- الإهداء والمقدمة
- الفصل الأول
أسباب الأمراض النفسية
- الفصل الثانى
تركيب الشخصية
- الفصل الثالث
الأساليب الدفاعية
- الفصل الرابع
الأعراض
- الفصل الخامس
الأمراض النفسية الوظيفية
- الفصل السادس
اضطرابات الشخصية والطباع
- الفصل السابع
أمراض الهوس والاكتئاب
- الفصل الثامن
الفصام
- الفصل التاسع
حالات البارانويا
- الفصل العاشر
النقص العقلى
- الفصل الحادى عشر
الصرع
- الفصل الثانى عشر
الأمراض النفسية والعقلية العضوية والسمية
- الفصل الثالث عشر
الأمراض النفسية عند المسنين والأطفال
- الفصل الرابع عشر
الاضطرابات النفسية الفسيولوجية
- الفصل الخامس عشر
الأسس العامة للعلاج
- المراجع العربية
والقراءات المقترحة
مبادىء الأمراض النفسية
أ.د. عمر شاهين أ.د. يحيى الرخاوى
سنة 1977
الإهــداء
”إلى …. رائد الطب النفسى فى الوطن العربى.
”إلى الذى استبدل شرف الجهاد، فى سبيل رسالة وفكرة، بالطريق السهل المأمون.
”إلى الذى كافح طويلا فى قوة وتصميم، من أجل تقرير المفهوم العلمى السليم لرسالة الطب النفسى…..
”إلى أستاذنا الكبير عبد العزيز عسكر، نهدى هذه الشمعة، على الطريق الذى مهده بعزم وصبر”.
مقدمة الطبعة الأولى
لو أمعنا النظر فى العلوم الحديثة عامة، والعلوم الطبية على وجه الخصوص، لراعنا طول الفترة التى استمر فيها علم الأمراض النفسية رازحا تحت ظروف قاهرة، لم تمنع نموه وانتشاره فحسب، بل شوهت طبيعته ومفهومه جميعا. وأن كان ذلك كذلك فى كافة أنحاء الدنيا فهو أظهر ما يكون فى الجمهورية العربية المتحدة وما يدور معها من بلاد عربية وإفريقية ذلك أن أمره قد وسد لغير أهله فخاض فيه من خاض ونال منه من نال واختلط الحابل بالنابل.. حتى عجز المواطن العادى أن يتبين الغث من الثمين فإذا طاف به طائف من ذلك المرض تخبط فى حيرة انتهت به – إلا فى القليل – إلى أيد غير أمينة.
وقد كان أهم الأسباب التى أدت إلى تكرار هذه المأساة – حتى أصبحت تمثل خطرا حقيقيا على المجتمع كافة بكل طاقاته المنتجة – أن أصحاب الأمر قد انصرفوا عنه فتركوه نهبا لكل طامع، ومستباحا لكل مستغل. ذلك أن أصحاب الشأن – أسرة الطب – لم تعن بذلك الفرع من الطب العناية اللائقة.
وقد بذلنا غاية الجهد فى السعى إلى تطوير الدراسة الطبية فى فرع الأمراض النفسية حتى نخرج جيلا من الأطباء يدرك حقيقة واجبه الإنسانى فى تخفيف آلام البشر ويدرك كائنا ما كان العضو الذى يتصادف له فحصه – أن يعامل إنسانا لا مجموعة أعضاء، وأن ذلك الإنسان يتكون من نفس وجسد، يتفاعلان فى بيئة تحنو حينا وتقسو أحيانا، ولكن صيحتنا تلك لم تجد الأذن الصاغية، فلم تنل حظها من التقدير، وضاع صداها فى وديان الركود والإهمال.
ولم يكن ذلك المستغرب أو غير المتوقع. فإننا منذ آلينا على أنفسنا خوض هذا الميدان المستحدث ونحن نعلم أى صعوبات تحف بمسيرنا وأى معوقات تملأ طريقنا، تلك الصعوبات والعوائق التى يقابل بها كل جديد فضلا عن مفهوم شامل متطور لتناول الإنسان المريض.. هو للثورة أقرب منه للتطوير أن التعديل، نقول عدنا على أثر ما نالنا من خيبة أمل – موقتة – فى هذا السبيل نطرق أبوابا أخرى مؤمنين أننا لا بد أن نلج إحداها تلو الأخرى ما أدمنا القرع لها. ولقد لقينا – والعجب يأخذ منا كل مأخذ – فى مدارس التمريض اهتماما وتقديرا افتقرنا إليه فى كليات الطب ودراسة الطب، فكان لهذا العلم – المفترى عليه – حظا كبيرا ومجالا خطيرا لم ينل بعضه حيث كان ينبغى أن يناله.
ولم نتوان عن انتهاز الفرصة، وبذل غاية الجهد نحو القيام بواجبنا فى تدريس هذا العلم فى صورة بسيطة واضحة، وأن كانت دقيقة شاملة لا تمثل عبئا منفرا يثقل كاهل طالبة التمريض.
وإنه لمن المؤسف أن تعلم الممرضة فى الأمراض النفسية أكبر وأشمل مما يعلمه الطبيب الممارس أو الاخصائى فى فرع آخر – فضلا عما تدرسه جادة من مباديء علم النفس ثم تمريض الأمراض النفسية الذى أضفناه إلى عملنا هذا بنفس الطريقة المبسطة ولنفس الغرض، وهو الدراسة فى مدارس التمريض.
وإن كان هذا هو هدفنا الأول من كتابة هذا الكتاب إلا أنه لم يكن أبدا غايتنا الأخيرة… فقد حاولنا أن يكون عونا لكل طبيب لقى فى ممارسته لمهنته حاجة حقيقية لفهم نبذه عن نفس مريضه وما يعتريها من أوهام وأمراض يقف أمامها فى ظلام حائر ويتصرف حيالها مكتوف اليدين لا يكاد يعلم ما يأخذ وما يدع، أو يتبين ماهية إمكانياته ولا مبلغ حدوده، ذلك الزميل الذى علمته حاجته أثناء ممارسته لمهنة الطب – ما أنكره عليه القائمون على تطوير التعليم يوم أن كان طالبا يتلقى علومه الطبية.
كما أملنا أن يكون هاديا رفيقا لطلبة الطب، الذين يستشعرون حاجتهم إلى مثل هذه المعلومات المبسطة فى ذلك الفرع الذى يقرأون عنه فى الصحف أكثر مما يصيبون منه فى الدرس فى بضعة أيام قليلة من سنى الدراسة العديدة.
