- التصدير والمقدمة
- أولا: الجزء الأول: اختيار البحث
- الجزء الثانى: فى النظرية والأداة البشرية
- ثانياً: الأداة البشرية والممارسة الإكلينيكة
- ثالثاً: الطب النفسى المصرى والطب النفسى التطورى
- خــاتمــة
دار المقطم للصحة النفسية
المكتبة العلمية
مقدمة فى العلاج الجمعى
عن البحث فى النفس والحياة
تأليف
أ.د. يحيى الرخاوى
1978
تصدير:
كتب الأستاذ الدكتور يحيى الرخاوى هذه المقدمة لغرض محدد، وهو تقديم بحث قام بالإشراف عليه وأعده أحد تلاميذه، وهو الدكتور عماد حمدى غز، وذلك عن “العلاج الجمعى: دراسة دينامية لاتجاه مصرى”، ثم عرضها علينا – تلميذه – الواحد تلو الآخر كما يفعل فى أغلب ما يكتب قبل أن يدفع به إلى النشر، إذا بنا نفاجأ بأن هذه الأفكار – التى كثيراً ما طلبنا منه نشرها – أمامنا مكدسة وراء بعضها فى تسلسل قائم بذاته يكاد يستقل حتى لينفصل عن البحث المراد تقديمه، وأصبحنا، وأصبحت أنا بوجه خاص فى حيرة، وعرضت عليه رأيى ألا تكون هذه المقدمة لبحث خاص، وأن يزيدها وينقحها ويكتب لنا وللناس كتابا عن العلاج النفسى الجمعى يضع فيه خبرته وعلمه كما يعدنا دائما، ووافق من حيث المبدأ، ووعد خيراً، ولعلمنا المسبق بطبعه لم نأمن لهذا الوعد فأردنا منه التزاما، فتهرب كالعادة، وحاولنا اختبار الموقف عمليا بأن طلبنا منه أن يكتب تقديما موجزا لبحث الزميل الدكتور عماد غز، فلم يفعل … وأشار أن ينشر هذا التقديم هكذا، ولا مانع من أن يعاد نشره ضمن الكتاب الأكبر…
وراجعت نفسى ووعوده السابقة وأيقنت أن الوعد غير الموقوت قد لا يعنى شيئا حسب سابق خبرتى معه..، وقلت لعل أفضل ما يمكن هو أن نقدم هذه المقدمة على مستوى آخر لأعداد أكبر مستقلة فى ذاتها .. وليكتب هو ما يريد فيما بعد، وأملنا أن تحقق هذه الخطوة مطلبين …
الأول: إحراجه حتى لا يتراجع
الثانى: توصيل بعض ما يمكن توصيله فى حينه إلى الناس دون انتظار للوعود المتكررة.
ولم يخفف علينا ما فى ذلك من مخاطرة إذا قد يحس القارئ أن الخاص (وهو تقديم بحث بذاته) أصبح عاما دون مراعاة للفرق بينهما، إلا أننا أدركنا بعد المراجعة المتأنية أن هذا لن يضير العمل شيئاً، وأن كل إشارة خاصة يمكن أن تفهم دون الرجوع إلى البحث مباشرة، وكذلك فإنها قد تصلح لأى بحث من هذا القبيل دون الارتباط بهذا البحث بوجه خاص.
قد يكون فى هذه المحاولة بهذه الطريقة مالم يألفه القارئ، ولكن من ذا يستطيع أن يجزم أن المألوف هو الأفضل؟.
أ.د. رفعت محفوظ
ليكن، ولقد ألحقت بهذا العمل الخطوط العريضة لمزيد من الفروض العاملة فى مجالات أخرى، ولينتفع كل بما شاء لما شاء.
أ.د. يحيى الرخاوى
مقدمة
لهذا العمل وضع خاص:
فهو مقدمة لبحث قمت بالإشراف عليه وبحث شاركت فيه ولكنه مقدمة أيضاً لبحث كنت “أنا شخصيا” بعض مادته.
وأخيراً هو تقديم لطريقة علاجية نشأت من ممارستى للعلاج النفسى فى مصر …
وبعد ذلك فإنى به أقدم نفسى وفكرى .. أخيراً، وبالرغم من أنها مسألة تبدو خاصة تماما وهى تقدم بحثاً بذاته، إلا أنى تعمدت أن أجعلها مقولة قائمة بذاتها، حتى لتكاد أن تقرأ مستقلة تماماً… رغم ما جاء بها من إشارات متكررة عن البحث القائم.
ذلك لأنى انتهزت هذه الفرصة المتاحة لأعلن بضعة خطوط عريضة آن الآوان لإعلانها، إذا سأحاول من خلال هذه المقدمة المتصلة بشخصى من أكثر من جانب أن أضع “فهرساً” أو “رؤوس مواضيع” تشغلنى منذ زمن ليس بعيداً (منذ “ولادة الفكرة” التى أعلنتها فى كتابى “حيرة طبيب نفسى”)، وقد وجدت أنه قد مرّ على ذلك ما كاد يزيد عن ست سنوات دون أن يصدر شئ محدد يتلو هذه الفكرة رغم أنها كانت “نهاية وبداية” كما أعلنت، ولهذا التأخير وحده ميزة لا أتنكر لها .. كان بفضلها أن اختمرت سائر الأفكار، واختبرت بعض الفروض، إلا أن الوقت أخذ يمر حثيثاً حتى بدأت أخاف أن ” أذهب” قبل أن أحدد معالم ما توصلت إليه.. وقررت أن أنتهز هذه الفرصة لا دوّن بعض ما يشغلنى، ولو “كورقة عمل”، ولو “كفروض محتملة التحقيق” ولو “كمثيرات للتفكير”، وقد بلغت مخاوفى أنى أحسست – فى أقل من ثانية – أثناء حادث سيارة وقع لى فى الشتاء الماضى أنى إن ذهبت ومعى ما أحمل من فكر فإنى سوف أكون مثل من سرق ماليس له .. لأنى قصرت فى أن أتركه لأصحابه، فإذا وجد القارئ استرسالا فى الأفكار قد يبعده قليلا عن هذا البحث، فيعذرنى ولسوف أحاول أن أقدم له ما يبرر ذلك نم وجهة نظرى، فليحمل الورق بعض ما حملت من أمانة لم يعد من حقى – بعد انتظار سنوات – أن أظل محتفظاً بها، أمنعها دون أصحابها من هذا الجيل أو الأجيال اللاحقة بحجة صعوبة النشر أو الرغبة فى الإتقان والتكامل، فلا النشر سيصبح أسهل مما هو الآن لمثل هذا الجديد فى عنفه وندرته وتحديه، ولا الإتقان حتى التكامل بممكن بالدرجة التى ترضى أى متردد أو خائف مثلى، وهنا لابد أن أشكر دار المقطم ودار الغد لهذه التضحيات المادية وأشكر الباحث لهذه الفرصة الكريمة.
****
وسوف تكون عناصر هذا العمل كالتالى:
الجزء الأول
(فى البحث العلمى والعلاج الجمعى)
1- اختيار البحث
2- تاريخ التجربة
3- طريقة البحث وصعوباتها
4- مادة البحث
5- معالم طريقة العلاج الجمعى هذه
6-علاقة هذا العلاج بمختلف الأبعاد المتعلقة به، ويشمل ذلك: العلاقة بالعلاجات الأخرى والعلاقة بمدارس علم النفس المعاصرة، ثم العلاقة بطرق العلاج الجمعى الأخرى.
وكذلك العلاقة ببعض المدارس والمشاكل الفلسفية، وأخيراً العلاقة بقضايا عامة (مثل الدين والسياسة … الخ).
الجزء الثانى
(فى النظرية والأداة البشرية)
1- الخطوط العامة للفروض العاملة
2- الأداة البشرية والممارسة الإكلينيكية
3- الطب النفس المصرى … والتطورى.
الجزء الأول
أولا: إختيار البحث
إن الطب النفسى الوصفى لم يزدهر إلا من خلال بعدين أساسيين:
أولا: تنمية الحدس الإكلينيكى
ثانيا: الوصف التسجيلى الأمين
(وهذه البعدين هما ما أشرت إليهما فى تقديمى للكتاب الأول فى هذه المكتبة العلمية وسوف أعيد الحديث عنها فى الجزء الثانى من هذا الكتيب)، وبالتالى فينبغى أن يكون البحث العلمى فى فرعنا هذا ملتزماً أساساً بهذين البعدين، لا حكراً على تعداد الأرقام أو وفرة الأعداد (وإن كان لا غنى له عنهما).. وإنما يتحقق هذا الالتزام بالعمل على إعداد باحث أمين .. وتحديد فرض عامل .. وتسجيل ملاحظة يقظة . ثم بعد ذلك يأتى التفسير وإعادة التفسير وإعادة تفسير التفسير .. الخ، فمرحلة التفسير مفتوحة دائماً وإلى أبعد مدى.
وبديهى أن هذا الاتجاه الاكلينيكى الذى أحاول أن أؤكده بإلحاح، يكاد يصل إلى حد الإملال، ليس بديلا عن البحاث السلوكية المفصلة .. ولكنه الأصل دائما.
وهذا البحث هو من نوع تسجيل الملاحظات أساساً ثم تفسيرها، وهو يعلن ضمناً أن إلزام إعادة التجربة مرفوض فى مجالنا هذا لأنه مستحيل، وأن العينة الضابطة مرفوضة أيضاً لأنها خدعة، فالإنسان كائن متغير بالضرورة، متطور (أو متدهور بطبيعته)، هادف واعٍ..، وقد أكدت هذه المقولات التى تعطى لعملنا وضعاً فريداً ضرورة البحث عن منهج للبحث العلمى خاص به، وقد تصاعد رفض فكرة “إعادة التجربة” و “العينة الضابطة” حتى أنى علمت مؤخراً أن آباء التداوى بالعقاقير النفسية فى معمل السيكوفارما كولوجى فى باريس (تحت رئاسة الأستاذ الدكتور دينيكير .. ومن قبله ديلاى مكتشفى عقار اللارجا كتيل) قد أعلنوا رفض إلحاح شركات الأدوية على الالتزام بهذه البدعة السخفية وهى بدعة “العينة الضابطة”..، فإذا كان ذلك فى مجال تقييم آثار العقاقير الفارما كولوجية، فهو أهم وأصدق فى مجال ملاحظة السلوك الإنسانى وتحديد قواه وتفسير جوانبه فى واقع الممارسة الإكلينيكية .. ومن ضمنها العلاج النفسى.
ولكن هذا البحث ايضا يحاول – كما أعلن من ضمن أهدافه – تقييم طريقة ما فى العلاج النفسى، ويبدو أنه اثار بطريقة غير مباشرة أننا ونحن فى سبيلنا إلى البحث والتحرى والتقدير لابد وأن نعرف “ماذا” نقيس، قبل أن نتناقش فى “كم” نقيس، فكثير من الأبحاث والآراء والنقد والتقييم يدور حول كمّ شئ لم يتحدد قبلاً، هو دراسة لتجميع تلك الأبحاث المقارنة لتفضيل نوع معين من العلاج النفسى على نوع آخر، أو على علاج آخر (!!) إذا أن أى ممارس للعلاج النفسى باقل درجة من الصدق أو العمق، يعرف ماذا تعنى كلمة “تقييم” لما يفعل، فإذا كان مصدر التقييم هو المريض: فدفاعاته قد تكون هى الحكم الأول والأخير، ففى الوقت الذى قد يعتبر المريض نفسه قد “شفى والحمد لله” قد يضع المعالج يده على قلبه إذا هو يعرف تماماً أن المريض قد يكون بهذا هارباً إلى “مظهر الصحة” خوفاً من مخاطر التغيير، فهذا المريض الذى سنأخذ إجابته لصالح العلاج قد نجد طبيبه –إن كان يقظا – فى انتظار النكسة الصريحة (بعودة الأعراض) أو النكسة الخفية (بانحدار مستوى تكيفه ونبضه العاطفى وإبداعه واخراقه للحياة).
وأنتهى إلى القول أننا إذا قلنا أن هذا النوع من العلاج أفضل من ذاك النوع دون أن نحدد بالقوة المكبرة معنى “أفضل”، وما هو الهدف من المسرة العلاجية (ومن الحياة) نكون قد وقعنا فى مزلق استعمال أساليب علمية (بل شبه علمية) لتبرير جمود حضارى دون وعى أو مسئولية، ولعل كل من يقيم طريقة من هذا النوع يندرج إما تحت لافتة “المريدين” أو لافتة “الخائفين” (راجع الحماس للتحليل النفسى من المريدين، والهجوم عليه نم الخائفين)، ومن هنا بدأ اعتراضى الأول على القائم بهذا البحث حين عرض علىّ فكرة البحث وخاصة أنه كان بشأن اختياره كجزء لازم للتقدم للحصول على درجة الماجستير … ومعنى ذلك أ،ه سيقدم إلى جهة رسمية، للحصول على إجازة رسمية، فى وقت محدد…
وقد حاولت – لذلك – أن أثنى الباحث عن عزمه مراراً – رغم رغبتى الحقيقية فى أن يصر على المغامرة – إلا أنه وحده دون جميع المجتمعين أصر على خوض التجربة، وكانت ذريعته حينئذاك “.. لابد أن أكون واضحاً مع نفسى، ومحدداً فى اختيارى، ومنذ البداية ..، وما دمت قد اخترت هذا المجال مهنة وطريق معرفة .. فليكن بحثى فى مجالى دون تلكؤ…” ولا أنكر أنى قد تخوقت من هذه اللهجة الواضحة المتحمسة (وقد ثبت فيما بعد أن تخوفى كان فى موضعه إلى حدّ ما) ولكن ما أثنانى عن الحليولة الفعلية دون قيامه بالبحث هو ما تذكرته من حماسى فى أول شبابى العلمى تحت إشراف أستاذى الدكتور عبد العزيز عسكر حين كان أول بحث قمت به هو تبريد المرضى حوالى عشر درجات مئوية بما يحمل ذلك من مخاطر الموت، وها هو تلميذ يكرر هذا الحماس بما يحمل من مخاطر المواجهة العنيفة .. ليس فى داخل المرضى فحسب، بل فى داخل المعالج والباحث نفسه، إذا أن الجرعة البصيرية اللازمة لإجراء مثل هذا البحث بأمانة كانت فى تقديرى أكبر من احتمال شاب فى مستهل حياته، لكل هذا تماديت فى محاولة إثنائه عن عزمه كما تمادى زملاؤه فى نفس الاتجاه.. إلا أنه مضى فى إصراره، وحين يصر شاب على أمر قابل للاختيار فإنى لابد أن أرضخ، ذلك لأن إصراره يزيد مسئوليته عن نتائج محاولته، ثم إنه يتيح لى – ولنا – من خلال ذلك فرصة التجربة رغم المحاذير المبدئية الجبانة .. إلا أن رضوخى كان مهزوزاً، فقد عدت فترددت مرة أخرى حين أمعنت النظر فى تفاصيل البحث الذى سيقوم به، حيث أنى “شخصياً” من ضمن مادة بحثه، فأنا المعالج الذى يجرى عليه البحث، وفى نفس الوقت أنا المشرف على نفس البحث .. والأدهى من ذلك فأنا أستاذ الطالب، ليس فقط فى مجال البحث بل وفى غير ذلك من المجالات، فضلا عن بعد رابع أهم وأخطر وهو العلاقة الوجدانية التى تربطنى بالباحث وتربطه بى .. سلبا وإيجاباً، بوعى أو نم خلف ظهرنيا، فكيف بالله أتصور لبحث أقوم فيه بهذه الأدوار الأربعة مجتمعة أن يقترب بدرجة كافية من الموضوعية..؟
وقد عرضت مخاوفى – ثانية بعد بداية البحث – على الباحث وزملائه، وأصر الباحث أن يكمل الطريق الذى اختاره ليعلن للناس، وأهل العلم، ومحبى المعرفة ما يرى ويتصور أنه لازم أن يقال .. إذا يوصل لهم رؤيته بكل مالها وما عليها، وتمادى فى ذلك متهماً إياى أنى لو استمررت على هذا التردد فقد تبدأ مثل هذه التجربة معى، وتموت معى .. إنا بموتى أو بيأسى وعجزى، وكنت احس من خلال مناقشاتنا أنهم يرون – كما أرى – فيما يجرى شيئاً جديداً، وأنى أحمل أمانة ينبغى أن تؤدى إلى أهلها – الناس والعلم – باللغة المشتركة … وبإعلان الجارى بالقدر الموضوعى الممكن .. وليس بالاستسهال الهروبى الجزئى، ولا أنكر أن كل هذا قد أدخل الطمأنينة إلى قلبى .. ليس بالنسبة لهذه التجربة فجسب، بل بالنسبة لبقية أفكارى التى اختلطت بلحمى ودمى ولم يُؤذن لها فى الخروج إلى الكافة بعد …، وإنما اختص بها من حولى فى مجالات الدراسات العليا والبحث فحسب، وتذكرت أمثلة فى التاريخ – تاريخ علمنا – مثل هارى ستاك سوليفان، وأدلف ماير … إذا لم يكتب أى منهما أفكاره مباشرة فى الأغلب، وإنما نقل تلاميذه نظياته وفكره.. وقلت لنفسى فى خبث مطمئن، لك أن تستريح إذاً .. لأن فكرك الذى هو زاوية رؤيتك للحقيقة لن يموت بموتك .. أو حتى عجزك .. أو يأسك.. وهكذا، أصر الطالب على القيام بالبحث الذى اختاره، وقاومته بالقدر الذى استطعت به أن ألجم موافقتى الداخلية، وانتصر هو و”داخلى” على مخاوفى وحساباتى .. وبدأ البحث .. لأعتبره – كما سأخلص فى النهاية – أنه ليس تقييما موضوعياً لطريقة علاج (الأمر الذى أوضحت استحالته لأى طريقة .. كما سأزيد ذلك تفصيلاً) وإنما هو وصف لما يجرى فى محاولة علاجية جديدة .. ليشمل هذا الوصف ما يجرى خارجنا، وما يجرى داخل وعى الباحثين فى نفس الوقت، بدرجة مختلطة إذ لا يمكن فصلهما عن بعضهما .. (وسوف أرجع إلى هذه النقطة بالتفصيل حين أتناول طريقة البحث).
وقد تصورت – وأملت – أن يكون لهذا البحث بالإضافة إلى ما أعلن من أهداف – فوائد علمية منها على حد تقديرى:
1- أننا قد نتشجع ونتغلب على مرحلة أخرى من الشعور بالنقص لنثبت لأنفسنا أولا وللعالم من حولنا ثانياً أننا لسنا اقل من غيرنا، وأن الفكر المصرى والطب النفسى المصرى لها أصالتهما ومكانهما فى مسيرة العلم والمعرفة، ثم ها نحن كمصريين ندلى بأصالتنا فى العلاج النفسى فى أحدث صوره المعاصره – العلاج الجمعى – دون تردد.
2- أن يثق شباب الباحثين عندنا فى أن البحث العلمى بمعناه الأخلاقى والإبداعى معاً، ممكن ومتاح، وأن حكمة البحث العلمى ليست حكراً على الفكر المغتربـ،، أو على الدفاع ضد إثارة الشكوك حول الأإنسان الباحث كأداة بحث، وأن نضرب لهم مثلاً حياً يشير إلى أن الأداة البشرية – على قصورها – قادرة على البحث والملاحظة والاستدلال وعلى الإسهام فى توضيح جانب من جوانب الحقيقة.
3- أن نحدد – بحثاً وتدويناً – بعض معالم ذواتنا بعيوبها ومزاياها، بحث نستطيع أن نتبادلها – محددة – مع الآخرين، فى كل مجالات العلم فى الداخل والخارج، فيتعرفوا علينا من خلالها – لا من خلال تصوراتهم -، وينقدونا من واقعها فنتحول ونتطور ونسابق من خلال الاحتكاك والمناقشة، وبالتالى نكون قد تخطينا مرحلة النقل والتقليد إلى مرحلة الاحتكاك والحوار.
ثانياً: تاريخ التجربة
أما بالنسبة لموضوع البحث وهو “العلاج الجمعى: دراسة اتجاه مصرى” فإن له قصة طويلة معى لا أعتقد أن هذا مجال ذكرها تفصيلاً – وقد أرجع إليها حين أكتب بنفسى – إذا قدر لى – عن العلاج الجمعى من واقع خبرتى ووجهة نظرى، ولكنى هنا لابد أن أسرد تاريخاً قصيراً ألمْح إليه الباحث فى بضع سطور حين عرج على العلاج الجمعى فى مصر.
ولعل فى هذا التاريخ الموجز ما يفسر أن هذا الاتجاه “مصرى”. كما أنه قد يوضح للقارئ كيفية ارتباط علمنا هذا بوجه خاص بذواتنا وتجريتنا الشخصية.
ويمكن أن أرجع هذه الطريقة العلاجية قيد البحث إلى ثلاث مصادر أساسية:
1- حبرة “شخصية” ممائلة
2- خبرة مهنية طويلة فى العلاج النفسى
3- بعض القراءات فى الموضوع
أولا: الخبرة الشخصية:
وقد بدأت التجربة بداية شخصية تماماً حين أردت مع صديق عزيز علىّ جداً أن نرتقى بلقاءاتنا الخاصة من مرحلة “الاتئناس وقتل الوقت” (أو ما يسميه إريك بيرن “لعبة الثرثرة”) إلى مرحلة المساعدة الجادة لبعضنا البعض ..، وكانت لدينا لاشجاعة حينئذاك أن نلتقط الخيط من بعض معاناتنا .. ومشاركة زوجاتنا..، وبديهى أ،ه فى مثل هذا املواقف تبدا المجموعة المسماة “المجموعة بلا قائد” Leaderless Group لحرج اختيار قائد من بيننا .. حتى أنى أذكر أننا سمينا القائد – الغائب الحاضر – حينذاك اسماً رمزياً، إشارة إلى انه ضمير مستتر تقديره “س”..، وكان ذلك فى عام 1971، وتصادف أن ذلك كل هقد حدث عقب خبرة الحدس العلمى الذى أشرت إليه فى كتابى “حيرة طبيب نفسى”، ولاذى فزعت فيه إلى صديقى هذا (ولم أجده، ثم إلى زوجتى إلخ مماورد فى كتابى حيرة طبيب نفسى)، والذى صاحبه ظهور لهفة ملحة إلى أن أجد من يقبلنى وبصبر على فكرى الجديد، وأذكر أن هذه المجموعة الصغيرة قد أدت هذا الدور بنجاح شريف، وطمأنتنى – ولو بطريق غير مباشر – أنى لست وحدى، وأن حدسى هذا اليس بعيداً عن الواقع تماماً، وتطور الموقف بعد ذلك تطوراً شجاعاً وخطيراً فى نفس الوقت .. وقابلنا من المضاعفات إذ نواجه داخلنا ما قابلنا حتى انتبنها بأمانة منذ ذلك الحين إلى أن جرعة الرؤية دائماً، ومهما كانت نوعية المغامر، هى أكبر من احتمال الواقع المرحلى..، وتحملنا المصاعب فى صبر وشجاعة وتصميم، ونبع دور القائد تلقائيا من مواقع ديناميات المجموعة، فكنت هذا القائد .. فزادت الأمور تعقيداً .. ثم مرت بسلام نسبى رغم كل شئ وتوقفت المحاولة.
وهنا أقف وقفة واضحة مع القارئ ومع نفسى لأكرر أنى لن أعرج إلى هذه التجارب الخاصة فى هذا التجربة وما يليها بالتفصيل .. لأنها لا تخصنى وحدى، وأفرادها لهم عندى مكانة الاحترام والحب والامتنان بحيث لا أسمح لنفسى بأن أتعرض بالحكم على أى منهم لأى سبب كان، أما بالنسبة لشخصى فالأمر له وجهان:
الأول: أنه لا يمكن أن أتكلم عن شخصى دون أن أتكلم عن هؤلاء الأصدقاء والأحباب، لأنى لم أمر بالتجربة وحيداً فى الصحراء، أو فى حجرة مغلقة. والثانى: أن مارأيته فى نفسى ولنفسى أكبر من استيعاب أى قارئ أحاول أن أحقق معه لغة مشتركة، الأمر الذى جعلنى أشك فى أى سيرة ذاتية ، إذا أنها لا يمكن أن تعرض حتى الجزء المتاح لصاحبها .. وقد فهمت من خلال ذلك معنى أن “علوم المكاشفة” لم يصرح لهم (بعض الصوفية مثل إمامنا الغزالى) بالحديث عنها، فواقع الأمر من خلال خبرتى هذه (وهى ليست صوفية بالمعنى المباشرحتى لا تختلط الأمور .. ولكنها علاجية علمية مباشرة) أن المكاشفة – كما عرفتها – لا تعنى الكشف الصوفى فحسب، ولكنها قد تعنى اكتشاف النفس ايضا .. وقبلاً، ولعلهما أ/ر واحد فى النهاية، فمن عرف نفسه فقد عرف الله، وهى لم يصرح لهم بالحديث عنها … لأنها لا يمكن الحديث عنها من خلال لغة مشتركة، وبالتالى فبدون مقل هذه اللغة المشتركة .. فلا قيمة للحديث ولا للكتابة… ولا للوصف، ويراودنى احتجاج داخلى بأنى لو “ذهبت” قبل أن أحكيها فإنى خائن لأمانة أثقل .. هى أمانة ما أتيح لى من فرصة المعرفة الأعمق..، لأن الحقيقة ليست ملكا لرائيهخا، إلا إن كان منعزلا غير مسئول .. وأعود فى صبر لأقرر أن أكتبها ولا أنشرها أبداً فى حياتى وحياتهم، ولأتركها للتاريخ فى مكان أمين، فإذا ذهبت شخوصها بعد ردح من الزمن، وإذا وجدها من يمكنه أن يستفيد منها أو يفيد بها.. فهى له .. وقتما ظهر، أينما كان، ولعل الوقت يسمح بأن تكون اللغة السائدة حينذاك قد اقتربت منها فأصبحت المشاركة ممكنة.
ثم أرجع بعد هذا الاستطراد إلى تطور نشأة هذا النوع من العلاج من خلال التجربة الشخصية، حين حضر صديق قديم بعد ذلك عائدا من أمريكا – هو الأستاذ محمد شعلان – محمّلا بكل العلم الذى حاول اكتسابه، والتجارب التى حاول خوضها، والشوق إلى البحث فى داخله أكثر من البحث فى خارجه، وقد عاد بناء على رغبته وإلحاحى معاً، وبدأت تجاربه فى عناده الهادئ فى ممارسة العلاج الجمعى فى القصر العينى .. وقوبل بالمقاومة المتوقعة، وحضرت معه بضعة مرات .. وقارنت بين ما يفعله وما مررت به من خبرة شخصية، والتقت احتياجاتنا ببعضنا البعض، ثم اتّسعت الدائرة لتشمل شركاء التجربة الأولى، ولتمتد إلى بعض الأصدقاء من الناشئين فى مهنتنا وغيرهم، لتتكون :مجموعة خاصة” تماماً، نمشى من خالها على الصراط، نقع مراراً ونقوم أحياناً .. نخوض النار ونلمح الجنة .. وتنتهى هذه التجربة بكل ما لها وما عليها لتختفى فى دائرة المحظور الذى أشرت إليه فى الفقرة السابقة .. وللأسباب التى عددتها .. ولكن هذه التجربة الثانية لا تنتهى مثل سابقتها فى أمان وسلاسة.. إذا تترك فى النفوس بعض التأويلات، وفى الخارج بعض المضاعفات التى أعتقد أنها مازالت تؤثر على طبيعتها وتحد من إمكان الاستفادة منها حتى النخاع عند بعض أفراد منا على الأقل، وأكتفى بهذا القدر من التلميح عن التجارب الشخصية، ولكنى أقف وقفة واضحة حتى لا أدع لخيال القارئ أن يتصور ما ليس بحقيقة، فأقول إن كل ما أشؤت إليه من مضاعفات وآلام وخبرات ومنافع – من وجهة نظرى على الأقل – ليس فيه سر يشين، ولا هو بعيد عن التجارب العلمية الصادقة فى أى موقع علنى فى العالم المعاصر، ولولا احترامى للمشتركين فيها، واعترافى بالجميل والامتنان لهم، وبالتالى ضرورة استئذانهم، لكان فى وصف هذه التجارب شرف أى شرف لكل من ساهم مهما انتهى إليه اختياره[1].
ثم أعود لاؤكد هذه الحقيقة وهى أنه: “لولا هاتين التجربتين الشخصيتين المتلاحقتين اللتين خضتهما بكل ما حملت من رغبة فى المعرفة، وإصرار على المخاطرة واحتياج شخصى لما أمكن أن تكون ثمة “طريقة جديدة” فى العلاج الجمعى، ولما أمكن أن يتم هذا البحث فى “اتجاه مصرى” .. إلخ…، وهكذا أخلص من هذه النقطة إلى القول بأن الخبرة الشخصية والتكوين الشخصى والمخاطرة الشخصية لهم أبلغ الأثر فى انتقاء نوع العلاج الذى يمارسه هذا المعالج دون سواه، وفى تحديد هدفه ووسيلته جميعاً.
ثانيا: الخبرة الطويلة فى العلاج النفسى:
أما البعد الثانى الذى ينبغى أن أشير إليه فى وصف نشأة هذا العلاج قيد البحث فهو ما سبقه من ممارسات علاجية، فقد ظلت منذ اختيارى هذه المهنة أقرنها مباشرة بالعلاج النفسى، لأنه بدون العلاج النفسى لا ينبغى أن نتكلم عن الطب النفسى، والعلاج النفسى (الذى هو تغيير سلوك المريض إلى أحسن من خلال علاقة نفسية بينه وبين المعالج) هو فى عمقه صراعبيولوجى بين نشاط مح إنسان ذى خبرة ونشاط مخ إنسان فى محنة، وبالتالى فإن كل ما يتعلق بنشاط المخ من كيمياء وكهرباء وبيئة محيطة هو داخل ضمن العلاج النفسى لا محالة..، أقول إذاً أنه بدون هذا المفهوم الأشمل للعلاج النفسى، كان لزراماً علىّ أن أبحث عن مهنة أخرى، أو على الأقل أن أدرج نشاطى المهنى تحت لافتة أخرى.
وقد مارست العلاج النفسى الفردى طوال ستة عشر عاما (منذ 1958 – 1976)، وكنت أتبع فيه كل ما علمته وقرأته وسمعت عنه .. بالإضافة إلى التجربة والخطأ، وما علمنى إياه المرضى اساتذتى العظام .ز وكنت – بداهة – أشعر بالنقص وأتصور أنه كان لزاماً على ّ أن أتبع طريق التلمذة والتحليل الترديبى فى الخارج .. الأمر الذى لم يتح لى فعلا وواقعاً، وكنت أرجع فشلى مع بعض الحالات أحياناً إلى نقص خبرتى التى يعيننى عليها قراءاتى الخفيفة ومثابرتى الطويلة (التى وصلت إلى سبع ساعات متصلة يومياً فى هذا النوع من العلاج خاصة) .. ولكن فى النهاية .. وكانت المحاولات ذاتية فى المقام الأول ..، إلى أنى كنت اصبر نفسى أن فرويد ذات نفسه قد خاض هذه المحاولة ابتداء من واقع نفسه وتجاربه دون تدريب سابق أنى أسلك نفس السبيل بميزة إضافية وهى أن التجارب الأخرى مكتوبة فى متناول يدى، وقد أفادنى هذا الشعور بالنقص – بقدر ما عوقنى – فكان دائما يمنع غرورى، ويحد من غلوائى، ويهدئ خطوتى..، وحين كان يعود أى ممن أتيحت له فرصة التدريب فى الخارج، أو حين كنت أناقش أستاذى الدكتور عسكر (وهو قد تدرب ايضا فى الخارج) كنت ازداد ثقة بما أفعل، وحين سافرت فى مهمتى العلمية إلى باريس وشاهدت بعض جلسات العلاج النفسى عبر الدوائر التليفزيونية (الأستاذ ليبوفيسى، وديادكين) تيقنت أنى على الطريق السليم .. وأن الوعى والمثابرة والمسئولية والتعلم من الخبرة السابقة هى الأسس الضرورية فى العالج النفسى الفدى – فى بيئتنا هذه – فى عدة أمور:
أولا: أنى جربت كل الطرق المعروفة تقريباً من أول الاستلقاء على الحشية والتداعى الحر إلى المواجهة وجهاً لوجه والعلاج التفسيرى المباشر والمنطقى.
ثانيا: أنى مارست هذا العلاج مع كل أنواع الحالات من أول الهستيريا التحولية التى ينتهى الإيحاء فيها فى جلسة أو اثنتين ليبدأ بعد ذلك علاج أعمق، أو لا يبدأ..، إلى العلاج الكثف للفصام الذى استمرت إحدى حالاته معى ثلاثة عشر سنة تماما كنت أرى صاحبها فيها كل يوم تقريباً .. وأغوص معه إلى أعمق طبقات الوجود.
ثالثا: أن طول ممارستى لهذا العلاج مع ندرة سفرى وندرة انقطاعى عن العمل، أتاح لى فرصة التتبع الطويل للحالات المستمرة فيه، وكذا للحالات التى انقطعت عنه.
وقد خلصت من تجربتى الطويلة هذه إلى أن هذا العلاج هادف وضرورى لتكوين المعالج النفسى، وأنه لا غنى عنه، بل – وقد قررت ذلك بعد أن مارست العلاج الجمعى – أنه مرحلة لازمة لكل معالج قبل أن يتفرغ للعلاج الجمعى، كما خرجت ايضا من الخبرة الطويلة مع الذهانيين عامة والفصاميين خاصة، والصديق الفصامى (صاحبى فى الثلاثة عشر سنة سالفة الذكر) بوجه أشد خصوصية … خرجت من كل هذا بمعرفة عن أعماق الفنس الإنسانية فى أزمة وجودها، بما هيأ لى فيما بعد أن أمارس العلاج الجمعى فى سهولة أكبر وتقييم أعمق من خلال معرفتى أغوار النفس حتى سر الجنون.
ولكنى لم أكن قادراً على تقييم حقيقة نتائج العلاج الفردى، وخاصة تلك التى استمرت عدة سنوات، فقد تصورت حينذاك أنى توصلت مع المريض – منهم – إلى درجات رائعة من الوعى والصحة والتوازن، ولكنى تعلمت فيما بعد – من خلال هؤلاء لأفراد الذين انتقلوا معى من العلاج الفردى إلى العلاج الجمعى أننا كنا فى خدعة لفظية اغترابية سطحية فى أغلب الأحيان، وقد قام العلاج الجمعى فى هذا بعمل بوتقة الاختيار الموضوعة على النار والتى تضع فيها المعدن المراد تقييمه فإما يزداد صلابة لأصالته أو أن يتفحم ويتناثر، وللأسف فإن كثيراً ممن “أتم” علاجه الفردى لم يحتمل اختبار المواجهة فى العلاج الجمعى، حتى عدلت عن قياسهم بهذا المقياس تماماً .. إلى إذا دعن الضرورة.
والحق أقول أن هذه الخبرة كانت صدمة لى، تكاد تصرخ فى وجهى:” إذا .. ماذا كنت تعمل طوال هذه السنوات؟”، وامتد اختبار البوتقة (العلاج الجمعى) ليكشف حقيقة توازن من حضر علاجاً فردياً حتى عند غيرى من الزملاء لمدد طويلة، بل إنى لا أذيع سراً إذا قلت أن بعض المعالجين الفرديين لم يتحمل رؤية ما يجرى فضلا عن المشاركة فيه، وكان كل هذا الانزعاج والهرب دليلا على الطبيعة المختلفة للعلاج الجمعى وعلى درجة عمقه معاً، بل إن الانزعاج والهرب كانا أكبر فى أولئك المرضى الذين كانت لهم خبرة سابقة فى العلاج الفردى عنه فى أولئك الذين يدخلون إلى العلاج الجمعى مباشرة، وكأن العلاج الفردى – بشكل أو بآخر – قد يبعد الفرد عن نفسه أكثر مما تفعل الحياة العادية .. ولكنى لم أتماد فى هذا التصور، لأن الحالات التى دخلت اختبار البوتقة قليلة، ومشكوك فى صلابتها ابتداء، ولم يدفعنى كل هذا إلى أن أفقد الثقة تماماً بالعلاج الفردى لصالح العلاجى الجمعى، بل تيقتن أنهما علاجان مختلفان.. وأنه لكل دوره، وقد خطر ببالى أن هذه المدة التى قضيتها فى العلاج الفردى قبل أن أواجه حقيقته وحقيقتى وهى حوالى الخمسة عشر عاماً، هى قربية من المدة التى سمحت لأى جديد بالظهور فى مجالنا هذا وخاصة من بدأ حياته بممارسة التحليل النفسى على نفسه وآخرين (راجع توقيت ظهور النظريات الجديدة لكل من كارين هورنى، وهارى ستاك سوليفان، وإريك فروم .ز وكلها ظهرت بعد حوالى 18 عاماً من بداية تدريبهم وعلاجهم التحليلى وحتى بيرلز – مؤسس مدرسة العلاج الجشتالتى – أمضى نفس لمدة فى هذا السبيل قبل أن يطلق لثورته العنان) وكأن هذه السنين الطويلة ضرورة كحد ادنى يسمح بالتطور من واقع الممارسة، وليس التغيير لمجرد رغبة فى اختصار الطريق خوفاً من الممارسة.
خلاصة القول: أن هذه الفترة التى قضيتها أمارس العلاج الفردى كانت ثروة حقيقية أدت ثلاث وظائف على الأقل.
الأولى: معرفتى للنفس الإنسانية فى أعمق مستويات مأساة وجودها وخاصة من خلال علاج الفصاميين.
الثانية: إيمانى بضرورة هذا العلاج كمرحلة وكبديل يحتاجه الكثيرون (بعكس بيرلز الذى اعتبره غير ذى موضوع حتى وصف التداعى الحر بالتناثر الفصامى)
والثالثة: فشلى فى الاستمرار فيه – شخصياً – وتطورى من خلاله إلى هذا العلاج الجمعى موضوع البحث.
أما بداية ممارستى المهنية للعلاج الجمعى فقد واكبت تجرابى الشخصية سالفة الذكر كما واكبت بعض بقايا حالات العلاج الفردى وكانت التجراب الأولى للعلاج الجمعى ذات ثلاث أنواع:
الأولى: بالمشاركة فى (وأحيانا قيادة) جلسات جماعية فى مستشفى دار المقطم للصحة النفسية حيث يحضر عدد يتراوح بين 15 ، 20 فرداً، وبين 5 إلى ثمانية من هيئة العلاج والمتدربين، وهو يجرى يومياً كنت أحضره مرة أسبوعياً، وكان النقاش عقب كل جلسة مثرياً ومفسراً ونافعاً لى وللمتدربين معاً، ولكنه كان ذا طبيعة موقوتة بتواجد المريض فى المستشفى، وبالرغم من ذلك فإن نتائجه كانت مشجعة وأحياناً رائعة.
الثانية: بعض المحاولات السابقة لهذه المحاولة قيد البحث، فى عيادتى الخاصة والتى كانت أساساً ليست إلا تجميعاً لأفراد كانوا يحضرون معى العلاج الفردى مع بعض المتمرنين، والتى أشرت إلى أن أغلبهم لم يتموا جرعة العمق التى يحملها العلاج الجمعى بالمقارنة بالعلاج الفردى.
الثالثة: محاولة أصيلة لبعض المتطوعين (ليسو مرضى .. أو لم يعلنوا مرضهم) من طلبة كلية طب القصر العينى، وأغلبهم ذوو ميول يسارية أو ثورية أو شبه ثورية، وكانت هذه الخبرة علنية، يأتى ليشاهدها من يشاء من الطلبة ولأطباء حيث تجرى فى العيادة الخارجية للقصر العينى، وقد افادتنى هذه المحاولى إلى أحشائى، إذ كانت تحمل من التحدى والعمق ما كان يحرجنى ويضطرنى إلى اكتشاف طبقات أعمق فى نفسى، أكثر من العلاقة مع المرضى الذين “يدفعون” فى عيادة خاصة، .. وقد استمرت هذه المحاولة ما يقارب العام الدراسى تعملت فيها عن نفسى وعن الهرب فى المبادئ ما كان يصعب علىّ أن أتعلمه من غيرها.
ثالثاً: أما المصدرالثالث الذى اكتملت به هذه الطريقة، فهو بعض القراءات القليلة حول الموضوع وأهمها كتاب العلاج الجمعى لإريك بيرن، وبعض مقالات عن علاج الجشتالت جمعها “فاجان”، والحق أقول أن دور الممارسة كان له نصيب الأسد فى نشأة هذه الطريقة قيد البحث، وحتى اكتشافى لمبدأ ““الهنا والآن” كان قد قبل أن أقرأه وذلك من خلال مصادفة فى العلاج الفردى بطريقة قريبة من ” التجربة والخطأ” حين أراد أحد المرضى أن يهدينى رمزاً من الرخام على أحد وجهيه اسمى (كما هى العادة) ثم طلب منى أن أقترح عليه الحكمة التى يكتبها على الوجه الآخر كما اعتاد الناس (مثل “لاصبر” أو “الحلم سيد الأخلاق” .. الخ) فقلت له ما رأيك أن نكتب الحكمة التى انتهينا إليها معاً بعد طول صحبتنا؟ واتفقنا على أن نكتب على الوجه الآخر هذه الإشارات.
