نشرة “الإنسان والتطور”
الأحد: 29-11-2020
السنة الرابعة عشر
العدد: 4838
كتاب: مقدمة فى العلاج الجمعى
“من ذكاء الجماد إلى رحاب المطلق” (1)
الفصل الثامن
التقنيات الأساسية فى العلاج الجمعى
إذا كانت هذه هى التشكيلات المتاحة عبر تاريخ الحياة، وهى إما العزلة والاستكفاء الذاتى حتى فى البقاء والتكاثر بالانقسام ويكفى التلاؤم مع المحيط، وإما بتخليق تشكيلات ثنائية سلبية وإيجابية، وهى تكتسب الاعتراف بالبقاء تبعا لظروف تدعمها لفترة بذاتها يبدو أن لها عمر افتراضى فكيف تستمر الحياة ضد عنف وإغارة قوى الإنقراض؟ (وبالذات بالنسبة للنوع البشرى؟). وماذا يجرى فى ممارسة العلاج الجمعى كمثال؟ (والمثال هنا له ظروفه الخاصة، فهو يشمل العلاج لدائرة المرضى والمعالجين كما يسمح بالمشاهدة في دائرة أكبر للتدريب بإذن المرضى وموافقتهم)
أولا: يبدأ كل مشارك من “حيث هو”، وهذا يشمل المرضى والمتدربين (المعالجين المشاركين) والقائد، ويعرف كل واحد نفسه بالاسم له أن يعلن شكوى واحدة كبداية، مع ذكر العمل أحيانا أو كما يشاء.
ثانياً: لا يطلب من أى مشارك إلا اتباع القواعد وأسس الاتفاق من حيث:
(1) الإلتزام بموعد ومكان والحضور،
و(2) السماح بحضور الدائرة الأكبر (فى حالة الاضطرار التدريبى أو العلمى إلى ذلك)، ثم
(3) الإلتزام بقواعد التفاعل التى تهيئ لتصعيد تدريجى حسب توجيهات القائد ومشاركة المعالجين.
ثالثاً: تصل إلى القائد (والمشاركين) مباشرة، (ومن خلال المعلومات المتاحة من أوراق المشاهدة بعيدا عن الجلسات) ما يمكن معه التعرف على درجة ونوع الترابط البادئ به كل مشارك، وذلك دون تحديد التفاصيل حتى فى وعى المعالج مباشرة، ويلاحظ احتمال وجود طيف من الاختلافات على كل مستوى، سواء فى تاريخ الشخص أو أثناء حضوره المجموعة، كما أننا لاحظنا أنه ليس من الضرورة – أن تكون وظيفة المجموعة هى استعادة فتصحيح الأخطاء والعلاقات المعيقة الموجودة مسقباً، وإن كان من غير الممكن إغفال تأثير العلاقات السابقة دون التركيز عليها كمنطلق.
رابعاً: تبدأ النقلة النوعية تدريجيا – دون إعلان – بالتعرف بين أفراد المجموعة ان العلاقات المتاحة هى علاقات آنية (الآن) مكانية (هنا) بين وعى شخصى (أنا) ووعى أى شخص آخر فى المجموعة (أنت)، وتبدو هذه النقلة صعبة لأنها تنفى تصورات مسبقة عن أن العلاج هو أساسا بالكلام ولو فى صورة حوار ومناقشات وإثبات وإقناع، وهنا أفضل أن أحدد طبيعة الاختلاف من خلال نفى المتوقع بشكل غير مباشر، ويشمل هذا النفى أنها:
1- ليست حوارا بين عقلين ظاهرين.
2 – ولا هى مناقشة بين رأيين أو معتقدين.
3 – ولا هى مناظرة بين وجهات نظر.
4- ولا هى قواعد عامة إرشادية أو تطبيقية (الناس/الواحد/ماهو أصل الحكاية/ما هو الأصول إنه…….. الخ).
5 – ولا هى حديث عن من هو “ليس هنا” (ضمير الغائب) إلا بمقدار ما هو مقدمه لإحضاره فى “وعى الآن”.
6- ولا هى صفقة دفاعات (ميكانزمات) تبريرية (عادة) متبادلة، إلا كمقدمة لمواجهتها.