كذلك راعينا أن يجد فيه القارئ العادى من المعلومات السليمة الواضحة ما يشفى غليله ولا يتركه يستقى معارفه من لغط المدعين.
وقد اتبعنا فى تناول مختلف المواضيع وفى تنظيمها وترتيبها ما تعارف عليه سائر المشتغلين بهذا الفرع من الطب. فلم ننحرف لرأى معين، أو نتعصب لمدرسة بذاتها، كما استبعدنا معظم ما تضاربت فيه الأقوال والآراء ولم نذكر إلا الثابت منها بلا لبس ولا إبهام. وقد حاولنا أن تكون اللغة التى استعملناها سلسلة هينة فلم نرهقها بتعقيدات تخل بالمعنى كما لم نحملها ترجمات شاذة غير مطروقة، وأن كنا قد استحدثنا بعض المصطلحات التى اعتقدنا أنها أقرب إلى الفهم وأسهل فى اللفظ، كما راعينا أن تكون أفكار الكتاب فى فقرات مرقمة – على قدر المستطاع – حتى نساعد على تركيز ذهن القارئ واستيعابه لما أوردناه.
وبعـد:
فهذه هى اللبنة الأولى التى نساهم بها فى ذلك البناء الضخم الذى يقع عبء إتمامه على كاهل الأطباء كافة والأطباء النفسيين خاصة، حتى يأخذ الطب النفسى فى جمهوريتنا مكانه اللائق به بين العلوم الحديثة. ولا نكاد نتعدى الحق إذا قلنا أن مقامه هو مقام الصدارة أو ينبغى أن يكون كذل، وأنه لبمثابة صمام الأمن فى مجتمعنا خاصة وسائر المجتمعات المتطورة التى تنتقل من مرحلة حضارية إلى أخرى أكثر تعقيدا وأخطر فاعلية. لأننا لو تركنا الأمر يسير كيفما أتفق فى تهاون واتكال متصورين أن التصنيع والتطور الاقتصادى هما الغاية والوسيلة جميعا، غير عابثين بما يحملانه من أسباب التعاسة والاضطراب النفسى المصاحبين للانتقال العنيف، والأعباء المتزايدة على إنسان مجتمعنا المتطور، لو فعلنا ذلك لكنا أعظم الناس جهالة وكانت أسرة الطب أكثرهم تقصيرا وأسوأهم تدبيرا.
فأما الزبد فيذهب جفاء، وأما ما ينفع الناس فيمكث فى الأرض.
قسم الأمراض النفسية – أول يوليو سنة 1962
(كلية الطب – جامعة القاهرة)
مقدمة الطبعة الثانية
ما كادت تظهر الطبعة الأولى من هذا الكتاب حتى نفدت فى وقت دون ما قدرنا لها كثيرا، ويرجع الفضل فى ذلك إلى وعى القاريء العربى الذى لا يسعنا إلا أن نشكره أصدق الشكر على تقديره وتأييده لهذا الجهد الصادق، ولقد دل هذا التجاوب على رغبة مخلصة للمعرفة ووعى كامل للتمييز السليم ولهفة صادقة على الإلمام بأسس الأمراض النفسية وأبعادها.
لذلك رأينا واجبا علينا أن نصدر هذه الطبعة الثانية التى أعدنا فيها تنظيم كثير من الموضوعات وقدمنا ما لا غنى عنه فى تفصيل وإيضاح، كما أضفنا وصف حالات نموذجية من البيئة العربية، لكل مرض، وزدنا الفصول فى الأمراض النفسية، كما فصلنا الجزء الخاض بالتمريض فى كتاب مستقل، وكذلك أضفنا بعض اللوحات التوضيحية وألحقنا لكل فصل موجزا يحدد معالمه ويخفف عبء الإلمام بمحتواه.
ونأمل أن نكون قد قدمنا أنفسنا وتجنبنا ما كان بالطبعة الأولى من هنات فالطريق طويل.. والكمال بعيد المنال.
قسم الأمراض النفسية – أول فبراير سنة 1965
(كلية الطب – جامعة القاهرة)
مقدمة الطبعة الثالثة
رغم ما تجرى به الأيام من مستحدثات فى هذا العلم الشاب المتطور ونحن نلهث وراءها نلحق بها حينا ونقصر عنها أحيانا، فإننا لابد أن نعترف أن تغيير البرامج أصعب من إعادة رؤية الحقائق، مما أوقعنا فى صراع حاد بين الثورة المتحفزة التى يمر بها هذا العلم اليافع وبين التعقل والتحفظ التى تلزمنا به البرامج التقليدية، وفى النهاية اخترنا – مرحليا – أن نلتزم جانب المحافظة بأن نعيد الطبع فى صورته المبسطة الكلاسيكية ليخدم الغرض المتواضع الذى وضع من أجله، تاركين الفرصة الكاملة لأنفسنا ولغيرنا أن يعرض الجانب الآخر المتطور فى مجال آخر وبأسلوب آخر.
على أننا ألتزمنا أن يكون التعديل فى هذه الطبعة هو تصحيح لبعض الأخطاء التى فرضتها علينا ظروف انتهت، وشرح لتعميمات غامضة..، ثم إضافات لازمة لتساير الذى حدث فى تطور هذا العلم فى أكثر من عشر سنوات منذ الطبعة الأولي، فقد أضيفت فصول بأكملها مثل فصل حالات البارانويا، وفصل اضطرابات الشخصية.
وقد التزمنا – فى معظم الأحيان – اتباع الدليل المصرى فى تقسيم الأمراض النفسية والمستمد أساسا من التقسيم العالمى ساعين أن يكون الكتاب إسهاما غير مباشر فى شرح هذا الدليل على قدر جهدنا ورؤيتنا.
كما تعمدنا الإشارة بوجه خاص، كلما لزم الأمر إلى الأبحاث والرسائل التى تمت بواسطتنا وتحت إشرافنا فى هذه الحقبة، وكذلك إلى المحاولات المصرية الصميمة الجارية فعلا فى هذه الآونة.
وهكذا نرجو أن يكون الكتاب فى هذه الطبعة المزيدة المنقحة عونا لطلبة أقسام علم النفس فى كليات الآداب فضلا عن دوره السابق للأطباء الممارسين العامين وطلبة الطب ومدارس التمريض.