أنا، هنا، لآن
كنت، سوف، لو
وبقيت هذه الرخامة منذ ذلك الحين على مكتبى، حتى أن صديقا لى حين عاد من الخارج ووجد هذه اللافتة على مكتبى سألنى “هل أنت جشتالتى”؟ وقلت له بقليل من الحرج “ماذا تعنى؟”، وشرح لى فى إيجاز مازح كيف أن هناك مدرسة تسمى العلاج الجشتالتى تركز على الـ “هنا .. والآن” والـ “أنا.. أنت” مثلما تشير اللوحة .. الخ، وقد أوردت هذه الحادثة لأؤكد على دور الممارسة، ولأعيد إعلان طريقتى الخاصة فى اكتساب المعرفة، وهى نفس الطريقة التى أشرت لها فى “حيرة طبيب نفسى” حيث اعتبرت نفسى بالنسبة لما أقرأ ممن يعانون من ظاهرة القراءة السابقة Dega Lu إن صح التعبير، لأنى – فى فرعى هذا – أقرأ غالباً ما عرفته فعلا من خلال الممارسة..، الأمر الذى يمكن أن أعده تقصيراً فى بعض الأحيان.
ولكنى أوردت هذا التسلسل عن (1) التمهيد بالممارسة الذاتية ثم (2) طول الممارسة المهنية فى العلاج الفردى ثم (3) الجمعى، وأخيراً (4) القراءة المحددة المعالم، لأشرح كيف سمح لنا هذا الترتيب على هذه الطريقة أن يسمى هذا الاتجاه باسم “اتجاه مصرى”.
خلاصة القول: أن هذه الطريقة هى بالضرورة، وبطبيعة تطورها طريقة مصرية .. واصيلة لارتباطها بالبيئة وبالمعالج ارتباطا مباشراً.
ثالثا: طريقة البحث وصعوباتها
حين تخطينا المرحلة الأولى – وهى اختيار الموضوع بعد مقاومة المشرف وإصرار الباحث – واجهنا مباشرة، وبداهة، ضرورة تحديد الطريقة العملية التى سنقوم فيها بإجراء البحث، وأجد من الفيد هنا أن أذكر مراحل التفكير التى مررنا بها أولا حتى أعرض للقارئ – وللباحث المبتدئ – كيف نتسلسل الأمور فى صعوبة مرهقة قبل أن يستقر الباحث على وسيلته المفضلة: وثانياً – حتى أفتح أبواب طرق بديلة للطريقة التى اتبعناها، لنواصل البحث بها .. أو ليقوم غيرنا بتطويرها لسد النقص الذى سيظهر فى طريقتنا الحالية، وقد بدأ تفكيرنا بالطريقة التقليدية لتقييم ما يجرى فى هذا النوع من العلاج بالاعتماد على رأى المرضى والمترددين فى التقييم وتحديد طبيعة العلاج وتفسير كيفية التغير من خلاله وأعددنا لذلك استباراً “محدد الأسئلة، حر الإجابة”، بحيث يسمح للمجيب أن تكون إجابته فى كلمة واحدة، أو سطراً أو عدة صفحات على نفس السؤال، وقدرنا أن يكون البحث مقارنا! بين مجموعة ممن استمروا فى العلاج ومجموعة أخرى ممن اتقطعوا عنه .. وقد ملأ فعلا هذه الكراسات عدد يزيد عن عشرين فرداً، وكانت إجاباتهم ثرية وعميقية وشديدة الإثارة والفائدة .. إلا أن الحصول على من انقطعوا عن العلاج كان صعبا .. وحثهم إلى الإجابة بنفس الحماس كان مشكلا، وكدنا تقع – من خلال الخوف – فى شرك مقارنة ما لا يقارن .. اللهم إلا إذا كان الهدف مشتركا بمعنى تصنيف المقارنين فى نفس الوقت الذى يجرى فيه تصنيف العلاج، ولما كان البحث بطبيعته محدد المدة (للحصول على إجازة دراسية لها تاريخ محدد) فقد دفعنا هذا إلى المباشرة وخوض الترجبة فى الحال .. بعرض ما يجرى فى عدة جلسات علاجية متلاحقة، ومحاولة تفسير العملية العلاجية ذاتها “ديناميا”، وبدأنا فى اول الأمر نعتمد على الباحث نفسه، وإلى درجة أقل على زملاء له يحضرون المجموعة، وتعرض الجميع إلى هجوم المجموعة المباشر، وشاركهم فى تلقى هذه الهجوم المعالج نفسه، ورجب الجميع بهذه المعارضة التى وصلت لدرجة الرفض والعدوان حتى استقر الأمر من خلال الحوار الخلاق، وتعود أفراد املجموعة على طبيعة العمل الجارى ورضوا بهذا البحث فى مسيرة المجموعة باعتباره جزءاً مكملا لطبيعة أهداف المجموعة فى نوعية التواجد فى الحياة، وهذا فى ذاته هو أول إعلان لطبيعة المجموعة وطبيعة العامل المشترك بين أفرادها، ولا أستبق الأحداث حين أقول إنه “ارتباط النفع العام بالنفع الخاص ارتباط عضويا ومباشراً”.
وبدأ التسجيل، واعتمدنا بادئ ذى بدء على الذاكرة لمشاهدين معا، ولكن هذه الطريقة لم تعطنا سوى صفحات معدودة وإن كانت تحوى التفاعلات الهامة، والانتقالات ذات الدلالة، والاستجابات المميزة، إلا أننا أحسسنا أن الصورة ليست كافية. فانتقلنا إلى مرحلة التسجيل الصوتى، الذى أعطانا مادة أثرى وأدق، أخذنا منه ما انتقينا من عينات للحوار بنص ألفاظه ولجأنا فى الجسلة الأأخيرة – الثالثة عشر – إلى محاولة من نوع خاص وهى أن يقوم الباحث بتفريغ الجلسة كلها، ثم يعطيها للمعالج ويطلب منه تعليقا مكتوبا على أحداثها أولا بأول، فإذا بالتفريغ يقع فى حوالى مائة صفحة، وإذا بتعليقى يصل إلى ضعف محتوى التفريغ، وكان على الباحث بعد ذلك أن يناقش الاثنين معا “التفريغ والتفسير” وبربطهما بالمدارس المعاصرة، وقد فعل هذا على قدر جهده، وإذا بنا أمام بحث كامل قائم بذاته، مادته علاجية واحدة!!!
وقد أوردت هذه التفاصيل لأوضح نقطة أخرى، وهى تدرج مستويات البحث من جهة، وصعوبة ادعاء الالتزام الموضوعى من جهة أخرى، وملاحظتى على أنه سواء كان التسجيل من الذاكرة، أم عينات من التسجيل الصوتى، أم التسجيل الصوتى الكامل، فإنى لاحظت أن اتجاه الباحث وناقشاته وتساؤلاته وتعليقاته كانت متقاربة، وكأن العامل المشترك الفعلى هو الباحث نفسه وفروضه العاملة!! مما يؤكد ما ذهبت إليه أول الأمر من أن أداة البحث هى الباحث نفسه فى أغلب الأحيان.
وعلى من يتصور أن التسجيل بالذاكرة” هو طريقة ناقصة أن يتذكر أن الممارسة الاكلينيكية كلها تعتمد على التسجيل بالذاكرة أساسا، وأن هذا التسجيل التلقائى هو الذى ينمى الحدس الاكينيكى للممارس باستمرار، سواء وصل هذا التسجيل إلى شعوره أو ظل يساهم فى تكوينه المهنى لا شعوريا، فإذا أردنا ان نضع مثل هذا البحث الذى بين أيدينا فى مكانه الطبيعى فهو إضافة منظمة إلى الممارسة الاكلينيكية الجراية فعلا تلقائيا .. بما يحدد بعض معالمها، ويؤكد أو ينفى بعض تصوراتها، وبالتالى فإن مناقشة معلومة واحدة من جلسة واحدة قد تؤدى هذا الغرض وتعود بالفائدة على المهتمين بالأمر من المشتغلين بالعلاج النفسى، كما أن محاولة تحليل كل كلمة قيلت، فضلا عن كل همسة، وكل لفتة، وكل صمت، تفيد جميعها فى نفس الاتجاه ولنفس الهدف..
ولهذا فوظيفة البحث العلمى فى هذا المجال هو “أمانة التسجيل بقدر الإمكان” من موقف شخصى، لأن غير ذلك مستحيل كما سيرد، ثم التفسير بقدر المتاح من ترابط المعلومات، وبالتالى إتاحة الفرصة – من خلال هذا وذاك – للممارس لتعميق رؤيته وإعادة النظر فيما يأتى وما يذر، أما البعد الثالث الذى أشار إليه الباحث وهو التفهم الدينامكى للاضطرابات والأمراض النفسيىة (من قبل ومن بعد: ديناميات الشخصية) فهو يبدأ ايضا بالتسجيل فالتفسير فالتنظير، وقد أتاح لنا هذا البحث فى إضافة رؤية شاملة لهذا الجانب على أى حال..
ولنا هنا وقفة لازمة لتوضيح هذه الصعوبة المشتركة فى مثل هذا النوع من الدراسات والأبحاث، فعلى كثثرة ما كتب عن العلاج النفسى، فإن تسجيل ما يدور فعلا بكل التفاصيل لم يرد ابداً (ونسطيع أن نقول أبداً، حتى بالنسبة للكتب التى كتبت عن حالة واحدة Case book) ومع ذلك فإن ما كتب عن العلاج النفسى يص إلا آلاف المجلدات دون حرج فى أن التسجيل التفصيلى غير وراد، مكتفيت بتسجيل “عينات دالة”، ولو كان هذا التسجيل الجزئى (العيناتى) مرفوض، لتعرض النشر فى العلاج النفسى لمحنة شديدة تهدد بتوقف صدور أى كتابة عنه .. ذلك لأن أمام هذه الأأمانى التسجيلية صعوبات واستحالات عديدة نورد بعضها هنا كأمثلة توضيحية:
1- الاستحالة العملية: لأن تسجيل حالة واحدة فى علاج تحليلى نفسى طويل قد يحتاج إلى عشرات المجلدات، لأن تفريغ ساعة واحدة من التداعى الحر، قد يلزمه بضع وعشرين صفحة، فإذا كان متوسطا الجلسات فى العام ما بين مائة جلسة وثلاثمائة، وكانت مدة العلاج من سنتين إلى خمسة فللقارئ أن يتصور حجم “المادة الخام” التى سيبدأ منها تقييمه وتفسيره وتنظيره .. ذلك التقيم الذى يبلغ بدروه حجما ممائلا على الأقل إن أراد الباحث الإتقان!!
2- الاستحالة التسجيلية الفنية: حيث إن غاية ما يمكن تسجيله هو التسجيل الصوتى، وفى أحول نادرة:التسجيل الصورى الصوتى معا، وهذا وذاك يحتاجان إلى “تكنيك” فنى خاص أقل ما فيه أن يستطيع تكثيف وجهى المعالج والمريض معاً فى آن واحد (ثم تكثيف عدد أكبر من المرضى).. وهذا يستدعى أن يتم العلاج فى استديو كامل المعدات!!
ثم تأتى بعد ذلك الصعوبة فى إعادة العرض بالتفصيل على الحكم (الموضوعى) (!!) ثم استعادة العرض .. فإذا انتهينا إلى أخذ عينات من التسجيل رجعنا إلى التساؤل “أى عينة” أخذت، وأى عينة تركت؟ ولماذا؟… ومن أنت الذى أخذت ما أخذت، وكيف سمحت لنفسك بترك ما تركت، وأصبحت المسائل اتهام و”نيابة” وشكوك ودفاع .. لتتوقف مسيرة العالم الباحث عن الحقيقة بكل وسيلة بما فى ذلك وسائل الممارسة البشرية المباشرة.
3- الاستحالة المهنية: ذلك أن التسجيل التفصيلى لا يمكن أن يتم دون أن يؤثر على طبيعة العلاج وتطور المريض والمعالج معاً، بما يشوه ما يجرى حقيقة وفعلا، إذا قد يعوق التلقائية والسلاسة اللازمتين لنقل “عينة” أمينة ناهيك عن نقل “كل” ما يجرى ..
4- الاعتبارات الأخلاقية: ومهما قيل فى درجة السماح الذى سيسمح بها المريض والمعالج معاً – من أجل خاطر عيون البحث العلمى – فإن مادة البحث لابد وأن تتأثر إذ نتدرج إلى أعمق درجات الوجود البشرى، حين تصطدم بالجانب الآخر وشذوذ .. إلى آخر هذا التاريخ الزاخر ..، فإذا تصورنا أن مريضاً ما قد سمح لنا بالإطلاع على كل هذا المحتوى، فلابد من إعادة النظر فى طبيعته وتكوينه اللذان سمحا له بهذا السماح، وهى خبرة من الندرة (سواء كان الدافع إسهاماً إيجابياً للعلم، أو استعراضاً سلبياً للظهور) بحيث يصعب تعميم النتائج المستقاة من مثل هذه العينة.
أما النوع الأغلب الذى لن يسمح لنا بالوصول إلى هذا العمق وتسجيله، فهو يعلن بذلك ضمنا أن بحثنا ناقص لا محالة ..
5- الاعتبارات الذاتية عند المعالج: إذا أردنا أن يكون التسجيل شاهد صدق على ما يجرى فلابد أن يكون للمريض والمعالج معاً، ثم للظاهر والباطن معاً، وكما أن الباطن عند المريض بعيد المنال إلا من خلال المادة المتاحة أثناء العلاج، فإن الباطن عند المعالج صعبا لمنال ولكنه ضرورى لمعرفة التفاعلات الاستجابية لما يجرى أولا بأول، وهذا أمر يعرى المعالج – إن صدق – لدرجة قد لا يسمح بهاكل معالج، وقد لا يدركها أى معالج، ولا يقدر عليها أغلبهم.
نخلص من كل ذلك: إلى أن ما نقرؤه فى مئات المراجع التى بين أيدينا عن العلاج النفسى وأنواعه، ليس إلا وجهة نظر شخصية، ذات بعد موضوعى بقدر موضوعيى صاحبها، وذات فائدة عملية بقدر إمكانية تطبيقها، وهى تعتمد على عينات منتقاه، تؤكد أو تنفى وجهة النظر هذه.
وما دمنا أمام ظاهرة إنسانية علمية مهنية بهذه الدرجة من الصعوبة، وفى نفس الوقت هى تتناول أخطر وأعمق معالم وجودنا، فنحن لا نملك أن نتخلى عن مسئوليتنا فنحجحم عن الخوض فيها لمجرد أن الحواجز دون الوصول إلى حقيقتها كثيرة وشائكة، ولكن علينا فى نفس الوقت ألا نبالغ فى تصور موضوعية عمنا لأننا فى النهاية أمام عينة محددة قابلة للتعميم بقدر نسبى دائماً.
وإنى لأكاد ألمح على وجه بعض السلوكيين والطرائقيين شماته وفرحة بإعلانى هذا النقص البادى فى هذه الطريقة البخثية، وكأن الجزء الظاهرى المحدود الذى نحصل عليه بوسائلهم هو البديل الأمثل لهذا العجز الذى أعلنه بشجاعة، وهنا أقول لا .. وألف مرة لا .. لأن الصعوبة ليس بديلها الاستسهال، ولأن الحقيقة ليست هى ” ما يمكن الحصول عليه” ولكنها ما هيتها. سواء أدركناها أم ظللنا نسعى دائما لإدراكها، وأنا لا أقول هنا بتواجد مزدوج للأشياء مثل “كانت” حين تحدث عن الظاهر (الفنومين) والجوهر (النومين) وزعم أن الأخير غير قابل للترعف عليه فوقع فى قبضة هيجل! حين واجهنا بتساؤله: إذا كان هذا النومين بعيداً عن إمكان معرفتنا، فلماذا الحديث عنه أصلا وكيف يمكن افتراضه؟ لا .. أنا لا أقول أن هناك حقيقة بعيدة عن المعرفة (بل العكس هو الصحيح إذا أن هناك معرفة بعيدة عن الحقيقة) ولكنى أعلن من خلال تحديد الصعوبات وتقدير العجز:
أولا: أن السلوك الانسانى شديد التعقيد
ثانيا: أن الوسائل المتاحة لتسجيله لا تتعدى الظاهر، وحتى الاستنباط لا يتعدى القدر المتاح للشعور.
ثالثا: أن هذا التعقيد وهذه الصعوبة لا ترفع عنا مسئولية – وضرورة – البحث فيه، ومحاولة سبر أغواره.
رابعا: أن قصور وسيلة ما لا يمنعنا من أخذ معطياتها بالقدر الممكن، وأن أهمية معطيات وسيلة البحث لاتقاس بالسهولة التى نحصل بها على المعلومات، ولكن بالأمانى الموضوعية عند اباحث التى يبذلها فى محاولته، والتى تظهر وتقاس بمدى معاناته، ومدى قبول قصوره، ومدى احترامه لنقص وسيلته، وإدراكه صعوبة غايته.
فإذا كانت هذه المواجهة المؤلمة قد أعلنت أن مجال العلاج النفسى (أو ما يمكن أن يسمى: تجربة التغيير البشرى) هو مجال صعب، وأن كل ما نعرفه عنه مما هو قابل للنشر (أو قدر على النشر) هو مجرد “عينات” “ووجهات نظر”، كان هذا أدعى إلى أن ندلى بدلونا فى عرض العينة التى ترى عرضها، وفى إبداء وجهة النظر التى نرتئيها .. دون شعور بالنقص من جهة، ودون مغالاة فى إدعاء الموضوعية من جهة أخرى.
ومن هنا لابد أن اعترف بشجاعة الباحث لإصراره على خوض غمار هذه التجربة الحية الخلاقة .. ليعرض عينة من “تجربة التغيير البشرى” الذى يجرى فى مجال العلاج الجمعى من وجهه نظره اساسا مستعينا بوجهة نظر المعالج أحيانا، بلا ادعاء لموضوعية غير متاحة لأى باحث فى مجالنا هذا (مهما تهرب – من خلال ادعاء الموضوعية – من مسئولية وجوده الذاتى ..) – ليكن تطوره بعد ذلك من خلال القدر الذى سيسمح به لنفسه من احتكاك وجدل وقبول ورفض للآراء الأخرى (الذاتية ايضا بدرجات متفاوتة).
رابعا: مادة البحث
فى رأيى الشخصى أن مادة هذا البحث – وربما كل بحث يجرى فى مجال العلاج النفسى – مكونة من ثلاثة عناصر اساسية:
1- المرضى والمترددين.
2- المعالج (والمعالجين المساعدين إن وجدوا)
3- الباحث نفسه
ولنتحدث عن كل جانب من مادة هذا البحث على حسده:
أولا: المرضى والمترددون: بادئ ذى بدء، لابد لنا وقفة عند تعبير “المرضى”، ففى الوقت الذى أجرى فيه البحث على هذه المجموعة كان عمرها قد بلغ ما يزيد عن عام ونصف لأغلب أفراداها، وكانت معظم الأعراض (أو جميعها) عند الغلبية قد زال … بحيث ينبغى مراجعة تسميتهم بالـ “مرضى”، وقد اشار الباحث إلى أن التشخيصات كانت قد تغيرت تماما لأن العلاقة الدينامية بين أجزاء الشخصية كانت قد تغيرت أساساً، وأكاد أسمع رداً جاهزاً يقول أنهم ما داموا لا يزالون يترددون على العلاج فهم مرضى، ولن أتطرق هنا إلى مناقشة هذا الادعاء، ولكنى أحيل القارئ إلى نظريتى عن ” مستويات الصحة النفسية على طريق التطور الفردى” (وإن كانت تمثل مرحلة سابقة من فكرى) وأقول إن مجرد التردد للعلاج لا يعنى المرض بل قد يعنى رؤية أعمق، أو أملا أشمل، أو إصراراً أعنف على الحياة الأفضل. استمرار مسيرة التطور، ولهذا استعملت لفظ المترددين بجوار المرضى وبينهما حرف عطف لأحدد أن المتردد ليس مريضا بالضرورة، وبالتالى أفتح بابا التبادل بين صفتى المرضى والتردد لأؤكد أنه طريق ذهاب وإياب، وفى هذه المجموعة بوجه خاص ذكر الباحث أن حضور بعض أفرادها كان يهدف التدريب، ولكن باقترابهم من “المأزق الوجودى” ظهرت الأعراض لدرجة أنهم أعلنوا بأنفسهم رغبتهم فى الانتقال إلى صفة المرضى حتى يمارسوا حقهم الطبيعى بكل أبعاده، وكأن المرض أصبح حقاً اختياريا مرحلياً فى الطريق إلى التغيير الواعى.
ثم أنتقل بعد ذلك إلى التعريف بأفراد المجموعة، فبالإضافة إلى ما ذكر الباحث عنهم من معلومات – بعد أن أخفى أسماءهم – فهم بالنسبة لى من أصدق من عرفت، من حيث فضلهم على فكرى، وعلى وجودى، وعلى علمى فهؤلاء الناس بكل سلبياتهم وإيجابياتهم وعدوانهم وظلمهم ومحاولاتهم وشقائهم وألمهم وهروبهم .. بشر بحق، وإذا كانت تعريفات الإنسان قد تنوعت بشكل مربك بادئين من أنه حيوان ضاحك إلى أنه حيوان ناطق أو مفكر إلى آخره، فإنى هنا أحب أن أعلن أن هؤلاء الناس قد عملونى أن الإنسان “… هو الكائن دائم المحاولة الواعية إلى الرقى، برغم وعيه الآنى بضرورة الاستقرار المرحلى”.
ولكنى أقر هنا أن نوع هؤلاء المرضى هو – نوع خاص، بالإضافة إلى ما أورد الباحث من مواصفات وتشخيصات.
1- فهم جميعاً فى عناد عنيد ضد استسهال حل بذاته سواء كان هذا الحل حياة عادية هامدة، أم مرض مزمن مستسلم، أم موقف انسحابى متفرج.
2- وهم جميعا قد قبلوا أن يستمروا فى الحضور، وبالتالى فى ممارسة المحاولة الموجهة فى أن يقبلوا هذا العناد نم مجرد المكابرة والتوقف المناطح إلى محاولة التغيير بكل ما يحمل من مخاطر وآلام.
3- وهم جميعا – وربما يرجع ذلك جزئياً إلى تأثير العلاج، قد واصلوا احتكاكهم بالواقع والتكلم باللغة السائدة، رغم مواصلتهم تعرية أنفسهم والتفاهم – مؤقتا – بلغة خاصة فى نفس الوقت.
4- وهم جميعا قد قبلوا التعرى أولا أمام بعضهم البعض وأمام المعالج، وثانيا أمام الباحث، قبلوه فى شجاعة وصراحة، وتفسيرى أنهم وصلوا إلى درجة من الصدق مع أنفسهم، ولأنفسهم لم يعد عندهم معها ما يخشونه من رأى آخر، أو فرجة آخر، أو تسجيل آخر، فضلا عن إدراكهم لإتصال نفعهم الشخصى بالنفع العام بما ذكرت.
ولكل هذا فإنى أعلن شعورى أنهم هم الذين قاموا بهذا البحث أساسا وفعلا. لأنهم واصلوا البحث الصادق فى داخلهم وخارجهم، ثم ساهموا بالموافقة على تسجيل ذلك وتوصيله دون تصنع أو افتعال، ففضلهم على الباحث وعلى وعلى العلم وللحقيقة فضل مباشر ليس له جزاء إلا أن تنجح محاولتهم لهم، وهذا ما يضاعف دينى – وربما دين الباحث إن أدرك حقيقة عطائهم – إليهم وإلى من هم مثلهم، فأنا لا أعنى بوصفى لهم أشخاصهم، بقدر ما أعنى كل من “هم كذلك” سواء كانوا هؤلاء الناس أم أى ناس.
ولنا هنا وقفة، فهناك من سيقول: إذا هؤلاء نوع خاص من لناس، وبالتالى فهذا العلاج لا يصلح إلا لأمثالهم.
والرد المباشر: ولم لا؟ .. والرد التالى: نحن لا نستطيع أن نجزم إن كانوا قد قاموا للعلاج بهذه النوعية أم أن العلاج قد أسهم فى كشف غطائهم فظهرت هذه الإمكانيات الإيجابية العنيدة؟ والرد الأخير: إن أحدا لم يدع أن هذا العلاج هو العلاج الأوحد، بل بالعكس إنى أقر وأعلن أن لكل نوع من العلاج نوع من المتعالجين.
ثم ننتقل إلى مادة البحث الثانية وهى “المعالج” نفسه: وأول ما نبحث هنا هو ما أشار إليه الباحث من أن هناك وجه شبه بين المعالج وبين هؤلاء المرضى، وأنه مجرد فرد فى المجموعة مع تميز خاص من حيث فعالية دوره، ودرجة مسئوليته فى التغيير، واتجاهه ووضعه المهنى الذى يأخذ به أتعابه، وإنى إذا أقره على ذلك .. أقره أيضا على ما أشار من خلاف .. واضيف إلى هذا وذاك أنى كنت شبه متعاقد معهم عقداً لم يعلن أبداً، وهو الاستجابة من جانبهم لدعوة من جانبى تكاد تقول “… إنى مثلكم .. ولكنى مصر على الاستمرار بلغة الواقع دون التنازل عن اى جوهر رأيته فى نفسى، فهل نحاول – يا جماعة – أن نمارس حياتنا سوياً إلى نهاية عمق وجودنا بكل أبعاده المترامية، لنرى الحكاية ..، بل وقد نوجه المسار من خلال نجاح موقفنا العنيد .. كعينة قادرة على اتلطور بوعى وألم ودون تناثر أو صراخ” وقد سمعت استجاباتهم واحداً واحدا بالموافقة “بمجرد الحضور والاستمرار فيه”، وعزوت هذه الموافقة إلى ضغط داخلى مباشر أعلن بظهور الأعراض، وإغراء خارجى مباشر هو محاولة المعالج الذاتية المستمرة.
ومهما يكن من أمر اضطرارهم لخوض هذه التجربة بسبب أرعاضهم، ومهما يكن من أمر وضعى بالنسبة لهم كطبيب وظيفته الأساسية هى تخفيف الألم وإزالة الأعراض، فإن هذه وتلك كانتا الاتفاق الظاهرى فحسب، أما العقد غير المعلن – حسب تصورى – فكان يتعلق بخوض هذه التجربة الكيانية، ومن هنا جاء شعورى بالعرفان تجاههم، وإنى إذ أعترف بهذا البعد الذى لم ترد مناقشته فى البحث بطريق مباشر (وإن كان الباحث قد أشار أنه بتطور المجموعة لم يعد المعالج إلى عضواً فيها) أقول إنى إذا اعترف بهذا البعد أقرر من وجهة نظرى أنه موجود عند كل معالج رضى لم أم لم يرض، وعى به أم لم يع، فالعقد فى العلاج النفسى بوجه عام والعلاج الجمعى بوجه خاص هو دائما أبداً عقدان:
العقد الأول: عقد ما بين طبيب (أو معالج) – طرف أول – ومريض – طرف ثان – الأول يرتزق ويمتهن مهمنة إنسانية (بالمرّة)، والثانى يشكو من أعراض مرضية أدت إلى أن يذهب إلى الأول ويريد أن يتخفف منها.
أما العقد الثانى: فهو العقد الأعمق غير المعلن بين إنسان وإنسان: الطرف الأول (المعالج) يعيش مرحلة وجود ناجحة نسبيا وبالتالى فله تصور لأبعادها، وسلوكه إنما يمثلها ويبررها حتى ولو ضعفت درجت وعيه بها، والطرف الثانى (المريض) يبحث عن مثل هذا التصور، فينتقى من المعالجين من هو أقرب إلى تصوره ليحققا معاً مرحلة مشتركة بصورة ما.
هذا، ولا يوجد حاد بين العقد الأول والعقد الثانى، لأن العقد الأول هو الديباجة التمهيدية للعقد الثانى، ولأن الثانى هو الوسيلة الفعلية لتحقيق أهداف الأول (زوال الأعراض .. والاسترزاق).
ولابد أن أعترف أنى سمعت هذا التفسير لطبيعة العلاقة بين المريض والطبيب فى موقف العلاج النفسى أول ما سمعته عن أستاذنا المرحوم الدكتور يوسف حلمى جنينة حيث كان يقول ما معناه “إن الطبيب (المعالج) النفسى ينتقى من مرضاه من يماثلونه، ليرى نفسه فيهم بالساعات الطوال ويبرر وجوده من خلالهم”.
وقد رفضت هذا القول الذى قبل هجوماً على العلاج النفسى سنين طويلة، ولكنى فى النهاية وصلت إلى نفس النتيجة مع تحوير بسيط فى العبارة الأخيرة إذ لابد أن تتعدل – فى الأحيان – من “.. ويبرر وجوده من خلالهم” إلى “…. ليبحثوا سويا عن معنى ذلك، وعن الطريق إلى إمكان تغييره إن لزم الأمر” وقد قلت “فى بعض الأحيان” لأنى مازلت أتصور أن كثيرا من العلاجات يصدق عليه كلام أستاذنا الدكتور جنينة، وآمل – متحيزاً – أن هذا النوع قيد البحث يصدق عليه التحوير الذى اقترحته.
وأختم هذه النقطة التى ينبغى أن تتضح عند كل ممارس للعلاج النفسى، وكل باحث فيه بأنه “إذا كان الأمر كذلك، وهو عندى كذلك، فإن درجة الوعى التى يتم فيها هذان الاتفاقان ضرورة لازمة لتأمين المسار، والتقليل من المضاعفات، وتأكيد الاختيار”.
فإذا كانت هذه هى العلاقة بين مادتى البحث الأساسيتين (المرضى والمعالج) فإن موقف الباحث يزدلد صعوبة فوق الصعوبات القائمة فعلا، لأن المعالج هنا هو المشرف على الباحث ايضا، وهو أستاذ له، ثم هناك علاقتهما العاطفية التى جعلت الباحث يشكره فى مقدمة بحثه باعتباره والده الروحى (!)، ولنا أن نتصور كيف يقوم باحث بعمل بحث مادته (أو ضمن مادته)، والده الروحى … ليبحث عن ضعفه واحتياجه وخطئه والتوائه ..الخ.، وقد ناقشت هذه النقطة سابقا فى عجالة ولكنى أعود إليها هنا بتفصيل لازم:
فقد كنا أمام ثلاث اختيارات: إما أن يقوم بالبحث أحد تلاميذ صاحب المدرسة الناشئة الداعية لفكرة “الطب النفسى التطورى” والمسهمة فى تطبيق هذه الدعوة فى المجالات المتعلقة بهذا الفرع ومن بينها مجال العلاج النفسى، وإما أن يقوم بهذا البحث أحد المنشقين عنها لأن عنده فرصة أعمق ومشاركة أطول لمعرفة عيوبها ونقائصها، وبالتالى فإن موقف المعارضة منها هو موقف يقظ يتيح له أن يحدد ما عليها أكثر مما يحدد مالها، وأخيراً فالاحتمال الثالث أن يقوم به1ا البحث “آخر” ليس إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء مما يمكن أن يطلق عليه – افتراضاً – باحث موضوعى.
أما الافتراض الأول: وهو الذى تم فعلا – فهو يضعنا فى موضع خاص إذ هو أقرب إلى “عرض” ما يجرى من وجهة نظر مشتركة تقريباً (مشتركة بين الباحث والمعالج)، وإلا ما انضووا سويا تحت لواء هذه المدرسة وهذا العلاج، وبهذا الإعلان يصبح العرض أميناً لو أسميناه “صورة من الداخل.
أما الاحتمال الثانى: فسوف يمنحنا صورة دفاعية كذلك، فهو لا شك خليط بين موضوعية محتملة – حسب درجة تطور الباحث نفسه وأمانته مع وجوده – وبين تحيز مضاد أكيد – هو فى الأغلب مبرر انشقاقه عن المدرسة، وهذا الخليط هو ذاته نفس نتاج الاحتمال الأول وإن كان التميز فى اتجاه مضاد.
أما الاحتمال الثالث: فخبرتى ومشاهدتى واطلاعى على الأبحاث التى يزعم أصحابها الموضوعية، ثم طبيعة مثل هذا العلاج ومحتواه، كل ذلك يجعلنى أجزم أن مثل هذا الباحث المحايد ابتداء سرعان ما سيندرج – خلال دفاعاته الخاصة تحت أحد الاحتمالين السابقين بدرجة أو أخرى، لأنه فى مواجهة هذا انلوع من التفاعل لابد وأن يدافع أى باحث مغامر عن نوع وجوده ابتداءاً، وإذا كنا قد أشرنا إلى أن الباحث قد هرب من هذا المأزق – مؤقتاً – بأن أعلن أن يحثه يقع تحت بحث “العمليات” لا ” تقييم النتائج” فإننا لا نستطيع أن ننفى أنه فى نهاية الأمر، لابد وأن يرتبط شرح العمليات بتقييم النتائج، أو بتعبير آخر إن أبحاث النتائج ما هى إلى نتائج “العمليات الجارية” وليست شيئاً آخر.
ونخلص من هذه المواجهة الضرورية إلى إعلان واقع هذا البحث وهو أننا أمام “عرض وجهة نظر باحث تلميذ فى ما يفعله معالج هو أستاذ له .. لا أكثر ولا أقل”، وهذا الإعلان إنما يعيد وضع الأمر فى نصابه ولا ينقص حق التلميذ الباحث فى ان يقول رايه فى حدود المستطاع..
أما موقفى الآن كمقدم لهذا البحث فهو أن أضيف للباحث وجهة نظرى فى كونى مادة البحث:
أولا: أنه لابد من اعتبار المعالج ضمن مادة البحث وإلا كثير ممن كتب عن أنواع العلاج النفسى، فشخصية الباحث كمادة بحث هى التى تفسر لنا نوع اختياره لمرضاه، ولسنهم، وجنسهم (واختيارهم له كذلك) ثم محتوى العلاج ثم هدفه، وبدرجة هائلة: نتائجه، بل وفى النهاية فلسفته فى الحياة ومحتوى نظريته، ولنراجع سوياً فى هدوء – ولو مصطنع – نوع حالات الهستريا والحواز التى عالجها فرويد، ولنراجع اختيار يونج لمرضاه ممن هم فى وسط العمر، ثم ويلهلم رايخ وزبائنه ومن بينهم فردريك بيرلز مؤسس مدرسة الجشتالت .. واختيار أدلر لتوجيه بعض نشاطه للأطفال، ثم تعيد النظر فى شخصية كل معالج لنرى كيف تحدد شخصيته اختياره وفكره النظرى ونتائجه جميعا.
ولست هنا بصدد تحديد وجهة نظرى من هذه المقولة الخطيرة تفصيلا: من أنا؟ ولماذا؟ ولكنى أوافق على انى “شخصياً” .. و”تماما” ينطبق علىّ ما زعمته فى الفقرة السابقة ..، ولكنى أحذر من التمادى فى هذه “الشخصنة” للنظريات العلمية وإلا وقعنا فيما وقع فيه أستاذنا المرحوم الدكتور صبرى جرجس حين عزى كل فكر فرويد إلى ميوله الصهيوينة الخفية…
ثانيا: أن العلاج النفسى إنما يحدث تغييراً فى المريض من خلال التفاعل بين اثنين، لأننا لا يمكت أن نتكلم عن تفاعل يقوم به متفاعل واحد وإلا كان فعلا لا تفاعلا، والمعالج هو الطرف الثانى فى التفاعل ولابد أن نعترف أنه معرض لتغير هو ذاته بل ربما هو ملتزم بالتغير إن كان التفاعل صادقاً فعلا، وفى رأيى أن كل العلاجات التى تدعى أن المعالج “محايد” أو غير متداخل فى التفاعل، إنما تعلن ضمناً أن تدخله أخفى وأخطر، لأن موقف الحياة مستحيل، فإذا كان ممكناً فهو يعلن بشكل ما توقف النمو من الجانبين، لأن المعالج ثابت مدافع عن ميكانزماته بانسحابه تحت عنوان عدم التداخل، وبالتالى فلابد أن يتوقف المريض أو المرضى تحت نفس العنوان وهذا يحقق غرضه الخفى، فما دام المرضى لن يتغيروا فهو آمن من التغير، ومثل هذه المجموعات – التى تجتمع تحت عنوان العلاج الجمعى ايضاً – تؤكد بطريقة ما – أن هذا ” اللاتغير” هو هو التغير المنشود، وبالتالى فهى تؤدى وظيفة نافعة إذ تزيح عن كاهل المترددين الزعم بضرورة التغير وحتمية الصيرورة ..
ولكن لابد من الاعتراف أن إعلان المعالج لنوعية تحيزه، وطبيعة التزامه وحقيقة مخاوفه وأبعاد احتياجه .. هو السبيل إلى الاقلال من “الاتفاقيات السرية” بين المعالج والمتردد، وإتاحة افرصة للتقليل من مخاطر التأثير الخفى الذى يختبئ وراء إدعاء الحياد، وكأنى أعلن هنا ضمنا أنه لا حياء فى العلاج النفسى – وأذكر القارئ بأن العلاج النفسى “المتمركز حول الزبون” client Centered Psychotherapy والذى ابتدعه روجرز، ولاذى سمى أيضا العلاج غير الموجه Nondirective Psychotherapy قد أعلن روجرز شخصياً – مؤخراً – أنه لا يعرف من أطلق عليه لفظ غير غير موجه، واعتذر لفريك فى مقابلة خاصة (فى كتاب عن مقابلات فريك مع الانسانيين فى علم النفس “مازلو وميرفى وروجرز”) أنه لو كان هو الذى أطلق عليه هذا الأأسم فهو آسف وتراجع لأنه لا يوجد علاج غير موجه .. وإلا لما كان ثمة علاج..
فالموقف إذا كالتالى: إما موقف من المعالج معلن وقابل للتغيير والتفاعل والمواجهة، وإما موقف سرى شديد التأثير والمناورة بعيد عن متناول النقاش والجدل الحيوى، وأخطر المواقف السرية ما كان سريا على صاحبه ذاته .. ونقابل تأثير هذه السرية الخفية أكثر ما نقابلها عند أشد المعالجين حماساً للحياد..
فإذا انتقلنا إلى المعالج كمادة لهذا البحث فإننا نقابل تعليق الباحث فى أكثر من موقع بأن المعالج كان يكشف نفسه، ويعلن احتياجه، ويدافع عن حقه فى الضعف .. الخ وقد اعتبر الباحث هذا دليلا على تطور المجموعة من جهة ودليلا كذلك على نمو المعالج من جهة أخرى، ولكن علىّ أن أثير من جانبى هنا عدة نقاط إضافية:
1- إن إعلان المعالج لموقفه لا يعنى بالضرورة أن هذا هو موقفه، بل قد يعنى محاولة علاجية تحددها مسئوليته، والتزامه فى وقت محدد تجاه فرد محدد فى مرحلة بذاتها من تطوره، على انى أتصور أن هذا التكنيك العلاجى لم يكن ليخفى على عديد من أفراد المجموعة، وأعتقد شخصيا أن مرحلة المجموعة قد تخطت مثل هذا الموقف الحر فى الصرف.
2- إن إعلان املعالج لموقف ما، قد يخفى عن المعالج نفسه أن هذا ليس موقفه (راجع موقف إعلان الحياد .. وقارنه باحتمال الشبه بينه وبين موقف إعلان التعرى هنا).
3- إن إعلان المعالج لموقف ما قد يكون مناورة من نوع التمويه ذى الدرجتين Double blouffing، فقد يعلن المعلج أنه يتدخل فى حرية الآخرين، وأنه من واقع مسئوليته ملزم بإعلان أنه يعالجهم لسد احتياجه ليس إلا، فيبدو بذلك وكأنه أمين وموضوعى. ولكن هذا الإعلان فى ذاته – بما يحمل من مظاهر لأأمانة والموضوعية – قد يثير فى الأعضاء احتمال أ، هذا ليس صحيحاً وأنهم أحرار حقيقة فى اختيار طريقهم دون تأثير غير مباشر من المعالج، وأن المعالج بإعلانه هذا قد كشف ورقه، والباقى مسئولية المترددين، وقد تحمل هذه الاستجابة فى ذاتها خدعة أعمق لأنها تغرى المترددين والمرضى بإلقاء أسلحة حذرهم فى حين أن الأمر يسير فى نفس الاتجاه الذى حذر منه، أو بألفاظ أخرى ” إن كشف ورق المعالج إذ يؤكد تدخله قد يسهله لأنه لا يثير الحذر الواجب ضد ذلك”
ولمك يكن الباحث – على قدر تصورى فى موقف يسمح له بأن يصل إلى الشك فى نوايا المعالج لهذه الدرجة، ربما لتعداد العلاقات المتشابكة بينهما، إلا أنى وضعت هذا الأمر بوضوح لمراحل تالية من البحث، وحتى لا يكون الحماس الخادع هو نهاية تصور الحقيقة..، فإذا كان لى أن أعترف فأنا لا أعرف عن نفسى أكثر مما ذكره الباحث وإن كنت لا أستبعد هذه الدرجات الأخرى من التمويه، وهو أمر بعيد عن إدراكى حاليا أتركه لاختبار الزمن.. أو لباحث أكثر تشككا وربما أشجع.. وربما أكثر دفاعا وتخوفا.. الخ ولكنى أخشسى فى نفس الوقت أننا لو فتحنا باب التشكيك إلى التمويه المزدوج ثم الثلاثى ثم الرباعى.. أن نصل فى النهاية إلى موقف “الشك المطلق” وليس فقط “الشك المنهجى” حتى لنستعمل لغة ديكارت وكأن الحقيقة الوحيدة فى كل هذه القضية هى أن الباحث يشك، أما نتاج ما يشك فيه وحقيقته الموضوعية فهى ليست فى متناوله شخصياً (ولا فى متناول أحد بالتالى).