7 – ولا هى نصائح فوقية من قائد فرقة لأعضائها أو من أى عضو لآخر.
8 – ولا هى حِكَمٌ وأمثال (حتى لو كانت مناسبة) إلا انطلاقا منها إلى ما هو “هنا والآن”.
9 – ولا هى تصحيح مباشر عام لأخطاء معرفية عن النفس، فى الصحة والمرض، (ولا عموما).
10 – ولا هى مناقشات: “إثبت لى” و”أثبت لك”.
11 – ولا هى تفريغ للتفريج “أطلّع اللى جوايا”.
12 – ولا هى وعود مؤجلة.
13 – ولا هى تعبير مباشر عن ارتباطات عاطفية بذاتها.
14 – ولا هى تصفيق لعواطف لا تـُختبر
15 – ولا هى حديث عن آمال مثالية مؤجلة.
16 – ولا هى توجيه للصحّ والخطأ حسب الأصول المرعية.
17 – ولا هى تزجية وقت.
18 – ولا هى مقياس لألمعية ذكاء قادر على حل الألغاز.
19 – ولا هى تصفيق لقائد.
20 – ولا هى تقييم للمشاركين وترتيبهم تنازليا أو تصاعديا.
أكتفى بهذه العينات مؤقتا، وإن كنت أعترف:
أولا: أنها ليست كل ما نحاول تجنبه.
وثانياً: أنها لم تخطر على بالى بهذه الصورة ولا بهذا الترتيب طوال ممارستى خلال أكثر من أربعين عاما، إلا حالا لزوم الكتابة، لكنها غالبا كانت سارية طول الوقت.
هوامش حول الأسلوب:
* لا يتم النهى عن كل هذه النواهى ومثلها بشكل قهرى فوقى وإنما يُكتَفَى بالتذكرة بالقواعد بطريقة متدرجة وحاسمة ومتصاعدة باستمرار.
* يتم التنبيه فى البداية فالتذكرة تكرارا من جانب قائد المجموعة بجرعة واضحة، ثم يتدرج الأمر رويدا رويدا فيشارك المتدرب، أو المعالج المشارك فى ذلك، ثم يساهم أفراد من المجموعة فى التذكرة بهذه النواهى بدرجات مختلفة، مع ملاحظة أن من ينهى عن بعض ذلك لا يكون هو بالضرورة ملتزما شخصيا بشكل أكبر من الشخص الذى ينهاه، فلا يمكن نفى أن ذلك يشكل أحيانا نوعاً من التذكرة الشخصية أو الإسقاط.
* مع نمو المجموعة تتراجع درجة الحاجة إلى التنبيه رويدا رويدا، بما يشير إلى اكتساب الأغلبية قدرا من المهارات اللازمة لمواجهة الوعى الآنى لبعضهم البعض مباشرة حسب متطلبات العلاج.
* تساهم عملية مواصلة النهى، وتصعيده أحيانا فى الانتقاء الطبيعى لمن سوف يستمر فى الجماعة متحملا هذه الطرق الجديدة فى التواصل.
* يحدث فى مناسبات ليست نادرة أن قوم بعض المرضى بالتنبيه على: القائد أو المعالجين المشاركين (أو المتدربين) إلى ضرورة الالتزام بالقواعد إذا ما حاد أحدهم عنها، وخاصة إذا تكرر ذلك من معالج بذاته.
* يساهم الإلتزام بالشكل فى تحقيق المراد من المحتوى، فمثلا يساهم تثبيت نفس المكان ونفس الموعد (بالدقيقة) فى تشكيل “المحيط” داخل كل فرد وداخل الجماعة، ومن ثم إرساء القواعد الأساسية اللازمة للمواجهة والحركية فالتغيير.
خامساً: تتطور العلاقة فى المجموعة كيفما اتفق، ولا يقاس النجاح بسرعة اكتساب المهارات الجديدة، وإنما بتفعيلها تدريجيا لتحقيق النقلة النوعية فى التفاعل، وهذا يرتبط بدرجة أو بأخرى بمهارة القائد (ومساعديه)، ويبدو أن المسيرة تتحرك على الوجه التالى:
* تنمو العلاقة بشكل غامض متزايد، وربما خفى، مع المجموعة ككل بدرجات متفاوته، وحسب التشخيص، وصلابة الدفاعات والسن وكثير من المتغيرات الفاعلة التى يصـْـعـُـب تحديدها مستقلة.