قسم الأمراض النفسية – أول أغسطس 1977
(كلية الطب – جامعة القاهرة)
نبـذة تاريخية
الأمراض النفسية والعقلية قديمة قدم الإنسانية، ورغم ذلك فقد كان تقدم الطب النفسى بطيئا متراخيا، وكان دائما متأخرا عن سائر فروع الطب تأخرا ملحوظا.
وما أن حل القرن الحالى حتى ظهرت فى مطلعه نظرية التحليل النفسى فأحدثت انقلابا فى مفاهيم الطب النفسي، بل وقد تعدى أثرها المجال الطبى إلى مفهوم الأدب والفن والحضارة والتاريخ والفلسفة وغيرها، ومازال التقدم يضطرد حتى وصلنا فى السنوات العشرين الأخيرة إلى عصر العقاقير النفسية بأنواعها.
ولعل أول كتابة سجلت فى وصف المرض النفسى تمت قبل أكثر من ألف وخمسمائة عام ق. م على أوراق البردى فقد عرف المصريون القدماء المرض العقلى ووصفوا الحالة النفسية المصاحبة للشيخوخة والهستيريا والصرع، وحفظ لنا التاريخ هذه الأوراق حتى عصرنا هذا.
ولعل المرض المقدس (مرض الصرع) كان من أكثر الأمراض العقلية حظا فى الكتابة عنه ودراسة أحواله وأطواره. وكان من أول الحالات التى وصفت حالة ” قمبيز” ملك فارس، وقد ظل هذا المرض مقدسا حتى نزع عنه قدسيته “أبو قراط” أبو الطب، معتبرا إياه مرضا له أسبابه العضوية وعلاجه الخاص بالعقاقير وغيرها.
ولعل أول مرجع فى حسن معاملة المريض العقلى كان كتاب الجمهورية لأفلاطون حيث حتم فيه على أهل المريض العقلى أو يرعوه فى المنزل وأن يحسنوا معاملته، كما طالب بتوقيع غرامة عليهم إن هم أهملوا ذلك.
أما بالنسبة للعلاج فقد كان يعتمد فى العصور القديمة أساسا على طريقتين.
وتتلخص الطريقة الأولى فى ربط المريض بالسلالسل وتجويعه وضربه بالسياط بدعوى أن هذه الطريقة تعيد الذاكرة وتفتح شهية المرضى الممتنعين عن الغذاء. وأما الطريقة الثانية فهى ‘الفصد’ واستخدام الموسيقى والرياضة والقراءة بصوت عال وغيرها من الوسائل بقصد توجيه انتباه المريض إلى العالم الخارجي.
وقد عمد تمسون Thomson إلى العناية بتغذية المريض بوفرة، وإلى استخدام الحمامات والكمادات.
وكانت العلاقة بين الطبيب والمريض علاقة سطحية قصيرة المدى دائما بدعوى أن توثيق هذه العلاقة بتكرار زيارات الطبيب للمريض ستقلل من تأثير الطبيب عليه.
أما فى القرون الوسطى فقد كان علاج الأمراض النفسية والعقلية من اختصاص الكهنة، وكان العلاج يتكون من الأعشاب مع ربط المريض بالسلاسل كما انتشرت فى هذه الفترة أهمية مياه بعض الآبار فى علاج هذه الأمراض بدعوى أن بها ماء مباركا. وقد اكتشف حديثا أن مثل هذه المياه قد تحوى أملاحا معدنية مثل الليثيم الذى ثبتت فاعليته فى علاج الهوس خاصة وفى منع الاكتئاب.
ولم يبدأ وضع المريض فى مستشفيات خاصة بالمرض العقلى إلا فى عام 1320 وكان أول مستشفى لحجز المرضى فى الجزر البريطانية هو مستشفى بثلم Bethlem ولعل أول إصلاح فى نظم المستشفيات العقلية ثم فى عصر النهضة عام 1792 عقب الثورة الفرنسية عندما تقدم الدكتور بينالPinel برفع السلاسل عن مرضاه وأتاح لهم الفرصة للتنزه فى الهواء الطلق والعمل بدلا من الإقامة فى زنزانات صغيرة بعيدا عن النور والهواء، وقد عاد تلميذه إسكويرولEsquirel إلى هذه الطريقة وتكلف الكثير لنشر هذه الأفكار فى فرنسا. وفى نفس هذه الفترة ظهر فى انجلترا وليم تيوكWilliam Tuke ولندلى موراى Lindley Murrayبنفس هذه الأفكار لتحسين معاملة المرضى النفسيين بعيدا عن السلاسل والزنزانات، وقام فى نفس الفترة فريك Fricke فى ألمانيا بالدعوى لمعاملة المرضى على نفس الأسس السابقة.
أما إصلاح المستشفيات العقلية بالولايات المتحدة فيرتبط بأسماء الأطباء بوندBond وكير كبريد Kir Kbride ورشRush
وفى بلجيكا بدأ نظام مستعمرات المرضى العقليين وفيها يعيش المريض وسط الأسوياء كفرد فى عائلتهم بغير حد من حريته سوى تحديد موعد عودته للمنزل وفى نظام المستعمرة يلتحق المريض أولا بالمستشفى التى تحوله إلى العائلة التى سيعيش معها، وغير خاف ما يقدمه هذا النظام من المحافظة على إنسانية المريض والمساعدة على شفائه مع رخص تكاليفه. وقد انتشر هذا النظام فى فرنسا أيضا.
وشبيه بنظام المستعمرات نظام الإقامة الخارجية الذى بدأ فى اسكتلندا وفيه بتوزع المرضى على منطقة كبيرة لا على مستعمرة صغيرة.
ولقد تقدمت المستشفيات العقلية فى العصر الحديث تقدما ملحوظا من حيث الرعاية والإدارة والعلاج حتى أصبحت تماثل المستشفيات العامة أو تفوقها فى كثير من الأحيان، فإن المريض الذى كان فى الماضى السحيق يعيش مقيدا بالقيود أصبح فى الماضى القريب يوضع فى حجرة مبطنة الجدران مغلقة الأبواب ثم هو الآن – بعد ظهور المهدئات الحديثة – يعيش فى مجتمع أوسع وبحرية أكبر حتى وصل الحال فى بعض المستشفيات إلى اتباع نظام القاعة المفتوحة بل والمستشفيات النهارية التى يقضى المريض فيها النهار ليحصل على العلاج والرعاية المطلوبة ثم يقضى الليل فى منزله وهكذا..