إلى هذا الحد يصل التسلسل الطبيعى إلى الاعتراف بالعجز النسبى أو المطلق عن الموضوعية .. ولكن دون التسليم اليائس بعدم إمكان تحديد حقيقة ما يجرى خارج عقولنا، لأن كل ذلك سيتوقف فى النهاية على من هو “الباحث” الذى يشك، الأمر الذى دعانى إلى أن أضعه هو ذاته كمادة للبحث (وهى الفقرة التالية مباشرة).
3- الباحث:
تعةدنا فى التفكير العلمى السائد فى مجال علمنا هذا ألا ندرج الباحث تحت موضوع “مادة البحث” إلا إذا استخدمنا مقولة الاستبصار Introspection كوسيلة للبحث حيث يكون فيها الملاحظ هو نفسه الظاهرة تحت الملاحظة ولكنى هنا أدرج الباحث تحت مادى البحث من باب آخر وهو أن الباحث فى موقفنا هذا يصدر فى النهاية أحكاما نابعة من إدراكه لمجريات الظواهر، سواء كانت أحكامتً بالنسبة للعينة التى انتقاها ليقدم من خلالها وجهه نظره ويدعمها، أم طريقة سلسلته للأمور، أم تقييمه لما يجرى أم تفسيره لكل ذلك، فهذه الخطوات كلها تشمل أحكاما .. فهى ليست إطلاقا مجرد تسجيل ملاحظات والربط بينها، وهو بمجرد أن يصدر هذا الحكم المتلقى (القارئ أو الطالب أو الباحث الزميل أو المقيمّ للبحث) فإنه يصبح بذلك مادة فى بحثه ونتيجة فى نفس الوقت .. ومن حق كل هؤلاء أن يقيموه هو ذاته من خلال ما يقدمه .. وكأنى بهذا أضيف صعوبة جديدة فى موقفنا البحثى هذا وهى ان البحث برمته منذ أنتقاء الموضوع إلى انتقاء الطريقة إلى انتقاء عينة المعلومات إلى طريقة عرض النتائج إلى تفسيرها … كل ذلك هو فى مقام مادة البحث التى ينبغى وضعها فى الاعتبار ونحن نتناول البحث .. وإلا فنحن معرضون لخداع مضلل … وما دام الباحث أصبح “أداة البحث” و “مادته” معاً فإن تناول هذا “المتغير” بدقة وتمحيص: بماله نم صفات الأمانة العلمية وسعة الأفق، وما عليه من دفاعات ومخاوف داخلية، يعطى للبحث مكانة الدقيق فى الكشف عن جوانب ما يبحث، إذ لا يمكن أن يكون موضوعيين بحال إذا أهملنا موقف الباحث من الحياة، ومدى رؤيته، وطبيعة علاقته بالوجود وبذاته .. بما فى ذلك فلسفته وموقفه من الدين والسياسة والزوجة والأولاد .. لأن كل ذلك يحدد بطريقة أو بأخرى اتجاهاته من البحث من هذا النوع، وقد تكون النتيجة الهامة التى يخرج منها قارئ لمثل هذا البحث أن هذا الباحث عاجز عن الرؤية الشاملة، أو أنه ظالم خائف، أو أنه عادل شجاع إلى آخر هذه الاحتمالات المتنوعة….
وهذا يرجعنا أيضا إلى ضرورة إعداد باحثين لهم كفاءة خاصة، وصفات خاصة (راجع الجزء الثانى من هذا الكتيب: الأداة البشرية) وإلا فنحن أما باحثين من “المريدين” أو باحثين من “المدافعين الخائفين” لا أكثر ولا أقل..
وكل هذه الإعتبارات تنبهنا ثانية إلى إنه ما دام الباحث “إنسانا” فى مجال “علم انسانى” فلا سبيل إلا بالمغامرة، ولا أمان إلا بالحذر، وحتى إذا تصورنا أننا أمام عقل إلكترونى محكم .. وأننا سوف نترك له الحكم النهائى بحساباته الآليه .. فإننا سنواجه بالتساؤل العملى “من الذى سيغذى هذا العقل بالمعلومات؟ أليس إنسانا له موقفه ومميزاته ..” الخ
****
وبتنوع مادة البحث من المرضى والمترددين إلى المعالج إلى الباحث ذاته نجد أنفسنا مرة أخرى – وأخيرة – فى موقف يكثف مرحلة صعبة مرّ بها التفكير العلمى ردحا من الزمن، وأعتقد أنه لم يتحمل غموضها وتشابكها، فإذا به ينتهى فى كثير من الأفكار المعروضة لكبدائل عن هذه الصعوبة إلى حلول شائهة وخطيرة، لا أجد مناصا من التلميح إليهما:
1- فقد لجأ فريق إلى الاكتفاء بقياس “جزئيات السلوك” ونسوا أثناء ذلك أن انتقاء قباس هذا الجزء من السلوك دون ذاك، وانتقاء هذه الأداة للقياس دون تلك، إلى آخر عمليات الانتقاء والتخطيط، هى جميعاً من ضمن موقف ذاتى قد يكون هروبا من مواجهة مشاكل كلية أعمق مثلما طرحنا سابقا، وقد وصعنا هذا الاتجاه فى مأزق تشويه الانسان بتجزيئه دون غائية او عمق شامل، وإن كنت لا أنكر أن اتفاق معرفة الجزء هو سبيل لازم لتجميع معالم الكل فى أحيان كثيرة.
2- أما الفريق الآخر فقد لجأ إلى رفض البحث العلمى – فى مجال الإنسانيات – بصورته هذه تاركا الأمر إلى الإنطباع والتأمل الشخصى من خلال التجربة التلقائية وإصدار الأحكام على ميئولية مصدرها، حتى كادت المسألة أن تصبح – فى تقدير هذا الفريق – أقرب إلى التفكير الفلسفى من موقع التأكل بعد الاستيعاب، وقد هوجم هذا الفريق وأتهم أنه يرجع بالعلم إلى ما اسموه “البحث على مقعد وثير”، أى بعيداً عن الممارسة العملية والتجارب وإعادتها إلى آخر هذه القصة..، وفى رأيى أن هذا الفريق قد أضاف إلى علمنا قدراً من التنوير لا يقل عن الفريق الأول .. بل لعله يزيد، وأن اتهامه “بالبحث على مقعد وثير” هو اتهام من لم يعرف معاناة التفكير الخلاق وهو يبحث عن جديد… لا يلتزم فيه إلا بصدق ذاتى يجاول أن يقربه من الصدق الموضوعى، فالمقعد فى رايى ليس وثيراً بل هى معاناة متصلة، يرجع الحكم فيها إلى ضمير يقظ قادر على رفض كل مسلمة مسبقة .. على مسئوليته (أى دون أن يجن).
3- أما الفريق الأخير فقد اكتفى “بالخبرة الفنية” ورفض البحث فى الجزئيات بزعم أنه تشويه للحقائق الكلية، ثم خاف من إصدار الأحكام الانطباعية، حتى أصبحت المسألة – فى تقدير هذا الفريق – نوعا من سر المهنة، ينتقل من معلم إلى صبى بالمحاكاة فالتقمص فالتعاطف فالتفجر من الداخل، وسار التعليم فى هذ السبيل بك الوسائل المعروفة فى أى حرفة من الحرف .. وكانت الدلائل تشير إلى ان الأمور تسير فى اتجاه سليم نافع .. هو استمرار نجاح الحرفة فى أداء المطلوب منها، ورغم أن هذا هو الطريق العملى السائد عند أغلب الممارسين حيث تعتبر كل مقابلة للمريض نوع من البحث العلمى، وكل نتيجة للعلاج تقييم لهذا البحث، وكل خبرة من أستاذ لطالب هى إعطاء سر المهنة، إلا أن هذا السبيل يضعنا فى مأزق حقيقى لأنه يبتعد بنا عن معنى العلم الحق، ويعرض المهنة بالتالى للانقراض، لأنه إذا لم تنتقل الخبرة “العلمية” إلى دوائر أوسع فأوسع، وتدون فى شكل اثبت وأبقى، فإنها قد تصبح حكراً على فئة محدودة معرضه للانقراض للتشويه السرى تحت ستار سر المهنة، والترايخ ينبئنا بمثل هذه المضاعفات (التشوه أو الانقراض..) فى كثر من المهن القديمة كالكهانة، وبعض الحرف القديمة اليدوية (الخزفية والنحاسية الخ..) وبعض الحرف المزاجية (حرفة “الخرمنجى”..الخ)
وبـعـد
وهكذا نجد أنفسنا فى هذا البحث وقد التزمنا بشق طريقنا الصعب “بمايمكن” دون استسهال يلبس ثوب الموضوعية، أو تنظير هو أقرب إلى التفلسف (لا الفلسفة) أو صمت يلبس ثوب الحرفية ويكتم سر المهنة.
ولعل تقييمى الأول لما منحنا هذا البحث هو الطمأنينة إلى أنه بإمكاننا أن نخترق كل هذه الصعوبات برغم شدتها، إذا أن تسجيل الملاحظات بهذه الدقة والشجاعة – مهما كانت انتقائية – ثم عرض الآراء صريحة دون شعور بالنقص أو اختباء وراء الأرقام، ثم الحماس الظاهر لهذه الآراء دون تردد .. ثم التفسير ووجهة النظر الشخصية فى جلاء محدد.. كل ذلك هو خطوة لازمة على مسيرة البحث العلمى، وهى خليقة أن تثير حواراً، على الجميع أن يواجهوه بشجاعة، ثم يأتى الزمن يحكم بين الجميع على مراحل متتالية، إذ يصدر حكمه على المدى القصير بمقياس انتشار الفكر وفائدته العاجلة، ثم على المدى الأبعد بمقياس استمرار الفكر وتحديه، ثم على المدى المطلق بمقياس الاسهام فى مسيرة التطور للنوع كله.
وحكم الزمن هو الفيصل النهائى فى كل مبحث يتجرأ ليعلن أنه رآى زوية من زوايا الحقيقة.
وأعتذر فى النهاية إذا أطلت حتى انتهيت إلى هذه النهاية المزعجة والمسئولة فى نفس الوقت، ذلك لأنى من أشد الناس إشفاقا على إضافة وقت الباحثين – وخاصة الشباب منهم – فى توهم موضوعية لا وجود لها إلا بقدر الاعتراف بعجز الباحث ومحاولته هو نفسه التطور للاقتراب من لموضوعية فى كل مناحى حياته، وكذلك فإنى من أشد الناس حرصاً على تذكير كافة الباحثين فى مجالنا هذا بضرورة التسجيل وإبداء الرأى دون مخاوف أو تردد أو تلكؤ..
خامسا: معالم “طريقة العلاج”
موضوع البحث:
لما كان الباحث قد حملنى مسئولية هذه الطريقة التى قام بالبحث فيها، فإنى انتهز الفرصة فى هذا التقديم المطول لأحدد معالمها فى خطوط عريضة، تتفق مع ما جاء فى البحث حينا، وتختلف معه حينا آخر .. فأقول:
1- مرة ثانية: إن العلاج النفسى هو جوهر الطب النفسى، وهو المميز الحقيقى لممارسته، وإن العلاقة بين إنسان وإنسان بهدف تغيير سلوك مضطرب، أو معطل، أو طفيلى أو مغترب (أو على الأقل إخفائه) هو لب العلاج النفسى.
2- إن العلاج الجمعى بصفة عامة هو صورة نشطة ومتطورة من العلاج النفسى (بالتعريف السابق).
3- أن تغيير السلوك، أثناء العلاج النفسى أو بدونه، من خلال علاقة إنسان بإنسان ليس دائما، وإن كان خطيراً أحيانا، لأن الاختفاء قد يتم على حساب نمو الشخصية أو على حساب التفاعل الوجدانى الأعمق أو على حساب “شخص آخر” (فى تفاعل وجدانى عميق مع صاحب الأعراض).
4- إذا، فإن اختفاء الأعراض لا يصف نوعاً معينا من العلاج لأنه يتم بطرق مختلفة من العلاج (من بينها العلاجات العضوية) وحتى بغير علاج..
5- إن الطريقة التى تختفى بها الأعراض، والهدف من اختفائها، ومسيرة الفرد بعد اختفائها هى التى تحدد نوع هذا العلاج من ذاك.
6- وعلى ذلك يمكن تحديد نوع هذا العلاج وطبيعته من خلال تفسير هذه الفقرة الأخيرة بالنسبة لما يجرى فيه، ومحاولة تفسير ذلك، وتحديد غايته… هى بغيتنا هنا.
7- أن هذا التحديد والتفسير لابد أن يشمل ابتداء موقف المعالج نفسه، وتكونيه الشخصى، ومرحلة تطوره، واحتياجه لممارسة هذا النوع أو ذاك من العلاج، وسبب إصراره على المشاركة فى مسيرة النمو دون الاكتفاء باختفاء الأعراض (أو العكس)، وهذا التكوين الشخصى – كما سبق أن ألمحت – هو الذى يحدد انتقاء الطريقة وتطويرها وانتقاء نوع المرضى، واستجابة المرضى لهذا الانتقاء واستمرارهم معه.
ولكل معالج أن يختار الطريقة التى تشحذ رؤيته، أو تعميه عن موقفه، هذا حق إنسانى صرف ليس لأحد أن يحرمه منه إلا بقدر حظه من ضريبة التنوير العام التى تتناسب مع مرحلة نمو مجتمعه عامة، لأنه من البديهى أن كل فرد – وكل معالج بالتالى – فى لحظة ما من مسار تطوره لا يستطيع غير ذلك، وبالتالى فإنه يحدد طريقة العلاج والهدف منه على قدر الجرعة التى يتصور أنه يتحملها، وإلا فمن ذا ينقذه إذا تعرض لجرعة فوق طاقته وهو متحمل مسئولية علاج آخرين؟.
كأنى بكل هذا أقرر أن العلاج النفسى عامة، والعلاج الجمعى خاصة تختلف طرقه بعدد اختلاف الأفراد الذين يمارسونه، وأن انتقال معالج ما من مرحلة إلى مرحلة: مثلا من العلاج الفردى إلى الجمعى: (مثل روجرز الذى أعلن أنه لم يعد يستطيع أن يمارس العلاج الفردى ثانية، وقد أصبحت أنا كذلك منذ عامين، ثم بيرلز الذى أعلن أنه حتى العلاج الجمعى كاد يصبح بعيدا عن متناوله … الخ) أو حتى التغيير فى النوع ذاته مثل الانتقال من نوع علاج ” الفرد فى المجموعة” إلى نوع “علاج المجموعة ككل” أو العكس ..، كل ذلك إنما يدل على تطور المعالج ذاته، أو تراجعه، حسب مرحلة نموه أو درجة خوفه.
ومن خلال كل ذلك نستطيع أن نخلص إلى نتيجة بسيطة ومنبهة للغاية، زهى “أن كل انواع العلاج القائمة بعيوبها ومزاياها مطلوبة لأن المرضى يختلفون، وبالتالى فينبغى أن يكون هناك من يقابل احتياجاتهم من المعالجين المختلفين بنفس قدر اختلاف المرضى”، والتلاقى بين هذا الطبيب (أو المعالج) وبين ذلك المريض واستمرارها معا هو تحديد ضمنى لمرحلة تطورهما معا، وتلاقى مجموعة بالتالى واستمرارها مع معالج بذاته هو تحديد أيضا لمرحلة هذه المرحلة (ويمكن تعميم ذلك على المجتمع الأوسع بصورة مجملة بالنسبة للقائد والشعب مثلا: كيفما تكونوا بولىّ عليكم!).
ومن خلال هذه المقدمة أستطيع أن أقرر معالم هذا العلاج خاصة كالتالى مباشرة:
1- أن هذا العلاج يتفق مع احتياجاتى فى هذه المرحلة من الرؤية والتطور، وأنى لم أعد أستطيع أن أمارس العلاج الفردى إذا أردت الحفاظ على امانتى من نفسى.
2- أنه فيما عدا فترات محدودة أوضحها الباحث فى حالة “على” (المتواجد فى المستشفى أثناء حضوره المجموعة) فإن الحضور إلى هذا العلاج يتم اختيار كامل، وبالتالى بمسئولية كاملة.
3- أن الأسلوب الجارى فى هذا العلاج هو أسلوب تلقائى أساساً، وأنى لا ألتزم فيه بقواعد محددة، وأن تلك القواعد التى سجلها الباحث هى نتاج التفاعل والخبرة والسلوك التلقائى فى الهنا والآن، المرتبط بشريط الحياة Script الغائى المحدد فى شعورى بدرجه ما.. والمستقر فى لا شعورى بدرجة لا أعرفها بداهة.
4- أن هذا السلوك الغائى مرتبط على حد علمى (ربما للأسف) بمقولة بعيدة عن الواقع إلى حد ما وهى “أن الإنسان عامة قادر على ان يستمر فى النمو، بحيث يصل إلى مرحلة يحتاج فيها إلى قدر ضئيل – أو منعدم – من الدفاعات، وأن هذا وحده هو السبيل لإطلاق قدرات إبداعه وإعطاء حياته معنى ولمسيرته هدماً”.
5- أن التوصيل بين هذه التلقائية الآنية وهذا الهدف المطلق هى مهمة هذا العلاج، وهى مهمة لدرجة تبدو مستحيلة (ربما لأن الوجود الإلهى، أو شبه الإلهى هو الوجود الأوحد المنعدم فيه اللاشعور) وبالتالى فإن الفرد فى الأحوال العادية غير قادر على ان يحاولها – مجرد محاولة – وحده.
6- أن ظهور الأعراض هو النتيجة المباشرة لمثل هذه المحاولة المجهضة، أو المعجزة، أو المرهقة، (وهى محاولة كيميائية بيولوجية كيانية فى نفس الوقت).
7- ان طلب زوال الأعراض هو إعلان طلب العون من آخر، (يعرف الحكاية)، أو آخرين يحاولون نفس المحاولة.
8- أن هذا العلاج الجمعى يحقق هذا الاحتياج المرحلى بتواجد شركاء على نفس الطريق يقومون بنفقس المحاولة.
9- أنه إذا زاد الاحتياج – والاعتماد على هذا الذى يعرف الحكاية أو يعايشها، أو على هؤلاء الذين يحاولون نفس المحاولة، فإن العرض قد يستبدل بالاعتماد على هذا أو ذاك.. وتحدث خدعة توقف النمو (وقد ناقش الباحث هذه النقط بإيضاح مسهب فى أكثر من موقع).
10- أنه إذا حققت هذه المشاركة هدفها الأصلى –تخفيف الألم وكسر الوحدة – دون التوقف عند مرحلة الاحتياج والاستبدال، فإن الفرد قادر بعدها على الاستمرار بعد اكتساب ميزتين هما نتيجتان طبيعيتان لكل ذلك.
(أ) الاعتماد على المصادر الذاتية معظم الوقت: إذ يصبح احتياجه للآخرين موقوت، ومرتبط بمواقف معينة، ويصبح قادراً على ان يمارسه دون ارتباط معوق، لأنه فى رحلته منه وإليهم، وبالعكس، يبدأ من قاعدة ذاتية ثابتة، ويعود إليها دون تخلخل عنيف فى رحلة الذهاب والعودة.
(ب) التقبل النشط: وأعنى بع القدرة على ممارسة الحياة مع كل الناس دون استثناء بالقدر الذى يضطر إليه فى سلوكه اليومى المختار (لاحظ التناقض الظاهرى بين الاضطرار والاختيار .. إلا أنه عمقه هو نفسه تناقض الواقع المحيط) ولكن هذا التقبل نشط بمعنى أنه ليس مجرد فرصة سلبية أو استعلاء “ودعه يفعل”Laissez Faire ولكنه احترام للاختلاف رغم المحاولة المستمرة للتفاعل والالتحام.
11- أنه انطلاقا من هاتين الركيزتين (الاعتماد على المصادر الذاتة والتقبل النشط)، سوف يجد هذا الفرد نفسه ملتزماً – إزاء نفسه أساسا – بقضية هذا الأسلوب فى الحياة الذى توصل إليه من خلال العلاج، وسوف ينجح فى ذلك من خلال نشاطه اليومى العادى كقدوة وكعضو متفاعل بلغة الواقع السائدة.
12- أنه من خلال هذا الموقف الأخير يستطيع أن يستغنى هذا الفرد – رويدا رويدا – عن احتياجه للدفاعات المشوهة ليحقق الهدف الذى أعلنته سابقاً وهو يحقق فرض “أن الإنسان قادر على ان يستمر فى النمو بحيث يصل إلى درجة لا يحتاج معها إلا إلى أقل القليل من الدفاعات”.
هذا هو التصور النظرى الذى يبدأ من احتياطى الشخصى، وينتهى إلى اتباع أسلوب يهدف إلىا، يكون هذا الحتياج الشخصى احتياجا عاما .. وبالتالى تنكسر وحدتى ويخفف ألمى..
ولكن هل يعنى ذلك أن المسألة برمتها مسألة شخصية؟ وهل يعنى ذلك أنى لابد وأن أفرض تحقيق هذا الاحتياج على من يقع فى طريقى؟
وهل يعنى ذلك أن المسألة تبتعد رويداً رويداً عن الموقف العام لمنتهى وعلمى لتصبح تصوراً خاصاً ومطلباً جانبياً.
الحق أقول – على حد علمى ومسئوليتى – أن الجواب بالنفى..
وإنما يتقرر ذلك نم عدمه إذا تتبعنا مراحل العلاج بالتفصيل، ودرسنا أسلوب التفاعل (وقد قام الباحث بعرض هذ الجزء الأخير عرضا أمينا ووافيا)، هذا بالإضافة إلى أن هذا الاحتياج الشخصى هو جزء لا يتجزأ من تصورى لطبيعة هذا العلم الذى أمارس بعض جوانبه فى مهنتى، والتصدى لعلاج آخر مرتبط اشد الارتباط.
(أ) بظهور الأعراض من ناحية، . وتجمعها عادة زملة بذاتها.
(ب) بنشاط الجهاز الهصبى بصفة عامة، واضطراب تناسق مستوياته بصفة خاصة..
فالأعراض تظهر حين يعاق هذا التسلسل الذى ذكرته وتناسق الجهاز العصبى يختل نتيجة لإجهاض محاولة استمرار المسيرة…
وبالتالى فإن العلاج هو إطلاق هذا التسلسل وتهيئة الظروف المناسبة لاستكمال المسيرة..
وهكذا يرتبط الاحتياج الشخصى بالتطور الفطرى فى إطار عضوى يترجم إلى فعل يومى فى ممارستى مهنتى…
فإذا انتقلنا إلى الطريقة وخطواتها فإننا نجد أنه يمكن للمريض أن يتوقف عند أى مرحلة يستطيع التوقف فيها وقد بين البحث أيضا هذه النقطة بجلاء وناقشها بإفاضة.
وعلىّ أن أكمل ما لم يرد فى البحث بالنسبة للمراحل التى يمر المريض (أو المتردد) أثناء رحلة العلاج بهذه الطريقة:
1- تختفى الأعراض بعد فترة – لا تطول عادة – من بداية العلاج، واختفاؤها يكون نتيجة لعودة الدفاعات السابقة للعمل، أو نتيجة لامتساب دفاعات جديدة أهمها العقلنةIntellectualisation والتقديس Idealisation للمعالج، وهو يشمل الاعتماد، فالمريض من خلال حركة المجموعة النشطة وتأثير المعالج سرعان ما يفهم طبيعة الأعراض .. ولكنه مجرد فهم، ثم هو قد يتحمس للحلول التى يستوحيها نم موقف المعالج وإيحاءاته، وهو يبالغ فى تعظيم صفاته وقدراته، وبتزايد الفهم العقلى دون عمق الاستيعاب الوجدانى، وبتزايد تصوير المعالج بالقائد أو الساحر، أو صاحب الطريقة .. تتلاشى الأعراض فى هذه المرحلة.
2- تستمر هذه الفترة لمدة تطول أم تقصر حسب كل حالة، وتتوقف هذه المدة على تكوين الشخصية، ونوع التشخيص، وموقف علاقات المريض بالآخرين من المحيطين خارج المجموعة.
3- قد ينقطع المريض عن العلاج فى هذه المرحلة، ويعتبر قد شفى بالمقاييس العادية.
4- إذا استمر المريض فى الحضور بالرغم من اختفاء الأعراض فإن هذين الدفاعين (العقلنة والتقديس) لا يعودان يشبعانه، فيبدأ الرض الداخلى لهما يعلن طبيعتهما المؤقتة، كما يبدا ضغط المجموعة يكشف هذه الحيل الهروبية (وقد لوحظ هذا الضغط فى هذا الاتجاه مراراً فيما قدمه الباحث)، فإذا اضيف إلى هذا وذاك قرار المعالج برفض استمرار هذا النوع من التحسن (ويتوقف ذلك على حساباته وتوقيته ومسئوليته)، فإن المريض لابد سيواجه بمرحلة جديدة نشطة ومتحدية.
5- تبدا مرحلة الهجوم على المعالج، ويظهر هذا الهجوم فى أشكال مختلفة ظهرت أغلبها فيما عرضه الباحث، وأهم صورها:
(أ) الهجوم اللفظى المباشر بالسباب أو الاحتجاج أو المتقاطعة.
(ب) الاتهام بأنه “صاحب طريقة” أو “ديكتاتور” أو “مجنون” أو مثالى”…الخ.
(جـ) الهجوم الجسدى بالتفاعل الجسدى معه.
(د) الهجوم بالتشويش وبإعاقة المجموعة، أو الاحتكار، أو التسخيف.
6- قد يتخذ المريض هذا الهجوم مبرراً لانقاطاعه، ولكنه انقطاع من نوع آخر غير ما ذكر فى رقم (3)، فالأول انقطاع “الهارب الشاكر” أما هنا فانقطاع ” المحتج الثائر”، وفى خبرتى فإن هذا الانقطاع الأخير أفضل، والمريض فيه أقل عرضه لعودة الأعراض بنفس سرعة عودتها فى الحال الأولى، ورغم أنه يدمغ المجموعة والمعالج ويصفها بأنها مؤذية وضارة وتكون إجابته سلبية فى أغلب أبحاث الاستبارات للمنقطعين إلا أن فائدتها أعمق، أما الأول فقد يجيب بحماس عن الفوائد التى عادت عليه، فى حين لم يستفد كثيرا أو طويلا ..(لاحظ المناقشة فى أول المقدمة حول قيمة هذه الاستجابات وحقيقتها).
وأضيف أن انقطاع “الثائر المحتج” يبدو فيه المريض أكثر دفاعاً واقل رؤية، ولكنى لاحظت بالمتابعة المتأنية انه بعد حوالى عام (فى المتوسط) يبدا فى استيعاب خبرته ايام المجموعة .. ويستمر تدريجياً وبوعى جزئى فى تقدمه محو الأحسن .. أكثر من زميله “الهارب الشاكر”.
7- قد يمر المريض بهذه المرحلة دون إعلان العدوان الصريح وإن كان المحتمل أنه يمر ببعض هذه المشاعر ويصل إلى مثل هذا القرار وحده دون إعلان.
وقد يتخذ العدوان أشكالا سلبية أخرى منها:
(أ) التوقف عن ممارسة الحياة الخارجية بأى درجة من الفاعلية، مثل التوقف عن الدراسة أو الذهاب للعمل .. وإعلان الفشل (رغم اختفاء الأعراض الأخرى).
(ب) التهيد بطلاق الزوجة او ترك الزوج أو هجر البيت.
(جـ) مضاعفة الاعتماد على المعالج والإفراط فى تبعيته ..
وكما يبدو فإن كل هذه الأساليب هى عبارة عن توجيه اللوم للمعالج ضمناً بمعنى ” مادمت صاحب هذه الطريقة، وقد خدعتنى وأغربتنى باتباعها، فهناك مضاعفاتها، وعليك وحدك أن تتحمل نتائجها ..وهأنذا ضحيتك المشوهة”.
وينتهى هذا العدوان الصمت، أو العدوان السلبى، باحتمال انسحاب العضو من المجموعة أيضا، وبعد انقطاعه تختفى هذه الاحتياجات السلبية مع اختفاء الأعراض السابقة ويعود إلى حياته وزوجته ويعتبر هذا الانقطاع أقل ضماناً من سابقيه ويمكن تسمية “المنسحب الرافض” وهو يختلف عن “الهارب الشاكر” من ناحية وعن “المحتج الثائر” من ناحية أخرى، على أن استمرار جدوى هذا النوع من الانسحاب (المنسحب الرافض) ومدى فاعليته فى اختفاء الأعراض، وفى استيعاب الخبرات التى استفادها المريض من المجموعة فيما بعد، هو أقل مما ذكرنا بالنسبة للمحتج الثائر، ويكون هذا الانسحاب أكثر تهديداً للمجموعة وإعلاناً للرفض حين يكون حضور هذا الفرد مرتبط بحضور فرد آخر (مثل انسحاب الزوجة رغم استمرار حضور زوجها) ويشمل هذا الانسحاب بالإضافة إلى الدفاع الذاتى رغبة فى توقف المجموعة ككل وإفشائها (أنا ذاهب .. وأنت وشطارتك).
8- قد يستمر أحد هؤلاء الثلاث تحت ضغط المجموعة، أو الشريك، أو التهديد بظهور الأعراض، أو الرغبة الظاهرية فى استكمال “الفرجة، ولكنه يحاول أن يفرض شروطه ويحول مجرى المجموعة إلى مجموعة اعتمادية أساسها الدردشة وتصور التميز عن المجتمع الخارجى، فإذا ووجه برفض شروطه عاد للانسحاب بنفس الأسلوب القديم، أو حاول إفشال المجموعة والتشكيك فيها بكل وسيلة (وقد أورد الباحث أمثلة لهذا الموقف أيضا والذى يمكن أن يلخص فى أنه موقف: “فيها – بشروطى – أو أخفيها”).
9- إذا تخطى المريض هذه المراحل واستمر مع ذلك فى حضور المجموعة، فإنه يكون قد اقترب من احتمال تغير نوعى فى وجوده: وهذا يعنى مواجهة جديدة أعمق قد فرضت عليه إذ لم يعد الاعتماد مقبولا ولا العدوان مبرّرا (وكأن مرحلة الاعتماد تقابل الموف الشيزويدة، ومرحلة العدوان تقابل الموقف البارنوى. وهو الآن على أبواب الموقف الاكتئابى) وفى هذه المرحلة يجد المريض نفسه فى مفترق ثلاث:
الأول: أن تعود الأعراض القديمة، ولكنها عادة تعود بشكل محور وبحدّة أقل.
الثانى: أن تظهر أعراض جديدة بديلة عن الأعراض القديمة، ولكن من واقع ميكانزمات أخرى، وقد لاحظت أن هذه الأعراض الجديدة فى كثير من الأحوال تكون أعراضاً جسمية (سيكوسومانية) تصل فى عنفها (وتهديدها) إلى تهديد الحياة ذاتها مثل أعراض الذبحة الصدرية التى تكاد تقول ( إما أن تتركونى .. أو أموت).
وفائدة الأعراض الجسمية أنها أخفى، وأبعد عن تناول المعالج، وهى أبعد أكثر فأكثر عن تناول المجموعة، وكأنه يقول بها “إن جسمى هو الآن المشكلة، إن مرضى عضوى، وعلاج الكلام والتهريج هذا لم يكتشف حقيقة اضطاب أعضائى، وإذا كان المعالج طبيبا يفهم فى الجسم فليظهر لى شطارته، أما أنتم فإيش عرفكم باضطرابات الجسم؟”.
الثالث: أن يواجه المريض انهيار دفاعاته القديمة والجديدة معاً، وبالتالى يواجه اضطراره لمواجهة الواقع بحجمه – بدرجة أو باخرى – وهنا يقترب أكثر فأكثر من أبواب الاكتئاب الحقيقى الذى يعلن بداية علاقة حقيقية بالعالم الموضوعى الذى يتمثل “هنا والآن” فى أعضاء المجموعة بعيويهم وميزاتهم، إذ لم يعد يصلح أن يعتمد عليهم أو يعتدى عليهم، وهذا الاحتمال الثالث هو ما يقابل الموقف الاكتئابى فى نمو الطفل (عند ميلانى كلاين وجانترب) وكذلك هو ما يقابل “المأزق” (عند بيرلز).
وإن كنت أميل إلى عدم إطلاق لفظ الاكتئاب على المشاعر المصاحبة لهذه المواجهة وأفضل عيها لفظ الألم (وقد ذكر أيضا فى إحدى الجلسات) وذلك لأن لفظ الاكتئاب اصبح رمزاً لعرض محدد أو مرض بذاته وقد أشئ استعماله اشد الإساءة، أما الألم هنا فيتميز عن الاكتئاب بأنه:
(أ) يحدث هنا تحت تأثير درجة من الوعى والاختبار.
(ب) لا يصاحبه عادة “شعور بالذنب”
(جـ) يكون الفرد فيه قد تخطى مرحلة الثنائية الوجدانية Ambivalence إلى محاولة الاقتراب من مرحلة تحمل التناقض Tolerance of ambiguity.
10- قد يدرك المريض ما ينتظره من مواجهة حقيقية للواقع بحجمه وقد يخاف من هذه الخطوة بشكل متزايد، وقد يهيئ للتراجع عنها بأحد طريقين أساسيين:
(أ) أن يتحمل الألم وحده تماما، فيلغى وجود المجموعة، وهذه الخطوة تضاعف من الألم بدرجة تبرر التراجع عنه.
(ب) أن يكثف جرعة الألم بأن يبالغ فى ضرورة تحمل مسئولية من حوله كدليل على ارتباطه بالواقع وعلى اشتراكه فى المسيرة، ولكن هذه المبادرة غير المحسوبة تضاعف أيضا من هذا الألم وتبرر فى النهاية انسحابه بعيداً عن تحمله.
11- قد يلجأ إزاء ذلك لألم المتزايد الذى ساهم تمهيديا فى إحيائه إلى أحد سبيلين:
(أ) عقلنة الألم: إذ يبدا الألم الحى بفقد جوهره رويداً رويداً، إذ يقل ما يصاحبه من معاناة وأمانة وحيرة وإصرار على المواجهة .. ويستبدل بذاك الحديث عنه، ونقل معايشته، وإن بقيت الألفاظ تتغنى بوصفه.
(ب) التراجع عنه: إما صراحة (أنا لست حْمل “هذا” أبداً) وإما بالعودة إلى أساليب دفاعية أخفى (بخلاف العقلنة) تريحه وتقلل بالتالى من فعاليته.
12- اما إذا احتمل المريض هذا الألم الحى، مستغلا وجوده فى المجموعة لتخفيف عنفه، فإن وظيفة المجموعة غير الاعتمادية فى هذه المرحلة تكون فى أشد حالات فعاليتها وهى تعنى أساساً:
“إن هذا الألم ضريبة الحياة، وأننا نعانيه “معاً” – لا بالنيابة أحدنا عن الآخر – وبالتالى فإن جرعته يمكن أن تكون محتملة: هيا نواصل”، إذا حدثت هذه الخطوة فإن المريض ينتقل إلى مرحلة “الولاف” الإرادى اليقظ، أو مرحلة الديالكتيك الحى، أو الجدل التطورى (راجع أيضا الجزء اثانى من هذا الكتيب: “الخطوط العامة للنظرية”).
13- وهذه الخطوة الأخيرة والتى تحدد هدف العلاج كله وهو ´إحياء ديالكتيك النمو بطريقة علمية ومباشرة وواعية إلى حد ما” هى نهاية وبداية معاً حسب قانون الجدل الحيوى المستمر، فهى نهاية لكل ما سبقها من خطوات، ولكنها متى استقرت فإنها تحتاج إلى فترة كمون وممارسة متأنية تنبعث بعدها مسيرة جديدة ..
وكنت أنوى فى المسودة أن أتحدث هنا تفصيلا عن طبيعة هذه الخطوة وكيفية حدوثها وشروط نجاحها، إلا أنى فضلت أن أنقل هذه التفاصيل إلى فصل الحديث عن علاقة هذا العلاج بالجدل (الدلكتيك) فى فقرة الحديث عن الفلسفة، ذلك لأنه لكى نفهم هذه الخطوة لابد أن نستوعب أولا – بدرجة ما – معنى الديالكتيك، كما أنى حريص تماماً على التنبيه على ضرورة إعادة روح علمنا هذا إلى الروح الفلسفى النابض.
ولكنى أحدد هنا المفهوم العام لاستعمال كلمة الموالفة ([2]) أو “الولاف” Synthesis وخاصة وأن الباحث قد استعمل هذا التعبير فى أكثر من موضع.
وكل ما ينبغى أن أشير إليه هنا قبل شرح هذا المفهوم تفصيلاً فى موقعه هو أن ” تحقيق الموالفة الأعلى” يختلف فى كثير من أبعاده عن الشائع عن العلاج النفسى فأقرر فى إيجاز:
(أ) إن هذا العلاج لا يسعى إلى “كبت” الجزء الآخر من النفس، وإن كان يقبل ذلك إذا فرض عليه بالانسحاب، فرغم أن هذا فى مضاعفاته، إلا أنه بالمقياس العادى هو هو بعض نجاحاته.
(ب) إن هذا العلاج لا يهدف إلى ضبط أو قمع الجزء الآخر من لنفس، كما هو الحال فى العلاجات التى تعمل على تقوية ضبط النفس والعويض الشعورى.
(جـ) إن هذا العلاج لا يهدف إلى تصالح أجزاء النفس وتفاهمها كما هو الحال فى بعض مراحل التحليل النفسى، بل إنه هو غاية الأمر فى مرحلة التحليل التركيبى Structural Analysis وأغلب مراحل التحليل التفاعلاتى Transactional Analysis .
(د) إن هذا العلاج لا يهدف إلى حل وسط – إلا كمرحلة – ذلك الحل الذى يتم عادة باتفاق سرى بين أجزاء النفس، إذ يلبس كل جزء صفة الجزء الآخر ليقدم للوجود ما يسمى “خداع التحسن” (إن صح التعبير) وهو المقابل لما أسماه إريك بيرن “التلوث” وهو المقابل أيضا المعروف فى التصنيف الشائع تحت عنوان “اضطرابات الشخصية”.
(هـ) إنما يهدف هذا العلاج إلى ” الموالفة الأعلى” بين قوى النفس المتصارعة المتناقضة (ظاهرياً)، ويتم ذلك من خلال تحديد هذه القوى، ثم فصلها عن بعضها، ثم إعادة المواجهة، ثم إفشال استقلال أى منها، ثم الاضطرار إلى تلاحمها، ثم نسج الموالفة الأعلى، وكل هذا قد نعود إليه فى حينه بالتفصيل.
خلاصة القول بعد تحديد معالم هذا العلاج وهدفه وخطواته:
1- أنه علاج عملىّ، له هدف بعيد غير معلن (الموالفة الأعلى) ولكنه يقبل كل الأهداف الوسطى التى تفرض عليه ويعتبر نتائجها المستقرة مرحلياً من إيجابياته.
2- أنه من الناحية التطبيقية لا يهمه التنظير أو المواصفات الطربائية الهروبية بقدر ما يهمه وضوح المقاييس التى يقيس بها خطوات مسيرته، وأهم هذه المقاييس:
(أ) اختفاء الأعراض ولو مرحلياً
(ب) إرساء علاقة – ولو خفية – تسمح بلارجوع لاستكمال المسيرة إذا عادت الأعراض.
(جـ) إدراك طبيعة الاختيار، ومن ثم المسئولية فى حالتى الصحة (ولو الظاهرية) والمرض.
(د) التكلم باللغة السائدة .. والارتباط بالواقع .ز وتحمل مشقة التكيف.
فإذا أشارت هذه المقاييس إلى تقدير إيجابى حقق العلاج غرضه المباشر، ولكنه – حسب خبرتى – يكون قد حقق أيضا غرضه الأبعد ولكن بجرعة محدودة وعلى المدى الطويل لأنى – كما ذكرت – لاحظت أن إحياء الجدل الحيوى من خلال هذا العلاج يستمر حتى بعيداًَ عنه وبعد الانقطاع.
سادساً: علاقة هذا العلاج بالأبعاد الأخرى:
“داخل دائرة المهنة وخارجها”
أولا: علاقة هذا العلاج بالعلاجات الأخرى:
(1) العلاجات الكميائية والعضوية
بدا من البحث أن التشخيصات مختلفة، ولكن الغالب فيها حالات خطيرة مثل الفصام – وقد نعزوهذا المرض بالذات إلى أسباب عضوية مختلفة وبالتالى فإن علاجه الشائع والغالب هو علاج عضوى كيميائى أساساً وفيزيائى فى المقام التالى، ولكن البحث لم يقدم لنا إشارات واضحة عن دور هذه العقاقير والعلاجات “مع” العلاج الجارى أو “بديلا عنه” أو “معوقاً” له، ولا أستبعد نقداً من بعض الذين لا يروا إلا مايبعدهم عن الرؤية يقول: “من أدرانا أن هذا التغير ليس نتيجة للعقاقير التى يتناولها هؤلاء مثلا.. وأنه ليس له علاقة بالعلاج الجارى؟” إلا أن الباحث كان حذراً منذ البداية، فأعلن أنه يبحث فى ديناميات العملية العلاجية، ليس فى نتائجها أو فى إرجاع النتائج إلى متغير بذاته، ثم ترك بحث هذا الأمر لمرحلة تالية لم تنشر.
ولذا فإنى أجد لزاماً علىّ أن أوضح بعض ما يدور حول هذه النقطة كالتالى:
1- مجموعة البحث شديدة الاضطرابت بصفة عامة 6 فضاميين، 7 اضطراب شخصية (مكافئ للوجود الفصامى فى بعض الأقوال).
2- كثيرون من مجموعة البحث لم يستجيبوا “لكل” العلاجات السابقة وحدها بما فيها العقاقير الكيميائية والجلسات الكهربائية.
