضور فى الدائرتين من المشاركة فى تشكيل الوعى الجمعى الذى يتكون من تفاعلات دائرة المجموعة، والذى يبدو أنه يمتد إلى دائرة المشاهدة، وأثناء المناقشة بعد انتهاء وقت المجموعة، يجيب المعالج الرئيسى أساسا على أسئلة المشاهدين (3)، وأيضا يتبادل فيها المناقشون الآراء مع بعضهم البعض لمدة تتراوح بين عشرين وثلاثين دقيقة عادة.
وبعد
الشمولية خاصة بالمعنى الذى أورده “يالوم”، ظاهرة تحدث تلقائيا، وهى تعتبر من أساسيات حركية العلاج الجمعى، تماما مثل زرع “الأمل”، أما أنها عامل علاجى فهذا ما يحتاج وقفة متأنية ونظرة أعمق، فمن وجهة نظرنا هى تبدو كنتيجة للمسار الصحيح للعلاج، لكن علينا أن نتذكر أن الشمولية الإيجابية لا تحل محل التفرد أبدا، ففى الوقت الذى يحتاج المريض مثله مثل أى شخص أن يشعر أنه “مثله مثل غيره” هو يحتاج جدا أن يعرف أنه “ليس كمثله أحد تماما”، تمييزا وليس بالضرورة تفوقا، ولا معاناة.
………..
ونكمل الأسبوع القادم بتقديم الجزء: (3) نقل المعلومات Imparting Information (مازلنا مع يالوم)
[1] – يحيى الرخاوى (مقدمة فى العلاج الجمعى (1) من ذكاء الجماد إلى رحاب المطلق) (الطبعة الأولى 1978)، (والطبعة الثانية 2019) منشورات جمعية الطب النفسى التطورى، والكتاب متاح فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مركز الرخاوى: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا بموقع المؤلف www.rakhawy.net وهذا هو الرابط.
[2] – فى صورة شعرية بالعامية نقدت الطبيب النفسى عموما، وفى هذا العلاج خصوصا حين يطلب من المريض أن يحيى مشاعره ليشارك “ويقول لى حـِـسّ” وأحيانا يقول له المبتدىء، “حس زى ما أنا باحس” فجاءت الصورة الشعرية فى منتهى القسوة على لسان المريض وهو يقول:
ويقلب سيخى، ويقول لى حِسّ،
بالنار من تحتك،
كما إنى باحسّ
بحلاوة ريحتك.!!!
[3] – الذى يستعد بعضهم لتدريب منظم لاحق