ولقد ظهرت أول مجلة علمية تخصصت فى الأمراض النفسية عام 1805 وكان يحررها ريل وكيسلر Reil and Kayssler وفى هذه الفترة توالت القوانين لحماية المرضى العقليين وحسن معاملتهم وكان أول قانون ظهر لهذا الغرض فى عام 1808 فى انجلترا.
وقد ظهرت أول لجنة لرعاية المرضى العقليين فى انجلترا عام 1845 وخلفها مجلس المراقبة عام 1913.
ولعل أول محاضرات ألقيت فى الأمراض النفسية كانت تلك المحاضرات التسع التى ألقاها السير الكسندر موريسون فى أدنبرة سنة 1823 وقد حاضر بعد ذلك فى لندن. وبعد ذلك التاريخ بدأت دراسة الأمراض النفسية تأخذ مكانها فى الدراسات الطبية فى كليات الطب سواء كان ذلك لطلبة كليات الطب أو للأطباء الذين يبغون التخصص فى هذا الفرع – أى فى الدراسات العليا.
أما التمريض فقد كان منوطا بالرجال فقط، حيث كانت الشدة والقوة مرغوب فيهما فى أول الأمر. وكان أول من استخدم الممرضات فى تمريض المرضى العقليين الرجال هو الدكتور هينش الذى سمح للممرضين الرجال بإحضار زوجاتهم لمساعدتهم فى العمل ثم تطور الأمر بعد ذلك إلى تعيينهم فى وظائف ممرضات.
تاريخ الأمراض النفسية فى مصر
ذكرنا أن قدماء المصريين كانوا أول من ميز المرض النفسى ووصفه على أوراق البردى قبل ألف وخمسمائة عام قبل الميلاد – على أن العصور تتالت وحفظ لنا التاريخ أن أول مستشفى عام خصص فيه قسم للأمراض النفسية كان ‘بيمارستان’ قلاوون فى عصر السلطان قلاوون. غير أن أوجه الإنفاق على هذا البيمارستان انخفضت فقل من فيه من المرضى ولم يعد فيه سوى المرضى العقليين لقلة نفقات علاجهم حيث كانوا يعالجون بربطهم بالسلاسل وإطعامهم الحلوى وفصدهم. وهكذا أصبح لفظ ‘بيمارستان’ مرتبط بمستشفى الأمراض العقلية، وظل هذا البيمارستان حتى فكر كلوت بك فى إنشاء مستشفى حديثه للأمراض العقلية وتم هذا فى منطقة بركة الأزبكية وكان تابعا فى ذلك الوقت للجيش ثم نقل هذا المستشفى إلى ورشة الجوخ ببولاق ومن ثم إلى السراية الحمراء بالعباسية وهى التى اشتهرت بعد ذلك بالسراية الصفراء للون طلائها، وكان ذلك فى عام 1880 ولا تزال هذه المستشفى قائمة وإن تزايدت مبانيها، وفى عام 1912 بنيت مستشفى الخانكة لتتم رسالة مستشفى العباسية ومنذ ذلك الحين تتالت المستشفيات الخاصة للأمراض العقلية وقد تقرر أخيرا إنشاء خمس مستشفيات جديدة وزعت بين القاهرة والأقاليم.
إعلام على الطريق:
وخليق بنا أن نذكر الفضل لذويه فى هذا الشأن، فإن الرواد الأوائل لهذا الطريق كان لهم فضل السبق وشرف البذل وجهاد القادة، فكان علينا نحوهم واجب الشكر ولهم علينا حق العرفان بالجميل: وقد كان الدكتور محمد فؤاد هو أول مصرى تولى منصب رئيس قسم الصحة العقلية بوزارة الصحة، ثم الدكتور محمد كامل الخولى مديرا للصحة العقلية وكان أول طبيب نفسى وصل إلى درجة وكيل وزارة هو الدكتور محمد نصر ثم الدكتور أحمد وجدى الذى استطاع فى مركزه هذا أن يقدم الكثير لفرعه. وكان أول رائد للطب النفسى على مستوى التعليم الجامعى وأول أستاذ لعلم الأمراض النفسية فى الجامعات المصرية هو الأستاذ الدكتور عبد العزيز عسكر الذى أعاد حديثا ما سبق أن سجلته مدرسة الطب المصرية من تعيين الدكتور نجاتى مدرسا للأمراض العقلية وهو صاحب كتاب أسلوب الطبيب فى فن المجاذيب الصادر سنة 1891 (1309 هـ) ، وقد ورد فى هذا الكتاب ما يشير إلى أسبقية رائعة فى التصنيف والتعليل حتى وصف حالات الازدواج الشخصى والفرق بين عمل نصفى المخ…. مما أكدته التصنيفات الإكلينيكية اللاحقة والأبحاث الفسيولوجية المعاصرة.
ولكن الطريق لم يكن سهلا ميسرا أبدا.
فإذا نظرنا مثلا إلى ما لاقاه الدكتور محمد كامل الخولى بعد أن عاد من دراسته – على حسابه الخاص – من لندن حاصلا على دبلوم التخصص فى الطب العقلى سنة 1923 (وكانت قد أنشئت هذه الدبلوم سنة 1921 فقط) نراه وقد استبعده رئيسه الإنجليزى عن فرع تخصصه إلى مصلحة الطب الشرعى حتى عاد الدكتور على (باشا) إبراهيم سنة 1941 فآصر على أن يعود إلى مكانه الطبيعى حتى وصل فى سنة 1946 مديرا للصحة رئيسا لها إلى أن تنحى بسبب تقدمه فى السن عام 1972 وقد شارك فى تكوين الاتحاد العالمى للصحة العقلية سنة 1948 وكان أول مصرى ينتخب رئيسا للاتحاد العالمى للصحة العقلية سنة 1952 وقام خلال ذلك كله بمجهود علمى كبير فنشر له واحد وعشرون بحثا ومقالة فى مختلف نواحى الطب العقلى والطب الجسمى النفسى والطب العقلى الجنائى والتربية وعلم النفس كما نشر كتابا فى الطب العقلى الشرعى.