3- بعض أفراد المجموعة (“حسام” و”على”) دخل المستشفى فترة من الوقت، الأول لبضعة أسابيع والثانى مازال بها.
وكل هذا يشير إلى أن هذا العلاج يواجه تغيراً بيولوجياً بالقدر الذى يعامل اختلالا دينامياً، وعل ذلك فالافتراض الأول أن أغلب هذه الحالات يحتاج مباشرة إلى عقاقير فعالة وشديدة التأثير.
وأنا لست ضد ذلك ولكن لى طريقة خاصة فى استعمال العقاقير مع هذا العلاج – وغيره – أتبعها – هنا – كما يلى
1- عادة ما أبدأ – فى مثل هذه الحالات – بالعقاقير المناسبة جنباً إلى جنب مع هذا العلاج، ولا يهمنى فى البداية إن جاءت النتائج نتيجة لهذا أو ذاك، فالذى يحدد ذلك هو “نوع النتائج” و “استمرار النتيجة”، وليس مجرد النظرة المسطحة للنتائج، فعندى – وعند غيرى – من يأخذ هذه العقاقير دون هذا العلاج دون هذا العلاج، ونحن نتتبع يومياً طبيعة نتائجهم” ومداها، ونوعها، بخبرتنا الإكلينيكية، دون خدعة الضبط والمقارنات السطحية.
2- أتفاهم مع المريض عادة ومنذ البداية عن فكرتى عن طريقة عمل هذه العقاقير وعندى لها تفسير دينامى بيولوجى مباشر يتعلق بعملها الانتقائى على مستويات المخ المتصاعده، ويفهم المريض عاده مهما بلغت درجة مرضه ما أعنيه، وربط التغيرات السلوكية، واختلاف أنواع النشاط بالعقاقير التى يتعاطاها (وليس هنا مجال ترتيبها أو شرح تفصيلى لتناسب درجاتها مع مستويات نشاط المخ المختلفة)
3- بعد أن تصل رسالتى واضحة، لا أعود للحديث عنها من جانبى أبداً وإنما أستجيب للتساؤلات حولها، حيث أنى أنهى كل جلسة (فجأة) بقولى “آخر خمس دقائق للأسئلة والعقاقير”، فإذا سأل أحدهم عن جرعته، تركته – عادة – يحكمها بما اتفقنا عليه مسبقاً.
4- يتعلم المريض حاجته للعقاقير وتناسبها مع طبيعة تفاعله بعد بضعة أسابيع من البداية:
5- لاحظت أن أغلب المرضى – حتى الفصاميين المزمنين – يوقف العقاقير تلقائياً مع تطور العلاج .. دون أن يخل هذا بوظائفه الفسيولوجية (النوم مثلا) أو النفسية، وقد يرجع إليها تلقائياً لأيام أو أسابيع وبجرعة أقل، ثم يوقفها ثانية، وقد يخطرنى بذلك أو لا يخطرنى، ولكنى أتتبع كل هذا عن بعد.
6- تعلمت من هذه الطريقة التلقائية أنه إذا سمح للنشاطكط القديم والأعمق للمخ بالتعبير، وقوبل بالتقبل، وبدأت محاولات استيعابه فإن المريض لا يحتاج للعقار الذى يخمده، والعكس صحيح، وهذا التناوب مباشر ويومى.
7- لا ألجأ أبداً إلى (بل وأنهى عن تعاطى) المنومات والمهدئات الخفيفة التى تعمل على المستويات الأعلى من المخ.
8- يقل تعاطى المخدرات والكحول تلقائياً لمن كانوا يتعاطونها دون التنبيه المباشر بمنعها، إذ يبدو أن الحاجة إليها هى الأخرى تقل حتى يتقطع المريض عنها تماماً مع ازدياد التفاعلات واكتشاف الداخل والاعتراف به وتقبله.
9- أتخذ دائماً مقياسين يفسر ان لى اللجوء إلى العقاقير (وهما نفس المقياسين اللذان توصل إليهما المرضى تلقائياً) وهما:
(أ) النوم (6 -8 ساعات يومياً)، ذو الفائدة المرجوة والأحلام.
(ب) الانتظام فى العمل اليومى العادى.
فاذا استمر “المتام” على هذين المقياسين من جانبى وجانب المرضى، ترك الأمر لمقياس التناسب العكسى. بين نوع خاص من التفاعل فى المجموعة والجرعة:
10- لاحظت أن مفعول العقاقير يتغير مع جلسات العلاج ومثال ذلك أن المريض الذى كان لا ينام إلا بجرعة 500 ملجرام لارجا كتيل أو ميليريل قد يكفيه بعد تفاعل ناجح 50 مجم أو أق . . ثم سرعان مالا يحتاج إلى العقاقير أصلا.
11- لاحظت أيضاً أن نوع التفاعل يحدد جرعة العقار، فالتفاعل الكامل المستوعب يتيح تناسقا دخلياً بين مستويات المخ، فلا يدع مجالا لعمل هذا المستويات مستقلا متنافراً فلا يحتاج المريض إلى عقار لتهدئية، وعلى النقيض من ذلك فإن التفاعل المبتور أو الناقص أو السطحى المزيف قد يحتاج لزيادة الجرعة لأن مثل هذه التفاعلات تضغط أكثر على النشاط الداخلى مما يثيره فى عنف عميق، مما يحتاج معه إلى تهدئة مناسبة.
12- أثناء إجراء هذا البحث كان جميع المرضى قد توقفوا تماماً عن تعاطى العقاقير، تلقائياً وبالموافقة الضمنية من المعالج.
13- لم ألجأ فى هذه المجموعة عامة – وأثناء إجراء هذا البحث خاصة، إلى الجلسات الكهربائية، رغم حبى لهذا العلاج وإيمانى بسلامته وفاعليته وضرورته فى حينه ولغرض محدود ولفترة محدودة، ولكن فى هذه المجموعة، وبعد أن استتبت العلاقة كنت أفضل معايشة الأعراض التى تظهر أولا بأول حتى ولو كانت ضلالات أو هلاوس (حالة على) فقد كنت أفضل أن يستوعبها فى المجموعة ثم بيننا فى المستشفى، باعتبار أنها نابعة من الجزء المتمم لوجوده، وأن هذه العلاج هو مواجهة هذا الجزء واستيعابه وليس بهميده وإخفائه.
ومعنى ذلك أنى قد ألجأ إلى الصدمات (واحدة أو أثنتين فى العادة) إذا لم تكن علاقة المريض قد استتبت بالمجموعة، أو كان بعيداً عن علاج الوسط الحامى، وكان التفاعل الذى انبعث نشطاً أعنف من قدرته فى بداية المواجهة.
وبعد هذا الملاحظات الاكلينيكية العامة أستطيع أن أؤكد أن فروضاً عاجلة قابلة للتحقيق قد ثارت بصدد هذه العلاقة بين هذا العلاج وبين العلاج العضوى ومنها:
1- إن مفعول العقاقير خاصة – والعلاجات العضوية عامة – وضرورى أحياناً، وعامل مساعد غالبا .. مع هذا العلاج.
2- إن الحاجة إلى العقاقير تمثل مرحلة محدودة فى بداية العلاج ثم نتضاءل الحاجة إليها بتقدم العلاج.
3- إنها لا تستعمل كمسكن بديل، ولكنها تستعمل كمنظم لنشاط جزء معين ومستوى معين من مستويات المخ فى وقت يحتاج فيه هذا النشاط إلى التنظيم حتى يأتى الوقت الذى يمكن استيعابة فى الكل المفيد.
4- أن هذه العقاقير وخاصة المهدئات العظيمة لا تحتاج لفترة سكون طويلة Latent Period كما أنها ليست لها أثر معدى طويل كما يوهمنا أصحاب شركات الأدوية، وكما جاء فى كثير من الأبحاث التقليدية.
5- إن مفعول جرعة العقار يتناسب مع النشاط المقابل الذى يعمل عليه العقار (والعقاقير المختلفة عندى لها فاعلية متصاعدة تطورياً كما ذكرت قبلا)، وبالتالى فتأثيرها يتوقف على الحالة الوقتية التى يمر بها المريض . . لأن هذه الحالة ترتبط مباشرة يتناسب مستويات نشاط المخ وتآزرها أو تنافرها.
]ومن القواعد المعروفة لعمل العقاقير عامة – وليس العقاقير النفسية فقط، أن العقار يلتقطه الجزء النشاط المناسب له فى الجسم[.
6- إن الميزان الذى يصل إليه المريض بعد فترة المحاولة والخطأ، وبعد توضيح الأمر له ابتداء، هو ميزان دقيق يمكن الاعتماد عليه فى هذا النوع من العلاج، وأن رأى المريض – بعد استتباب العلاقة مع المعالج أو المجموعة – ينبغى أن يؤخذ فى الاعتبار.
7- إن وظيفة الطبيب هو شرح وجهة نظره فى توقيت وجرعة العقار حتى ولو لم تمثل الحقيقة النهائية، والمريض – فى هذا العلاج – يتجه إلى ضبط الجرعة من خلال ذلك وهذا يؤكد اختياره الذى يشمل بذلك التدخل الكيميائى.
8- إن النظريات التى تحاول تلخيص المرضى النفسى (والعقلى منه بوجه خاص . . . والفصام يوجه أخص) إلى اضطراب كيميائى هى نظريات – فى رأيى – دفاعية بحنة، بمعنى أنها تحمى الطبيب أساساً من الرؤية (رؤية ذاته ورؤية مأساة الذهان، ورؤية مضاعفات التطور ورؤية ألم الوجود) وبالرغم من ذلك فإن معرفة التغير الكيميائى المصاحب لهذه التفاعلات الكيميائية والمضاعفات التطورية وكذلك التغير السابق لظهورها (دون أن يكون سببها مباشرة) واللاحق لمواجهتها (دون أن يكون مسئولا عنها مباشرة) هو من أهم وأخطر المعلومات التى ينبغى أن يلم بها المعالج فى كل لحظة …، كما أنه ينبغى أن يلم بالتغيرات الكيميائية المحتملة مع كل تفاعل دنيامى.
(2) علاقة هذا العلاج بأنواع العلاجات الأخرى غير العضوية:
1- العلاج الجمعى عامة ..
وهنا ينبغى أن أقر أنه ليس عندى ما أضيفه هنا لما جاء به الباحث فى هذا الصدد، إلا أنى أشعر بالشكر (مع بعض الدهشة) إذ علمنى هذا البحث من خلال هذا الجهد الفائق مدى بين ما أفعل، وما يجرى معاصراً لنا فى العالم حتى تاريخه (كما هو واضح من حداثه المراجع التى استند إليها) إلا أن لى تحفظات يسيرة وهامة فى نفس الوقت مثل التأكيد على أنه ليس علاجاً تلفيقياً (من كل بستان زهرة) ولا هو علاج انتقائى Eclectic ولكنه ذو شخصية مستقلة رغم أنها تاليفية، واستقلالها يأتى من ارتباطها بشخص المعالج وخبرته، وتأليفها يأتى من تفاعلها الجدلى تاريخاً من مقومات متنوعة ومختلفة ومتعارضة أحياناً وكذلك من ارتباطها بالموالفة الجدلية المتصاعدة التى تفرضها على المعالج والمتعالجين فى آن واحد.
2- العلاج النفسى الفردى:
فى رأيى – كما ألمحت سابقاً – أن العلاج النفسى الفردى لا يتعارض مع هذا النوع وإن كنا إميل إلى أن أعتبره مرحلة تمهيدية مناسبة، ولكنه ليس مناسباً – فى أغلب الأحيان – أن يستمرمع استمرار مثل هذه الجلسات الجماعية.
3- العلاج العائلى:
هناك علاقة مباشرة بالعلاج العائلى Family Therapy سواء كان العلاج الزواجى Marital Therapy (فى المجموعة ثلاثة أزواج Pairs وقد أفاد الباحث فى طبيعة دور هذا العلاج فى إصلاح العلاقة ومحاولة إرسائها على مستوى أعلى) أو كان علاج الأسرة باعتبار أن مرض أحدأ فرادها هو مجرد عرض لمرض العلاقات الأسرية (راجع حالة “على” بوجه خاص، وكذلك: حسام). وتناول الأسرة بهذا الشكل الكامل بعيداً عن الجلسات هو ما أسميه “سدّ الثغيرات” حتى لا يستعمل أحد أفراد الأسرة سلبيات المرض لصالح توازنه الشخصى، وكذلك لا يجد المريض من يسمح له بتوقف مسيرة المحاولة نحو الاستقلال والنمو.
4- علاج الوسط:
لاحظنا أنه فى بعض الحالات الذهانية الشديدة يحتاج المريض أثناء تفاعلة العنيف فى مثل هذا العلاج إلى وسط يفهم طبيعة العلاج، ويحيطه ويحمية فيما بين الجلسات، وينبغى أن تكون الروح السائدة فى علاج الوسط المكمل لهذا العلاج هى نفس روح العلاج وأهدافه تقريبا.
5- العمل العلاجى:
وهذا العلاج نوع خاص مستحدق من خبرتى وخبرة زملائى بدار المقطم للصحة النفسية، وليس هو ما يعرف بالعلاج بالعمل، فهنا يقوم الطبيب والمعالج والمرضى بنفس العمل وبنفس المدة ولا يكون المعالج مجرد موجه أو مشرف – والعمل بدنى فى العادة – وله نفس فائدة هذا العلاج الجمعى وفكرته، وقد وصفته تفصيلا فى مكان آخر، وهو متناسب تماماً مع نوعية العلاقات فى هذه المجموعة التى قام بعض أفرادها بالمشاركة فيه مع المعالج فى الحقل عدة مرات، وهو يسير فى نفس اتجاه علاج الوسط.
ثانيا: علاقة هذا العلاج بالمدارس النفسية المعاصرة:
ذكر الباحث فى أكثر من موضع – واستشهد بغيره فى – أن العلاج النفسى فى النهاية، هو المعالج ذاته، ولكنى منا أضيف – بعد موافقنى على ذلك كما أسلفت – أن المعالج هو مجموعة من مكونات شخصية واقتصادية وحضارية واجتماعية وثقافية، وبديهى أن العامل الأخير (الثقافية) يتعلق بمسيرة فرعه عامة من الناحيتين التطبيقية والنظيرية، ولا أستطيع – ولا يمكن – أن أزعم أن هذا العلاج ليس له خلفية نظرية نشطة، بل إنى كدت أعتبر أن اختفاء النظرية فيه قد يكون من مآخذه . .، ولست هنا فى مجال تفصيل أبعاد فكرى النظرى ومصادر- وإن كان موجز ذلك وردا فى الجزء الثانى من هذا الكتيب – ولكنى كما حذرت فى البداية أنتهز الفرصة لأحدد رؤوس المواضيع كما هو الحال فى هذه المقدمة عامة فأقول:
إن هذا العلاج له علاقة مباشرة وعملية بمدارس فى علم النفس، والطب النفسى (تاركا المدارس الفلسفية مؤقتا لأنى افردت لها جزءاً خاصا) صنعت فكرى، أو بتعبير أصدق تلاقت مع فكرى وأثرته، وأهمها:
1- المدرسة العضوية: وقد يتعجب القارئ كيف أن مثل هذا العلاج الذى يبدو بعيداً كل البعد عن المفهوم العضوى (إذ أنه مشحون بالآراء النظرية والتفسير ومواجهة مشاكل الكينونة، وطبيعة اختيار نوع الوجود لدرجة اختيار الذهان ذاته) كيف أن هذا العلاج نابع أساساً من فكر أقرب ما يكون إلى الفكر المادى ولكن فى أرقى أشكال تطور المادة، وهو نشاط المخ البشرى فيما يسمى “النفس”، ولا أعلن سرَّا أنى لا أستطيع أن أفهم أى مقولة فكرية دون أن أتصورها فى نشاط الجهاز العصبى بالمعنى الشامل من أول حركات الشعيرات العصبيةneurofibriles داخل الخلية (بل قبل ذلك فى حركة البروتوبلازم.. وترتيبات جزيئات أحماض الريبونيوكليك ومشتقاته) إلى آخر تناسق النصفين الكرويين معاً عبر الجسم المندمل أثناء الإبداع الفنى، وقد أحرجتنى دائماً هذه الرؤية العنيفة لأنها كانت تضطرنى أحياناً إلى تصورات لا تحتملها المعلومات المتاحة . . ولكن كيف للفروض العاملة أن تنشأ دون هذه التصورات؟ وقد يرجع هذا الاتجاه إلى ما يقابل نظرية علم النفس الشعورى Psychologiede Couscience التى استمدمها هنرى إى نظرية العضوية الدينامية Orgno – Dirigisme إلا أنى لا أعنى الوقوف عند فكر “إى”العظيم تحديداً، بل إن إيمانى يمتد من الأصول التى أخذ عنها إى وهى فكر أستاذ الأعصاب الفيلسوف “هو جلج جاكسون” Huglig Jacson مارَّا بإٍشارات “ساندور رادو” حتى “إى” ثم عبر كل ذلك إلى التصور الذى ألمحت إٍليه فى موقع آخر من تحديد الفكر التحليلى الخاص بالعلاقة بالموضوع فى مستويات المخ تطورياً، كل هذا بتصور مادى واضح يربط تطور الحياة بتطور النوع بتطور الفرد بأزمة الجنون بتطور الفكرة والإبداع، ورغم كل هذا الإيمان بالمادة . . فإنى أعترف أنى لم أقف كثيراً عند فكر بافلوف ربما لتقصير منى وربما احتجاجاً على التجزئ الغالب عليه …، أما الذى أكمل إصرارى على التمسك بهذا الاحتمال المادى الواضح فهو التجارب الحديثة التى قام بها متشورين بالاتحاد السوفييتى وتلاميذه ومن أهمهم ليسنكوليحيى بها فكر لا مارك ويرجح – بل يكاد يؤكد – أن العادات المكتسبة قابل للتوريث…
إن هذا الخيط المقصل المحمل بالتفكير المادى العضوى البيولوجى كان دائماً موجهى لنظرية الطب النفسى التطورى (وراجع الجزء الثانى) وتطبيقه فى مجال العلاج النفسى الجمعى بهذه الصورة قيد البحث، لأن مهمة مثل هذا العلاج العنيف – من خلال هذا التصور – كانت واضحة لدىّ بالنسبة لمن يكمل الطريق، وهى تآزر مستويات المخ فى كلَّ جديد يبشر باستمرار مسيرة التطور بل ويمكن أن يثرى وجودنا عرضاً ويرتقى بوجودنا طولاً، وإن كان هذا مهمة العلاج من وجهة نظرية بحت، فهى ليست غايته لكل فرد كما أوضحت، وكما سيرد بعد.
وكأنى كنت أتصور – ومازالت – أن مثل هذا العلاج هو التطبيق التجريبى العملى للوعى بحركة التطور البشرى، (وخاصة بعد أن أنتقلت المجموعة إلى مجموعة بحث) وهو يعلن مسئولية فرعنا هذا عن المشاركة فيها من واقع الفكر العضوى البيولوجى.، فى نفس الوقت الذى أصر فيه أن هذه المحاولة التطورية مادامت جادة ولو بعض الوقت فإن أى توقف دون تحقيق هدفها النهائى هو مكسب علاجى ناجح ليس أقل من كل المحاولات العلاجية الهروبية الأخرى.
2- المدرسة التحليلية الإنجليزية الحديثة
(العلاقة بالموضوع Object Relational (وأن كنت ابتداء لا أميل إلى استعمال تعبير “العلاقة بالآخر”)، وقد أثرت هذه المدرسة فى فكرى بوجه خاص، وخاصة التطورات التى أضافها جانترب على فكر نيربيرن المقابل لفكر ميلانى كلاين والمكمل والمعاصر لها، والذى أفادنى وأثرانى من هذه المدرسة هو الترتيب المتتالى لمراحل النمو: الموقع الشيزويدى Schizoid Positicn ثم الموقع البارانويدى Paranoid Position (وإن كانت أغلب الكتابات لا تفصلهما عن بعضهما) ثم الموقع الاكتئابى (ثم الكمون أو العصابية كما تصورت إكمالا للمراحل)، ورغم أن هذا الفكر التحليلى قد نشأ من الهجوم على ما أسموه بيولوجية فرويد، فإن استقبالى له كان حسب ما ألزمنى فكرى العضوى استقبالا بيولوجياً صرفاً، وقد لاحظ الباحث من خلال بحثه كيف أن هذه المدرسة تمثل العمود الفقرى لهذا العلاج، كما ألمح فى أكثر من موقع طبيعة الانتقال من من المراحلة الشيزويدية الاعتمادية إلى المرحلة البارانويدية العدوانية إلى المرحلة الاكتئابية الولافية أثناء العلاج ومن خلاله، وفى رأيى أن هذا الاكتشاف هو إضافة لفكرى وتأكيد لتأثير هذه المدرسة علىَّ، وصدقها فى نفسى، وإن كانت لم تطبق فى هذا المجال (العلاج الجمعى خاصة) من قبل على قدر ما وصل إٍلىَّ من متابعات ..
فإذا كان البحث قد أظهر أن هذه المراحل تتالى بهذا التناسق والترتيب أثناء العلاج، فإنه يعنى ضمنا أبها إعادة ولادة، فهى إٍذاً تكرار لمراحل نمو الطفل وبالتالى تعديل لمسارها، ولكنى من واقع تفكيرى البيولوجى أقول إنها بالتالى تكرار لتاريخ النوع البيولوجى الحيوى عبر ملايين السنين، لأنى قدرت فى تحريرى لهذه النظرية أن طبيعة هذه المواقف ليست نابعة من موقف الأم من الطفل بقدر ماهى موجود وكامنة ومقابلة لمراحل تطور الحياة عامة والنوع البشرى خاصة وأن كل ماتفعله بيئة الطفل (بما فى ذلك الأم) هو بسط Uufolding هذه الطرق للتواجد فى الحياة وشحنها بشحنات موقوته تتوقف على احتياج الأم (والبيئة) لهذه الطريقة أو تلك من الوجود، وعلى قد تناسب الاستعداد الكامن مع الشحن العاطفى قوة وزمناً، يكون توقف الطف وتشبعه بهذه الطريقة أو تلك فى الوجود (الموقع الشيزويدى أو الموقع البارانويدى . . . الخ،) ومن ثم استعداده إلى النكوص إلى أيهما عند الضغوط . . .، إٍذاً فالاستعداد بيولوجى أساساً وهو لا يتعارض أبداً مع دور البيئة بل إنه يحمّل البيئة مسئولية أكبر؛ هى مسئولية تعديل البيولوجى إن لزم الأمر وكأن هذا العلاج، من وجهة النظرهذه، هو بطريقة ما: “ممارسة عملية لإٍعادة الولادة الفرد . . فى ظروف أكثر تلاؤما، وباختيار أكثر وعيا وتفاعل أكثر تراثا . . ليستطيع الفرد من خلاله أن يعيد تنظيم مستويات جهازه العصبى ثم يعيد الولاف بينها ليصلح ما افسدته البيئة . . بل قد يصلح كذلك ما أفسده الدهر (!) من خلال الإيمان بإمكان انتقال العادات المكتسبة”.
3- التحليل التفاعلاتى:
حين أعلنت هذا التفكير التطورى المحدد فى الجهاز العصبى، وحاولت أن أسلسل مفهوماته، وبدأت أناقشه فى اجتماعات صباح الخميس بالقصر العينى، أحضر لى الزميل الدكتور مصطفى السودانى الريس كتابا عن التحليل التفاعلاتى لإريك بيرن، وكان ذلك منذ موالى ست سنوات، ولم أعره كبير اهتمام رغم أن الزميل قدمه لى على أنه يحوى فكراً مقاربا لفكرى، غير أنى أحسست أنه فكر مبسط أكثر من اللازم، ولكنى فى تتبعى لحركة العلاج النفسى بعد ذلك علمت أن هذه المدرسة قد انتشرت فى الولايات المتحدة بشكل طاغ وكاسح……. بين العامة حتى بلغت مبيعات كتاب “الألعاب التى يلعبها الناس” Games People Play لإريك بين أيضاً مبلغاً وضعه فى عداد أكثر الكتب انتشاراً، رغم أنه فى الحقيقة كتاب على شديد العمق (أعمق من الكتاب شارح النظرية رغم بساطته) فرجمت ألوم نفسى على استهانتى المسبقة بهذا الفكر العظيم الذى ظاهره التبسيط وحقيقته العمق الإبداعى الأصيل، وبدأت أنهل من هذا المنهل العذب السلس حتى أتيت على كل ما وصل إلى ما أعمال بيرن (وهى محدودة للأسف) ثم لبعض تلاميذه.
ولكن حدق ما خفت منه تسطيح وتشوية للنظرية ظاهريا حتى أصبحت – فى تصورى – مهربا مضحكا من مواجهة ضرورة التألف بين كيانات الإنسان التى افترضها بيرن فى كلٍّ واحد . . .، أى أصبحت تفكيكا للإنسان أكثر منها تأليفاً له . . . وبالرغم من ذلك فهذه النظرية لها فضل على فكرى فى أنها حددت فكرتين كانتا قد بدأتا تتكونان فى عقلى:
الأول: أن الإنسان هو عدة أناسى وليس عدة أجزاء (وقد نبعت هذه الفكرة أساساً فى الفكر التحليلى الذى أشرت إليه فى الفقرة 2). والثانية: وكانت نابعة من التفكير العضوى أساساً وهى أن هذه الأناسى عبارة عن نشاطات لمستويات المخ المختلفة (وقد أخذ إريك بيرن هذا الاحتمال من تجارب بينفلد على المخ) والحق أقول أنى استغرقت فى ممارسة هذا العلاج بطريقة التحليل التفاعلاتى فترة من الزمن مع هذه المجموعة بوجه خاص، ولكنى فوجئت بأنى قد أكتفى بعملية “فض اشتباك” ولا أكملها إلى عملية ولاف حقيقى على مستوى أعلى، وبالتالى فإن نضج الأفراد معرض للإعاقة فعلاً، وعند ذلك الحين اعتبرت أن أسلوب هذه المدرسة يصلح لمرحلة محدودة فى العلاج موضوع البحث، ولكن التمادى فيه معطل، فلابد من المواجهة للولاف الأعلى بعد مرحلة فض الاشتباك مباشرة.
وأعتقد أن إريك بيرن كان يعرف هذا الولاف الأعلى وكتب عنه بوضوح فيما أسماه الفتى المتكامل Integrated Adult حيث تلتحم فيه الصفات الطفلية فى شكل العواطف الصادقة التلقائية، والوظائف الوالدية فى شكل الأختلاف الذاتية الملزمة مع حسابات الواقع الهادئة المستقرة، ورغم وضوح هذا الولاف الأعلى لدية إلا أنه كان من التواضع والواقعية بحيث لم يشر إلى طريق تحقيق هذا المثل الرائع ولم يوصى به، بل إنه بالنسبة للفتى ([3]) العادى Normal Adult قد أقر بأنه لا يفهمه جيداً بالنسبة لغيره من حالات الأنا.
4- نظرية الجشتالت:
(المرتبطة بنظرية المجال “لليفين” أيضاً).
وقد أثرت فىّ (وفى هذا العلاج بالتالى) هذه النظرية بتطبيقاتها فى نظرية المجال خاصة: أما من الناحية النظرية فقد تلاقيت معها فى طبيعة الإدراك الكلى قبل الجزئى، والاستيعاب الكامل الذى يبدو حدسياً لعلاقات المجال والمثير قبل مرحلة تحليله، وقد كان لهذا الاستيعاب (الحدسى) الكلى أثره المباشر فى إقبالى على:
(أ) استيعاب الأعراض فى “كل” نوعية وجود الفرج
(ب) استيعاب الفرد فى “كل” المجموعة.
(ج) استيعاب المجموعة فى “كل” المجمتع.
(د) استيعاب المجمتع فى كل العالم.
(ه) استيعاب المرحلة المعاصرة فى “كل” تاريخ التطور البيولوجى والاجتماعى.
وقد اكتشف أن اتساع هذه الدوائر كان نتيجة تلقائية لأتساع دائرة الوعى من خلال المواجهة المستمرة مع تناقضات المرضى وتناقضاتى، ولم يكن نتيجة اقتناعى بالفكر الجشتالتى ابتداء، وأظن أن هذا التسلسل العكسى لا يصلح على حد خبرتى، حتى لأكاد أقول أن الوعى بهذا الادرراك الكلى يرتبط أساساً بدرجة نمو الفرد أكثر من ارتباطه بدرجة إِيمانه به، وهو يتناوب مع الإدراك الجزئى فى مراحل النمو ويكمل أحدهما الآخر بحيث لا يمكن إِذا أغلقت الدائرة أن نجزم بضرورة أسبقية أحدهما (ولكن هذا حديث آخر)، وبالنسبة لهذا العلاج فإن هذا النوع من الإدراك واتساع دائرة الانتباه حتى لتكاد تصل إِلى دائرة كامل تشمل الخلف هو من أهم صفات المعالج اللازمة وخاصة إذا بلغ عدد المجموعة فى جلسة واحد ستة عشر فرداً كما يحدث أحياناً فى هذه المجموعة، ولم يكن للمعالج مساعداً، وهذا الإدراك الكلى يسمح بملاحظة التفاصيل الجزئية فى نفسى الوقت، وهذا يشمل إدراك الكلمات فى نفس اللحظة التى يلحظ فيه لمة الجسم فى نفس اللحظة التى يترجم بها احتجاج العينين … الخ ..
أما الجانب الثانى:
من مدرسة الجشتالت، فهو الجانب التطبيقى، الذى شاع تحت اسم “العلاج الجشتالتى”، ولو أن العلاقة هنا بين نظرية الجشتالت وتطبيقها فى هذا العلاج علاقة واهية نسبياً . . . اللهم إلا فيما يتعلق بفصل الشكل عن الأرضية، والهجوم على الوعى الغامض وتحديه، وبتعميق الانتبهاه على أحد جانبى المجال بالتتابع، لتحمل الاختيار بين البدائل ثم المسئولية . .، وقد كان هذا الأسلوب عاملاً فعالا دائما فى هذا العلاج قيد البحث، اما بالنسبة لما حواه العلاج الجشتالتى عامة – ثم شطحات زعيم مدرسته (بيرلز) خاصة – من مبالغات تغرى بالبعد عن الواقع فإنى لم أصل إليها أبداً حيث أنى أدركت نهايتها من واقع خبرتى ومن تصريحات بيرلز نفسه الذى بدأ برفض التحليل النفسى ثم برفض العلاج الفردى برمته ثم أعلن قرب لا جدوى العلاج الجمعى . . ثم أصبح يميل إلى خلق مجتمع خاص يمارس فيه الانسان بشريته بصدق . . . الخ.
فقد أيقنت أن هذا الطريق أن ينتهى إلا بعزلة صوفية أو “وهميّبية” وكلاهما أوهام طوبائية بعيدة عن المجتمع والناس، ولعل أهم فرق بين العلاج الجشتالتى (بيرلز بوجه خاص) وبين هذا العلاج قيد البحث هو عمق ارتباطه بالواقع ارتباطا دائما ومباشراً بحيث يصبح لا مناص من الولاف من الولاف الأعلى Higher Synthesis أو على الأقل الهرب منه بوعى نسبى واختفاء الأعراض دون أوهام انسحابية طوبائية خادعة، وقد قدم الباحث فى هذا السبيل أمثلة متعددة وملحة على مدى رفض المجموعة والمعالج هذا الإنسحاب المثالى أو وصم المجتمع العادى بالدونية أو السطحية رغم اغترابه وانسحاقه. . .الخ
6- كارل جوستاف يونج:
ولا يمكن أن ننتقل من هذه الفقرة عن العلاقة مع المدارس النفسية دون إعلان العلاقة المباشرة بين “روح” هذا العلاج (إن صح التعبير) وبين إيمان يونج (ولا أقول نظريته) فإن عمق هذا الرائد الفذ لم يصل إليه أحد . . . وبالتالى فإن وحدته مازالت مفروضة عليه حتى بعد موته، وحتى اليونجيون المحدثون . . أكاد أخشى منهم على فكره أن يسطحوه بالتعجل والحماس، ولابد أن أعترف هنا أن مفهومه عن التفرد Individuation لا يبعد عن ذهنى فى لحظة من اللحظات، كما أن أعماق اللاشعور كما قدمها بمحتواها الجمعى ومخزونها الأثرى . . . كل ذلك كان ومازال زادى وأنا أنتقل إلى مراتب أعمق وأعمق فى نفسى ونفس هذه المجموعة من خلال هذا العلاج، وإن لم يظهر ذلك بوضوح فى التفاعل المباشر للدرجة التى جعلت الباحث لا ينتبه إليها فإن ذلك كله كان دائما وراء الهدف النهائى والعمق المغامر الذى يصف المجموعة شمولياً، ورغم ن الباحث يعرف علاقتى العاطفية بهذا الرائد الفذ، التزم بأمانة تحليل المادة التى أمامه دون أن يتأثر بمعرفته المسبقة عنى، فتخطى هذه الحقيقة لأنها لم ترد مباشرة فى مفردات البحث، وأرى أنه محق تماما من وجهة نظره.
7- سيجموند فرويد والتحيل الكلاسيكى:
اعتاد البحاث ألا يبدءوا ذكر نظرية جديدة، أو فكر جديد، أو تكنيك جديد إلابالإشارة إلى إرهاصات فرويد المسبقة بأى منها، وهنا مايقابل ذلك فى طقوس بعض الديانات، وحتى فى هذا البحث فقد ذكر الباحث أن اجتماعات فرويد الأسبوعية مع تلاميذه كانت نوعاً من العلاج الجمعى وإن كنت أجد فى هذا بعض المبالغة، لأن أى أستاذ صادق فى أى فرع (الكيمياء مثلا) إنما يعالج تلاميذه بتعليمهم وحثهم على الأمانه ولاقتراب من الموضوعية وكونة قدوة لهم الخ، إلا أنى لا أستطيع إلا أن أعترف له بالفضل على فكرى عامة وفكرى العامل فى هذا العلاج خاصة . . لا من حيث التكنيك، فهذا العلاج أبعد ما يكون فى هذا السبيل عن تكنيك وروح التحليل النفسى، وإنما من حيث استعمال بعض أفكاره الرائدة ولكن بأسلوب هذا العلاج الخاص . .، وأخص بالذكر هذا الثراء الرائع الذى أثرانا به حين وصف الحيل الدفاعية بالتفصيل، ولعل قارئ هذا البحث يلاحظ إلى أى مدى كانت لعبة “الإسقاط” تُكشف وتُفسر، ويساعد ذلك فى استبصار لاعها، كما يلاحظ كذلك كيف يعمل ميكانزم “التقمص بالمعتدى” الذى وصفته أنا فرويد فى التقميص بالقهر الخارجى، وبرفضه تظهر الأعراض، ثم يفض العلاج الاشتباك مع هذا القهر لينتقل إلى التقمص بالمعالج، والمريض يستقبله على أنه معتد على حريته وكيانه لفترة ما، ثم يتقمصه فتختفى الأعراض مؤقتاً نتيجة لهذا التقمص الجديد، ثم يكتشفه بعد ذلك، ليظهر العدوان صريحا على المعالج . . . وهكذا، كل ذلك يتم بروح التحليل النفسى وبفضل ما أوضح حول هذه المفاهيم.
* * *
وأخيراً فإنى أجدنى مضطراً أن أقف عند هذا الحد لأنه لا يمكن أن ينتهى، فإنى أكاد أقر أنى لم يمر على سمعى أو بصرى معلومة أو طريقة إلا وأثرت فى فكرى رفضاً أو قبولا تجربة واختباراً، فلا أستطيع أن أنكر مثلا تأثير ما وراء فكرة الصرخة الأولى لجانوف، ولا جوهو العلاج السلوكى وتأكيد السلوك المرغوب واضمحلال السلوك المرضى عن طريق المعالج أو المجموعة ككل، وقد أشار إلى ذلك الباحث كثيراً، ولا التفكير الإنسانى ملا سلو وتصاعد الدوافع، (وإن كنت أحب أن أشير إلى أن مدرسة علم النفس الإنسانى بصفة عامة كان يغلب عليها التنظير دون الطريقة العلاجية المحددة) … أو علاج إحياء المعنى لفرانكل . . . إلى آخر كل من حاول فهم الإنسان جزءًا أم كلاَّ، قطاعاً مستعرضاً أم طوليا دائم التطور ليجتمع كل هذا فى فاعلية متلاحمة ليصنع فكر ووجود المعالج الذى هو – فى البداية والنهاية – العلاج.
* * *
ثالثا: علاقة هذا العلاج ببعض المدارس الفسفية:
كان العنوان الذى سطرته فى المسودة هو “العلاقة هذا العلاج بالفلسفة” ولعله مازال أقرب إٍلىّ، ولكن لأنى أتقدم إلى هذا الحديث متردداً وجلاُ، فقد فضلت أن أستبدل بكلمة الفلسفة تعبير “بعض المدارس الفلسفية” كمدخل متواضع لأؤجل فتح النار علىّ بعض الوقت، فأنا أنتظر أن يأتينى الهجوم من أكثر من مصدر، بل من المصدر ونقيضه أى من الفلسفة، ومن رافضيها معا (أو بالأصح الخائفين منها)، أما محبوها فقد يثارون حين يتصورون أن شخصاً مثلى – بقصوره وتقصيره – قد دخل محرابهم بلا اسئذان وبلا استعداد كاف، والحقيقة أنى ما دخلت محرابهم دعيَّا أو متخطياً ولكنهم أول من يعلمون ثمن الرؤية .. وضريبتها .. وعبئها ومصير حابسها، وقد أكون فى هذا السبيل مجرد خادم طفل يحمل الماء المقجدس بمحرابهم إن وضوا ..، أما الفريق الرافض (أى الخائف) فأغلبه من الزملاء الأطباء وكثير من علماء النفس الذين ستثور حساسيتهم (بالمعنى الطبى العادى Allergy) عند ذكر كلمة فلسفة … ولسان حالهم يقول “ما لهذا الدعى يريد أن يرجع بنا إلى الغموض والتعميم . . ونحن ما صدقنا أن وجدنا المعمل والتحديد”؟ وأحاول أن أذكر زملائى الأطباء يقول أبينا أبى قراط “أن كل ما يصلح للطب يصلح للفلسفة وما يصلح للطب … الخ” ولكنى أكاد أسمعهم يرددون أن هذا كلام قد مضى عهده واسْألْ أجهزة الأشعة والتشخيص الصوتى … الخ فألتفت إٍلى علماء النفسى الرافضين لاذَكَّرهم أن هذا البتر التعسفى بين علمهم وبين الفلسفة قد جنى على الاثنين فيأتينى الرد تخيلا “. . بل هو ارتقى بعلم النفس إٍلى العلوم المحددة Science Exacte” وأكاد أسمعهم يكملون “وترك الفلاسفة فى عيابات التأمل”، ولا أطيل بعد هذه العجالة الضرورية ولكنى أقول أنه بالرغم من هذا وذاك فلابد من قول كلمة أعتقد أنها الحق الشخصى فى هذه الآونة.
* * *
فقد عرفت الفلسفة من ممارسة مهنتى – وأعتذر لأهلها ثانية – ووصلت إٍلى بعض مسائلها مواجهةً، ومحاولة حلٍّ من خلال تحدِّى مرضاى وهم يقذفون فى وجهى بمشاكل الوجود والصيرورة وأنا لا أجرؤ أن أسمى هذا أو ذاك بالعرض الشائع “أفكار شبه فلسفية”، بل إنى توصلت من خلال حوار حى معهم وتفاعل وتجارب بشرية إلى بعض مفاهيم كان لا يمكن أن أصل إليها من خلال القراءة مهما بلغت، (ومنها مفهوم الديلكتيك كما سيأتى بعد). إِذاً فأنا قد فرض علىّ أن أقترب من هذا المحظور فرضاً، لا للتباهى أو الادعاء.
هذه واحدة، أما الثانية فترجع إٍلى تعريف الفلسفة ذاته، حيث يتصور كثير من الناس كل تصور عن ماهية الفلسفة إلا حقيقتها، وقضية تعريف الفلسفة قضية طويلة، هل هى الحكمة أم حب الحكمة، وهل هى دراسة المعارف أم أصل المعارف، وهل هى علم الوجود أم علم الموجودات أم ليست علمياً أصلا، وهل هى دراسة القيم الجزئية أم دراسة النسق الفكرى المتكامل أم هى النشاط العقلى ذاته، وهل هى معرفة الواقع أم ما هو ليس واقع . . . إلى آخر هذه الحيرة المخفية، ولكنى خرجت من هذه لدوامة بإيمانى بثلاث حقائق أو آراء.
أولاً: أن حب الحكمة غير ادعاء الحكمة، وأن الفلسفة غير التفلسف، وأن كل ما يمكن أن نتعلمه ونعلمة هو التفلسف وليست الفلسفة، وبالتالى فالذى يصعب علينا هو التفلسف والذى يخيفنا هو الفلسفة.
ثانيا: أن قول أحد الوضعين المنطقيين مؤخراً “.. إن الجمع بين العلم والفلسفة أصبح ضرورة لا غنى عنها، وأن الفصل الذى تم بينهما فى غضون القرن التاسع عشر كان له أسوأ النتائج على العلم والفلسفة على السواء” هو قول أصدق ما يكون على علمنا هذا.
ثالثاً: أن معرفة الفلسفة هى ممارسة أساساً ثم تنظير لاحق، وأنه بغير احتمال شجاعة هذه الممارسة فإننا سنمارس عملية عكسية هى وأد كل محاولة فلسفية متواضعة لحساب الشعور بالنقص والخوف (ولا أنسى أستاذنا محمد كامل حسين وقد وقع فى قبضة عملاقنا العقاد ينعته بالمجبراتى لأنه تجرأ وكتب رؤيته المتواضعة فى “وحدة المعرفة”).