* مع مرور الوقت تنتقل العلاقة الاعتمادية أكثر فأكثر من القائد إلى المجموعة عادة دون الإقلال من دور القائد.
* تبدو العلاقة فى البداية ثنائية بين كل فرد وبين القائد بشكل أساسى .
* سرعان ما تبدأ سلسلة من التربيطات العشوائية الثنائية فأكثر بين أفراد المجموعة وبعضهم البعض والمعالجين معهم.
* لا تنفى العلاقة الثنائية مع القائد التى لا تخلو من درجة من الاعتمادية أو التعلق، أو التعلق المتبادل (2) لا تنفى هذه العلاقة تعدد العلاقات الثنائية بين أفراد المجموعة.
سادساً: مع مرور الوقت يتبين أن معظم المرضى يحضرون “للمجموعة” وليس للقائد، ولا لشخص بذاته، وتزيد جرعة الانتماء للمجموعة تدريجيا لتفوق درجة العلاقة بين الأفراد، اللهم إلا إذا كان أحد أفرادها يمر بمأزق نمو معين، أو حدث له موقف خاص استدعى انتباها خاصا لفترة محدودة عادة.
سابعاً: يتأكد ذلك باختبار غياب القائد مصادفة (باعتذار مسبق أو آنىّ نادرا) حيث يفاجأ الجميع غالبا بطلاقة وتلقائية غير متوقعة فى غياب القائد.
ثامناً: فيما عدا العلاقة التحطيمية Synnecrosis لاحظنا حركية الانتقالات بين العلاقات الثنائية بدرجات متفاوتة لكنها كانت تضم – بالإضافة – عاملا مشتركا جديدا، وسواء كانت علاقة ثنائية تكافليةMutualism ام تعايشية Commensalism أم تساغبية Amensalismأم حتى طفيلةParasitism فإن هذه العلاقات تستمر فى التبادل والتغير مضافا إليها هذا الجزء المشترك الغامض الحافز للتوجه فى نفس الوقت نحو “كيان يتخلق يلتف حوله الجميع دون تحديد”، وحتى العلاقة التحطيمية إن وجدت، فإنها تتراجع تدريجا وقد تتبدل ولو بصعوبة ثم تشارك إلى نفس التوجه الجماعى الضامّ.
تاسعا: إذا تعمقت علاقة ثنائية خاصة أو حلت علاقة ثنائية جديدة محل أخرى لدرجة استبعاد القاسم المشترك الجامع للجميع فإن ذلك يعد من المضاعفات الأساسية، وهو ما يسميه “بيون” كما ذكرنا الازدواجية Pairing ، فإن ذلك يقبل ايضا كمرحلة، وتتعاون المجموعة على مساعدة هذا “الزوج المستقل” نسبيا على العودة إليها تدريجيا وتنجح عادة أو تفشل مؤقتا، وقد يعطل التمادى فى مثل هذا التزاوج الانتظام فى المجموعة، ولا يكمل الاثنان ولا يكون هذا ضدهما ولا ضد المجموعة عادة، فالمجموعة لا تمثل قيمة منافسة بديلة عن المجتمع الأوسع، وإنما فرصة أرحب وحركية أنشط.
عاشراً: لا نسمح أو نشجع أية علاقات ثنائية خارج وقت المجموعة، ولا خارج مكانها، ما أمكن ذلك، اللهم إلا اتصالات هاتفية محدودة وشفافة عادة، وإن كان لا يمكن ضمان حدود ذلك بشكل محكم منضبط بشكل دائم أو مطلق.
حادى عشر: لا توجد وصية محددة لشكل العلاقات أو امتدادها بعد انتهاء المجموعة، لا نَهْى ولا تشجيع، علما بأنه خلال عشرات السنين لم تحدث مضاعفات يمكن أن نعتبرها سلبية تماما.