أما على المستوى الجامعى فلم يكن الطريق أكثر تمهيدا، ولم تكن الصعوبات أقل شأنا فنرى أن الأستاذ الدكتور عبد العزيز عسكر قد لاقى من المشقة ما لاقى فى سبيل إرساء قواعد هذا العلم، فقد كان تخصصه فى الأطفال أولا – ولما أراد تخصصا أدق وصمم على أن يكون ذلك فى أمراض نفسية الأطفال استدعى من مهمته العلمية سنة 1937 وفى سنة 1939 أتيحت له الفرصة مرة ثانية لمدة أطول حين قامت الحرب العالمية الثانية فدرس الطب النفسى العام والتحليل النفسي، وحين عاد سنة 1944 رفض كل محاولة للرجوع إلى تدريس طب الأطفال رغم أن ذلك كان أكثر إغراء من الناحيتين الوظيفية والمادية، وبعد ذلك ثار خلاف فى الرأى بينه وبين قسم الأمراض العصبية الذى ألحق به – حول مدى استقلال الأمراض النفسية عن العصبية لم ينهه إلا استقلاله بالرغم من كل الصعوبات المحيطة ، الأمر الذى دعا الدكتور عبد الوهاب ( باشا) مورو ( عميد الكلية حينذاك ) إلى فصل القسمين سنة 1950 ، وقد أنشئت درجة الدكتوراه فى الأمراض الباطنية فرع الأمراض النفسية وشغله سيادته منذ سنة 1960 إلى عام 1966
كما كان سيادته المسئول أساسا مع الأستاذ الدكتور محمود سامى عبد الجواد عن تأسيس الجمعية المصرية للطب النفسى سنة 1971 .
وبعد ، فان كان تاريخ الأمراض النفسية هو تاريخ البذل والتصميم للقضاء على امتهان المريض النفسى و العلاج العقلى ، وتغيير مفهوم العلاج والتمريض إلى مفهوم إنسانى كريم فان مستقبل الطب النفسى هو الأمن والسعاده والرفاهية لسائر البشر…..
الفصل الأول
أسباب الأمراض النفسية
مقدمة: أهمية المرض النفسى
ان شيوع الأمراض النفسية فى مجتمع ما يعتبر مشكلة اجتماعية واقتصادية فضلا عن كونه مشكلة صحية طبية، ويكفى للدلالة على ذلك أن نذكر أن نسبة المرضى الذين ينبغى وضعهم فى يمستشفيات الأمراض العقلية تقدر بنسبة واحد ونصف فى يالمائة من مجموع السكان – أى أنها فى جمهورية مصر العربية وتعدادها حوالى اربعون مليون حوالى ستمائة ألف مريض كما أن عدد المرضى ناقصى العقول يقدر بحوالى واحد فى المائة من التعداد العام أى أنهم يمثلون حوالى ثلث مليون مريضا فى جمهورية مصر العربية. فاذا أضفنا إلى هؤلاء وأولئك المرضى العصابين والمنحرفين كالمجرمين والبغايا والسيكوباتيين الذين يمثلون عددا ضخما آخر ويحتاجون إلى دراسة ورعاية نفسية لتبين لنا مدى أهمية الأمراض النفسية فى مجتمعنا هذا. وقد كان للتقدم الصحى فى النواحى الوقائية والعلاجية للامراض العضوية أثره الواضح فى إطالة متوسط العمر فأصبح عدد من يصل إلى سن الشيخوخة عددا كبيرا مع ما فى الشيخوخة من زيادة فى ياحتمال ظهور المرض النفسى.
كما أنه باتجاه مجتمعنا نحو التطور والتمدن والتصنيع ستزداد حدة هذه المشكلة لأن التقدم سيزيد من تعقد المجتمع فيصعب على فريق جديد من الناس أن يتكيف على هذه الحياة الجديدة إما، لصعوباتها بالنسبة لمستواهم العقلى وأما لعدم تناسب متاعبها مع تكوينهم النفسى الهش.
والمشكلة فى المرض النفسى ليست فى إصابة المريض به فقط. ولكن
فى تأثيره على إنتاج المريض وعلى مجتمعه الصغير الممثل فى أسرته وذويه وكذا المجتمع الأكبر بكل طاقاته البناءة المنتجة. فإن انقطاع المريض عن عمله لا يضر بالمريض فحسب، وإنما يضر بانتاج الوطن وفاعليته وتقدمه. ويكفى أن نعلم أن المريض النفسى هو المسئول عن جزء كبير من إصابات العمل فقد ثبت أن تأثير الصفات الشخصية للعامل فى حدوث إصابات العمل أكبر من تأثير العوامل الخارجية الأخرى.
ولا يخفى أن المريض النفسى يسبب اضطرابا شديدا لأسرته: إما بسبب تصرفاته غير السليمة وما تسببه من إزعاج، وإما بسبب سوء الحالة الاقتصادية وذلك لانقطاع دخله طوال مدة العلاج ،وهى فى الأغلب مدة طويلة لكل ما تقدم يتضح أنه من صائب الرأى أى نتجه إلى تلاقى المرض النفسى أصلا حتى لا تتعرض إلى تلك المتاعب الخاصة والعامة، ولذلك كان القول بأن الوقاية خير من العلاج أصدق ما يكون فى حالة المرض النفسى.
هذا، وحتى يمكن أن نتبع الأساليب الوقائية ينبغى أن ندرس أسباب الأمراض النفسية ثم نتجنبها ما أمكن.
أسباب الأمراض النفسية
إن الاعتقاد الغالب عند أكثر الناس هو أن سبب المرض النفسى هو الصدمة الأخيرة التى يتعرض لها المريض. مثل وفاة قريب أو ضياع فرصة أو الطلاق أو الاصابة بأحد الأمراض المعدية أو الارهاق فى العمل إلى آخره هذه الأحداث المتكررة المألوفة، والحقيقة غير هذا، إذ أننا نرى كثير من الناس يتعرضون لمثل هذه الصدمات دون أن يصابوا بأى أذى وذلك يدعونا إلى الاعتقاد أن سبب حدوث المرض النفسى لايرجع إلى الصدمة الاخيرة فحسب وانما لابد أن هناك صفات تميز المريض عن غيرة من الاسوياء تكون مسئولة عن ظهور المرض النفسى لديه دون سواه.