وأخيراً – ومن واقع مهنتى لابد أن أوضح رؤيتى كمقدمة تبرر ما أنا مقبل عليه من ربط الفلسفة (لا التفلسف) بهذا العلاج، فأقدم مفهوماً خطر ببالى كطفل حامل للماء المقدس لأهله.. ليس إلا:
“الفلسفة هى المحاولة المستمرة المتجددة للحياة المعامرة فى اتجاه معين، فى لحظة ما . . إذا بتغير هذا الاتجاه دائما مع استمرار المحاولة . .، ويصحب ذلك عادة درجة من التنظير المعرفى مع احتمال مخاطر الخداع اللغوى عند التعبير لنقل هذه المحاولة إلى الآخرين . .، كما يصحبة دائماً تأليف مستمر بين متناقضات الوجود وتجميع مبسط لجزئيات المعلومات (أو العلوم) فى مبادئ أولية بسيطة، تتفق مع الاتجاه الآتى، وقد تتغير بتغيره”.
إذاً فالفلسفة مرادفة عندى للحياة النابضة للإنسان إذ هو متناه يسعى إلى اللا متناه مستعملا فى ذلك مكاسبة التطورية وخاصة الرمز والتجريد والإبداع فى رحلة وجودية صيرورية معرفية مغامرة.
فإِذا تأملنا هذا الذى انتهيت إليه وراجعنا هذا البحث فى أناة لوجدنا أبطالنا جميعاً فلاسفة (بالممارسة)، ولك ما بَخَسهم حقهم هو أنهم أجهضوا المحاولة بالفشل والعجز والشكوى إذ ظهرت الأعراض وجاءوا يطرقون باب العلاج . .، وإنى إذ ألقى بهذا القول بهذه الدرجة من الوضوح لا أجد تعارضاً بينه وبين ما قلت فى فقرة التزامى وإيمانى بالتفكير العضوى البيوجى، بل على النقسض من ذلك أجده مكملا له تماماً، فإنى أعيش على أمل أن يتفلسف الأطباء وعم يخطون خطواتهم المتواضعة فى الحياة اليومية العملية بمعارفهم العضوية الثرية من كيمياء وطبيعة وفسيولوجى . . . الخ، وأن يخوض الفلاسفة دنيا البيولوجى فى غير تردد، وقد فعلها منهم الكثيرون وأثروا معارفنا الطبيعية والرياضية بلا حدود . . .
وقبل أن أدخل فى موضوعنا مباشرة أشير أخيراً إلى أنى تصورت يقيناً أن أغلب عبر القرون كانوا يحلمون بمعمل للأفكار: يحققون فيه أفكارهم ويتحققون منها يُوَلِّدود غيرها ما أمكن، كما أن بعضهم قد تمثل أن هذا المعمل هو الحياة العامة – والسياسية بالذات مثل حلم أفلاطون بالملك الفيلسوف (ومحاولاته) وكذلك محاولات الماركسيين مؤخراً . . .، وأعتقد أن كثيراً مما أصاب الفلسفة على أيدى أبنائها كان نتيجة للحماس لهذا الحلم وللتعجيل فى تحقيقه.
وقد كادت الفلسفة كمبحث فى الوجود أو القيم وتعريف بالإنسان أن تنتهى على أيدى الذى خدعوا فى المعملية السطحية من بيكون إلى الوضعين المنطقيين، إلى علماء النفس، ورغم ذلك فإن فى هذا وحده دليل على إلحاح هذا الحلم، ولكنى لا أزال أرى أن حلمهم مازال قابلا للتحقيق ولكن ليس فى معمل بالمواصفات الشائعة الآنن ولا فى تجربة سياسية اقتصادية شاملة لن يستوعبها الأغلب وقد يشوهونها تعجلا أيضا.
وأَكاد أقول أنى أثناء هذا العلاج قد خيل إِلىّ أحيانا أنى فى مثل هذا المعمل، بل تطور تصورى أنه ليس معملاً لاختبار الأفكار فحسب بل إنه مصنع أيضا لممارستى هذه الأفكار . . أو مصنع للفلاسفة (بالمعنى الأعمق ولكنه لا ينبغى أن يكون مغضباً للمتفلسفين بحال) . . . وكنت أرجع دائما ومباشر إلى مقاييسى المحددة (زوال الأعراض، والإنتاج والتكيف والالتزام . . . الخ)، وقد لاحظ بعض المترددين ذلك وهاجمونى بشجاعة وصراحة بشأنه وأنهم ليسوا إلا فئران التجارب، ولم أنكر ذلك ولم أتخل عن مسئوليتى، ولكن ردى كان “أن الفلسفة قد فرضت علينا لظهور الأعراض ومجيئكم، وبالتالى فليس أمامنا إلا المواجهة حتى وإن شملت التجريب . . وعلى من ينسحب أَن يفعل ذلك على حسابه . . . ولحسابه”.
هذا عن علاقة العلاج بالفلسفة من حيث هى الحياة وهو مايخص العنوان الذى ألغيته (والذى كان فى المسودة) فماذا عن علاقة هذا العلاج ببعض المدارس الفلسفية كما أصبح العنوان بعد التعديل؟.
ذكر الباحث فى نهاية بحثه أن روح هذا العلاج الكامنة يغلب عليها الفلسفة الوجودية من جانبها الايجابى، والحقيقة أن هذا هو الإيحاء الذى يتبادر إلى الذهن إزاء هذا الاتجاه العلاجى بصفة عامة، وأشعر برفض جزئى لهذا التصنيف . . . (الذى امتد إلى مجالات أخرى من نشاطى الفكرى حيث وضعنى استاذى الدكتور عسكر ذات مرة فى هذا الاتجاه . . . وكذلك وصفنى من قرءوا روايتى “المشى على الصراط” . . . الخ)
ولابد أن أناقش هنا مدعاة رأيهم ومصدر اعتراضى، فهذا الباحث (وغيره ممن علق على اتجاهى فى المهنة وغيرها) لهم كل الحق حين ينظرون إلى القضية التى أتناولها من خلال ممارساتى أنها قضية كيانية تتعلق بالوجود وجوهره، وهذا صحيح حتى أنى اتجهت فى مرحلة من تفكيرى (حيرة طبيب نفسى) إلى تصنيف الأمراض النفسية إلى أمراض كيانية (وهى مركز اهتمامى) وأمراض تكيفيه (وهى على هامش انتباهى . . .).
وأول احتجاج منى هو أن الفكر الوجودى يبدأ من مقولة الوجود قبل الماهية تأكيداً للاختيار وأن الانسان صانع نفسه، ولكنى قد أشرت فعلا (وخاصة فى مناقشة مدرسة “العلاقة بالآخر”) أنى أضع الماهية الكامنة أساساً لما يحدث فيما بعد، وكأن الوجود يحور الماهية بشكل محدود بتفاعل المكان والزمان معاً ولكنه لا يصنعها ابتداء، وقد بلغ من إيمانى بهذا الاستعداد القَبْلى أنى أصبحت قبل فى هذه الشأن فكر ماسلو الذى اتهم بالعودة إلى إحياء نظرية الغرائز فيما أسماه “فريك” فى حواره معه “النظرية شبه الغرائزية Instinctoid Theotry. . .”، وأنا أميل إلى إحياء مفهوم الغرائز فعلا على أساس اعتبارين، أولا: إيمانى بالتطور وأن عادات اليوم هى عرائز المستقبل وغرائز اليوم هى عادات الماضى. . . الخ وثانيا: إيمانى بواقع الانسان وقدراته المحدودة فى عمره الفردى رغم قدراته غير المحدودة فى تاريخ نوعه ..، وبالرغم من هذا فقد فضلت أن استعمل كما ذكر الباحث تعبير “إمتداد الذات” Self expansion (الذى استعمله أريتى) عن تعبير “تحقيق الذات” Self aetualicn الذى (استعمله ماسلو)، ذلك لأنى بالرغم من يقينى أن الوجود يحدد مسار الماهية ولا يصنعها، فأنى لا أوافق أنه يحقق الماهية وإنما هو يطلقها للامتداد بل للموالفة الأعلى.. وكانت المشكلة التى تعنينى وتحدد نوع ممارستى ليست مشكلة الوجود بمعنى أن تكون أو لا تكون To be or not do beولكنها مشكلة الصيرورة To be or to become، ولكن الصيرورة لا تحل محل ضرورة تحقيق الوجود أولا ولكنها تنبع منه، لأن القفز إلى الصيرورة دون تحقيق الوجود مهرب من مواجهة المشكلة الأولى للوجود، وكذلك الاكتفاء بتحقيق الوجود أملاً فى الانطلاق التلقائى قد يوقفنا فى خدعة “الهنا والآن” بعيداً عن الاسهام بمسيرة التطور طولا فى التاريخ وعرضا فى الناس.
فإذا كان هذا العلاج ليس وجوديا فى روحه كما ذهب الباحث ولكنه وجودى فى آنه – صيرورى فى هدفه، فإن الطريق إٍلى تحقيق عايته هو طريق الجدل الحى المستمر … (وسأرجع إلى معنى الجدل حالاً).
وهنا أتوقف قليلاً قبل أن أستطرد لأسمع همس الأطباء (العمليين) القائل: أين العلاج النفسى الجارى أو غيره من كل هذا؟ . . .
والتساؤل الثانى: ألا يشوه هذا التنظير الفلسفى مسيرة العلاج النفسى ويخرجه عن هدفه، أو يفرض عليه ماليس له؟
وللرد على هذين التساؤلين الهامين أقول:
1- إٍن هذه المشاكل الكيانية والصيرورية موجوده عند الشخص العادى وهى ليست مشكلة خاصة بالتفلسفين أبداً.
2- إن المرض النفسى – وهذا النوع بالذات الذى تمثله هذه المجموعة – فى تقديرى هو مواجهة عنيفة غير محسوبة (لدرجة الإخلال)، مع هذه المشاكل الحية التى يعيشها الأمى أو المتعلم على حد سواء.
3- إن وعى المعالج بها ومعايشتها هو ممارسة الفلسفة، أى الحياة، ولكن الوقوف عند عقلنتها – وهو مرفوض بكل وسيلة كما بدا من جلسات العلاج – هو الخطر الحقيقى على مسيرة العلاج ..
4- إن وعى المعالج بها، وتحديد موقفه منها، هو السبيل الوحيد لإثارة وعى مقابل من جهة المرضى يساعد فى تحديد موقف مسئول تجاه ما فرصته التغيرات البيولوجية المتعلقة بالنمو واستثارة الوعى.
5- أن المتتبع لما جاء فى الجلسات بتمعن هادئ يجد أن مسيرة العلاج النابعة من المشاكل المطروحة وكذلك قواعد العلاج التى استنتجها الباحث تتصل اتصالا مباشراً بمشاكل الفلسفة الحية، التى إذا كنا قد نجحنا فى الهرب منها فيما يسمى العلم، فإٍِن هولاء المرضى جاؤوا يذكرونا بها من واقع مأساة وجودهم، وليس أمامنا إلا أن نواجه مسئوليتنا تجاهها … أو أن ندمغهم وننفيهم هرباً مما يمكن أن يثيروه مماهو داخلنا فعلاًحتى لا يهددونا بالرؤية أو يدفعونا إلى المحاولة.
6- إن الأعراض التى جاءت بالمريض إلى العلاج كانت تزول أو تهدد بالزوال على الأقل بمجرد إرجاعها إلى اصلها وهى مشكلة الوجود أو فلسفته.
7- إن المشاكل التى أثيرت طوال الجلسات العروضة، والقواعد التى اتبعت لم تتعمد ترجيح فلسفة بذاتها أو تلزم المعالج أو أحد المترددين على رأى محدد بقدر ما أثارت أغلب وجهات النظر الفلسفية المعروفة فى بساطة دون أن نرجعها إلى اصلها الفلسفى بلغة مغتربة بحال من الأحوال. وذلك خوفاًً من العقلنة (أو بلغة هذه الفقرة: إحلال التفلسف مكان الفلسفة) وأورد هنا بعض الأمثلة التى تؤيد هذه الفقرة، ولكن على من يريد من القراء أن يبحث بنفسه فإنه لابد واجد طوال البحث غيرها كثيراً بشكل مباشر أو غير مباشر ونورد هنا عدة أمثلة فى شكل تساؤلات تقريرية:
(أ) ألم يلاحظ المتتبع للمناقشات ما يشبه مبدأ “التتهكم والتوليد” الذى اتبعه سقراط للوصول إلى الحقائق، وقد ظهرهذل جلياً فى رفض الإجابة على الأسئلة أحياناً وقلبها جملا إخبارية أحياناً فى طرح أسئلة مقابلة أحياناً أخرى.
(ب) ألم يبد جلياً أن العلاج كان يهدف إِلى تأكيد افتراض أن لكل مشكلة جانبين يكادان يتساويان فى القوة وأن على الفرد أن يفحصهما من خلال العلاج ليرجح أحدهما فى مرحلة ما، وأن الدفاع عن كل منهما بنفس القوة كان يتم من خلال المناقشات، والانشطار، والسيكودراما، أفلا يقترب ذلك مما جاء فى محاورة بارمنيدس حيث يقول أفلاطون “إن لكل مشكلة جانبين ويمكن الذفاع عن أيهما بمثل القوة التى ندافع بها عن الآخر”.
(ج) أليس فى مبدأ رفض الثرثرة والجدل العقلى (الدردشة) الذى تقرر فى كل جلسة تقريباً No Gossip Principle ما يقابل النقد الموجع للسفسطائيين عندما ذهب فكرهم إلى درجة أن أصبحت غاية التفكير هى الانتصارعلى الآخر وليس الوصول للحقيقة . .
(د) أليس فى الهجوم على الموقف الحسكمى لأحد الأفراد Judgemental Attiude ما يؤيد، ولو بدرجة طفيفة موقف الشاك بيرون حين يؤكد أنه: لا مجال للحكم على شئ، بل لعل وراء موقف بعض البيرونيين المتطرفين الى وصل إلى رفض الكلام نهائياً مادام الحكم لا قيمة له .. لعل هذا الموقف الغريب فيه إيحاء ضمنى للتواصل دون كلام الأمر الذى أثير فى المجموعة وناقشة الباحث بوضوح.
(ه) أليس فى التأكيد على الحرية والاحتيار والمسئولية ما يؤكد المبدأ الأساسى فى الفلسفة والوجودية وهو أن الوجود يخلق نفسه باستمرار، وأن الانسان هو حريته.
(و) أليس فى محاولة الانتقال من الحب الفردى والعلاقة التكافلية المعطِّلة إِلى حب الآخرين دون تمييز ما يشير إٍلى موقف أفلاطون من الحب، ذلك الموقف الذى أسئ فهمه أشد الإساءة. بزعم أنه “عذرى” أو “مثالى”.. الخ
(ز) أليس فى مبدأ “أنا – أنت”، وسمى المجموعة فى إصرار إلى كسر التحوصل حول الذات ما يؤيد أن الوجود الفردى لابد له أن يتناسق مع الوجود العام، الأمر الذى ناقشه هيدجر تحت مفهوم “التواصل وياسبرز تحت مفهوم “الأنت”.
(ح) أليس فى التأكيد على ضرورة خوض تجربة حية كأساس للشفاء أى للنمو والتغير ما يقابل رأى جابرييل مارسيل فى ضرورة العودة إلى تلك الخبرة الأولى..
(ط) ألم نشاهد فى الجلسات تكرار محاول، البداية الجديدة من تجربة حية” بما يؤيد الرأى الوجودى المقابل سواء كانت تجربة مغامرة إظهار الضعف والاعتماد (ما يقابل هشاشة النفس عند ياسبرر La Fragilite de Letre) أو تجربة سقوط الدفاعات القديمة قبل ظهور البديل أى الاقتراب من المأزق (ما يقابل الغثيان La nausea عند سارتر).؟
(ى) أليس فى إعلان الحاجات اللذية للكيان الطفلى أو أحيانا الوالدى – بلغة إريك بيرن – أو هما معا إذ يتوثا .. ما يعلن اتجاه المدرسة الأبيقورية فى تقديس مبدأ اللذة.؟
(ك) ألم نستشعر ظهور مبدأ البرجماتية فى كل آن، لإرجاع كل مسار العلاج إلى الواقع العملى، ومثال ذلك حين تُرفض البصيرة العقلانية، ويصر المعالج والمجموعة على الوصول إلى البصيرة الحقيقة التى تستقر فى القلب ويصدقها العمل . .
أليس فى كل ذلك ما يؤكد المبدأ البراجماتى من أن الفكر غائى بطبيعته، وأن المعرفة لا ينبغى أن تكون إلا أداة فى خدمة العمل . .؟
(ل) أليس فى محاولة تصعيد الإدراك لدى أفراد المجموعة من استقبال الآخرين والأشياء باعتبارهم “موضوعات ذاتية” Self object إلى استقبالهم باعتبارهم “كيانات موضوعية” Real odject، ما يلقى بنا دون هو ادة فى خضم نظرية المعرفة Epistemolog بأمواجها المتلاطمة بين المثالية والواقعية وقد استعمل الباحث هذه التغيرات ببساطة لأنه استقاها من مصدر من مصادر التحليل النفسى، ولكن وراءها ما وراءها من إثارة مشاكل معرفية رهيبة، إلا أن استقبال المرضى لهذا التحول كان سلساً دون تنظير، مما يدل على أن “التجريب الفلسفى” ممكن بالصورة التى صورتها فى أول هذه الفقرة، بل هو قد أكد لى فعلا تطور الإدراك من الذاتية إلى الموضوعية ليس فقط بالطريقة التى اقترحها “كانْت” فى مثاليته النقدية (التى لم أقهمها إِلا من خلال نظرية تنظيم المعلومات للعقل الالكترونى Iuformatio Processing theory) ولكنها أقرب ما تكون – أيضاً – إلى تصاعد مراتب الوعى عند هيجل فى ممارسة تجريبية عملية..، وقد كان هذا يتم تحت ناظرى فى انبهار مذهل (هذا هو الإنسان فى أصول وجوده وحركة صيرورته!!).
(م) وأخيراً وليس آخراً: أليس فى ما يجرى فى هذه المجموعة ما يؤكد، بل ويحقق فكرة الديالكتيك كأساس لمسيرة التطور كما نادى هيرقليطس إٍلى هيجل فماركس.؟ وقد ذكر الباحث إٍشارات متتالية إلى ما أسماه مرحلة الولاف Synthesis.
* * *
إذا . . . نحن لم نفرض مشاكل الفلسفة على العلاج، ولكن العلاج هو الذى أحيا مشاكل الفلسفة فى نفوسنا، فكيف نهرب منها حتى تحت وهم تلخيص كيميائى أو عضوى (رغم تأكيدى ثانية إلى أنه لا تناقض بين إثارة مشكلة فلسفية حقيقية وبين تغير كيميائى سابق أو لاحق.. بل إن النظرة الأعمق تؤكد ضرورة هذا التلارم ..).
وقد قدم البحث – من خلال هذا العلاج – ما أسميناه “بالتجريب الفلسفى” (وسيظهر هذا جلياً فى عمل لاحق حين أنشر جلسة بكل ما دار فيها من تفصيل) وهذا التجريب بالمعنى الخاص به يحقق بعض المقولات الفلسفية مثل ضرورة الجدل الحيوى كأساس للنمو، وينفى بعضها مثل قدرة الهيدونية الأبيقورية على الاستمرار، ويحدد مرحلة بعضها مثل صلاحية الفلسفة البراجماتية كمرحلة عاجلة قبل الانطلاق إلى براجماتية تطورية أعمق وأبعد امتداداً على مستوى النوع كله . . . الخ . . . وإذا كان علم النفسى التجريبى قد حدد تعريف التجربة فى إطار لم يسمح إلا بدراسة جزئيات السلوك فى الحيوان أكثر من الإنسان فإنى أدعو إلى فتح الباب لمواجهة مشكلة البشر تجريبياً على مستوى أكثر مسئولية وأشرف معاناة. .
* * *
أما بالنسبة لموقفى الشخصى وكيف يمكن أن أوائم بين رؤية أو معايشة فلسفية محددة وبين وظيفتى العلاجية المفتوحة فإنى أجد نفسى ملزماً بإعادة ما سبق أن كررته مراراً، وهو أن تحديد هدف وجودى، والهدف النهائى من تصورى لوجود الآخرين، بل والطريقة التى يمكن أن توصل إلى هذا وذاك لا يعنى بحال من الأحوال أن أى مرتبة دون ذلك مرفوضة أوغير صالحة لأن تسمى صحة نفسية، بل بالعكس فإنى أعلنت أن “كلهم أصحاء” ما دام التوازن على أى مستوى قائم (وذلك فى نظريتى عن مستويات الصحة النفسية) ولكنى أقول: إن على من يتوقف؛ أن يفعلها بمحض إرادته وعلى مسئوليته ويدعنى، وبالتالى يصل إلى توازن شخصى . . بل وبقى نفسه من تطلع جديد مهدد، اللهم إلا إذا استعد له استعداداً أفضل، وهذا يحدث بالنسبة للذين انقطعوا عن العلاج فترة تزيد عن سنة ثم عادوا لا بسبب ظهور الأعراض .. ولكن “ليكملوا”، على حدة قولهم، وقد جاءت أمثلة عديدة لهذا الموقف فى هذا البحث.
وموقفى من العلاج كما أعلنته هو أنه “إعادة إحياء ديالكتيك النمو” وهو مرتبط برأيى فى النمو النفسى الذى خططت له وبدأت كتابته عن “ديالكتيك الجهاز العصبى ونبض الحياة الإنسانية” (راجع أيضا الجزء الثانى) وأكاد أقول إن فهم “إحياء ديالكتيك النمو” لا يتم إلا بمعرفى ما هو الديالكتيك أصلا، الأمر الذى يخرج ذكر فى أكثر من موضع أن هذا المريض أو ذاك قد وقف مظطراً لاختراق صعوبة ضرورة الولاف الأعلى Higher Synthesis، والحق أقول أن الباحث لم يرجع لى فى هذا الاستنتاج يستوضحة، وبالتالى لم أجد ما يدعو إلى مساءلته إن كان يدرك حقيقة ما يتصوره أم لا، وإن كنت لا أعتقد فى هذه المرحلة من نموه أنه يلم تماماً بعملية الجدل الحى الدائرة والضرورية لمسيرة العلاج والحياة جميعاً، ..
* * *
وبما أن هذه الفكرة هى عصب موقفى العلاج والحياتى معاً (ولا يمكن فصلهما كما بيَّنَّا) فإنى أضعها ضمنى “رؤوس الموضوعات” التى ألزم نفسى بتقديمها فى هذه المرحلة من بداية تحديد فكرى فأقول:
حين قدمت أفراد المجموعة قلت أنهم علمونى أن الأنسانى ” . . هو الكائن دائم المحاولة الواعية إلى الرقى، وبرغم وعية الآنى بضرورية الاستقرار المرحلى” وهذا هو أول مراحل مواجهة الموقف الإنسانى المتناقض . . وبالتالى المتطلب للولاف على المستوى الأعلى . .
فالتطور حتمى من حيث المبدأ، ولكنه لا يشمل بالضرورة كل أفراد النوع، وإلا لا نقرض كل ما هو دون الإنسانى من أول الفيروس إلى القردة العليا، وهذا ينبهنا إلى أن المسيرةطولية تتغير فيها الأجناس، وعرضية فى نفس الوقت يتكاثر فيها الجنس بنفس نوعيته، والبقاء إذاً ليس للأصلاح ولا للأقوى، ولكن البقاء، بالنسبة للقطاع العرضى، للأهرب (الذى تجنب مواجهة تغير ظروف البيئة بالهرب منها) أما بالنسبة للقطاع الطولى فالبقاء للأقدر، (الذى استطاع أن يستوعب هذا التغير لتغير من خلاله ويغيّرة معاً ليصنعا وُلافا جديداً فى الإطار الكلى يلائم ظروف النوع الجديد) والإنسان، بما أنه الكائن الذى نعرف أنه قد حمل أمانة الوعى، يعرف ذلك بدرجة تختلف وصولها إلى وعية حسب مرحلة تطوره، وهو يحاول أن يسير فى الاتجاهين معاً (بالتناوب عادة) بالتلاحم مرة والجدل أخرى.
والمرضى النفسى (العقلى خاصة) – عندى – هو بعض مضاعفات هذه المسيرة وهذا التناقض المتصادم ولا يمكن أن نفهمه، ونساعد بالتالى فى علاجة، إلا إذا ارتبطت الحلقات ببعضها، بمعنى إذا فهمنا تطور الحياة، الذى هو تطور الفرد فى نموه(قانون هيكل أو القانون الحيوى)، الذى هو تطور الفرد فى “اندفاعات التطور”، التى أسميتها من قبل بالما كروجنى، الذى هو هو تطور الفكرة فى جزء من ثانية (الميكروجنى الذى أشار إليه أريتى، هو قد يقابل – عندى – تطور وعى الفكرة عند هيجل)، وفى كل هذه المراحل فإن الذى يؤكد استمرار المسيرة هو نجاح ما أسميته الجدل الحيوى أما الذى يعلن ظهور المرض ولأعراض فهو فشل هذا الجدل الحيوى . . ومن ثم احتمال التراجع أو ما يسمى بالتكيف على المستوى الأدنىAdaptation at a lower level وأظن بذلك أننا دون نفهم طبيعة هذا الجدل الحيوى ونعايشة سوف يصعب علينا إنجاحه، علماً بأن إنجاحاً هو هدف العلاج قيد البحث . . . وربما هدف الحياة.
وأنا أعترف أن استيعاب واقع الجدل أمر شديد الصعوبة مالم يمارس فعلا فى خبرة ومعايشة، وأعترف أنى وصلت إليه من احتكاكى بهؤلاء الناس ونفسى قبل أن أقرأ عنه، وأعترف أنى عذرت كل من شوهة أو تشوه من خلاله، فليس الجدل حواراً عقلياً كما يتصور البعض (وربما كانت الترجمة مسئولة عن هذا الخلط عند العامة ولذلك أفضل استعمال الأصل اللاتينى “الديالكتيك”)، وليس الديالكتيك صراع ضدين بمعنى “الصراع” Conflict وليس الديالكتيك حلا توافقياً وسطاً بين المتصارعين، وليس الديالكتيك احتواء أحد المتصارعين للآخر، وليس الديالكتيك مبرراً للحفاظ على سلبيات الحياة لاستمرار التناقض، ولا يسمح الديالكتيك باتفاث ودى يتم لحساب تبادل الأدوار وتناوبها بين المتناقضين، ولا يتم الديالكتيك بمحاولة إلغاء أحد المتصارعين وإنكاره . .
وهذه البدائل جميعاً تصف علاقة اثنين أو جزئين مختلفين أو متضادين، ولكن العلاقة الديالكتيكية هى أثرى من كل هذا وأشد حيوية ومغامرة.
وقد ألفنا أن نتحدث عن النفس بمعنى نشاط المخ أو بمعنى رمزى بلا تحديد.
أو بمعنى دينامى على أساس وجود قوى متصارعة مع بعضها.
ولكنها لم نتعود أن نتحدث عنها بمعنى الناج النامى النابض الممتد لحركة النمو الديالكتيكى للجهاز العصبى فى احتكاكه المستمر بالبيئة (وخاصة بالآخر الإنسانى) وهذا هو تصورى لماهية النفس. . .
أما ماهية الديالكتيك فإنى أجد من الصعب علىّ أن أنقلها كما عايشتها فى كلمات (وأظن أن هيجل قد ظُلم من خلال هذه الصعوبة كذلك) ولكن الضرورة تلزمنى بالقول: “إن الديالكتيك هو حركة المواجهة المتلاحمة الحية الصادقة بين الأضداء . . التى إذا استمرت فى حيوية لوقت كاف ..دون أن تقضى على الكائن الحى (أو على الشعب أو على الفكرة) فإنها قادرة على تفعيل هذه الأضداد فى كل جديد أكبر من مجموع أجزائه، وبالتالى فهذا الكل الجديد ذو نوعية جديدة وقوانين جديدة …”
إذاً فالديالكتيك الحى ليس فيه غالب ومغلوب، بل ولا سلب وإيجاب، بل ولا حسن وسئ، وإنما أدنيان إلى أرقى.
ونجاح الديالكتيك هو فى أن يكون الكيان الجديد تمثيلا واستيعابا لك من الكيانين السابقين معاً، وهو أمل النمو النفسى باستمرار.
ولا شك أن هذه الفكرة قد خطرت كأمل عند المفكرين الإنسانيين فى علم النفس بل وكمرحلة طبيعية فى نمو الشخصية ويظهر هذا واضحاً فى تفكير ماسلو، وحديثة عم مرحلة اختفاء الاستقطاب بين المنطق والنزوة، بين الوسيلة والغاية، وبين الأنانية والأثرة ..الخ ما هو إلا حديث عن حل هذا الاستقطاب Resolution وهو حين يتحدث عن الولاف Synthesis يتكلم عن الاتحاد التعاونى يتكلم عن الاتحاد التعاونى Synergic Union ولكن الذى ولكن الذى أعنيه هنا ليس تكرار ألفاظ هذا الأمل ولكن تفسير حقيقة طبيعية بخوض التفاعل الديالكتيكى (لا مجرد الاتحاد أو التعاون)، ثم الإشارة إلى أن الطريقة محددة المعالم والبيئة (المحيط) واضحة القوانين هى المناخ الذى يتيح لهذا الديالكتيك الحيوى أن يستمر تصاعداً.
والديالكتيك مراحل متصاعدة وكل وحدة أكبر من سابقتيها – ولكنها وسط على الطريق – والوحدة تتم جزيئاً: بنجاح ديالكتيكى، وجزئياً: باحتواء مؤقت للجزء المتبقى من (الذى لم يتم تمثيله) الضدين.
وإذا ما استقرت الوحد الجديدة الأكبر (التى تسمى الولاف الأعلى Higher Synthesis) لفترة تؤكد فيها نوعيتها، فإنها قد تلفظ الجزء المحتوى داخلها ليلتحم بالتناقض خارجها وتبدأ صراعاً جديداً … وهكذا .. وباستمرار هذه العملية وتكرارها يقل هذا الجزء المُحتوى بعد كل نجاح أعلى حتى يتلاشى (نظرياُ) وهنا يصبح الوجود مطلقاً والتكامل خالداً واللاشعور منعدما … (راجع أيضا الجزء الثانى)، وبما أن هذا الهدف الأبعد هو هدف نظرى بالضرورة فالحركة مستمرة نحو التكامل إلى أبعد مما نستطيع أن ندركه فى حياة الإنسان المحدودة حتى الآن.
أما موقع المرض النفسى من هذه الحركة فكما سبق أن ذكرت إن: الأعراض هى مضاعفات الحركة التطورية الديالكتيكية إذا ما فرضت على الكيان البشرى قبل أن يستوعب المرحلة السابقة وقبل أن تكون قد استكملت مقومات نمائها واستعدادها. (راجع أيضا الجزء الثانى) وبالتالى فيكون العلاج النفسى هو مساعدة هذه الحركة التطورية على إتمام هذه المرحلة من الولاف الأعلى . . .، أو على التراجع عن هذه المحاولة حتى تستعد وتستكمل مقومات الحركة الناجحة فى الخطوة القادمة.
* * *
وهكذا نستطيع أن نراجع طبيعة هذا العلاج قيد البحث من خلال هذا المنظور بأن نعيد تأكيدنا أنه ليس كبتاً، ولا قمعاً وتحكما ولا تصالحاً وتبادلا بين أجزاء أو كيانات النفس، وإنما هو يهدف إلى تهيئة الظروف المساعدة لإنجاح هذه الخطوة التطورية المهدده بالفشل .. وذلك للوصول إلى الولاف على مستوى أعلى، وهو يقوم بذلك من خلال الخطوات التالية (بنفس الترتيب عادة):
(أ) تحديد القوى المتصارعة، وبيان مكوناتها، من خلال التفاعل والبصيرة، ولو كانت مجرد البصيرة العقلية مبدئياً.
(ب) ثم فصل مكونان هذه القوى عن بعضها من واقع عمليات الانشكار والسيكودراما والتحليل التركيبى والتحليل التفاعلاتى.
(ج) ثم إعاجة مواجهة هذه القوىمع بعضها البعض، بهدف آخر غير الصارع وهو إعاجة تقييم التناقض والاعتراف بوجودها دون التسليم لتضاد نشاطاتها المعطِّل.
(د) ثم الحفاظ على استمرار هذه المواجهة وتصعيدها بالدرجة التى تسمح بها دعامة المجموعة والمعالج.
(ه) ثم إدراك فضل أى من الجانبين على حدة.
(و) ثم الاضطرار بالتالى إلى التعاون فالتفاعل بين كيانات الشخصية، إذ أن الالتحام على مستوى أعلى ليس مطلقاً بحال، بل يتفق مع إمكانيات الفرد وبيئته فى هذه المرحلة بذاته، ويتم هذا الالتحام بقبول القوة الدافعة لكل كيان ثم إعادة توجيهها مع ضدها إلى اتجاه مشترك بما يقربهما من بعضهما حتى يلتحما فى كلٍّ أكبر من أصل أجزائه.
وهكذا نجد أن هذا العلاج ليس ترجيحاً للأنا الفرويدى، ولا للفتى التفاعلاتى، ولا للتلقائية الجشتالتية وإنما هو سعى إلى المرحلة الأعلى من التأليف بين كل هذا.
على أن الدليل الحقيقى على نجاح الولاف الأعلى هو القدرة على إدراك أهمية تساوى الضدين المتصارعين رغم استمرار صراعهما ولكن فى اتجاه ائتلافى، ويتعجب المريض أحياناً فى هذه المرحلة حين يدرك من واقع الممارسة العلاجية أن الشر لم يعد شراً صرفاً، واللذة لم تصبح لذة معطلة، والأخلاق لم تصبح سجنا لازما .. وهذا التغير النوعى (التلقائى عادة وليس التلقينى، والذى يكتشفه المريض أثناء تغيره ولا يسعى إليه مسبقاً)هو الذى يؤكد مسيرة العلاج إلى اتجاهه السليم وهو الولاف الأعلى.
(ولكنا نحذر أن نخلط مفهوم هذا التفاعل الحى الأعلى، بتمييع الموقف بمفهوم هامد مائع لتبرير السلبيات).
وإن كنا هنا لابد من أن نعيد إيضاح نقطة هامة وهى أن الهدف النهائى – وهو محاولة التكامل – لا يعلن أبداً على المتعالجين، وأن الممارسة الحية لهذه المسيرة من جانب المعالج أساساً هى التى تنقل طبيعة العلاج إليهم، كما أن قبول المعلاج لأى ولاف أَعلى (أو حتى تراجع أدنى) هو طبيعة حركة النمو اللولبية.
وما دام الهدف نظريا وخفياً والمراحل متعددة ومختلفة بالنسبة لكل فرد على حدة، والتقبل كاملاً دون تفرقة تصنيفية، والاختبار من جانب المريض أو المتردد متجددا بحضوره فى كل مرة، فإن التخوف من فرض تصور المعالج ورؤيته للوجود البشرى على المتعالجين يصبح تخوفا مفيداً ولكن لا ينبغى أن يكون تحذيراً معوقاً.
* * *
وبعد . .
فغنى لا أجد مجالا للاعتذار عن هذا التطويل فى الحديق بلغة ليست مألوفه لدى المعالجين، إلا إن كان ينبغى علينا أن نمنع المرضى من الحديث بهذه اللغة أصلاً أو معايشة محتواها تحت عنوان أنهم يتكلمون كلاما غامضاً شبه فلسفى . . فإِذا فعلنا ذلك فلابد – أمانة – أن نعيد تقييم موقف مهنتنا الحقيقى من مسيرة التطور والإسهام الحضارى.
رابعا: علاقة هذا العلاج
بالسياسة والدين
لا يمكن أن أنهى هذه المقدمة دون أن أشير إلى موضوعين هامين شديدين الارتباط بالحياة ومن ثمَّ بالعلاج، ولكنى استسمح القارئ عذراً فى ان أوجزفيهما قدر مايمكن لطبيعتهما وطبيعة المقدمة:
أولا: السياسة:
وفى إيجاز أقول: إن من يمارس هذا العلاج (معالجاً أو معالجاً) لا يستطيع بحال أن ينسلخ عن التفاعل السياسى اليومى، إلا أنه قد يتعرض فى نفس الوقت إلى رؤية احتمال أن بعض ممارسى العمل السياسى من أفراد المجموعة أو غيرها قد يتخذونه مهربا فرديا من مواجهة مشكلة وجودهم – وقد نوقش هذا الاحتمال فى إحدى جلسات هذا البحث – كما أن العكس صحيح، إذا أن بعض الذين الذين يركزون على مشاكل وجودهم من خلال أعراضهم قد يتخذون ذلك مهربا من الالتزام بالمشاركة الإيجابية مع بقية الناس، وقد يعمم المعالج رؤيته هذه دون تروٍ، وكل ما أستطيع أن أقوله هو أن هذا العلاج مرتبط بالناس أشد الارتباط، ولكنه ليس عملاً سياسياً فى ذاته، رغم أنه يسهم فى العمل السياسى بطريق غير مباشر إذ بعد إنسانا موضوعيا قادرا على الحكم الحكم والاختيار والمساهمة اليومية باللغة العادية المتواضعة، وهذا العلاج لم يندفع وراء وهم طوبائى أغرى “إريك فروم” فترة من الزمن حين تصور أن إعداد السلسة ينبغى أن يتم من خلال كوادر علالجية حتى لا نتيح الفرصة لهارب فى السياسة من أزمة وجوده أن يستولى على سلطة تسمح له لتشوية نفسه والناس، لأنى أعتقد أن للهرب فى السياسة – إن صح التعبير – فوائده لعامة الناس، والخوف من سلبياته لا ينبغى أن يدمغه، أما الحد من مخاطره فهو متروك لقوى أخرى تتعلق بدرجة تطور شعب ما، وقدرته على ممارسة حريته ومسئوليته، وليس فقط لحكم معالج أو متعالجين فى حجرة مغلقة.
وخلاصة القول أن العمل السياسى ضرورة ذات أهمية بالغة بالنسبة للمجموعة رغم أنها قد تكون مهربا إغمائيا بالنسبة للفرد، وأن من يحاول أن يواصل رؤية ذاته قد يصل إلى قبول التناقض حتى لا يعود قادرا على التشنج السياسى من خلال الاختلاف والحماس التعصبى، ولكنه فى نفسى الوقت يصبح ممارسا سياسيا بالضرورة بمعنى ارتباط حيانة وفعله وامله ونيومه وغده بالمجموعة مباشرة.
ثانيا: الدين:
أعتقد أنه يلزم للحديث عن هذا الموضوع الحساس الالمام بحقيقة أبعاد أربعة:
أولا: التصوف الحقيقى – غير الانعزالى – ومسيرة النمو الفردى من خلاله.
ثانيا: التجمع الصوفى وأوجه اشبه والاختلاف بين علاقة المريد بالشيخ وبين ما يجرى فى هذا العلاج
ثالثا: الدراسة المقارنة بين ما يدعو إليه الدين من “عامل مشترك أعظم بين الناس – عرضا”، “وهدف غائى واحد – طولاً”، (وجه الله)، وبين روح المجموعة وغايتها والأثر الايجابى لهذا وذاك.
رابعاً: الفرق بين الإيمان والتدين والطريق الموصل بينهما وعلاقة هذا وذاك بما يقابله فى هذه الممارسة.
والحديث عن هذه الأبعاد الأربعة ودراستها المقارنة يحتاج من الوقت والجهد ما يجعلنا نترك الأمر للمهتميتن به، لكن تقرير بعض الأساسيات الأولية التى اكتشفتها فى نفسى وفيهم من خلال هذه الممارسة، هو ضرورة مرحلية ضمن الإطار العام الذى التزمت به فى هذه المقدمة، لذلك أجد لزاماً علىّ أن أقول:
1- إنه إذا كانت الصحة النفسية هى التوازن والتناغم داخل النفس (أى التنسيق والترابط داخل المخ).. ومع المجتمع، وكان الإيمان هو التوازن والتناغم الانسان وبين الكون، فإن ارتباطهما عضوى بطبيعة مسيرة التطور.
2- إن مفهوم الانسان على أنه الكون الأوسط Mesocosmos الذىيقع بين الكون الأصغر (الذرة) Microcosmos والكون الأعظم Macrocosmos، هو المفهوم الذى يمكن من خلاله أن يتحقق السعى إلى التناغم، والأمل فى الفتجير المتواصل للترابط بين هذه الدوائر الثلاث المتاثلة فى قوانينها والمتضاعفة فى وجودها.
3- إن الإلحاد بمعنى فقد التوازن أ إنكاره مستحيل بيولوجيا، وكل ما يستطيعه الملحد هو أن يطمس وعية خوفا من رؤية عمق ذاته وجوهرها.
4- إن مضاهر هذا الإنكار هو فكر سجين أو ممارسة ميته، وأى منهما له مظاهرة فى الحياة العامة، كما أن له مضاعفاته: بلغة الأعراض التى تعلن اختلال التوازن، أو بلغة مظاهر فشل الاغتراب الجماعى.
5- إن الدين الجاهز هو إلزاما قد يفيد كإطار يساعد فى السعى إلى التوازن، ولكنه إذا اسئ استعماله أطفأ كل أصالة بشرية.
6- إن علمنا، وعلاجينا، إذ تجنبا الخوض فى الحديث المباشر غن مشاكل الدين وضرورة الإيمان وكدر الإلحاد وصوره ومضاعفاته إنما تجنبا “لغة أسئ استعملها” ولكنهما لا يستطيعان بحال أن يهربا من المواجهة الفعلية . . فى الممارسة والتطبيق.