ثانى عشر: تتواصل حركة وعى المشارك ما بين العلاقة بالذات فالعلاقة الثنائية (داخل وخارج المجموعة) إلى العلاقة بالوعى الجمعى وهى تتبع غالبا برنامج “الدخول والخروج” المتواكب والمتكامل مع “نبض الايقاع الحيوى”، إلا أن هذا لا يُرفض من حيث المبدأ، وربما يتيح قدرا من الحركية ذهابا وجيئة، ملأً وبسطاً، بما يؤكد طبيعة النمو الإيقاعى النابض معظم الوقت.
ثالث عشر: ما يتبقى من المجموعة بعد انتهائها ليس “ذكريات” بقدر ما هو حضور تشكيلات الوعى الجديدة واستمرار حركيتها مع ما طبع من وعى أفراد المجموعة حتى بعد افتراقهم.
رابع عشر: يظل الوعى الجمعى ماثلا فى الوعى الشخصى لكثير من أفراد المجموعة، دون دراية بذلك، بما يسهم فى تحريك وتطوير ونماء العلاقات التالية لخبرة هذا العلاج بعد انتهائه.
خامس عشر: من منطلق ثقافتنا المعتادة قد يرتبط تخليق الوعى الجمعى للمجموعة” بحضور الله معنا بطريقة تلقائية موضوعية حاضرة فى “هنا والآن” ليس لها علاقة بدين معين أو مذهب معين أو حلال أو حرام أو أمر بالمعروف أو نهى عن المنكر، وقد كان الحرج ينتابنى باستمرار- كما ذكرت- كلما اضطررت لذلك وعرجت إلى هذه المنطقة ولو مصادفة، أو ضمنا حيث كنت أخشى دائما الترجمة الفورية إلى مفاهيم سلطوية تقليدية جامدة ومغتربة عن “هنا والآن”.
استشهادات داعمة:
كنت أحسب أن ما وصَلَنا من العلاج الجمعى خلال أكثر من “أربعين عاما” هو فى أحسن الأحوال قاصر على ثقافتنا أكثر من غيرنا وذلك من خلال ممارسات وانطباعات وفروض إكلينيكية خالصة، وإذا بفيض ما وصلنى حديثا من إنجازات علمية من مختلف المصادر يطمئنى أن طالبى المعرفة والعلماء فى كل مكان أمين يعملون فى نفس الاتجاه حتى وصلوا إلى فروض ومعلومات شديدة الارتباط بما عايشناه ونعايشه فى خبرتنا بما يدعمها عبر قنوات علمية ومعرفية أخرى بلغات أخرى.
أهم النقاط التى تصدَّرت الاحدث فالاحدث هو التأكيد على فاعلية ونشاطات وتعدد قنوات التواصل بين البشر، واستدامة نبض المخ البشرى باستمرار لإعادة التشكيل، وأهمية وحدات الزمن المتناهية الصغر فى احتواء التفاعل بين الناس وبعضهم البعض، وسوف أحاول الآن الاستشهاد بمقتطفات من الأحدث فالأحدث مما وصلنى فى هذا الشأن.
الفكرة الأساسية قبل كل ذلك وحول كل ذلك: هى أن المخ البشرى عضو عظيم التعقيد بالغ القدرة فائق الكفاءة دائم النشاط فى عمليات إعادة تنظيم نفسه باستمرار فى الصحة والمرض، هذا المدخل برغم أنه يبدو عضويا عصبونيا مشتبكيا بيولوجيا إلا أنه هو الذى تتناوله الأبحاث الأحدث فالأحدث، ومن خلاله نتعامل مع المخ البشرى الآن كمنظم عملاق للمعلومات والطاقة،Processors of Energy and Information الأمر الذى يظهر فى تجليات السلوك البشرى المختلفة.
[1] – يحيى الرخاوى (مقدمة فى العلاج الجمعى (1) من ذكاء الجماد إلى رحاب المطلق) (الطبعة الأولى 1978)، (والطبعة الثانية 2019) منشورات جمعية الطب النفسى التطورى، والكتاب متاح فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مركز الرخاوى: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا بموقع المؤلف www.rakhawy.net وهذا هو الرابط.
[2] – فضلنا استعمال كلمة تعلق بديلا عن كلمة “طرح” Tranference لتوضيح وجهة نظرنا أن المسألة ليست مجرد طرح يستعيد علاقات والدية (أو غير والدية) قديمة، وإنما هى ممارسة علاقات جديدة متحركة.