لذلك فاننا – وغالبية المشتغلين بالعلوم النفسية – نرى أن المرض العقلى والنفسى انما هما نتيجة عوامل خاصة لكل فرد على حدة، باعتبار ان الفرد انما هو كائن متكامل ينبغى دراسة تاريخ حياته تفصيلا بما فى ذلك تاريخ أسرته المرضى ، فضلا عن دراسة قدراته العقلية والجسمية، وبيئته الخاصة والعامة، وذلك حتى نفهم سلوكه ومشاكله ومعالم شخصيته وتكوينه النفسى ، ومهتدين فى ذلك بدراسة العوامل الوراثية، والهبات العقلية، وبيئته الاجتماعية والمؤثرات الثقافية والتربوية – كل تلك العوامل التى تصبه فى قالب فذ فريد.
فالامراض النفسية عامة هى نتيجة تفاعل هذه القوى جميعا التى توجد اما فى البيئة واما فى الانسان، أى أنها محصلة قوى تعمل سويا فى نفس الوقت، فالسبب المرسب (الحادثة الاخيرة السابقة للمرض مباشرة) يلزم أن يحدث لانسان عنده استعداد للامراض النفسية حتى تكون نتيجته مرضا نفسيا – أى أن السبب المرسب لا يعدو أن يكون القشة التى قصمت ظهر البعير لذلك فنحن نطلق على الحادثة الاخيرة التى أظهرت المرض النفسى سببا مرسبا كما نعتبر الاستعداد الخاص للمرض النفسى السبب المهييء. وعلى هذا فانه يمكننا تقسيم أسباب الامراض النفسية الى اسباب مهيئة واسباب مرسبة. وتكون الاسباب المهيئة فى الاغلب متعددة ومختلفة فى الشخص الواحد، وربما استمر تأثيرها عليه عدة سنوات دون أن يحدث المرض، أما السبب المرسب فيكون فى الأغلب سببا واحدا يتجاوب معه المريض بطريقة غير مألوفة وتكون مظاهر هذا التجاوب هى أعراض المرض.
ومن الملاحظ أن وجود أسباب مهيئة قوية، أى وجود استعداد كبير للمرض النفسى فى المريض يحتاج الى سبب صغير حتى يحدث المرض – فى حين أنه اذا كانت الاسباب المهيئة (الاستعداد للمرض ) قليلة وضعيفة، فانه من اللازم لحدوث المرض أن يكون السبب المرسب سببا قويا وخطيرا.
وفى كثير من الاحيان نستطيع بطرق العلاج المختلفة ازالة الاسباب المرسبة، غير أن مجرد ازالة تلك الاسباب لا تكفى لحدوث الشفاء فى هذه الحالة يعود المريض الى شخصيته السابقة بما تحمله من أسباب مهيئة، ولا يكون وجود هذه الاسباب المهيئة ( بعد اختفاء المرض والسبب المرسب ) مانعا من عودة المريض الى حياته العادية – على أنه لتمام الشفاء لابد من مراجعة الاسباب المهيئة أيضا ومحاولة ازالتها اذا امكن، أو مساعدة المريض على التكيف عليها وقبول وجودها. واذا ما اختفى السبب المرسب تماما – أى لم يمكن العثور عليه فبدأ المرض وكأن بلا سبب فانه يسمى مرضا داخليا واذا كان السب المرسب كافيا لاحداث المرض سمى سبب محدثا وسمى المرض مرضا تفاعليا أو موقفيا ، وحتى يكون السبب محدثا لابد أن يتصف بصفات معينة أهمها:
أن يكون توقيته سابق مباشرة للمرض وأن يكون حجمه متناسبا مع حجم المرض وطبيعته متماشية مع المرض وأن يزول المرض بزواله وأن يصح الفرض بأنه لو لم يحدث لما حدث المرض.
أولا: الأسباب المهيئة:
1- الوراثة:
تعتبر الوراثة سببا هاما من الاسباب المهيئة للمرض النفسى ، غير أن كثيرا من الناس قد اساءوا تقدير هذه الأهمية وضخموها لدرجة جعلت بعضا منهم يعتقد أن المرض النفسى لا أمل فى الشفاء منه مادامت الوراثة تلعب فيه هذا الدور الهام مع ما يترتب على هذا الاعتقاد من اليأس من الشفاء الى ترك العلاج واهمال المريض، وهذا خطأ كبير اذ أن المريض لا يرث المرض بذاته وانما يرث الاستعداد للتجاوب السييء فى أوقات الشدة، أى أن الوراثة عامل مهيئ لحدوث المرض وهى نفسها لا تكفى لحدوثه، الا فى حالات قليلة بل أن هناك رأيا يقول أن وارث المرض يرث استعدادا لطاقة عنيفة قد تميزه عن الشخص العادى اذا أحسن توجيهها وقد تحطمه اذا تعرض للضغوط المرسبة فوق طاقته، ولذلك فاننا لو استطعنا ازالة الاسباب البيئية الاضافية ولم يبق الا عامل الوراثة فاننا نكون قد فعلنا الكثير فى علاج المريض. ولاثبات ذلك نرى أننا لو درسنا تاريخ أى عائلة عادية دراسة دقيقة لا تضح لنا وجود بعض الامراض النفسبة أو العقلية فى فرد أو أكثر من أفرادها ومعنى هذا أن الوراثة عامل عام يكاد يشمل الناس جميعا ويستطيع الانسان أن يقول بغير تحرج أنه لا يوجد فرد يخلو من تأثير عامل الوراثة كسبب مهييء للمرض النفسى ، وما دام الامر كذلك – أى أن الوراثة عامل هام – فان العوامل الاخرى فى حدوث المرض النفسى غير أن نوع الوراثة ومدى عناها وتأصلها يشير الى نوع المرض وما نأمله فى وجهه الاخر البناء بالعلاج أو بغيره.
والأمراض النفسية تلعب فيها كل أنواع الوراثة دورا واضحا – فمن الممكن أن ينتقل الاستعداد المرضى عن طريق عوامل متعددة كما هو الحال فى انواع العصاب، ومن الممكن أن ينتقل بعامل واحد ،ويكون هذا العامل اما طاغيا كما فى مرض هانتجنن للرقص الزنجى ، أو متنحيا كما فى بعض حالات النقص العقلى.
وفى الحقيقة أن عامل الوراثة لايمكن فصله عن عامل البيئة كما لا يمكن أن نخص أحد هذين العاملين بأهمية أكبر.