7- إن المشكلة الأساسية فى الوجود هى التناغم والإتساق ضد التنافر والنشاز (وليس فقط الذى ضد الألم أو الحياة ضد الموت أو الجنس ضد العدوان) على أنهما – الإتساق والنشاز – ضدان على طرفى محور لولبى، ومشاكل الصحة والمرض ليست فى اختيار أيهما . . ولكن فى سلامة السعى بينهما.
8- إن التعرض لهذه المشكلة الجوهرية باستعمال اللغة الشائعة التى خلت من معناها الأصلى قد يعرضنا لمضاعفات لا سبيل إلى تفاديها مهما بلغ حين النية أو وضوح الرؤية لذلك ينبغى ممارستها دون حادة ملحة للتعرض للحديث عنها صراحة . . . إن صدق العزم.
9- إنه لا تعارض بين إيمانى المطلق لالأساس العضوى البيولوجى لك شئ، وبين إيمانى المطلق بالحل الأوحد فى السعى الائتلافى المتصاعد للتناسق مع الكون الأعظم طولاً وعرضاًمهما اختلفت الأسماء.
فالدين والإيمانى وما إليهما ليسوا عندى مشاكل ميتافيزيقية . . بل هى ممارسة فيزيقية يومية، الأمر الذى ينبغى أن نضعه فى بؤرة وعينا.
10-إن الرؤية الإيمانية تتصل بالوعى اليقينى بحقيقتين وهما “الموت للفرد” و “الاستمرار للحياة”، وعما حقيقتان زمنيتان يقابلهما حقيقتان مستعرضتان ألا: وعما “ضآلة الإنسان”(المرتبطة بضآلة الأرض المرتبطة بضآلة المجموعة الشمسية . . الخ) ثم “كونه تصغير وتلخيص للكون كله” فى نفس اللحظة، والإدراك اليقينى لكل هذه الحثائق الموضوعية جميعاً فى نفس الوقت هو عامل مساعد يسهل للانسان مسعاه إلى التناسق أبداً.
وبالتالى فهو يعمل لا محالة فى مسيرة هذا العلاج وإن لم يعلن عنه ابتداء، ولكنا أيضا لا نتجنب الخوض فيه متى جاء أثناء التفاعل الآنى تلقائياً، وكثيراً ما يحدث ذلك.
11- إن “الخوف من الإيمان” هو ظاهرة إنسانية، لعلها أعمق وأهم من الخوف من الحرية التى تكلم عنه “إريك فروم” وكذلك من الخوف من الجنس ومن العدوان ومن ثم كبتهما.. الخ، وقد تكلم عن هذا الخوف من الإيمان أفراد من هذه المجموعة العلاجية قيد البحث بألفاظ مباشرة..، ومارسه آخرون بطريق غير مباشر وأرى أن هذا الخوف الأساسى ينبغى أن يدرس فى عمق يتناسب مع خطورته وآثاره على مسيرة الإنسان التى بين مضاعفاتها: المرض النفسى.
12- وأخيراً: فإن كل ذلك لا ينبغى أن يفتح شهية المسطحين لمحاولة إثبات مقولات الدين من خلال مثل هذه الآراء التى تصدر فى مجال علمى . . . وكأنها الحق . . فهذه المحاولة التلفيقية (بين ظاهر الدين وظاهر العلم) كانت وستظل مضحكة مفسدة.
كما لا ينبغى كذلك أن يغرى ماذكرته آنفاً بإضفاء لمسة من التقديس الكاذب على هذه الممارسة العلاجية المجتهدة المتواضعة التى قدمها هذا البحث.
فإن كل ما طرحت هو مجرد إبلاغ لما ظهر لى من زاوية رؤيتى فيما يتعلق بهذا الأمر بالغ الخطورة والأهمية، وأعتقد أنه كان لابد من إعلان موقفى هذا لأن ذلك يساعد لا محالة فى تقييم ما قدمه هذا البحث ضمنا.
وبعد
إن أخشى ما اخشاه أن تكون هذه المقدمة التى طالت قد احتوت أكثر مما تحتمل، وأثارت من المشكلات أكثر مما يستطيع هذا البحث، أو يلحقه من أبحاث، أن يردوا عليها، وكأنى بالناس إزاءها أحد فريقين (هما الذان كنت أخشاهما منذ البداية).
الأول فريق يمثل الأطباء (العمليون) الذين سوف تستفزهم هذه الأغوار البشرية ليقول لسان حالهم: مالنا بكل هذا؟ . . إن المريض جاء يشكو بكذا وما علينا إلا أن نزيل الشكوى بكيت.
والثانى: فريق المثقفين المتطرفين الذين يتصورون أن دراسة الطبيعة البشرية والمشاكل الفلسفية ينبغى أن تظل فى برجها العاجى، لا يلمسها الإنسان العادى، ولا تقترب منها الاتجاهات غير المتخصصة.
وأطمئن الفريقين معاً . . فما زدت عن أن أعلنت بعضا مما أعايشه مما وصل إلى وعى .. تفسيراً أو تبريراً لأفسرّ ما جرى ويجرى مع هذه المجموعى التى أذكّر القارئ أنها أصبحت “مجموعة بحث” أصلاًبعد اختفت الأعراض كما أعلن الباحث.
وهكذا نجا أنفسنا دائما فى مواجهة حية “أن هذا هو الإنسان . . .” من وجهة نظر ما . .
ثم نعلن أن عمث الرؤية لا يعنى ولا يتطلب تحقيقها الفورى بما يخل بمسيرة التطور، ولكن العجز عن تحقيقها لا يقبت فسادها أو خطأها، وأن لمرض النفسى ما هو إلا مضاعفات لمحاولة النمو . . . ومن جانب آخر هو فرصة لمعرفة الأعماق وتخطى المرحلة السابقة . .
وأن البحث العلمى له أثر من سبيل . . ونم بينها هذه المواجهة والتفاعل بين الناس فى الفعل اليومى وتسجيله ومحاولة تفسيره، وإن على الباحث فى أى مجال أن يعرض وجهة نظره حتى تخطت مجال بحثه، لعل فيها ما يفيد من يستطيع أحسن منه فى مجاله أو غير مجاله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش:
[1] – لم ألح على التساؤل حول أن أكتب عن كل ذلك أولا أكتب .. خضعت لحل وسط .. إذ استوحيت مما مر بى رواية طويلة .. ليست هى ما حدث بحال، ولا يمكن أن تنقله بذاته.. ولكنها ايضا من وحى ما كان .. وهى “المشى على الصراط: نم جزئين” وقد أسميتها رواية علمية، كما كان ديوانى “أغوار النفس: بالعامية المصرية” هو أيضا من وحى هذه التجارب الذاتية.
[2] – فضلت كلمة “الموالفة” أو “الولاف” لأنها تعنى اتصل الشئ بعضه إلى بعض كما أن الفعل “ولف” يعنى تتابع اللمعان (البرق عادة)، والمعنيان معا هما ما أقصد. أما كلمة “الجميعة” (نتيجة الجمع بين “الطريحة” و “النقيضة” فهى تعطى معنى الجمع لا الاتصال الحيوى.
[3] فضلت استعمال كلمة “الفقى” بدلا من كلمة اليافع أو الناصح، والشائع أن القى الشاب الحدث ولكن جاء فى لسان العرب “. . . قال الفتيى ليس الفتى بمعنى الشاب والحدث وإنما هو بمعنى الكامل الجزل من الرجال، يدلك على ذلك قول الشاعر:
إن الفتى حمال كل ملمة ليس الفتى بمنعم الشبان
الجزء الثانى
فى النظرية والأداة البشرية
مقدمة:
لاشك أنه قد يسئ إلى أى فكر أن يقدم فى هذه العجالة بهذا الإيجاز، ولكن قد يسء إلى صاحبه أكثر وإلى الناس ألا يظهر أصلا، وإذا كنت قد أشرت إلى بعض الأسس النظرية التى أثرت فى طريقة العلاج الجمعى الذى أقوم به فى الجزء الأول من هذا الكتيب… فقد أحسست أنى لابد وأن أرسم الخطوط العامة التى تحدد فكرى من أكثر من جانب وأنا أقدم هذا الجزء الثانى لأكمل فهرست بعض مايشغلنى، وبما أن الكتيب كما أشرت – وكما شرح مصدره الدكتور رفعت محفوظ – ليس إلا مقدمة عجلى لما سيأتى بعده، وفى نفس الوقت هو إلزام بأن يأتى بعده فى حينه فإنى سأقوم هنا بإيضاح بعض جوانب فكرى النظرى أساسا مع بعض الأرتباطات التطبيقية فى أقل نطاق ممكن.
الخطوط العامة
أولا: الأسس المبدئية:
لكل فكر مصادره الواعية التى بنى عليها نسقه، فلا يمكن أن يبدأ فكر من فراغ، ولكن علمنا بوجه خاص له مصادر واعية ومصادر غير واعية، ولهى جميعا تؤثر مباشرة على الممارسة وعلى التنظير معا، وقد أشرت إلى هذا الأمر فى الجزء الأول من هذا الكتيب ولكنى هنا أقول أن على كل منظر أن يسعى إلى توضيح مصادر فكره من خارج ومن داخل ما أمكن، حتى يتيح للمتلقى أن يقف منه موقفا مختارا يأخد ما يريد ويدع ومايشاء..، ولن أستطرد فى هذا الجزء لذكر المصادر الذاتية التى أوضحت بعضها فى الحديث عن نشأة هذه الطريقة فى العلاج الجمعى، وسأكتفى هنا بتعداد بعض الأسس المبدئية التى يستند عليها فكرى أصلا.
1- تمثل نظرية التطور، (النشوء والارتقاء) دعامة أساسية فى وجودى وتفكيرى معا. وبغير وضوح هذه النظرية فى عقل ووجدان أى متلق فإنه لا يمكن أن يتواصل مع فكرى، بل فى اعتقادى أنه يفتقد الكثير وهو يتواصل مع أى فكر بل وربما أى علم، وبالرغم من أن هذه النظرية، التى ترجع حديثا إلى دلروين وولاس معا، تكاد تفرض نفسها على كل فكر فى عديد من فروع العلم حتى لتكاد تبدو كالبديهية، إلا أنها – ولابد من التسليم – لا تزال فرضا قويا ليس إلا … (حتى يرتاح المهاجمون والخائفون معا)، ولكن لا يمكن أن يفهم علمنا هذا – الطب النفسى – دون إيمان بهذا الفرض، والمتصفح لأى كتاب فى علم تشريح الجهاز العصبى المقارن لابد وأن يتسأل كيف يمكن فهم تطور الجهاز العصبى دون إيمان بهذه النظرية، فإذا أنتقلنا إلى الفليسوف عالم الأعصاب، هوجلج جاكسون وما أضافه فى علم الأعصاب والأمراض النفسية نجد أن يستحيل أن نفهم نظرته ونظرياته دون الإيمان بالنشوه والأرتقاء، وأخيرا فإن فرويد – مثلا – لم ينس الرجوع إل يهذه النظرية … ولكنه لم يستطع الغوص إلى نبضها وغلب على فكرة أخيرا الأهتمام بخبرات الطفولة “الفردية” أساسا.. ولكن تصورى أن بغير التحام فكره أصلا بهذا البعد البيولوجى – الذى أخذه عليه تلامذته المحدثون فيما بعد – ماكان ليصل إلى ماوصل إليه على المستوى الفردي..
وقد سار فى هذا الأتجاه التطورى مباشرة كثيرون، من أول ساندور رادو وهنرى إى حتى أو بنهايم والمدرسة المسماة بالطب النفسى البيولوجى برمتها، والذى يقرأ الفقرة السابقة يلاحظ أنى ذكرت كلمة “الإيمان” بهذا الفرض وليس مجرد معرفته، ولم أذكرها اعتباطا لأنى لاحظت فى تدريسى أن مايعرف هذه النظرية تمام المعرفة غير من يؤمن بها حتى ينبت بالتناسق التى تحتويه فى كل فكر وفى كل رؤية وفى كل تفسير، فالأول يحفظ أشياء تفسر له ظواهر والثانى يغوص إلى وجود ممتد ينسق فكرة ويمتد به دائما به دائما إلى ما قيل، وإلى ما بعد، وجوده الزمنى الضئيل، وحين كنت أناقش من يزعم الإيمان بهذه النظرية عما تعنى بالنسبة لحياته الخاصة (مثلا بالنسبة لتنظيم وقته وعلاقاته واهتماماته فى الحياة) ويعجز عن أن يجد أرتباطا مباشرا بين هذا وذاك كنت أدرك مدى بعده عن التجاوب مع فكرى الذى أريد أن أقدمه له، وقد وجدت أن الصعوبة فى الإيمان بهذه النظرية (بديلا عن معرفتها) تكمن أساسا فى العجز عن إدراك “وحدة الزمن” التى تتكلم بها هذه النظرية.
فعمر التطور مثلا يرجع إلى حوالى خمسة ألاف مليون سنة حسب آخر رأى وظهور فصيلة الإنسان والقردة العليا احتاج إلى 4.5 – 5 ملايين من السنين، ونشأة اللغة بدأت منذ حوالى مابين 50.000 إلى 500.000 سنة حسب مختلف التقديرات[1]… الخ وكل هذه الأرقام قد يسهل قرائتها والنقاش بها ولكن قد يستحيل تصورها بنفس الوحدة الزمنية التى أعتدنا التعامل بها فى حياتنا اليومية.
أما المصدر الثانى للصعوبة فهو التهديد الذى يحمله الإيمان بهذه النظرية وهى – لا محالة – خطورة، أو ضرورة، الأرتقاء وبالتالى فإن الكائن الفرد العادى يواجه هذه الخطورة كتهديد لنوعه الحالى وهو بالتالى يقاومه تمام المقاومة حفا على بقائه العرضي…
وهنا لابد أن نشير إلى طبيعة التطور وأنه يشمل الحفاظ على النوع وتطوره فى آن واحد، وأن قوانينه عرضية كما هى طولية فى آن واحد أيضا، وبدون تقصيل نقول أن الفيروس والأميبيا مازالا حتى يومنا هذا يحافظان على نوعهما رغم أن الإنسان تطور منهما (أو من أولاد عمومتها !!)، وأستيعاب هذا التناقض وحدة صعوبة جديدة…. فما بالك إذا أنتقل إلى تهديد مباشر للكيان البشرى الفردى بمجرد وعيه لدرجة الإيمان بهاتين الضرورتين المتناقضتين فى آن واحد.
وحين أذكر أن التطور البيولوجى هو الأساس الأول لفكرى النظرى، فإنى لا أشير – إذا – إلى تفاصيل فرض قوى فرضه داروين وغيره فحسب، ولكنى أؤكد ارتباط الوعى الإيمانى به بالأرتباط بجذور الوجود الممتدة إلى ماقبل النبض الحيوى البروتوبلازم وكذلك ارتباط اليقين الأستشعارى الذى يتحسس تناسق التكامل المستقبلى إذ يتفق مع نظام الكون الأكبر … بالمارسة اليومية لمشاكل النفس فى سوائها وإضطرابها.
ويعتبر أنتقال العادات المكتسبة بالوراثة جزء هام من نظرية التطور كما أعتنثها، وهو محدد لطبيعة تفكيري.
2- حتمية ارتباط الوظائف النفسية ومفهوم النفس بالصفات الحيوية للمادة الحية عامة، وبالجهاز العصبى خاصة، أساسية فى تنظيرى، وذلك مع اأحتفاظ بفكرة التميز الوظيفى الذى تتصف به الكائنات العليا جنبا إلى جنب مع بقايا ضرورة التجاوب الكلى الذى تتميز به الكائنات الدنيا (مادام الإنسان لم يبلغ مرحلة التكامل بعد، تلك المرحلة التى تتآلف فيها هاتين الخاصيتين فى خاصية ولافية عليا). وعلى ذلك فإن تحديد الوظائف تحديدا تشريحيا فى خلايا المخ هو أعجز من أن يلم بطبيعة الوظائف النفسية، كما أن هذا العجز فى ذاته ليس مبررا لتصور أنها ليست – إذا – من وظائف المخ، وفى تقديرى أن مايحل هذا الإشكال هو أن للوظيفة النفسية “مدى ونسقا) Exient & Organisation وليس موضعا Locality، وأن هذا المدى ليس كميا فحسب، بل له نسقه المنتشر وطرق ترابطه الخاصة، ومن خلال هذا المفهوم لابد أن يعاد النظر فى المعطات الجزئية التى أغرت التعض بتحديد الوظائف النفسية تحديدا يشبه تحديد وظائف الحس والحركة.. وأنا لا أرفض هذه المعطات الجزئية ولكنها ينبغى أن تعتبر جزءا من الكل الجديد بلغة “المدي” و “النسق” معا، وهنا لابد من إشارة عابرة إلى أن الفصل بين الوظائف النفسية هو فصل تعسفى إذا بولغ فى حقيقته أو إلزامه، وأن وجهة النظر التى ترتبط “بالمدى والنسق” لابد وأن تشمل أكثر من وظيفة فى نفس الوقت، وكأن أغلب الفصل بين الوظاءف النفسية كان لغويا للتواصل والتنسيق أكثر منه تعبيرا عن حقائق بيولوجية مستقلة بذاتها.
ولتوضيح هذا المفهوم الأشمل نورد هنا بعض ملامح إعادة النظر فى الوظائف النفسية بلغة (المدى والنسق) مع الأعتذار عن عدم التفصيل، فنقول إنه يمكن ترتيب الوظائف النفسية حسب شمول مداها ووحدة نسقها ودرجة تميز تقاصيلها من الأهم إلى الأخص رغم اختلاف طبيعة كل مجموعة كالتالى:
(أ) الوظائف الوسادية Matrix Functions وهى الدعامة الشاملة الأساسية أو الأرضية التى تحدث داخل بقية الوظائف، وأعنى بها الشعور Consciousness والوعى Awareness (وتشمل النوم كأحد صورها … إلخ).
(ب) وظائف الطاقة (أو الوظائف الدوافعة) Motivating Functions وأعنى بها الوظائف بإطلاق تشمل بلغة علم النفس العام: العواطف والأنفعالات والدوافع (والغرائز: لمن يجرؤ على أستعمال هذه اللغة المضطهدة)، أما بلغة “نقط الأنبعاث” Pace Maker والكيانات النفسية فإن هذه المنطقة تشمل مختلف حالات الأنا Ego States وكل حالة تطلق طاقة خاصة لها معالم سلوكية محددة وتسير إتباطات الواظائف التالية وهكذا.
(جـ) وظائف الإتباط والتعبير والتواصل Associative، expressive & relating Functionc وأعنى بها الوظائف التى تشمل التعلم والتذكر والتفكير الترابطى والتعبير اللغوي.. إلخ. وبنظرة سريعة إلى هذا الترتيب نجد أن الوظيفة الأولى أساسيا وشاملة لما بعدها ( الثانية والثالثة ) والوظيفة الثانية دافعة وباعثة لما بعدها، والوظيفة الثالثة تفصيلية ومحدده،
ورغم ان هذا المجال لا سبيل فيه لتفصيل هذا الاستطراد الى انه ينبغى ذكر ان هذا التميز الى هذه المستويات المتداخلة يسبقه مرحلة ” لا تميز” حيث تختلط فيها الوظائف ببعضها ومثال ذلك الأدراك خارج نطاق الإحساس Extra – Sensory Perception هو فى شكله البدائى وظيفة قبلية غير مميزة، (لذلك فإنى أفضل تسميته فى هذه المرحلة (Pre – sensory Perception أقول إن هذه الظاهرة تشمل الثلاث مستويات “معا” قبل أن يتميزوا ويتلاحقوا فهى ظاهرة وسادية (عامل الحدس فيها) دوافعية (شحنتها العاطفية الممتزجة) ارتباطية (مايميزها من إدراك) فى نفس الوقت.
وعلى الطرف الآخر من تصاعد نمو هذه أن المرحلة التالية لهذا التمييز التلاحقى هى ولاف أعلى يشمل الثلاث مستويات معا ولكن على أرقى نطاق وتشمل هذه المرحلة الوظائف الولافية مثل الإرادة والإبداع (التفكير البعترابطى Meta associative Thinking).
وهكذا أردت أن أوضح فى هذه العجالة معنى الحديث بلغة “المدى والنسق” بالنسبة للوظائف) مع إشارة جانبية إلى طبيعة مراحل النمو من اللاتميز إلى التميز التلاحقى الأحتوائى إلى الألتحام الوالفي.
3- العلاقات بين المستويات المختلفة فى المخ علاقات دينامية تركيبية Dynamic correlative reletions وليست علاقات سببية خطية Linear-causal relation (أو ميكانيكية) وبالتالى فإن مستويات المخ (المقابلة لمستويات التطور) إنما تتنافس وتتبادل وتتصارع وتتقابل بشكل متداخل ومركب بحيث تحتاج إلى عمق صبور حتى فلم بطبيعة هذه العلاقات دون الأكتفاء بسطحية الأرتباطات الظاهرة…
4- إن تطور وظيفة المخ – ومن قبل تطور تركيبه – إنما يتم بانتقال العلاقة الدينامية التركيبية إلى علاقة ديالكتيكية جدلية تبدأ بالتناقض وتنتهى بالولاف الأعلى، وقد أشرت إلى هذه الفقرة فى الحزء الأول ولكن دون تفصيل لنمو وظيفة المخ، وكل ما أؤكده هنا أن طبيعة نمو المخ البشرى تطوريا وحالا لا يمكن أن تدرك بتعقيداتها الهائلة رلا من خلال استيعاب فكرة الولاف الديالكتيكى المتصاعد، وعلى ذلك فيكون من أهم مصادر التنظير لدى هو استيعاب فكرة الديالكتيك كما أشرت فى الجزء الأول.
5- إن ضرورة ارتباط المفهوم الطبى البراجماتى والميكانيكى معا بمفهوم كلى مرتبط بالوعى والوجود يعتبر حتما لا مفر منه ويتطلب أستعمال أساليب “كلية” مثل لغة بعض الفلسفة، و”تركيبية” مثل لغة الرياضة الحديثة والطبيعة الحديثة.
6- الرجوع إلى نظرية الطاقة: من دعائم فكرى الأساسية أن أرتباط بلغة “الطاقة البشرية الأساسية” والطاقة المخية خاصة، مما يقابل استعمال فرويد مثلا لكلمة “ليبيدو) رغم اصطباغها عنده بالمفهوم الشامل للجنس، وربما بما يقترب من فكر برجسون عن الطاقة الحيوية… إلخ، وقد ثار العلماء فى السنين الأخيرة لتصورهم أن هذا الحديث “عن طاقة ما” هو ضرب من البعد عن المعطيات العلمية المحددة التى حاولوا أن يحبسوها فى المشتبك العصب وفى بضعة هرمونات عصبية، ثم فصلها دون عشرات غيرها تعمل فى نفس الوقت، بل إنهم فى ثورتهم هذه أنكروا الغرائز أصلا، ولكنى أصر على أن الحديث بلغة الطاقة ليس حديثا ميتا فيزيقيا أو ضربا من التخمين، بل إن الحياة هى أصلا تشكيل للطاقة فى شكل بيولوجى كيميائى، ومفهوم الطاقة مباشر وأساسى من أول تحول الطاقة الشمسية إلى طاقة كيميائية فى النبات إلى تحول الطاقة الكيميائية المتربطة بالرباط الفوسفاتى ذى الطاقة العالية فى مركبات ثنائى وثلاثى فوسفات الأدينوزين (ADP&ATP) إلى طاقة فيزيائية..، فلماذا لانفكر فى تحول الطاقة الكيميائية إلى طاقة نفسية وبالعكس، أليس هذا أقرب ما يكون إلى التفكير العلمى الموحد؟ وبالتالى فإن تحويل مفهوم الغرائز والعواطف عندى إلى مفاهيم ارتباطات كيميائية وحيوية (كلية تركيبية) نوعية ذات طاقة وذات مسارات سلوكية وجودية ذات دلالة، يعتبر من أبجدية تفكيرى المهنى عليه هذا التنظير.
ثانيا: الخطوط العامة للنمو الإنسانى:
1- لاشك أن المفهوم القديم للنمو الذى يقتصر على الطفولة والمواهقة أصبح قاصرا ولا يمكن أن يساير الوضع التطورى الذى أحاول تقديمه لمفهوم الوجود البشرى ومساره ومضاعفاته التى من بعضها موضوع علمنا هذا (الأمراض النفسية) وإنما المفهوم الذى يتعلق بتفكيرى هو استمرار عملية النمو – ونقيضها – من الميلاد حتى الموت معا، وأى مفهوم يتصور توقف النمو دون إثارة نقيضه هو مفهوم غير حيوى وغير دينامى، إذ أن المنطق والحقيقة التى تحاول إيضاحها هو أن المادة الحية فى حركة دائبة، وأنها تحمل مقومات التطور والتدهور معا، وأن الموت إنما يخدم الحياة بشكل غير مباشر … ولكنى أفضل بديلا عن هذه اللغة المخيفة (غريزة الموت) أن أتكلم عن الحركة الأمامية والحركة الخلفية، أو عن حركة التطور Evolution حركة التدهور Devolution.
خلاصة القول فى هذا الصدد: هو أن الحركة هى أصل الحياة وأن أتجاها إلى النمو أو نقيضه هو حتم لا مفر منه طالما تنبض المادة الحية بما يبقى لها صفة الحياة.
2- أن كل مايحدث أثناء مسيرة النمو (ونقيضه) من تفاصيل تبدو علية… هو فى الحقيقة أمر مشكوك فى قيمته النسبية، وبالتاى فإن التركيز على مناطق جسدية بذاتها تصف مراحل معينة (الفمية والشرجية والقضيبية – فرويد – … إلخ) أو أساليب تعامل بذاتها (الأحتواء والأخذ والطرد.. إلخ – إريكسون -) هو تركيز يهدف إلى ربط سببى مبسط لكنه مقول بالتشكيك، فأما أن الظواهر السالفة موجودة فى مراحل معينة من نمو الطفل فلا شك فى ذلك، وأما أنها ترتبط أحيانا ببعض مظاهر السلوك فى الطفولة والنضج فهذا أيضا ثابت… ولكن لا هذا ولا ذاك يبرر ارتباطها ببعضها كسبب ونتيجة .. فى الصحة أو فى المرض.
وعندى أن مسيرة النمو حتمية وتعتمد أساسا على نبض منظم طوال تاريخ الوجود الفردى، وهذا النبض متفاوت مثل نبضات القلب (ونبضات الكون على حد سواء) وهذا المفهوم الذى سيفصل فيما بعد لا يلغى أثر البيئة ولكنه يحد منه، ولا يعلى أهمية الوراثة ولكنه يؤكد أهميتها ويربطها بطريق غير مباشر بالبيئة البيولوجية التى صنعت الوراثة.. فكأنى أقول بهذا أن فكرى هذا يضعنى أقرب ما أكون إلى المتحمسين لأهمية الوراثة وتأثيرها واحترامها إلى أقصى مدى بالنسبة للفرد وأقرب ما أكون إلى المتحمسين لأهمية البيئة وتأثيرها بالنسبة لمسيرة النوع عبر الأجيال.
إذا فالنمو هو إطلاق قدرات كامنة (موروثة) تحورت بتدريبات ومحتويات بيئية فى تناوب اندفاعى تمددى دائم..
3- يمر الطفل جنينا بكل مراحل الحياة حسب نظرية الأستعادة “الأنتوجينيا تكرر الفيلولوجينا”([2]) أى أن نمو الفرد يكرر نمو نوعه منذ بداية الحياة.. فى تلخيص بيولوجى شديد.
4- مادام الأمر كذلك فلايوجد ما يبرر ألا تكون هناك نظرية للاستعادة بالنسبة للسلوك رغم قصور المعلومات المقارنة التى يمكن أن تثبتها .. فهى تثبت أساسا بالقياس وهو أحد سبل تقييم فروض العلم إذا ما ارتقينا إلى تعريف تطورى “للعلم” ولم تقتصر على المفهوم الضيق للتجريب والإعادة..
وهكذا نضع الفرض القائل “إنه بالنسبة لنمو السلوك فإن الأنتوجينيا تكرر الفيلوجينيا بطريقة محورة تتعلق بالتحويرات التى حدثت فى الأنسان إذ أصبح حيوانا يستعمل الرمز والمنطق ويشترط التواصل مع بنى جنسه من – خلالهما أساسا – كضرورة لاستمرار نوعه، ثم هو يعى ذلك بدرجات متفاوتة”
5- هذا التكرار ليس قاصرا على الطفل فى سنينه الأولى وإنما هو يصف كل نبضة نمو (أو أزمة نمو). أى أن الأنتوجينيا تعيد الفيلوجينيا عدم مرات أثناء حياة الفرد مع كل نبضة نمو، وهذا ما أسميته قبلا الماكروجينيا Macrogeny.. حتى ليمكن اعتبار كل نبضة نمو إعادة ولادة سعيا إلى إضافة ولافية كما سيرد بعد، وقد ذهب آخرون إلى أن هذه الإعادة قد تحدث فى جزء من ثانية وأسماها (أريتي) الميكروجينيا Macrogeny.. (وإن كنت مازلت مترددا فى الأخذ بهذه المقولة لعجيزى عن تصورها تفصيلا).
6- أن مراحل النمو السلوكى المحددة فى النظريات الجارية يمكن إرجاعها إلى أصلها التطورى كولاف متصاعد من تناقضات مراحل الوجود المنفرد ضد: مع الوجود المتعدد (المتداخل المركب) وأعنى بالوجود المنفرد المرحلة التى يكون الكائن الحى فيها موجود بذاته مستمر لذاته مثل الأحياء وحيدة الخلية التى تتكاثر بالأنقسام الميتوزى Mitotic مثل الأميبا أما النوع الثانى “الوجود المتعدد” فليزمه لاستمرار “نوعه” أو تحقيق نوعيته وجود “آخر”، ويمكن إرجاع هذه الضرورة إلى بعض الأحياء أحادية الخلية أيضا مثل البرامسيوم.
أما الوجود الأول فله ما يقابله فى السلوك ويتمثل فى المرحلة الشيزويدية التى تمتد إلى المرحلة الجنينة والأيام الأولى بعد الولادة (وربما الأسابيع الأولى).
أما الوجود الثانى فهو يمثل المرحلة التالية بتركيباتها وتضعيفاتها المعقدة إلى المشاكل الوجودية التى يعيشها الإنسان المعاصر … ويبدأ مقابلها السلوكى من أول الطور البارنوى حيث العلاقة بالآخر هى علاقة “الكر والفر” وينتهى إلى علاقة التكامل المؤهلة مستقبلا (ورغم تشابه الأخيرة ظاهرا بالنوع الأول إلا أنها نقيضها تماما).
7- أنه من خلال تفاعل هذين النوعين المتناقضين من الوجود تتصاعد مستويات النمو فى ترتيب هيراركى منتظم.: وكلما نجح ولاف (يبالكتيكي) أن يستقر بعض الوقت على مستوى أعلى كلما أصبح قادرا على أن يمثل مستوى فى المخ قائما بذاته، مستقلا مرحليا، له مقابلة من “ذات فاعلة” يمكن أن تظهر فى السلوك بصفاتها الخاصة.
8- وعلى ذلك فإن المخ البشرى يتركب من مستويات متصاعدة هى المقابل لولافات متصاعدة.. ناتجة بدورها عن تناقضات مرحلية ثم الأئتلاف بينها جزئيا على الأقل.
9- أن هذه المستويات المتصاعدة لا يمكن تحديد موقعها Locality تشريحيا ولكن يمكن فهمها بأسلوب “المدى والنسق” فكل مستوى أعلى له مدى أكبر ونسق أشمل وهو يشتمل علىالمستوى الأدنى.
10- أن المستوى الأعلى لا يشتمل على المستوى الأدنى تماما ونهائيا ولكنه يشتمل مرحليا وجزئيا… وتتوقف هذه الدرجة على طبيعة الأئتلاف بينها … (أئتلاف ديالكتيكى “أى: ولاف” أو ديناميكى أو تناوبى … إلخ).
11- أن هذه المستويات تمثل ذوات متعددة (أشخاص) لها القدرة الكاملة على التعبير سلوكيا، ولها خصائصها المميزة وهى تظهر بشكل غير مباشر فى الأحوال العادية، ومباشر فى أحوال النوم والمرض وأحيانا الإبداع.
12- أن لكل مستوى ارتباطات فيزيزكيميائية خاصة ومميزة، كما أنه إذا دخل كجزء من ارتباط أكبر تعدلت هذه الأرتباطات من واقع هذا الشمول والتداخل.
13- أن المستوى الأعلى فى حالة سيطرة غالبة وبالتالى فإن مابقى مستقلا من المستوى الأدنى يظل فى حالة كمون وتبعية فى الأحوال العادية (هوجلج جاكسون – هنرى إى … إلخ).
14- على ملايين السنين استقرت هذه التركيبات الجاهزة بمواصفاتها الكيميائية واتصالاتها المميزة وتعبيراتها السلوكية فى المخ البشرى ولكنها لم تصبح ثابتة إلا بمقدار مرحلة التطور الحالية، فهى – تبعا لقانون التطور – قابلة لائتلافات جديدة بحسب متطلبات التطور، ومن فهى قابلة لتركيبات ونمو جديد من حيث المبدأ.
15- يولد الإنسان – على ذلك – ومراحل سلوكه المتتالية جاهزة تركيبيا لا ينقصها إلا مثير بيئى، ولكن هذا المثير لا يطلق السلوك فحسب بل يحوره ويحدد معالمه التفصيلية ويعطيه لغته.
16- أن كل تركيب أو مستوى يمكن أن يطلق عليه فسيولوجيا وكيميائيا أسم “مخ” وأن نطلق عليه سلوكيا أسم “ذات”، وبالتالى يصبح المخ مكونا من عدة وحدات تركيبية متكاملة، لا عدة أجزاء متداخلة.
17- إن أى مخ أعلى هو النتاج الديالكتيكى للمخين الأدنى السابقين مباشرة.. فمثلا المخ البدائى الذاتى (المقابل للمستوى الشيدويدي) Solitary فى تناقضه وتفاعله مع المخ المتوجس العدوانى Aggressive (المقابل للمستوى البارانويدي) إذا ما تآلفا جزئيا نشأ عنهما المستوى الأعلى وهو المخ التناقضى Ambivalent…
18- إن القبول بهذا الفرض يفسر عمل العقاقير المضادة للأمراض النفسية، بل وعمل الجلسات الكهربائية فى ارتباطهما بالعلاجات النفسية والسلوكية الأخرى (مما لا مجال لذكره هنا تفصيلا).
19- إن المراحل السلوكية الجارى وصفها بألفاظ أخرى يمكن إيجاد مقابلاتها العضوية (الكلية) بسهولة، فمثلا يمكن أن يكون الموقف الشيزويدى عند ميلانى كلاين وجانترب، وكذلك المرحلة الفمية عند فرويد عما المقابلان لنشاط المخ الذاتى المنفرد، وتنتفى العلاقة المزعومة بين هذا السلوك المحدود أو هذه المنطقة الخاصة وبين المضاعفات المرضية مستقبلا ويصبح الجميع “مصاحبات” (فى الأحوال العادية) أو “مضاعفات” (فى الأحوال المرضية) لنشاط مستوى معين من مستويات المخ على حساب أو ضد أو مع مستوى آخر أو أكثر حسب الحال.
20- إن الإنسان يمر فى نموه بتناوب منتظم، وهذا التناوب من طبيعة الحياة ذاتها (مثل تناوب الفصول والمد والجزر ودوران الأفلاك .. إلخ) ومن طبيعة المادة الحية، ومن طبيعة الظراهز الحياتية (التناوب بين النوم واليقظة، وكذلك بين النوم العادى والنوم النقيضى) ويظهر جليا فى دقات القلب المنتظمة التلقائية.
21- وبتحديد أدق أقول “إن المخ “عضو نبضي” “Pulsating organ” وتناوله بهذا المنطق يفسر النوم واليقظة والأحلام ينوعيها، وهو يسهل فهم مسيرة النمو، ومعالم مراحل التطور، وكذلك فهم بعض المضاعفات التى تظهر على شكل أمراض نفسية مع اختلاف هائل فى الزمن الذى تسغرقه النبضة وكذلك فى أن نتاج نبضات القلب هو نتاج ميكانيكى أساسا، أما نتاج نبضات المخ فهو نتاج ديالكتيكى نموا أو تشويهى تدهورا.
22- أن طور اندفاع ([3]) المخ “Cephalic Systotole” يقابل ما أسماه إريكسون أزمة، وهذا الطور يتصق بالتالى:
(أ) عملية “بسط” Unfolding تعيد وتلخص أطوار الحياة للنوع (فيلوجيني) Phylogeny للفرد (أنطوجيني).
(ب) إطلاق قدرات المخ الكامنة والتى كانت تحت السيطرة لأحدث المستويات (وبالتالى فهو المقابل لدفع الدم فى الشرايين من القلب).
(جـ) محاولة تأليف بين هذه المستويات المتناقضة أصلا..، النشطة معا، أثناء النبضة المخية.
وتنتهى هذه المرحلة إما بزيادة فى عدد النبورونات النشطة معا (أى ولاف أعلي) وهذا نتاج طبيعى فى فترات النمو وقد تنتهى أيضا بنقص فى عدد النورونات النشطة معا (أى تكيف على مستوى أدني) وهذا نتاج طبيعى أيضا فى مرحلة “الضمور”.
وتتوقف هذه النتيجة على عوامل كثيرة سنذكر بعضها حالا…
23- أن طور التمدد ([4]) المخى Cephalic Diastole هو الطور الذى يكتسب فيه الإنسان معلومات من البيئة ويملؤ مخزون ذاكرته برموز مكتسبة وقواعد أساسية، ويمرن فيه القدرات التى انطلقت فى أثناء أندفاعه المخ، استعدادا للاندفاعة القدامة، وبالتالى فهو المقابل – تجاوزا – لطور ملء القلب بالدم أثناء استرخاء العضلات (طور الملل السريع وطور الملء البطئ Rapid and Reduced Filoing Phases).
24- أن تبادل الأندفاع والتمدد لازمين لاستمرار الحياة كما هو ظاهر فى تبادل النوم واليقظة، وتبادل أنواع النوم، وهو لازم حتما لاستمرار النمو فى كفاءة، وأن نتاج كل طور يحدد نجاح أو فشل الطور التالي.. مع اختلاف النبض التمهيدى اليومى (مثل النوم واليقظة) عن النبض الولافى النموى فيما بعد..
25- أن الأندفاع فترات محددة بطبيعة النمو ولكن يثيره أزمات بيئية لها طابع حازف خاص، ومثال ذلك اندفاعات: الولادة، والقطام وأول مواجهة بالمجتمع الأوسع، (المدرسة مثلا)، ثم اندفاعة هائلة أثناء المراهقة، واندفاعة الأرتباط الحميم (الزواج عادة) ثم اندفاعة النجاح (وسط العمر) ثم الوحدة المؤخرة…، هكذا مما سيفصل فى العمل الأكبر فى حينه فى مجال آخر..
أما أطوار التمدد التحصيلى فهى التى تتبادل مع هذه النبضات مثل مرحلة الرضاعة المستقرة ثم مرحلة تعلم الكلام ثم مرحلة الدراسة الأولى (6-12) ثم مرحلة الأستقرار الدراسى، والأستقرار المهنى، والأستقرار الأسرى … وهكذا…
والمخ قادر على الحركة المنتظمة فى التمدد Disstole (الاستيعابى) والاندفاع systole (الولافى) معا دون مضاعفات عادة.
والقاعدة السليمة هى أنه كلما كانت مرحلة التمدد التحصيلى كاملة وثرية، كلما كانت الأندفاعة قوية وآمنة ومثرية (وهذه القاعدة تقابل قانون ستارلنج بالنسبة لامتلاء بطين القلب حيث تتناسب قوة النبضة مع درجة امتلاء بطين القلب، فى حدود معينة)
والأمان الثانى هو المجال الذى تحدث فيه نبضة النمو (ولا أستطيع هنا أن أفصل هذا الأمر حاليا فما هى إلا مجرد عناصر..)
26- إن عمليات الإبداع الفنى هى نبضة إيجابية ولافية مركزة.
27- فى فترات الأستيعاب التمددى يتميز المخ إلى مستويات يحكمها المستوى الأعلى عادة وكأنه نقطة انبعاث Pacemarker مرحلية كما يتميز إلى حجرات وظيفية Compartmentsتتبادل فى العمل وتتعاون بطريق غير مباشر.
28- فى أثناء النبض المخى يعمل أكثر من مستوى كما ذكرنا ولكن المستويات،والحجرات، وقد تنجح، بقدر نجاح النبضة ككل، أى نجاح الأستعداد السابق لها فى التهيئة للولاف الأعلى كما ذكرنا.. ثم نجاح الولاف ذاته حسب المرحلة.
29- إذا استمر الولاف الأعلى فى التحقق والتزايد فى كل نبضة .. استمر المخ فى التصاعد فى مسيرة النمو الديالتيكى، واستمر السوك فى الاقتراب نحو الموضوعية حتى إذا عملت كل خلايا المخ معا فى تناسق ولافى دائم وصل المخ البشرى إلى قمة نضجه الذى يقابل التكامل (بلغة الإنسانيين فى علم النفس) أو الذى يقابل أعلى درجات الوعى الموضوعى عند هيجل، ولكن هذه المرحلة مرحلة نظرية لايمكن تصور الوصول إليها إلا فى خبرات إبداعية موقوتة، أو ما أسماه ماسلو أحيانا “خبرات القمة” فإذا قدر للإنسان – نظريا – أن يصل إليها دواما فقد نجح فى أن يطلق كل قدرات تركيب مخه الحالى، وعليه أن ينتظر تطورا فى تركيبه تفرضه عليه متغيرات البيئة المحيطة التى هى بدورها نتاج هذا العمل الفائق لهذا المخ الهائل بكفائاته المتعددة مما لا أستطيع مجرد تصوره حتى بخيالى، وإنما أذكر هذه المقولة استطرادا مع إيمانى التطورى الحتمى الذى أشرت إليه سابقا…
30- إن مسيرة النمو بصفة عامة تتبع نسقا متتاليا يتحقق باستمرار من واقع نبضات المخ، وهذا النسق يبدأ بالوجود الجزئى اللاترابطى وهو يقابل وظيفيا مرحلة اللاتميز، ثم ينتقل إلى مرحلة التجمع الأرتباطى ومنه إلى التميز الوظيفى ثم أخيرا إلى العودة إلى الولاف الأعلى حيث تثل الفروق حتى تنمحى بين الوظائف وبعضها.
ثالثا: السلوك المرضى والنمو:
أرى أنى مازلت ملتزما بوضع الخطوط العريضة التى توضح أبعاد فكرى دون تقصيل، وأعتذر – بلا فائدة – عما أشعر به تجاه حيرة القارئ معى وأنا أقفز به من رأس موضوع إلى مشروع فكرة ولكن هذه هى طبيعة هذا الكتيب “المقدمة” “الفهرس”.
وأرى أن بدون أن نشير إلى الأمراض النفسية وموقفها من هذا التنظير، فقد يجد القارئ صعوبة فى تقبل كل هذه الفروض التى قد تبدو لا فائدة عملية… وعلى هذا فإنى أطرح رؤيتى بالنسبة للأمراض النفسية على الوجه التالى:
(ملحوظة ابتدائية: قد يكون المرض النفسى نتيجة مباشرة لتلف أو خلل فى تركيب المخ مما ينتج عنه اضطراب فى وظيفتها وبالتالى نقص واختلال فيما يرتبط بها من سلوك ظاهرى وهذا النوع فى إجماله يسرى عليه قوانين الأمراض العصبية العضوية فى أغلب الأحوال، الأمر الذى يجعلنا ندعه جانبا فى هذا التقويم الموجز، وبالتالى فإن كل ماسيرد ذكره فيما بعد إنما يختص بما “هو غير ذلك” من أمراض، كذلك فإنه يستبعد “نقص العقل” كمجموعة، وهكذا أنطلق لأقول:
1- المرض النفسى مظهر لمضاعفات النمو (التطور)، وهو أساسا نتيجة لاختلال فى التوازن لعدم تناسق مستويات المخ أو حجراته بالنسبة لمرحلة دورته (الأندفاعة أو التمدد).
2- ” المرض النفسى حدث بيولوجى مندر، يشترك فيه الأستعداد الوراثى مع ضغوط البيئة (المجتمع) ويظهر كأعراض سلوكية نتيجة لاختلال توازن المخ، ويصاحبه أو يسببه أو ينتج عنه تغيرات كيميائية مختلفة”.
3- للمرض النفسى معنى وهدفا، إذ هو لغة محورة – وإن تكن عاجزة – تريد أن تعلن عن حاجة الإنسان لإطلاق مزيد من مكمون قدراته فى عملية بسط جديدة..
ولكن هذه الحاجة معوقة أو مشوهة، إو مهددة، وبالتالى فإن الغامرة بمحاولة تحقيقها، ينتج عنه آلام معجزة أو غير محتملة كما قد يؤدى إلى تفكك هروبى وفى النهاية إلى تدهور انسحابي.
4- يمكن أن يقسم المرض النفسى حسب التنظير السابق للنمو إلى المجموعات التالية:
1- أمراض هى مظهر فشل طور اندفاعه المخ Cephalic Systole واختلالها، وتشمل أغلب أنواع الأمراض الذهانية الحادة والنشطة والدورية (وأحيانا بعض أنواع الصراع).
2- أمراض هى مظهر فشل طور تمدد المخ Cephalic diastole وتشمل العصاب واضطرابات الشخصية وبعض أنواع حالات البارانويا المزمنة – وأغلبها يشمل إطالة الطور التمددى حتى التليف خوفا من نبضة تالية غير محسوبة.
3- أمراض هى إعلان تفكك مستويات المخ وبالتالى الكف عن الاندفاع الدورى والنمو وهى أمراض التدهور الفصامى (ويمكن أن يدرج هنا بعض الأمراض الناتجة عن التلف العضوى).
وهذا الفشل والتدهور إنما هما نتاج مباشر لتنسيق غير ملائم بين مستويات المخ نتيجة لوراثة (سلوك سابق) خلل فى طبيعة علاقاتها ببعضها، وبالتالى فى توزيع الطاقة وتوجيهها فيما بينها وكذلك هو نتاج للعمل المتناوب للمخ فى ظروف بيئية غير ملائمة، وأخيرا فهو نتاج لعجز الدور التمدى عن ملء المخ بما يفيده للنبضة التالية وعجز الدور الأندفاعى فى التوفيق بين المستويات وإطلاق القدرات فى تناسق تعاونى أو ولاف ديالكتيكى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش:
[1] – رغم أنى لم ألتزم بتحديد أى مرجع فى هذه المقدمة إلا أنى فضلت أن أورد المرجع الخاص بهذه الأرقام بضخامتها وغرابتها عن الأرقام المألوفة
Grenell R. & Gabay S 1976 Biological foundations of Psychiatry, Vol. I, Raven Press, N. Y. USA
[2] – انشغل بهذا الموضوع علماء التطور من أهمهم فون باير von Baer (1792 – 1861) ومن بعده ارنست هيكل Ernest Haeckel (1834-1919) واضع هذه النظرية المسماه أحيانا بالقانون الحيوى Biogenic law، وفى المرحلة الجنينة تحاول هذه النظرية أن تقابل بين البويضة بعد الأإخصاب وبين الأحياء أحادية الخلية، ثم حين تنقسم إلى عدد من الخلايا فى طور الجاسترولا Gastrula تقابل حيوان الجوفموى Coalentrata ثم تظهر بعد ذلك على الجنين صفات الأسماك وما يشبه الخياشم، ثم تتكون صفات الأأحياء الأصابعPantodacty ثم الثدييات Mamals ثم صفات الرئيسيات Primates ومنها الإنسان.
[3] – فضلت استعمال كلمة “اندفاع” بدلا من كلمة انقباض ترجمة لكلمة Systole حتى أفيد المعنى الذى عنيته فى المخ من أن المهم فى هذا الطور هو إطلاق المخزون الكامن اندفاعا، وليس انقباض المحتوى مثل الحال فى القلب رغم أن النتيجة فى الحالتين هى الاندفاع (القدرات الكامنة فى حالة المخ والدم فى حالة القلب).
[4] – فضلت استعمال كلمة “تمدد” بدلا من “انبساط” ترجمة لكلمة Diastole حتى لا تختلط الأخيرة مع استعمال كلمة “بسط” بمعنى Unfolding الذى يحدث مع اندفاعه المخ.
ثانيا: الأداة البشرية والممارسة الإكلينيكة
أشرت فى الجزء الأول إلى أنه لا مفر من أن تربط نتائج البحوث عندنا بالباحث نفسه: طبيعة تطوره وأنواع دفاعاته ومدى موضوعيته، وحين أضفت هذا الجزء الثانى وجدت أنه من المستحسن أن أنقل هنا بعض الملاحظات والصفات التى أوردتها بهدا الشأن فى التقديم الذى كتبته لأول كتاب فى هذه المكتبة العلمية عن الدراسة المقارنة لمرض الفصام للدكتور رفعت محفوظ، وذلك حتى أؤكد أن تحيزى للأسلوب الإكلينيكى فى البحث العلمى فى مجالنا هذا لا يعنى إطلاق العنان للآراء الشخصية دون ضابط أو ألتزام.
وقد كتبت تحت عنوان أداة البحث “الخبرة الإكلينيكية ومواصفات الطبيب”:
إن أعظم ماينبغى أن نؤكده هو دور الطبيب النفسى كأداة بحث قائمة بذاتها، حيث أنه باعتماده على خبرته الإكلينيكية كمصدر أساسى لحقائق هذا البحث اعتبره ضمنا “الأداة الموضوعية” الأولى فى تشخيص مرض ما.
وابتداء من هذه النقطة، فإنا لابد أن ندرك ضرورة شحذ هذه الأداة وإعدادها، فالطبيب بهذا الوضع له أبلغ الأثر فى الحكم على الظواهر وتقويمها وبالتالى فإن الأهتمام بشخصيته ومستوى تطوره ومدى حساسيته وأرضيته الثقافية له أبلغ الأثر فى البحث العلمى فى هذا المجال وفى خطوات تطور هذا العلم وثرائه …، ومن هذا المنطلق لابد أن نعيد النظر فى مدى الأهتمام الجاد بطريقة تدريب الطبيب النفسى وفى دراسة ظروف حياته ومساره ومدى تطوره الإنسانى ومدى تناسب درجة وعيه مع قدراته وواقعه ومدى قدراته على مواجهة داخله… حتى يقترب رويدا رويدا من درجة من الموضوعية تسمح له بأن يحتل هذا المركز المميز “كأداة قياس تصلح لأن يعتمد عليها بثقة كافية”.
على أن تأكيد أهمية الطبيب كأداة موضوعية للقياس هو تأكيد ضمنى لأهمية الخبرة الإكلينيكة باعتبار أن الأستجابات لهذا البحث (دراسة مقارنة لمرض الفصام) كانت من واقع مصدرين يكمل بعضهما بعضا ويؤثر بعضهما فى بعض.
المصدر الأول: صفات الطبيب الشخصية والعوامل الذاتية التى تتحكم فى حكمه على الأمور، والمصدر الثانى: خبرته الإكلينيكية، مداها وعمقها.
ولابد من الأشارة هنا إلى الطبيعة العلمية لنمو هذه الخبرة الإكلينيكية التى تتصف بها الممارسة الطبية العامة والطب النفسى بوجه خاص.
فالمقابلة الإكلينيكية هى فى حقيقتها سلسلة متصلة من الفروض الأولية يجرى تحقيقها أو تعديلها ثم يليها الفروض البديلة ثم الفروض التالية ثم الفروض الأعلى … وهكذا، ويتم هذا التسلسل فى صورة تلقائية محسوبة فى العقل البشرى بطريقة علمية أصيلة إذا ماكان التفكير سليما، وكانت خطوات المنطق العام هى السائدة، حيث التفكير المنطقى الناضج تفكير فرض مسلسل، أسماه “بياجيه” التفكير الفرضى الأستنتاجى Ilypothelico – deductive thinking ووصف به المرحلة الرابعة من التفكير واعتبره هو التفكير السليم منذ سن الثانية عشر ومابعدها.
إذا فالتفكير السليم فى ذاته هو تسلسل علمى حقيقى، وكل ما يمكن تقديمه لجعل التفكير “أكثر سلامة” هو إضافة حقيقية لهذه الأدوات الموضوعية (أى الطبيب هنا) اللازمة للبحث العلمى الإنسانى، ولنحاول أن نتدرج مع تسلسل مثل هذا التفكير لمقابلته بخطوات البحث العلمى المعروفة:
تبدأ المقابلة الأكلينيكية “بأنطباع ما” هو الفرض الأول، وهذا الأنطباع المبدئى الذى يفرض نفسه على الطبيب من “أول نظرة” هو الذى يتطور مع المقابلة حيث يثبت أو ينفى ويستبدل وهكذا، وهذا الأنطباع قائم سواء وعى به الطبيب أم تسلسل فى قاع وعيه، وعلى هذا الإنطباع العام وتطوره يبنى الحكم على كثير من الأعراض فى الأمراض النفسية عامة والفصام خاصة، ولعل المناقشة التى وردت فى هذا البحث عامة والفصام خاصة، ولعل المناقشة التى وردت فى هذا البحث بشأن التبلد العاطفى Apathy وانعدام التواصل Kack of rapqort وكذلك البرود Coldness إنما يتعلق بجانب من هذا الأنطباع العام ومايتطور إليه هذا القرض الأول من هذا الأنطباع العام ومايتطور إليه هذا الفرض الأول وما يطرأ على موقف الباحث تأكيدا ونفيا بعدا واقترابا، وبمراجعة مناقشة الباحث لهذه الأعراض فى احتلاف ترتيبها فى كل تسلسل ثم اختلافها عن بعضها إنمايتأكد لنا أهمية العامل الشخصى (الشعورى واللاشعوري) فى تحديد هذا الفرض الأول.
ولابد من الإشارة إلى الطابع العاطفى الذى يصبغ هذا الفرض الأول (أو الانطباع العام)، الذى تحدده ضمنا العوامل الشخصية والميكانزمات الدفاعية للفاحص، ومهما قال الفاحص عن نفسه من إمكانية حياده، ومهما نادى بضرورة هذا الحياد فإنه كأداة إنسانية لابد أن يعترف بدرجة ما من الذاتية فى أول الأمر وأن يسغى جاهدا للتقليل منها بالوعى المتزايد، من خلال النمو الذاتى، وبالخبرة المتزايدة من خلال مرور الزمن وطول الممارسة وتحقيق هذه الفروض البدائية أولا بأول والأستفادة من الصواب والخطأ فى كل آن، وكل من مارس الطب النفسى (أو الطب عامة) يعترف أنه إنما يتكون حدسه الإكلينيكى بالفشل أكثر مما يتكون بالنجاح، لأن الفشل يعيد تنطيم عقله ويقترب به من موضوعية أكبر; أما النجاح فقد يساهم أو لايساهم فى ذلك حسب الظروف التى يتم فيها … إذا فالشعور باستلطاف هذا المريض أو رفض ذاك المريض هو من صميم الخبرة الإكلينيكية فى مجالنا هذا، شريطة أن تكون نقطة بداية، ومعد هذا البحث بين يدينا قد أو فى هذه النقطة حقها.. وذكر أسباب الأختلاف من وجهة نظره ولم يحاول أن يتعمق فى درجة نضج الفاحص أو موضوعيته لأنه إنما كان يقيم نتائج محموعة بأكملها أكثر مما يتناول حالة خاصة، إذا لا محل فى الممارسة الإكلينيكية – ومن ثم فى البحث العلمى المتصل بها – من اعتبارات شبه أخلاقية أو شبه إنسانية حين نتصور أن الرقض أو الكره هو خطأ من جانب الطبيب وتقصير، بل بلاعكس إن الأعتراف الهادئ بهذه المشاهر الخاصة ينتهى لصالح المريض تشخيصا وعلاجا، لأن للرفض معنى كما للقبول معنى، وكلاهما يفيد فى الوصول إلى فهم أعمق ومن ثم إمكان مساعدة أصدق، أما إنكار هذا الأنطباع المبدئى ومحاولة التبرؤ منه فهو معوق لنمو الممارس داته، وبالتالى معطل لتحسينه كأداة موضوعية للبحث العلمي… وكأداة علاج.
ولعل شعور الممارس الإكلينيكى – فى فرعنا هذا – إذا تتبع نفسه وتطور هذا الشعور المبتدئى خلال عشرات السنين من الممارسة لوجد أن مشاعره من حيث التقبل والنفور تختلف من مرحلة إلى مرحلة حسب درجة تطوره وتغير قيمه، واتساع صدره، وإيجابية مشاركته …، وإذا حاولت أن أنقل خبرتى الشخصية التى هى ليست قاعدة بحال من الأحوال لابد أن أعترف أنى كنت فى بداية حياتى أستلطق الهوس الخفيف” و ” العصابى المتدحث” حيث كانت خفة ظل الأول تملؤنى مرحا “معه” وإنطلاق الثانى فى حكاياته وسرد مواقف طفولته ترضى حب استطلاعى، ومعلوماتى التحليلية (المختلطة مباشرة بالشائع عند العمة، وفى السينما إلخ)، ثم تطور قبولى إلى المريض المكتئب من نوع اكتئاب المواجهة الذى أسميتهconfrontation depression وازداد نفورى من المكتئب الطفيلى Parasytic depression، وكان موقفى من الفصام لا ترابط ولا علاقة مثلما هو مكتوب فى الكتب حتى أنى – مثل غيرى – كنت أشخص هذا المرض بهذا العجز عن التواصل Lack of Rapport ولكن بعد تطورى وفهمى لحقيقة المشكلة الوجودية البيولوجية من ورائه وفهمى للغة الأعراض أقول بعد هذا كله أصبح تقبل للمريض الفصامى تقبل الصديق العنيد، وأصبح التواصل معه قريبا إلى كيانى … بل ومثريا لوحدتى مباشرة، ثم راجعت نفسى فإذا بى لم أعد أطيق الهوسى خفيف الظل، وأخدت أحس بقسوة مرحه ووحدته الساحقة لمشاعر غيره، ولكنى إذا ما تعمقت معه ووصلت إلى ما يخفى وراء هذا المرح الداخلى من آلام قاسية وأكتئاب مر … تحملته واقتربت منه ثانية..
وفى المراحل المتأخرة من تطورى الإكلينيكى أصبحت أقبل على المريض ذى الشخصية المضطربة حتى من النوع المضاد للمجتمع أو اللزج … وكذلك الفصامى المتدهور … وحين أقول “أقبل” لا أعنى شفقة وإنما تقبلا وصبرا ومشاركة وحين كنت أقيم طلبتى كنت أتتبع مواقفهم واستقبالهم ومن خلال ذلك أستطيع أن أحدد درجة تطور كل منهم بشكل مبدئى عام…
إذا.. فهذا الأنطباع الأول يختلف باختلاف درجة تطور الطبيب، وكذلك يختلف باختلاف الحالة الوقتية لكل منهما.
أساسا يحدث بعد هذا الإنطباع أولا: المختلط بجوانب عاطفية فإنه هو ذاته ما يحدث بالنسبة لأى فرض علمى مبدئى:
يوضع الفرض المبدئى مكان التحقق، وتستمر المقابلة بالحصول على مزيد من المعلومات، ومتابعة مزيد من الملاحظات والقيام بعديد من الفحوص، وفى كل خطوة من هذه الخطوات يتأكد هذا الفرض التالى تلقائيا، أو برفض فيستبدل تلقائيا لتتدرج الخطوات حتى نصل إلى الأستنتاج الأول، ثم يكون مرور كل يوم بعد دلك، وإضافة كل معلومة هو السبيل لتحقيق هذا الاستنتاج أو إعادة النظر فيه.
وحتى يكون البحث العلمى مضبوطا ناجحا ومفيدا، فإنه لابد أن يبدأ بفروض مرنة… تظهر فعلا كفروض قابلة للتحقيق والتغيير معا لتصبح بالتالى قابلة للرفض أو التعديل، ولا يمكن أن يتم ذلك إلا بوجود بدائل واضحة منذ البداية أو بدائل جاهزة للخروج فور ضعف الأحتمال الأول، وعلى قدر علم الفاحص وإدراكه للبدائل المحتملة، وعلى قدر قدرته على المراجعة والتغير، يكون تقييم نموه كأداة بشرية سلبية فى الأتجاه السليم..
وعادة ما تكون هذه البدائل فى “أرضية” فكره (أو على هامش وعيه) تاركه البؤرة أو شكل الجشتالت للفرض للأول حتى يصل من ضعفه إلى حدة أقل من “الأرضية” يتبادل معها، فتقترب البدائل من بؤرة الوعى ويتنحى الفرض الأول إلى هامشه وهكذا…
ويسير الفحص الإكلينيكى مند بداية الأنطباع الأول لترجيح الشكل (الفرض المبدئى) على الأرضية (الفروض البديلة) لكنه لا يصر على ذلك ولا يفتعل له المواقف، وهنا يلتزم الفحص بأسلوب معين يسير به جوانب المواقف جميعه، فهو يضع لكل سؤال يسأله عدة أجوبة محتملة (يعى ذلك أو لايعيه: لا يهم … فهذه عملية تلقائية متصلة) وعلى حسب كل إجابة يتحدد موقف الفرض الأول ومايليه من فروض حسب مرحلة الفحص …،هكذا، وكلما زادت الخبرة كلما زاد وعى الفاحص بما يفعل، وأدرك أن أسئلته وملاحظاته إنما تتبنى دائما على مخزون ذاكرته، وطبيعة موقفه من نفسه ومن المريض، وهكذا يقترب رويدا رويدا من الأعتراف بأنه يتوقع دائما أجوبة بداتها، فى نفس الوقت الذى يتدرب على قبول إجابات مخالفة أو إجابات لم يتوقعها أصلا لتعديل مسار فكره (زى ترتيب خطوات بحثه العلمي) وبهذه الطريقة تصبح كل حالة فى ذاتها بحثا قائما بذاته تزيد من قدرة هذه الأداة البشرية وتحسن من مستوى أدائها، وتؤكد هذا البحث فيما يعد خطوات التتبع والعلاج ودرساة النتائج المترتبة على الأستنتاج الأولى من الفحص المبدئى.
فكم بحثا علميا يقوم بع الطبيب الممارس يوميا؟
وما أثر هذه الأبحاث العلمية على تكوينه الشخصى، وعلى تحسين أدائه وترجيح موضوعيته ؟
وهل يمكن أن توجد وسيلة – أو وسائل – لمساعدة الممارس الإكلينيكى فى أن تكون نتائج أبحاثه اليومية وسيلة فى تغيير نوع وجوده هو ذاته بحيث تصبح خبرته جزءا من كيانه وبابا لتوسيع دائرة وعيه وبالتالى لتطور ذاته وعلمه معا ؟
ومادام هذا البحث الذى بين أيدينا – وأمثاله – قد أعطى الممارس ذا الخبرة التى حدددها بفترة معينة ودرجات علمية خاصة، قد أعطاه هذه القيمة فى ذاتها… وأثبت أنه مصدره أساسى فى الحكم على الظواهر فهل ينبهنا هذا إلى مزيد من العناية المدروسة بهذه الأداة البشرية التى لا غنى عنها فى مجالنا هذا؟
وكأن درجة الخبرة التى أشترطها الباحث هنا، هى فى حقيقتها إعلان عن طريقته فى أنتقاء الأداة البشرية ذات الكفاءة الخاصة (تحددها هنا حتما عدد الأبحاث الإكلينيكية التى قام بها أعنى عدد الحالات التى فحصها بجد ومسؤلية، والتى نمى حدسه الإكلينيكى من خلالها) وكأن الباحث فى بحثه هذا قد اعتمد حتما – ولو بطريق غير مباشر – على آلاف الأبحاث اليومية التى ترسبت فى أعماق أداته البشرية يوما بعد يوم خلال المدة التى أشترطها لخبرة هذه الأداة، غير أن الباحث فى نفس الوقت قد عرض أسئلة تتعلق بظواهر طرفية (الأعراض) دون الغوص إلى مركز الإضطراب، إلا أنه قد اعتمد فى اختيار أداته على كيان متكامل إذ اعتمد على تلقائية الابحث ككل دون إبداء أسباب ترجيحه هذا الفرض على ذلك، وكأنه كان يقيس ظاهرة طرفية بأداة مركزية كلية وبذلك كان ألم بأطراف المشكلة من نواح متعددة وبضربة واحدة.
وأخيرا، فلعلى أطلت فى هذه النقطة أكثر مما ينبغى، إلا أنى أحببت أن أعيد للفحص الإكلينيكى قيمته من خلال تحليل الأداة التى أستعملها الباحث فى بحثه، وأردت فى نفس الوقت أن أعلن مسئوليتنا عن كفاءة الأداة التى ينبغى أن نضع لها مواصفات خاصة مثلما نضع لأى أداة أخرى، وهذه المواصفات فى الطبيب النفسى والعمل على تحقيقها أثناء تدريبه، هى التى تسمح لنا بالأرتكان إليها والأعتماد عليها بأمان علمى وربما كان هذا دافعا للباحثين فى المستقبل فى اختيارهم لهذه “الأدوات البشرية” أن يضعوا مواصفات بذاتها – إلى جانب الخبرة – تجعل نتائج بحثهم أكثر اتساقا وبالتالى أقرب إلى الحقيقة….، ولاينبغى أن نخاف ابتدأ من السؤال الذى يمكن أن يطرح نفسه فى صوت عال ألا وهو: ولكن “من الذى يحكم على من؟”وهو سؤال حساس دائما، إلا أن أى باحث يتصدى للبحث العلمى لن يستطيع بحال أن يعفى نفسه من مسئولية الحكم المستمر على الأداة التى يستعملها وعلى الأداء الذى يجرى به بحثه، وإنما هو يستعين بتنظيم منهجى ومقاييس تفصيلية لتحسين قدرته على الحكم على الظواهر، لا لكى تقوم بهذا الحكم فهو فى النهاية صاحب الرأى وصاحب المسئولية معا لأنه صاحب الحكم، ولعلى أقدم تصورى للمواصفات التى تجعل هذه الأداة البشرية (الطبيب النفسي) فى أحسن أحوالها فيما يلى:
1- أن يكون الطبيب ملما بالأسس العامة لفرع تخصصه من مصادرها المتاحة، وبصفة متجددة، على أن يكون موقفه من اطلاعه موقف القارئ الخلاق، لا المتلقى فى استسلام، حتى إذا ماحاول باستمرار أن يختبر إمكانية تطبيق ماقرأ أو تعلم كان أمامه سبيل للمراحعة، وهكذا يمكن باستمرار التقريب بين ماهو نظرى وماهو عملى، وكذلك بين ماهو مثالى وماهو ممكن من خلال هذا الموقف الذى يشمل التهديد المستمر بالإحباط، ومن ثم الألم الشخصى، لابد وأن يضع فى اعتباره احتمال تغيير ذاتى مستمر… وقد يعنف أحيانا.
2- أن يكون على أطلاع متوسط بنبذة من العلوم الأساسية التى تكون الأرضية الثقافية لعصره من تاريخ وفلسفة واجتماع وغيرها مما يمثل الأصول النظرية لماهية الإنسان وطبيعة وجوده حيث أن هذه الأرضية تؤثر بطريق مباشر على المريض، وعلى الطبيب على حد سواء ومن ثم على العلاقة بينهما، وعلى الأنطباع الأول وتسلسل الفروض للوصول إلى تقويم سليم.
3- أن يكون مسايرا للأحداث اليومية، بمعنى أن يكون ملما بما يجرى فى الحياة الأجتماعية والسياسية والأقتصادية من حوله ومايصاحبها من تغيرات فى الأفراد والجماعات، بادئا بالبلد الذى يعيش فيه، وأن يتخذ موقفا واعيا من هذه الأحداث حتى لايإثر موقفه هذا دون أن يشعر على مريضه، فإذا كان لابد من تأثير وتأثر – فلابد أن يكون فى مجال الوعى تحت الضوء ما أمكن، وعلى أن هذه المتابعة اليومية – وفى ظل سرعة الإتصالات العالمية – لابد وأن تتعدى حدود وطنه ليساير من موقفه الواعى كل التحركات فى العالم التى تؤثر ضمنا على نوعية وجوده ووجود مريضه، ولعل هيجل كان يعنى هذا البعد حين أشار إلى أن قراءة الصحف اليومية لإنسان العصر.
4- أن تكون حياته الشخصية على درجة من الأستقرار، لا بمعنى الثبات والجمود، ولكنى بمعنى الوعى ووضوح المسيرة فى حركة هادئة ما أمكن نحو مزيد من الإيجابية والمسئولية، فاتحا باب المراجعة المستمرة والقدرة على تغيير مفاهيمه، وفى الوضع الراهن لممارسة الطب النفسى فإن يتصل تأثير “الحياة الشخصية” على الممارسة المهنية أمر مشكوك فى إمكانية حدوثه فى الوعى أو فى اللاوعي.
5- أن يكون متابعا لمسيرة الأتجاهات المختلفة فى فرعه.
6- أن يكون واعيا للتغيرات التى يمكن أن تطرأ على فكره وعواطفه بمرور المزمن- من خلال ممارسته لمهنته وحياته، لتجعلها تتم – قد الإمكان – بإختيار وإدراك ومسئولية.
7- أن تكون له رؤية للحياة، ورأى فى تفاصيل مسيرتها ليتخد من هذا وذاك موقفا فى الوجود … بترجمة إلى فعل يومى بسيط ما أمكن.
8- أن يكون مستعدا للتغير من خلال الاحتكاك المستمر، وبخاصة من رؤية مرضاه وتفحصهم، حتى ممارسته هى ثروته الحقيقية ودافعه لمزيد من التغير نحو الموضوعية.
9- ألا يكتفى باتساع دائرة وعيه بمعنى شحذ بصيرته تلك بمراجعة آرائه إزاء فعله اليومى، وفى مجتمعه الصغير، وفى ممارسته المهنية.
10- أن يدرك ضرورة معايشة “وحدته” الخاصة فى شجاعة، مع إدراك حاجته للآخرين وطريقته فى إشباع هذه الحاجة دهابا وإيابا بوعى وإرادة من نفس إليهم وبالعكس.
وقد اضطررت إلى وضع هذه المواصفات التى تبدو بعيدة عن التحقيق كواقع حالى، إلا أنها ينبغى أن تكون فى ذهن الباحث الذى يتخد من الطبيب أداة بحثه، ولا شك أن تحقيقها فى شكلها المطلق غير الواقعى، ولكن بقدر اقتراب الأداة البشرية من هذه المواصفات بقدر اعتمادنا على حكمها الموضوعى، وهى تمثل أى أداة…. لا ينبغى أن نتطلب فيها كفاءة مطلقة ولكن علينا أن نقترب دائما من درجات أكبر وأكبر من الكفاءة وأن نقيم نتأئجنا حسب درجة كفاءة الآداة المتاحة.
ثالثا: الطب النفسى المصرى
والطب النفسى التطورى
أشرت فى حديثى عن مصادر الخطوط العريضة لفكرى النظرى ومدى ارتباطى بنظرية التطور، الأمر الذى جعلنى أتصور كثيرا أن ما أمارسة وأؤمن به هو ما يمكن أن يسمس “الطب النفسى التطورى” Evolutionary Psychological Medicine، ذلك لأن رؤيتى لما أعتقد نظريا وما أمارس عمليا هى رؤية تؤكد دور الطبيب النفسى كعامل مساعد أو معوق لمسيرة التطور من واقع ممارسة خاصة لمداواة المرض النفسى الذى لا أراه إلا من مضاعفات هذه العملية البيولوجية الخطيرة- التطور الحيوى- والتى يتميز الانسان عن سائر الحيوانات بالوعى بها، ويشتد وعيه بها بشكل عنيف أثناء اندفاعة المخ بغض النظر عن نتجيتها إن سلبا أو إيجابا.
وقد قدرت من واقع ممارستى أن النجاح فى هذه العملية لا يزيد عن واحد فى كل ألف من البشر فى أحسن الظروف الملائمة، رغم أن نسبة يبددون فى المحاولة لدرجة ظهور سلوك مميز لنتاجها هم عشرة فى كل ألف لكن الفشل يحدث فى 9 من كل ألف، وهى نفس النسبة الشائعة لمرض الفصام، وقد وصل إلى نفس هذا الانطباع كثيرون غيرى من بينهم برناردشو مثلا….، وبديهى أنى لم أدرج المضاعفات الأخرى غير الفصام وهى كثيرة بشكل مزعج ولا مجال لمناقشاتها هنا .. سواء كانت مضاعفات تسمى بأسماء أمراض نفسية أم مضاعفات تندرج تحت الاغتراب اللامبالى فى الحياة العادية…
هذا بالنسبة لاندفاعات المخ التناوبية المعلنة ولكن الاندفاعات المخففة والخفية تقع فى إطار ما قدمت سابقا ويتضاءل عنفها حتى تقتصر على النوم واليقظة فى أغلب الحالات.
ولكنى وجدت نفسى مؤمن أشد الإيمان برؤية محلية تماما لدرجة دعتنى إلى التساؤل عن إمكانية وجود ما يسمى بالطب النفسى المصرى؟
ولما كان هذا الكتيب هو رسم خطوط عامة لموقفى فقد أردت أن أختمة بإثارة هذه القضية…
وأنا لا أرى أى تناقض بين الالتزام بفكر تطورى تقاس الوحدة الزمنية فيه بعشرات الآلاف من السنيين وتتعدى طبيعة شموله حدود الوطن بل الوجود البشرى، وبين الالتزام الم بتأكد إمكانية حياة علمية صادقة فى مصرنا، تسهم فى بناء حضارة إنسانية أصيلة تتعدى الحدود… ولكنها تحيى مجدنا الحضارى الأصيل وتتخطاه بخطى العصر العملاقة.
لهذا فإنى أقتطف هذا الجزء الخاص بما يسمى مناقشة ” مصرية” فرعنا هذا من نفس المقدمة التى اقتطفت منها الفقرة السابقة لأتمم بذلك هذا الكتيب الفهرس بما يؤدى الهدف منه على حد تقديري.
ولكن قبل أن أبدأ فى مناقشة هذه القضية، أحب أن أوضح نقطة جانبية بالنسبة لتفاصيل هذه الفقرة، ولكنها جوهرية بالنسبة لتحديد مكان الموضوع الذى أتحدث عنه بين العلوم، إذ لابد من تحديد مفهوم العلم ابتداء حتى لا يختلط الأمر فى تحديد موقع الطب النفسى وهل هو حرفة أم فن أم علم أو هو كل ذلك، فهو “علم” بالتعريف الذى ارتضيته وأوضحته “العلم” حين تصورت أن موقفنا لن ينصلح أبدا إلا بإعادة النظر فى تعريف العلم بشجاعة تناسب خطى العصر العملاقة…
فعندى أن العلم هو: ” وسيلة معرفية لتوسيع المدارك والوعى يغلب عليها استعمال النسق الفرضى الاستنتاجى، وعادجة ما تكون معطياته قابله للاختيار ولكنها ليست بالضرورة قابلة للإعادة، وهذه الوسيلة تشمل جمع المعلومات بنسق ملتزم كما تشمل إعادة تنسيقها، والعمليتان مرتبطتان ارتباطا مباشرا بدرجة موضوعية وعى القائم بهما. وتتحقق المعلومات وتتصاعد الفروض فى هذا السبيل بعدة وسائل تشمل إعادة التجريب، واختيار التطبيقف، وتقييم الإفادة فى تحقيق مداها والوصول إلى غايتها، ودرجة تناسقها مع المعارف الموضوعية الأخرى وكذلك مدى صلابتها أمام اختبار الزمن “.
وهذا التعريف رغم ما به من إطالة هو الوحيد فى تقديرى القادر على استيعاب الطب النفسي-العلم-وكذلك بعض التفكير الفلسفى وأغلب العلوم البحتة فى إطار واحد دون إلزام بوضع بعض عمالقة فى جدران معمل مبطن برصاص الخوف وسهام والتشكيك.
وعلمنا إذا هو علم-بهذا العريف، ومن هذا المنطلق تحدد أبعد ما نتحدث عنه، سواء تحدثنا عن ارتباط ممارستة المحلية بمصريتنا ضرورة، أو تحدثنا عن إسهامه- سلبا أو إيجابا- فى مسيرة التطور البيولوجية بالمفهوم البيولوجى التطورى الشامل.
أما جانبه الفنى والحرفى فأتركه الآن مرحليا.
ثم أبدأ بطرح السؤال: وهل يمكن يوجد ما يسمى الطب النفسى المصرى ؟ وهل يمكن أن نتكلم- إلى حد ما -الآن أو مستقبلا عنه كما نتكلم عن الطب النفسى الإنجليزى، والطب النفسى الفرنسي…الخ؟
ولعل هذا السؤال يرجعنا إلى قضية أساسية وهى الخاصة بعالمية العلم فى مقابل وطنيته أو محليته، فالعلم بصفته أحد أوجه الحقيقة ومظهر من مظاهر المعرفة إنما تشير إلى مقولات عامة ليس لها وطن ولا صاحب إلا الحقيقة ذاتها، إلا أنى مع الرأى الذى يتجه إلى الاهتمام بالشكل مثل الاهتمام بالجوهر، فالعلم فى النهاية شكل من أشكال الحقيقة، وهذا الشكل لابد وأن يتأثر بالأرض التى يظهر عليها والإنسان الذى يعبر عنه، وإن لم يغير هذا من جوهره، ولا يمكن فى مرحلة تطور الإنسان الحالى أن يقفز العلم فجأة ليستغنى بصفاته العالمية عن أشكاله المحلية، فتعميق الاختلاف إذا بين الصور التى يظهر بها هنا وهناك هو الخطوة الأساسية نحو السعى إلى درجة من الاتفاق تتزايد كلما تحسنت وسائلنا وصدقت فى التعبير عن الجوهر أو عن الحقيقة، وبهذه الصور المحددة رغم احتمال اختلافها يكون التعاون بين الناس ( العلماء ) فى كل مكان نابع من مجموع إيجابيات اختلافاتهم النوعية سواء الحالية أو التاريخية وبالتالى فإن ما يمكن أن يضيفة الإنسان ( العالم) المصرى إلى المعرفة هو نابع من وجوده الخاص المتميز، ولكنه يصب فى وعاء العلم عامة وبلا خصوصية أو تميز … فإذا صح هذا فى كافة العلوم فإنه يصح بوجه خاص فى علمنا هذا، حيث أن مشكلته تتعلق بالوجود البشرى ونوعيته فى الصحة والمرض وذلك تحت مختلف التأثيرات: البيئية والحضارية والوراثية والكيميائية … الخ، ذلك الوجود الذى هو التعبير الكلى أعضاء الإنسان وأعقدها.
وللإجابة على السؤال الذى طرحته فى أول هذه الفقرة أستطيع القول أن هذا البحث يضيف تأكيدا الى الإجابة المحتملة عندى فيقرر … ” أنه يمكن- بل ينبغى- أن نبدأ الحديث عن (الطب النفسى المصرى)، وأن نبحث فى دوره الممكن لإثراء هذا الفرع العظيم من الطب، وأن نحدد معالمه حتى نبدأ الحوار الخلاق مع البيئات الأخرى: تبادلا للمعرفة وتنويرا لمختلف زواياها” ولعله يجدر بى أن أذكر هنا طرفا من حوار جرىء مع زائر أجنبى هو الأستاذ الدكتور إ. فيلر تورى Fuller Torrey E. ( المساعد الخاص لمدير الخدمات الدولية للمؤسسات الأمريكية فى مجال الصحة العقلية ) وذلك عقب محاضرة ألقاها فى الجمعية المصرية للطب النفسى عام 1971 حيث قال بالحرف ” … إن المطلوب من الأطباء النفسيين فى مصر هو أن يقدموا ملامح الخبرة المصرية التى قد تضيف جديدا إلى الثورة القادمة فى الطب النفسى، وبالتالى فإنهم قد يسهمون فى تخطى القصور البادى فى هذا العلم كما يمارس فى الغرب” . ولعلنا نعترف ابتداء أن علم الطب النفسي- بتطبيقاته الحالية- ما زال علما قاصرا، سواء فى مجال دوره العلاجى أو فى الإسهام بدور وقائى، أو فى التنوير إلى دور ارتقائى، وقد لبس ثوبا فضفاضا فى بعض مجالات أحيانا، كما أنكروا دوره تماما فى مجالات أخرى، وهو لهذا وغيره يمر بأزمة عالمية -أرجو أن تكون صحية- كان من بعض مظاهرها ما ظهر فى صورة حركات المقاومة التى سميت “بالحركة المناهضة للطب النفسى”Auti-Psychiatry Movement والتى يقودها فى انجلترا لانج وكوبر وفى الولايات المتحدة زاس وفى إيطاليال بازاجليا … الخ والتى لاقت رواجا بين عامة الناس وبين شباب الأطباء النفسيين بدرجة تجعل مواجهتها ومراجعة أسبابها ضرورة ملحة، وعلينا إزاء ذلك ونحن لم نتورط فى فرط النماء الذى أصبح معوقا لهذا الفرع، علينا أن ندرك تصورفرعنا هذا بوضعة الحالى، ثم نحاول، من موقعنا أيضا- أن نعثر على ” ولاف” Synthesis بين المتصارعين، وذلك بأن تصبح لنا شخصيتنا المستقلة عن كلا الفريقين، وبأن نستفيد من إيجابيات كل فريق وأن نتخطى سلبياتهم ليتأكد فى النهاية دور الطب النفسى فى العلاج والوقاية وتطور المجتمع والإنسان بصفة عامة.إذا… فالدور الذى ينتظر الطب النفسى المصرى ( كنموذج لنشاط الدول النامية ذات التاريخ الحضارى الخاص) دور قد يسهم إسهاما أصيلا فى مسيرة هذا الفرع عامة … ومن ثم فى مسيرة حضارة الإنسان …، وفى تصورى أن علينا أن نبدأ دون تردد فى أخذ هذه المسئولية بصورة جدية لتنطلق قدراتنا على قدر جهدنا المتواضع ومن واقع أصالتنا الفعلية.
ولعلى لا أكتفى لإثبات هذه الأصالة بالرجوع إلى التاريخ القديم وذكر الأمراض التى وردت أشكالها وعلالجها هند قدماء المصريين مثل الهستيريا والصرع، ولا إلى التاريخ المتوسط حين أصبح تاريخنا جزاء من تاريخ الأمة العربية المتوسط حين أصبح تاريخنا جزاء من تاريخ الأمة العربية والإسلامية لنستشهد بأصالة رواد عظام مثل ابن سينا والرازى فى تأكيد الدور الرائد، ولكنى ألجأ إلى التاريخ القريب لنلتقى نظرة عابرة على بعض محتويات كتاب صغيرة ( 192 صفحة) كان يدرس لطلبة مدرسة الطب قبل أن يصبح التعليم فيها باللغة الإنجليزية فى عام 1898، وهو كتاب ” أسلوب الطبيب فى فن المجاذيب” تأليف الدكتور سليمان نجاتى مدرس الأمراض العقلية بمستشفى القصر العينى، وقد صدر سنة 1309 هجرية ( الموافق 1896 ميلادية ) وما نكاد نعرف محتواه ودوره المتواضع حتى ندرك حقيقتين:
الأولى: أن هذا الفرع كان موضع اهتمام فى تدريس الطب وأعداد الطبيب العادى، لا يكاد يحظى بمثله حاليا وبعد ما يقرب من مائة عام.