2– مراحل العمر:
يمكن تقسيم مراحل العمر الى مرحلة التكوين الجنينى وذلك منذ تلقيح البويضة حتى الميلاد ) ثم مرحلة الطفولة المبكرة ( 1 – 5 ) ثم الطفولة المتأخرة (5 – 12) ثم المراهقة (12 – 20) ثم الرشد (20 -40) ثم متوسط العمر (40 – 60 ) ثم الشيخوخة ( ما بعد 60). ومن المؤكد أن الانسان عرضه للهزات النفسية فى أى مرحلة من تلك حالة الام النفسية أثناء الحمل المراحل حتى وهو جنين فى بطن أمه فان تؤثر بلا شك على تكوين الجنين النفسي، على أن الاضطرابات تظهر فى فترات التغير التكوينى الحرجة وهى سن المراهقة ( 12 – 20) وسن اليأس (حول 50) وسن الشيخوخة (بعد 60)، وفى هذه المراحل يكون التوازن بين التكوين الجسمى والتكوين النفسى صعبا جدا، وفى مرحلة المراهقة يحس المراهق بأكتمال تكوينه الجسمانى وبظهور دوافعه الجنسية النفسية أو الاجتماعية، وفقدان التوازن بين الناحية الجسمية والنواحى النفسية والاجتماعية يسهل الاصابة بالمرض النفسى ، أما فى سن اليأس فان المريض يحس بأنه قد أدى وظيفته كانسان وأنه أصبح غير مرغوب فيه مما يجعله يحس بالقلق وعدم الرضا ويسهل بالتالى حدوث المرض النفسى. أما فى مرحلة الشيخوخة فان الاحساس بالتدهور النفسى بما فيه من ملل وعدم قدرة على التكيف مع الجديد وكذا بالضعف الجسمى بما فيه من نقص فى الكفاءة والحيوية، وآخيرا بالانزواء الاجتماعى لفقدان الاقران ممن يماثونه فى السن وطريقة الحياة، كل ذلك يساعد على حدوث المرض النفسى.
وفى السيدات تكون فترة الحمل والارضاع فترة حرجة فى حياتهن لما يلقونه أثناءها من أرهاق جسمى ونفسى نتيجة لمطالب الحمل والرعاية التى يقمن بها لاولادهن.
لكل ذلك نرى فترات العمر الحرجة التى يمر بها الانسان هى أولى الفترات بالعناية النفسية الوقائية حتى لا يصاب المرء فيها بالمرض فعلا.
وهذه الفترات الحرجة التى نحذر فيها من ظهور المرض، يمكن أعتبارها هى نفسها ذات الفترات التى يمكن فيها اعادة تنظيم الشخصية – أو اصلاح ما أفسد الدهر – كما يقولون مما يزيد من آهمية الوقاية أثناءها.
3- البيئة:
توجد فى البيئة عوامل مهيئة للمرض النفسى وتكون اما عوامل عامة تشمل كل أفراد المجتمع على تباينهم، أو عوامل خاصة شخصية تتعلق بالفرد نفسه وتختلف من شخص الى آخر.
(أ) العوامل العامة: ويمكن أن نوجزها فيما يلى:
(1) المدنية والحضارة: أن تطور الامم مدنيا وحضاريا أمر حتمي. وهو يستلزم قدرة عقلية ونفسية خاصة حتى يتمكن الانسان من التكيف له، وهذه القدرة لا تتوفر لعدد كبير من الناس مما يجعلهم عرضة للهزات النفسية والعجز عن التكيف ومن ثم للمرض النفسى فبازدياد الحضارة تزيد حاجات الفرد المعيشية ويصبح كثير من الكماليات ضروريات. وذلك كله يحتاج الى بذل جهد أكبر حتى يتمكن الفرد من الحصول على هذه الاحتياجات التى تتزايد سنة بعد سنة مع ازدياد وسائل الحضارة… وقد يكون هذا الجهد أكبر من طاقتة وامكانياته مما يعرضه للتوتر أو الاحباط (خيبة الامل)، ثم المرض النفسي، على ان المدينة التى تعطى الفرد وقتا أطول للاكتمال الانسانى والثقافى، هى ذاتها التى تضطره الى مواجهة مشاكل حديدة قد تخل بتوازنه مثل التساؤلات عن الوجود وطبيعته وهدفه، أو مواجهة اعادة النظر فى طبيعة العلاقات القائمة، كل هذه الامور التى تجر وراءها اختلال التوازن لفترة ما، قد ينتقل الانسان بعده الى تكيف أفضل للحياة الجديدة، أو قد ينهار تحت وطأة المرض.
(2) التصنيع: من المعروف أن العمل الصناعى يحتاج الى قدرات أكبر مما يحتاجة العمل الزراعي، وانتقال المجتمع من النظام الزراعي الى النظام الصناعى يحتاج الى تكيف للحياة الجديدة وتغيير جذرى فى أغلب أساليب الحياة. فاذا لم يستطع الانسان التكيف مع الحياة الصناعية بصورها التى تتمثل فى تحديد وقت العمل والالزام بالانتاج، والنظام الرتيب (الروتين) للحياة الذى يسبب الملل- اذا لم يستطع الانسان التغلب على هذه الصعوبات اضطرب نفسيا، كما أن الفرد اذا لم يتميز بقدرات كافية للحياة فى المجتمع الصناعى أصبح عالة على مجتمعة فاشلا فى حياته مما يستتبع ظهور أعراض المرض النفسي.
(2) القوانين: مع ازدياد الحضارة ومع التصنيع يزداد تعقد القوانين وتشتد سلطتها وذلك لحماية المجتمع وتنظيم العلاقات المتشابكة بين افراده مما يجعل الانسان فى تفكير دائم فى المحظورات وخوف من احتمال وقوعه تحت طائلة القوانين وتعرضه لمسئوليه مخالفتها بما يستتبع ذلك من قلق وتوتر نفسي، ويكفى أن نذكر أنه فى القديم كان الانسان يولد ويموت دون أن يضطر الى الالتجاء الى الحاضر أن يعيش بعيدا عن أوامر القانون ونواهيه والا يحتك به آحيانا. . بشكل يجعله تهديد للتوان – رغم أنه وضع لتنظيم العلاقات – ولهذا أصبح القانون رغم أنه وضع أصلا لتنظيم العلاقات فى المجتمع ولحماية الانسان بكل متعلقاته من جسد أو مال أو قيم… أصبح القانون رغم كل هذا عبئا نفسيا وأصبح الاحتكاك به عاملا من العوامل التى قد تؤدى الى الاختلال فى التوازن النفسي.. ومن ثم الى المرض النفسي.