والثانية: أن بعض ما ورد فى هذا الكتاب ( الصادر حول إعلان كريبلين سنه 1896) عن مرض الجنون المبكر، ( ” الفصام ” فيما بعد ) هو سبق علمى يعد اكتشافة حاليا بكل الوسائل الحديثجة، ولعله من المفيد أن أعراض فى هذه المجالة أمثلة موضحة لهذا السبق العلمى حتى لو كان مجرد تجميع للمعلومات السائدة فى حينه باللغة العربية لتدريسها فى مدرسة الطب المصرية، يقول هذا الكتاب فى الصفحة الحادية عشر:
” إن المخ متجانس التركيب، فكل جزء من أجزائه متمتع بمجموع خصوصيات الكل ومن ذلك يتأتى العويض الوظيفى بين عناصره … هذا رأى بعضهم …”
( لا حظ توافق هذا الرأى مع أحدث ما قال به لاشلى فى طريقة حفظ المعلومات فى مخزن الذاكرة…، ومع نموذج الهو لوجرام والفونوجرام لتوضيح هذه العمومية لكل جزء بذاته).
ثم يستطرد لعرض الرأى الآخر عن فلورنس معارضا آراء جال صاحب نظرية الفرينولوجيا التى تشير إلى علاقة الشكل الظاهرى للدماغ وعظام الجمجمة النفسية والطباع يقول:
”.. غير أنه لا يقول بأن المخ متجانس التركيب، بل هو يذهب إلى أن للمخ وظائف نوعية ووظائف عامة فبجانب الفعل الخاص Action Propre لكل جزء من أجزاء المخ، يجمع هذه الأجزاء فعل مشترك Action Commune”.
(لا حظ وجه الشبه بين هذا النقاش العلمى ومحتواه وبين ما تجرى به الآن الدراسات لمحاولة اكتشاف تعدد مستويات المخ، وتعدد حالات الذات Ego States مع احتمال وجود فعل عام ونقطة انبعاث خاصة Pace maker فى كل مرحلة وكل شكل من أشكال الوجود ( المدارس من ” ساندور رادو” إلى ” إريك بيرن”)
ثم يبلغ قمة الحدس العلمى حين يشير إلى الازدواج بين نصفى المخ، وتخلخل الارتباط بينهما فى حالات بينهما فى حالات الأمراض العقلية حيث يقول ص 13:
” … والفرق بين نصفى المخ اليسارى واليمينى يفسر الهلوسة بأنواعها، وحالة الازدواج الشخصى ” ( ولقد أشار بيير جابيه، وبرجسون بعد ذلك إلى مثل هذا الاحتمال ثم ظهرت تفسيرات فسيولوجية نفسية تؤكد تميز عمل نصفى المخ .
ويلاحظ أن الدكتور سليمان نجاتى ذكر الازدواج الشخصى وصف بلويلر الفصام أن يصف على أنه انشطار فعلا،… وهو من واقع تعبيره، لا يعنى الازدواج الهستيرى بقدر ما يعنى الانفصام الأمر الذى يشغل كل المشتغلين حاليا بدراسة الأسس الفسيولوجية لهذا المرض.
ثم إن الدراسات المستفيضة الحديثة عن عمل نصفى المخ، وتأكيدا ازدواجيته، ودورها فى الإبداع الفنى عبر الجسم المندمل، ثم عن مسئوليتة عدم التوافق بينهما أو طغيان أحدهما على الآخر إنما تشير جميعا إلى خطورة هذه الأشارة الصادقة التى وردت فى هذا الكتاب المكصرى المتواضع مما يعبر سبقا لا يمكن إنكاره.
فلو أن هذا الطبيب المصرى تلكأ فى وضع هذا الكتاب أو إبداء هذا الرأى لأضاع سبقا هاما فى محاولة فهم عمل المخ بشكل ما…
وقد أطلت فى هذا الاستطراد لأشير أولا أننا لا نبدأ من فراغ حتى بالنسبة للماضى القريب، وأشير ثانيا إلى ضرورة تسجيل الفكر حتى لو كان رؤية عامة غير مثبتة وأنما هو حدس إكلينيكى ينتظر الإثبات بعد حين …، وبهذا نندفع خطوة أخرى نحو انتفاضة تزيل الشعور بالنقص، وتؤكد أن هذه البداية التى يعتبر هذا البحث الذى أقدمة خطوة أخرى فى طريقها هى بداية لازمة وغير متعجلة عنهم، وليس نقل كتاب ” طب الركة ” الذى ألفة الطبيب عبد الرحمن إسماعيل سنة 1883، وترجمه إلى الإنجليزية جون ووكر عام 1934 ثم نقل عنه ليس هذا الحدث ببعيد وهنا أحب أن ألفت النظر إلى أن موقفنا بين الدول المسماة بالنامية قد يجعل النظرة إلينا نظرة “مقلدين بالضرورة ” وبالتالى لا نحتاج إلا إلى التوجية مثلما ورد مثلا فى المقال المنشور فى المجلة البريطانية للأمراض النفسية ( عدد يونيو 1976 المجلد الثامن والعشرين بعد المائة ص 513-522 جبيل، وهادنج ) حيث ذكر الأولويات المتعلقة بالصحة العقلية فى الدول النامية بطريقة سطحية لم تصل إلى احتمال إمكانيات هذه الدول أصالة وإثراه بل جعل يقيس هذه الأوليات بنفس التقاسيم والمشاكل الشائعة فى الغرب، علما بأن مجرد السير فى نفس الطريق لن يزيد الهوة بيننا وبينهم إلا اتساعا كما أنه قد يحرمهم من الأصالة والتلقائية المحتملة الظهور فى دول ذات تاريخ خاص رغم تخلفها الحالى مثل مصر .
ثم أوجز الحقائق التى أدرت عرضها بين يدى القارىء حتى هذه المرحلة، تذكرة وتحديدا:
أولا: أننا لسنا أقل من غيرنا فكرا وأصالة .
ثانيا: أن أى جهد مصرى أصيل، أو فكر مصرى مبتكر ينبغى أن يسجل للعلم والتاريخ، وسوف تيأتى اليوم الذى يثبت فيه أو ينفى، ولا يوجد مبرر تاريخى أو واقعى يجعل شعورنا بالنقص أو التبعية يكبل فكرنا ويعوق النشر لدينا.
ثالثا: أن الترجمة من ” العربية احتمال قائم، وعلى من يريد أن ينطلق ابتكارا ” بلسان الأم ” ألا ينتظر، فإن الفكر الأصيل كلما ازداد أصالة كلما ارتبط بالوجدان الأصلى المتعلق بنشأة اللغة، وبالتالى كان التعبير بلسان الأم أكثر صدقا إذا كان الابتكار والأصالة مطروحين كظواهر ضرورية لنمونا وتقدمنا، وفى مثل هذا قمت بمحاولة خاصة لأقدم فرعا من أصعب فروع علمنا وهو ” علم السيكوباثولوجى ” نظما بالعربية لأثبت أن لغتنا ليست قادرة على الامساك بزمام العلوم فحسب بل إنها قادرة على صياغتها فى شكل فنى أصيل كذلك.
رابعا: أن مناجز التاريخ وحدها لن تبرر وجودنا، ولكن جهدنا الحاضر الملتزم هو المحسوب لنا أو علينا . على أنه ينبغى أن نقرر هنا أن المحاولات المصرية بدأت – فى فرعنا- جادة فى الآونة الأخيرة مما يشجع أن نذكر هنا بعضا منها
أولا: المؤلفات والأبحاث والنظريات المصرية فى الطب النفسى
ظهور فى مجال البحث العلمى، والتأليف فى الطب النفسى[1] فى مصر أبحاثا عديدة دارت حول شكل الأعراض، أو الأمراض فى البيئة المصرية، وامتدت إلى دراسة الأسرة لبعض أنواع المرض، وكان من بين هذه الدراسات محاولات منشئة وابتكارية تؤكد أصالة الفكر المصرى فى هذا المجال.
ولابد أن نتذكر ابتداء رائدين كانا مسئولين عن تكوين المعالم الأولى لشخصية الطبيب النفسى فى مصر - كل فى مجاله- وأعنى أستاذنا مجمد كامل الخولى فى مجال وزارة الصحة وأستاذنا عبد العزيز عسكر على مستوى الجامعات، فإن أى فضل بعدهما لا بد وأن يرجع بطريقة ما إليهما.
أما بالنسبة للمكتبة العربية فإن انتظام ظهور العدد العلمى للمجلة المصرية للصحة العقلية سنويا منذ سنه 1971 يعتبر حدثا يستحق التسجيل والتنويه، وخاصة بالنسبة لمثابرة الأتساذ الدكتور عمر شاهين، كما تلقت المكتبة العربية كتبا عديدة بالعربية مثل كتاب الأستاذ الدكتور أحمد عكاشة عن الطب النفسى المعاصر ( آخر طبعاته 1976) وكتاب الأستاذ الدكتور عمر شاهين وشخصى عن مباديء الأمراض النفسية ( آخر طبعاته سنة 1977) وقد أورد الأول بعض نسب تواتر الأمراض فى البيئة المصرية كما نقل أغلب ما استحدث فى هذا الفرع إلى العربية فطاوعتة اللغة وأثبتت جدارتها، أما كتاب الأستاذ شاهين نمشتركا معى، فقد كان محاولة سابقة مختصرة وضع أصلا لمستوى دراسى أقل من الجمعة ( مدارس التمريض) ولكنه تميز بشمول حالات محلية واصحة المعالم . الأمر الذى تكرر فى كتابنا بالإنجليزية ( ألف باء الطب النفسى (1971) (A.B. C. of Psychiatry) حيث أوردنا الحالات فى جزء من عرضها باللغة رغم أن الكتاب بالأنجليزية، وكان هذا فى ذاته تأكيدا لما أحاول إيضاحة هنا فى هذه المقدمة فلم يكن ورود الأعراض والشكوى بالعربيةج لمجرد الإيضاح أو الاستسهال حيث أكدنا فى المقدمة أن المريض إنما يمرض ” بالعربية “، ولا بد أن ننقل عنه أولا بالعربية، ثم نحاول بعد ذلك أن نترجم ما يقول، ولكن هذا الكتاب بالذات كان بداية محاولة خاصة نحو رؤية مصرية أصيلة فهو أولا قد قدم تقسيما جديدا لمجموعة من التشخيصات تحت ما أسماه الحالات ” الوسط “Intermadiate dissorders حيث أدرج أغلب اضطرابات الشخصية مع بعض ” الحالات المتبقية عقب انطفاء حدة الذهان، وكذلك بعض الحالات الذهانية المجهضة، فسبق وراكب بذلك الفكر العالمى فى الإشارة إلى النظرة الجديدة لاضطرابات الشخصية كمكافئات للذهان عامة والفصام خاصة، كما اقتحم نفس الكتاب مجال السير كوبثولوجيا حيث قدم تفسيرا للفصام على أساس أن يكون الاضطراب الأساسى هو فشل رموز اللغة فى أداء وظيفتها الاجتماعية ( قارن أريتى فيما بعد فى كتاب ” تفسير الفصام”).
كذلك وضع كاتب هذه السطور نظريتين جديدتين إحداهما عن مستويات الصحة النفسية على طريق التطور الفردى آملا أن يفيد فى أعادة تقسيم الأمراض النفسية بشكل غائى، والأخرى عن تحرير المرأة وتطور الانسان آملا أن يكون لها أثر تطبيى فى العلاج النفسى بوجة خاص، وبديهى أن هذه الأمثلة هى فروض عاملة تقترب من النظرية فى تواضع على أن المتتبع لحركة تطور علمنا هذا ( الطب النفسى ) والعلوم المتصلة به يعلم تمام العلم أننا ما زلنا- فى أغلب مجالات معرفتنا فى مرحلة الفروض العاملة- حتاى بالنسبة لآراء سيجموند فرويد فى التحليل النفسى رغم الانتشار والاستمرار عبر عشرات السنين إلا أنها تصل فى أى وقت إلى درجة اليقين كنظرية ثابتة أو قانون .
ثانيا: كتيب تشخيص الأمراض النفسية للجمعية المصرية للطب النفسى:
إن تأسيس الجمعية المصرية للطب النفسى فى ذاته لم يكن مجرد تجمع لفرع من فروع الجمعية الطبيةج المصرية بل كان فى الواقع بحثا إلى الاستقلال من ناحية، وسعيا إلى تأكيد الشخصية المصرية تمهيدا لما يمكن من تعاون عالمى فيما بعد، وفى محاولة رائدة قامت هذه الجمعية بوضع تقسيم للأمراض النفسية فى البيئة المصرية مستندة أساسا إلى تقسيم العالمى الثامن للأمراض ICD. 8 مع الرجوع إلى التقسيم الأمريكى الثانى لعام 1967 وكذلك التقسيم لعام 1969 وأخيرا المصادر المحلية المستقاة من الكتب المحلية السابق الإشارة إليها ومن الخبرة المحلية، وبعد اجتماعات متكررة اشترك فيها ممثلون للهيئات الطبية النفسية من كل اتجاه فى اللجنة العلمية للجمعية الطبية المصرية صدرت طبعة مبدئية سنة 1972 ظلت تحت التجربة حتى عام 1975 حيث صدر الكتيب فى صورته النهائية باعتباره أول كتيب لتقسيم الأمراض النفسية ( على قدر علمى ) يصدر مستقلا من البلاد النامية، علما بأن هذه المحولة وإن تمت فى بعض الدول المتقدمة مثل الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا فإن دولا أخرى على نفس درجة التقدم مثل المملكة المتحدة لم تغامر بها حيث استمر كل مركز خاص متبعا تقليده الخاص فى الشخصيات وإن لجأت بعض المراكز البريطانية إلى اتباع التقسيم العالمى دون تبديل.
وقد تميز التقسيم المصرى باتباع التقليد العالمى أساسا (رغم استقلال رموزه مع وضع الرموز العالمية المقابلة) ثم بإضافة ما ارتاى من المصادر سالفة الذكر، وما زال الأمل معقودا عليه فى تحقيق لغة مشتركة لرسم الخطوط العامة للشخصية الذاتية للخبرة المصرية، مع فتح باب التطور الهاديء المدروس لما ورد فى هذا الكتيب الأول -( ربما كل عشرات سنوات أسوة بنفس الفترة التى يعد فيها نشر التقسيم العالمى للأمراض تحت رعاية الهيئة الصحية العالمية).
وقد أقر المؤتمر العربى الثانى للصحة النفسية المنعقد فى القاهرة عام 1975 هذا الكتيب كأساس للتقسيم العربى للأمراض النفسية.
وفى الحقيقة أن اقتراح عمل هذا الكتيب كان نابعا من فكر الأستاذ الدكتور عبد العزيز عسكر أساسا…وتم تحت رعايته وبإصراره .
وليس هنا مجال تعداد ما ترتب على ظهور هذا التقسيم المستقل من تحديد لمعالم شخصيتنا ولا هو مجال ذكر الترحيب الذى لقيه فى مجال عالمية، خلاصة القول أننا نعيش، وأن علمنا بالذات يغرى بأن نعيش مستقلين تنمتعاونين فى آن .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش:
[1] – لا تشمل هذه الأشارة للجهد الفائق المخلص لزملائنا علماء النفس كما أن مام أورده هنا هو مجرد أكثلة وليس حصراً
خــاتمــة
لابد أن أقرر وأنا أختم هذه الفكرة المطولة- أى هذه المقدمة- أنى أدين بالشكر لمن أتاح لى هذه الفرصة: وهم تلاميذى عامة، والدكتور رفعت محفوظ، والدكتور عماد حمدى خاصة، فالأول هو الذى أشار بإخراجها ” هكذا ” كما هى، والثانى هو صاحب البحث الأصلى فى العلاج الجمعى الذى كانت هذه المقدمة خاصة به أساسا.
وأجدنى بعد ذلك فى موقف الذى ظل يلهث عدوا إلى هذف ما، وما إن استقر به المقام حتى جلس يتلفت حوله يرى أين هو مما كان يعدو تجاهه لاهثا، أو يتصوره آملا، فجعلت أراجع ما قدمت، أحاول تحديده من خلال إعادة النظر فية والتفكير فيما انتهيت إليه.
ولقد وجدت أمانة أن خير ما أنهى به هذا الكتيب المقدمة هو أن أخاطب نفسى بصوت مقروء لأعداد ما خطر ببالى إزاء هذا العمل فور انتهائى منه، حتى ولو كان فى ذلك بعض التكرار.
أولا: لقد أتاحت لى هذه المقدمة أن أرسم الخطوط العامة لمسيرة فكرى، وأن أحدد فى جلاء -لم أكن واثقا من وضوحه إلى هذه الدرجة- موقفى ورأيى، من طبيعة ممارستى لهذه المهنة: الطب النفسى، وحقيقة موقفى فى هذا العلم: الأمراض النفسية، وأخيرا (وأولا) من طبيعة موقفى فى الحياة، ولعل أول من نبهنى إلى اختلاط هذا بذاك هو تلميذى الدكتور عماد حمدى حين كنت أناقشة فى أى الكتب أبدأ كتابته إذا حان الحين، فاقترح أن أكتب نظرتي- أو نظريتي- فى الحياة، وقد كدت أفعلها، إلا أنى وجدت أنى بذلك أبدأ فى غير مجالى، حيث تصورت أنى لو فعلتها لوجدت نفسى فى لجة الفلسفة لا محالة، ونحن لانجرؤ بعد على الفلسفة، وكل علاقتنا ” المسموح ” بها هى أن نعلم ما هى، أما أن نمارسها- كما ذكرت- فدون ذلك الجنون أو النبذ لا محالة..، ولكنى وجدت نفسى بعد هذه المقدمة قد ألمحت لموقفى هذه من الحياة … بل وصرحت به فى أكثر من موقعي.
ثانيا: لقد أرستنى هذه المقدمة أخيرا على اللغة التى انتهيت إلى تفضيل الحديث بها هى ” لغة العلم” بالتعريف الذى أشرت إليه (ص 257).
ولابد هنا أن أشير إلى محاولاتى السابقة للحديث بلغة الفن مرة وبلغة الحرفة مرات، أما اللغة الأخيرة فهى لغة لا تسجل كتابة وأنما تمارس صناعة، والنجاح فيها يتوقف على عدد المستفدين منها: مرضى وصبيانا ( طلبة)، وأعترف أنى نجحت بهذا المقياس، إلا أن هذا النجاح قاصر على عدد المتصلين بى مباشرة -مرضى كانوا أو تلاميذ -وأغلب الظن أنه الا هؤلاء ولا أولئك استطاعوا أن يستوعبوا رؤيتى الممتدة، ومعاناتى المخترقة.
أما لغة الفن فلى معها جدل طويل لا يكاد ينتهى إلا ليبدأ، فقد طرقت باب الفن بأكثر من لغة، وكلما انطلق هذا اللسان كبلته وعوقته، وكلما رسمت صورة فنية ألحقتها بشرح يكاد يشوهها تشويها، حتى حاولت أن أحقق ولافا أسميتة ” الفن العلمي” إلا أنى تيقنت أنها خطوة رغم ملامح نجاحها إلا أنها سابقة لأوانها، وقد أعلن هذا الصراع فى أكثر من موضوع فيما كتبت، فقد أعلن هذا الصراع فى أكثر من موضوع فيما كتبت، فقد جاء فى مقدمة روايتى الطويلة ” المشى على الصراط، أنى كتبت الفصول لاأربعة الأخيرة من الجزء الثانيقسرا “… وضد مقاومة هائلة من داخلى، لأنى أحسست وأنا أنتهى منها أنى أودع الفنان فى … بعد أن عجز عن أن يخرج عملا فنيا، خالصا حيث ظل مكبلا دائما بالالتزامات العلمية والنظريات ” ثم كتبت فى نهاية نفس المقدمةج أعلن أن لجوئى للأسلوب الفنى لم يكن إلا رغبة فى التواصل الحر الأصدق بعد أن عجز قالب العلم ( كما كنت أتصوره حينذاك) أن يحتوينى … كما عجزت رموزه المحددة أن تواصل بينى وبين الناس … فقد قلت بالحرف الواحد”… وهكذا خرجت إليكم أطرق بابكم الخلفى … بعد أن حال عجز العلماء بوسائلهم الحالية أن أصل إليكم مباشرة”
إذا فقد تصورت أن التماسى لغة الفن ما هو إلا هرب من القيود شبه العلمية التى تخايلت لى حينذاك… والتى لو رضخت لها لشوهت الحقيقة الحقيقة التى رأيتها فى داخل وداخلهم، ويبدو أن هذا الهرب كان ملحا وعنيفا معلنا رفضى لأى قيد معطل يهدد بطمس الحقيقة … فكتبت ما أردت -أيضا- نظما ونثرا بالعامية والعربية…
دون تردد، إلا أنى كما أشرت ألحقت أغلبها “بشرح على المتن” ( كله علم فى علم) … ليلعن استسلامى فى النهاية إلى سيطرة لغة العلم على كيانى..
وقد جاءت هذه المقدمة لتؤكد هذا الترجيح بلا منافس، وقد ثبت هذا أكثر وأكثر إذ أفرجت عن هذا الكتيب المقدمة ليصل إلى أيدى الناس أولا … رغم أنه قد تم طبع أعمالى الفنية جميعا قبله، دون أن أجرؤ بعد أن تنزل إلى الناس .. ربما ليقينى أنها ليست لغتى الأصلية… رغم أنها تحوى نبضى الحى مباشرة[1].
ثالثا: رغم رجحان كفة لغة العلم عندى من خلال هذه المقدمة، ورغم إتاحة الفرصة لإعادة تعريف العلم بما يجعلة أكثر رحابة وأشمل نفعا، حتى ليحتوى الفلسفة دون تردد، فإنها قد صالحتنى فى نفس الوقت على “ضرورة الفن ” فى مرحلة تطور الإنسان المعاصر، فقد مرت على فترة كنت أحسب أن الفن معوق لمسيرة التطور إذا كان تفريغا للطاقة ومسهلا للانشقاق والاغتراب عن مسئولية الفعل الثوريفى اللحظة الراهنة، إلى أنى حين تأملت صعوبة الهدف الولافى الأعلى وطول الطريق إليه، وكذلك حين عجزت عن التواصل بتلك اللغة ” العلمية الفنية” بالدرجة التى كنت آملها .. وإلى النتيجة التى كنت أتوقعها … أخذت أراجع نفسى حتى اهتديت إلى ” ضرورة الفن ” ( حتى ما يسمى منه الفن للفن، أو الفن غير الهادف) … لأنه يؤكد عجز الإنسان عن القفزة المستقيمة .. إذ يؤكد ضرورة المسيرة المتأنية اللولبية الولافية المتصاعدة .. وأخذت أتبين فى الفن الدور الموقظ والمثير للجانب الآخر من وجودنا … ثم أتبين أكثر أنه يحافظ على هذا الجانب دون الاندثار حتى يحين الأوان لإفراغه فى نبضة ثائرة تطفر بالمسيرة إلى خطوة أعمق وأكثر أصالة. وبألفاظ أخرى أقول إن تأكدى من ترجيح لغة العلم بالنسبة لقدراتى ودورى الحالى، وقد سمح لى بإعادة النظر فى احترام لغة الفن دون تخدير أو أغماء، ولكنى مازلت أحلم بالأمل الذى يقترب فيه الفن من العلم تعبيرا وتلقيا.. حق نتجنب مزيدا من الاغتراب ; وكأن وضوح اللغة العلمية التى العلمية التى اخترتها قد أوضح ضمنا البديل الذى عجزت عن مواصلة الحديث به
رابعا: وافق ظهور هذه المقدمة أننا نعيش فى وطننا الصبور هذا أحداثا تتعلق بمستقبلنا فى مختلف المجالات تعلقا مباشرا، ومن خلال بداية مؤلمة جديدة[2] تنبع من أرض الواقع دون تأجيل كمواطن فى مجاله… حفزنى ذلك ضمنا أن تصدر أسارع بالاستجابة لرغبة الدكتور رفعت محفوظ فى أن تصدر هذه المقدمة فورا كبداية ملزمة …، وزاد يقينى أثناءئ اندفاعتى هذه من أن اللحاق بركب الحضارة لن يأتى بالعمل السياسى الصارخ ( فحسب )، أو بإصلاح المسار الاقتصادى ( أو إعلان ذلك )، أو حتى بتأمين اللقمة للجميع، ولكنه سيأتى حتما من الشعور بالتحدى تإذ نواجه موقف الحياة والموت فردا وشعبا، ثم بالإقدام من خلال ذلك على “شجاعة التفكير ” كخطوة أولى نحو ” شجاعة التغيير ” وتيقنت أن استسلامنا للشعور بالنقص .. أو بالأمل فى الاسترخاء الرفاهى .. ما هو إلا حفر لقبورنا بأيدينلا -والكل يحسب أن شجاعة التفكير هى أن نحل المشاكل القائمة حلا سعيدا ملائما ولكنى حين أخذت أتصفح ما سطرت بعد أن وصلت إلى هنا لاهثا .. تمنيت أن تصل ما أعنيه وأعانيه إلى من يهمه الأمر وهم ناسى .. ولكنى بالرغم من كل شيء داخلنى اطمئنان خاص على مدى رؤيتنا مهما بدا الحطام جاثما على كل شيء … رغم علمى حدسا وحسابات بما يدبر لنا من قبل العدو حالا، ومن قبل المنافس مستقبلا، ومن قبل أشباه الأصدقاء دائما، من إحباط وتمييع، وما يجددونه لدورنا كأتباع يحسنون التقليد، أقول بالرغم من كل ذلك فإن الذى سيبقى، ولينظر كل منا ومنهم إلى مدى رؤيته .. وإلى وقع خطواته فى نفس الوقت .. وحتى ولو كان ” الذى يرى ” منا قليل .. إلا أنه يرى بعيدا بعيدا .. والكسب للأكثر صبرا ومثابرة وإصرارا.
خامسا: واجهت متألما صعوبة النشر وضرورته فى آن واحد وتيقنت أنه بغير إمكانيات النشر على مسئولية صاحب الفكر الجديد ومن خلال جهده الشخصى فلا أمل فى تسجيل شيى ..، ولا أستطرد فى سرد خبرتى مع ” لجان القراءة ” أو ” دور التجارة والنشر ” .. ولكنى أقول أن الصعوبات المحلية صعوبات مقدور عليها بجهد خاص عنيف، أما ما يهمنى أكثر فهى الصعوبات العالمية والتنافس غير المتكافيء مع أفكار موازية .. أو دون ذلك، ولا تأستطيع أن أكتم غيظى حين أرى كثيرا من الكتب المصقولة تملأ الرفوف والأدراج فى كل مكان ولا تحوى -فى علمنا مثلا- إلا تكرار كل ما هو سطحى أجوف، فإذا انتقلت إلى الأفكار الإبداعية الأصيلة مثل فكر سليفا أريتى الموازى لفكرى من ناحية ارتباطه المباشر بالتطور .. وقارنت الفرص المتاحة لى كدت أنحط مشزمرا حتى لأكاد أيأس.، وإنى إذا أعترف لأريتى العظيم بالفضل على وعلى الناس .. أعلن بلا تردد سبقى له فى أكثر من رأى، يشهد على ذلك بعض زملائى وتلاميذى، وأنه قام بنشرها بعد أن كنت أقوم بتدريسها لبضعة سنوات (وسأرجح لهذه النقطة بعد قليل)، ولكنى أعترف أنه ما أستطاع أن ينشر آراأه الأخيرة بشجاعة المبدع إلا بعد أن أتقن اللغة السائدة تماما، ووصل عن طريق ذلك لأن يصبح المؤلف الأول لأشهر كتاب فى الطب النفسى فى الولايات المتحدة American Handbook of Psychiatry وبعد ذلك سمح لنفسه أن يقول ما رأى من واقع نفسه وخبرته الإكلينيكية دون تقيد بالأسلوب الشائع.. حتى إذا وصل به الأمر فى كتابه الأخير ” إرادة أن تكون إنسانا” The will to he human أن يعلن أنه إنما يتقمص النبى يونس عليه السلام… لم يجرؤ أحد على اتهامه بتخطى مرحلة السواء، وإذا مجد فى نفس الكتاب البابا جون الثالث والعشرين كبطل ومبدع ثائر مغوار لأنه أعلن وثيقة تبرئة اليهود ( الحاليين ) من دم المسيح عليه السلام .. لم يقل أحد عنه أنه متحيز أو متعصب ..، ولقد أوردت هذا الاستطراد المطول لأعلن من خلاله فضل النشر المنتظم الصبور باللغة السائدة ليسمح بالنهاية للغة الجديدة أن تسمع، وأعود فأقول أنى حين أخذت أتصفح ما جاء فى هذه المقدمة وأتخيل الشفاه الممطوطة والحواجب المرتفعة تجاه نفس الشيء الذى إذا قال به فلان أو علان عبر البحار رفعت له القبعات وانحنت الرؤؤس بسبب عوامل لا ناقة لى فيها ولا جمل .. كنت أمتلى غيظا وإصرارا معا وأتأكد من مسئوليتى المضاعفة المتصاعدة تجاه الالتزام بشجاعة التفكير، والحفاظ عليه، وتسجيله، ونشره، ومحاولة توصيله، وتعليم من يعيه من نشء جديدة، ومواصلة تنميته، وضمان استمرار إمكانيات انتشاره، كل ذلك من خلال نبذ كل تردد معوق وكل شعور بالتقمص معجز، وكل أوهام شبه مثالية مكبلة، ثم انطلاق مثابرة لتغزل نسيج ثوبنا الحضارى المنافس بلا مغزل إلا إصرارنا بلا حدود.
سادسا: تعلمت أن مثل هذه المقدمة … قد يكون عملا قائما بذاته (قارن - دون تشبيه- مقدمة ابن خلدون ومقدمة – المحاضرات التمهيدية – فى التحليل النفسى)، لأنها قد تكون أهم وأخطر مما يليها، فهى إعلان بداية للجديد.. وإلزام ضمنى بما يليه.
سابعا: تيقنت أن تسجيل كل شيء هو واجب أساسى لأى مفكر يريد أن يستمر، وفضل الكتابة على الحضارة لا ينكر، ولا بد من أن نزن المخاوف من تقديس الكلمة المطبوعة حتى الإعاقة فى مقابل ضرورة توصيل الأمانة لضمان استمرار المسيرة، ومنذ تأكدت من هذه الحقيقة انطلقت أسجل كل شيء .. كتابة أو صوتا .. وليكن بعد ذلك ما يكون .
ثامنا: تأكدت من الغرض الذى افترضته قبلا، وألمحت إليه ضمنا، وهو أن أى فكر “أصيل” ( بمعنى الكلمة ) لا يخرج إلا بلغة الأم، إلا أذا كانت اللغة الأخرى قد تغلغلت حتى ما ثلث لغة الأم، وقد زدت إصرار على أن احتمال النقل من العربية هو احتمال قائم فى مجال العلم .. كما قام فعلا فى مجال الفن ( الروائى خاصة ) ولست أذهب بعيدا لأقول أن التدريس فى فرعنا بلغة غير لغة الأم قد يكون مقصودا به إعاقة التفكير الإبداعى كافة .. فلست ممن يرحبون بتبرير عجزنا بأوهام الاضطهاد الاستعمارى والمؤامرات الصهيونية .. الخ، ولكنى أيضا لا أستبعد أن يكون استسلامنا للاستمرار فى هذا الاغتراب اللغوى .. ما هو إلا خوف من مخاطر إطلاق طاقاتنا الإبداعية .. وما يترتب عليها من تغير متطور خلاق يزعزج القديم من جذوره.
تاسعا: خطر ببالى ما قرأته ذات يوم من كثيرا من الأفكار الأصيلةالجديدة لا تدل إلا على عدم إلمام صاحبها بما سبق نشره، وتعجبت لهذه الكلمة الشجاعة.، وقبلت صحتها إلى حد بعيد، ولكنى عدت أقول أن إعادة اكتشاف نفس الحقيقة فى مكان آخر، وبلغة أخرى، ومن موقع آخر، له ميزتان على الأقل: الأولى: أنه يؤكد الحقيقة الأولى وربما يوضحها ويثبتها. والثانية: أنه يدل على أن التفكير اللاحق له نفس الترتيب والأصالة التى سبق بها التفكير الأول .. على الأقل.
ولكنى أرجع إلى النظر فى هذا الاحتمال من خلال ما قدمت فأجدنى كما ذكرت قد سبقت إلى كثيرا مما بدأ فى الظهور منذ أوائل هذا العقد، ويعرف ذلك عنى طلبتى، ثم أجد كثيرا مما أدرس وأرى ما زال لم يطرق فيما وصل إلى من جديد، وكنت باديء الأمر أثور لنفسى ولحرمانى من حق السبق .. ولكن موقفى *تغير رويدا حتى عدت أفرح به لأنه أصبح يطمئنى أننى أفكر فى الاتجاه العصرى المتناسق وأصل إلى نتائج يصل إليها غيرى من طريق آخر .. وكان لذلك فضل آخر هو أنه يكسر وحدتى ويخفف غربتى .. ولكن هذا لم يمنع الغيظ أن يتملكنى حين كان ما أقوله يقابل بالرفض والاستصغار ابتداء، وحتى إذا جاءنال بعد شهور أو سنين عبر البحار بحروف لا تينية قويل بالترحيب والبشاشة .. وأذكر على سبيل المثال فكرتى عن نقط الانبعاثPace Maker فى المخ التى قال بجأء منها بعد إعلانى لها بعامين سيلفا نوأريتى أيضا، وهنا أحب أن أشير إلى التقاء فكرينا رغم تصورى لقصوره عن مواجهة العلاج العضوى الفيزيائى والكيميائى وموقعة فى الكل ” المعرفى الغائي” الذى ينادى به تفسيرا لنمو المخ واضطرابه معا، وأنا لا أدعى تفوقا خاصا فى هذا المجال ولكنى أقرر حقيقة مرحلية لن تتضح إلا فيما سوف أفصل فيما بعد ..، خلاصة القول أن هذا الموضوع تحول عندى من قضية: “من الذى قال ماذا؟” أو “من قالها قبل من ؟ ” إلى قضية الئتناس بالفكر الإنسانى المشابه أو الموازى، والاإسهام فى إيضاح بعض التفاصيل من زو رؤية مختلفة .. فإن مجرد معرفة أن ثمة حقيقة يعاد النظر إليها بنفس الشجاعة المغامرة وأن غيرك ممن له قدره يصل إلى رؤيه قريبة مما وصلت إليها أو مكملة لها أو سابقة عليها .. أقول إن هذا وحده مكسب لم يعد يعدله حرص على إسمى – رغم أنه حق إنسان متواضع ما زلت أعيشة وأسعى إليه ليؤكد معالمى الذاتية..
بل إنى أطمئن من خلال هذا التطابق الفكرى حتى ولو لحقتنى وألغى سبقي.. وأعمم الأمر حتى لأكاد أصل إلى يقين: أننا رغم تخلفنا بضعف إمكانياتنا، قادرون على أن نفكر، وعلى أن نصل إلى نتائج أصيلة، وإلى نظريات جديدة، وأنه بمجرد تمتعنا بشرف البشرية أمكننا – رغم ظروفنا – أن نمارس حقنا فى الإبداع .. ومن ثم فى الإسهام الحضارى، وأن كانت ضعف وسائل النشر حاليا قد منعت أن يكون لنا السبق مقترنا بأسمائنا، فهذا لا يعنى أن نحرم أنفسنا من حق الفخر بفكرنا حتى لو لم ينشر لأن الشاهد على ذلك هو على أقل القليل أنفسنا نحن وضمائرنا.
وتأتى هذه المقدمة بكل ماحملت من رؤوس مواضيع لتحدد بعض مالم يسبق إليه. فتطئمننى وتدفعنى إلى تسجيل بعض ما رأيت فى حينه، وبالتالى إلى إعطاء بعض الحق لأهله ولو فى أضيق نطاق ممكن، فهى تعلن بألفاظ أخرى: أنه فى المرحلة التالية، ونحن مضروبون – وبحق – فى إمكانية ريادتنا الفكرية، ونحن متخلفون لاهثون وراء السابقين أو عاجزون خلفهم.. أقول فى هذه المرحلة لابد أن نعترف بهذه الإعاقة سواء فى التفكير أو فى النشر والتوصيل..، ولكن لابد أن نعرف أيضا أن التفكير المغامر الشجاع هو حقنا، وهو شرفنا وهو أملنا فى أن نلحق بالركب… أو حتى أن نتخطاه إذا استمر ذلك الركب فى غروره أو مضاعفة اغترابه، وحتى يتم ذلك فلا مجال لليأس، ولا مبرر للتوقف، ولا فائدة فى المبالغة فى الشعور بالنقص، ولا منفذ إلا بالمغامرة، المسئولة على أرض الواقع،
عاشرا: أدركت من خلال هذه المقدمة أن ينبغى على أن أعلن التزاما بمواصلة الطريق، وفى ذلك فإنى أستطيع الجزم بأنه سيلحقها مجموعتان من الأعمال واجبة النشر.
الأولى: ما يتعلق بالأبحاث الجارية والأفكار السائدة باللغة التقليدية، وأقرب مثال لذلك الأبحاث الإكلينيكية التى نجريها على مرض الفصام، وفى العلاج الجمعى مثلما سبق الإشارة إليه فى هذه المقدمة، غير أن ما أعنيه هو أن تجمع هذه الأبحاث – بما تحوى من جديد فى الوسيلة والمحتوى معا – فى كتب منشورة على مستوى أعم، وتضم هذه المجموعة أيضا بعض الأفكار الخاصة باقترحات تقليدية تتعلق بإعادة تنظيم الجارى باللغة السائدة أيضا. وفائدة هذه المرحلة بالإضافة إلى ماتحويه من ملاحظات واستنتاجات فى ذاتها أن تمهد الطريق لأن يسمع بعد ذلك ما يرد فى المرحلة التالية.
الثانية: وتشمل الأعمال والأفكار التى تحوى الجديد الأصيل فيما يتعلق بعلمنا وما إليه من علوم، وهى المرحلة المغامرة المتحدية التى هى فى النهاية اختبار مباشر لأحقيتنا فى حياة إنسانية كريمة ندية لمنافسينا وأقراننا من بنى البشر… أو تخلينا عن هذا الحق بما يستتبعه من مضاعفات لا نملك إلا إن ندفع ثمنها صاغرين.
الحادى عشر: وأخيرا .. فلعلى وأنا أختمخ تفكيرى بصوت مقروء أن أقرر أنى على يقين من أن هذه الفروض التى وردت فى هده المقدمة لن يتحقق بعضها أو أقلها فى حياتى، وكما كان الفضل فى ظهورها ولو فى هذه العجالة راجع لتلاميذى أساسا، فإن العبء سيقع عليهم لا محالة بالنسبة للتحقيق والتطبيق والرفض والتعديل…
غير أنى لابد أن أعترف بضعف ثقتى فى ثورة الشباب لو يكتفون بالصياح والرفض والأمل، وأعلن أن أملى الحقيقى هو فى الشباب الذى يحافظ على شبابه مهما تمر الأيام.. أو بتجديد أدق أقول إن أملى فى “شيوخ الباحثين الشباب”، فالبحث العلمى الحق هو الذى يحافظ على شباب صاحبه أبدا، لأنه يشمل القدرة على تحمل مفاجآت النتائج وعلى التغير من خلالها دائما… وكل ما أوصى به تلاميذى ألا يفرحوا بثورة الشباب أكثر مما ينبغى حتى لا يستسلموا لصعوبة الواقع فيما بعد متى كابدوا ألم الضرورة وإحباط العصر.
أما الفروض الأخرى التى لا يحققها إلا الزمن .. فليس لى إلا أن أسأل التاريخ الشهادة.
وبعـد
فهأنذا: مشروع متحرك فى أكثر من اتجاه، أحاول أن أتحقق بأكثر من أسلوب، وأحيانا أجد أن فى حركتى هذه مايدل على أصالة الحياة عنفها فى وجدان الناس الذى أنتمى إليهم .. هولاء المصريين المرتبطين بالأرض والخلود..، وأحيانا أشك فى إمكان أن يكون لكل هذا التفجر والتفجير فرصة فى التجمع فى نبضة ذات فعالية مناسبة.
ولكنى أنتهى إلى أن أنام شاكرا لهذا الذى أخترع تلك الرموز التى نكتب بها أفكارنا هذه على مثل هذا الورق، لعل فيما نفعله الآن ما يجد سبيله إلى أصحابه فى وقت ما، بشكل ما، .. بفضل هذا الأختراع الرائع “الكتابة” … وبالتالى فإنى أشعر إن أهم ماجاء فى هذا الكتيب بالنسبة لى هو “رقم الإيداع بدار الكتب”
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش
[1] – لعل مثل هذا التخوف هو ما دعى الأستاذ الدكتور “جان ديلاى” مكتشف عقار اللارجا كتيل “رائد الطب النفسى الفرنسى أم يكتب أعماله الورائية الفنية باسم مستعار طول الوقت”.
[2] – إشارة إلى مخاطرة السلام وتحدياته