(4) الحرب: ان وقوع الحرب فعلا، أو احتمال وقوعها، يمثل أزمة المجتمع الحديث، وهو أمر بالغ الخطورة فهو يخلق حالة من التوتر الدائم فى نفوس الناس، هذا فضلا عما تسببه الحرب إذا ما وقعت من خسائر فى الارواح والاشياء تعوق المدنية وتحطم المثل والاخلاقيات وتترك الانسان فى حالة من الأسىوالضياع تمهد لظهور المرض النفسى بكافة أشكاله.
الا أن هناك ملاحظة أثناء الحرب الساخنة وهى أن كثيرا من المظاهر المرضية مثل الانتحار والقلق العائم غير المحدد تقل أو تختفى مما يؤكد أن الخوف من الحرب أخطر من وقوعها كما أن آثارها آخطر من ذلك بما تتركه من مآس وأحزان وفقد أعزاء وتحطيم للقيم.
(5) العلاقة بالزمن: كان تقدير الانسان للزمن وسرعة العمل فى العصور الماضية تقديرا غير كامل، أما فى العصر الحاضر الذى يوصف بأنه عصر السرعة فان عامل الزمن يلعب فيه دورا خطيرا، فان اللهفة على الحياة، والخوف من المجهول، وعدم الاستقرار السائد يدفع الانسان الى السرعة فى كل شيء بحيث يفقد العمل قيمته الحقيقية ويتم انجازه بطريقة قهرية ربما نسى معها الانسان لم اندفع اليه وما هو المكسب الحقيقى من ورائه، الامر الذى بفقد الحياة طعمها ويجعل الانسان أقرب الى شخص آلى أو عقل الكتروني، وبالتالى يئد عواطفة ويحرمه من متعة التأمل ولذة التأنى وفرصة التمتع بالمكاسب وتقييمها حق قدرها، ومن ثم يهيئه للمرض النفسي.
(ب) العوامل الشخصية:
تعتبر العوامل الشخصية أهم بكثير من العوامل العامة التى سبق شرحها لانها مرتبطة بالمريض نفسه وترجع العوامل الشخصية كلها الى سوء التربية النفسية فى زمن الطفولة. واذا ما شعر الطفل بعدم الاستقرار العاطفى وهو صغير كان أكثر تهيؤا للاصابة بالمرض النفسى حين يكبر.
والعوامل الشخصية التى تؤثر فى الانسان طفلا ويافعا تتلخص فيما يلي:
(1) التعلق بالوالدين: ان شدة التعلق بالوالدين والارتباط بهما فى زمن الطفولة يودى الى صعوبة التحرر من سلطتهما والاستقلال عنهما عند سن البلوغ الامر الذى يقلل من اعتماد الفرد على نفسه وبالتالى لا يستطيع هذا الانسان أن يواجة مجتمعه وحده. ولما كان مجتمعنا يطلب من كل فرد أن يبرز ما يستطيع أن يقدمه هو لا ما يستطيع أن يقدمه أبواه، أصبح من العسير على هذا الشخص أن يتكيف مع المجتمع.
(2) القسوة والتدليل: أن المبالغة فى معاملة الاطفال بالقسوة الشديدة أو بالتدليل والاستجابة لجميع طلباتهم يثبت فى الطفل فهما معينا للحياة يؤثر فى تجاوبه معها مستقبلا، ففى الحالة الاولى تصبح الحياة قاسية فى نظرة لا يستشعر حنوها ومباهجها ولا يتوقع منها سوى الشر، تماما كما كان احساسه تجاه والديه سالفا، وفى الحالة الثانية يتصور أن الحياة سهلة ميسرة يكفى فيها أن يطلب فيطاع ولذلك لا يحتمل قسوتها الطبيعية أحيانا وهكذا يقع فريسة للمرض النفسى نتيجة لتهيئته منذ الصغر لنوع من الحياة لا يتفق مع الواقع فليست الحياة لقمة سائغة، ولا هى عدو لدود.
(3) شدة النظام: أن الدقة والنظام المبالغ فيهما، واللذان قد يفرضان على بعض الاطفال يؤديان الى التوتر وعدم الانطلاق وشعور الطفل بأنه مقيد لا يتسطيع حراكا الا فى حدود مرسومة لا سيما اذا لم يستطع الطفل فهم الاسباب التى تستوجب كل ذلك النظام أو اذا أهمل القائمون على تربيته تبسيط وشرح فوائد هذا النظام لانه اذ ذاك يعتبر أمرا بلا مبرر وبذلك يصبح نوعا من القسوة.
(4) عدم التوافق الاسري: ان كثرة الشجار بين الوالدين أمام الاطفال يعتبر مثلا لطبيعة هذه العلاقة المقدسة، فيحس الطفل بعدم الاستقرار والخوف من المستقبل، وقد تنشأ لديه مخاوف نتيجة لما يحسة من الخلاف بين أفراد الاسرة – كل هذا يحرمه من جو النمو الطبيعى كطفل ويؤثر على مفهوماته مستقبلا كشخص ناضج. كما أن عدم التوافق الاسرى قد يتخذ شكلا أكثر خطورة وبالتالى أشد تأثيرا على تربية الطفل وعلى مستقبله ونقصد بذلك تفكك الاسرة اما بالانفصال أو بالطلاق فيعيش كل من الوالدين بعيدا عن الاخر ويعيش الطفل مع أيهما، الامر الذى يفقده رعاية الاخر بما فى ذلك من تأثير سيء على التكوين النفسي.
(5) الافتقار الى الثقافة الجنسية: أن عدم الاهتمام بتعليم المراهقين والمراهقات الوظيفة التناسلية يسبب لهم الكثير من المتاعب اذ أنه يؤدى بهم الى محاولة معرفة ما منعناهم من معرفته، ويتم هذا بالحصول على معلومات خاطئة من مصادر غير مسئولة من القصص والفكاهات العابثة من العامة والزملاء الصغار، وهذه المعلومات الخاطئة تترك تأثيرها السيء على طبيعة الوظيفة الجنسية مستقبلا. كما أن جهلهم بهذه النواحى يجعلهم يرحبون بحكايات الجنس الشاذة فى المجلات والكتب الرخيصة كما يجعلهم يميلون الى الفهم السقيم والخيال المشوه المستمد من الصور والحكايات الفاضحة بكل أنواعها. كل هذا يدفعهم الى الاكثار من أحلام اليقظة يجعلهم يبتعدون عن الواقع ويفضلون عليه الخيال وهكذا يقل تكيفهم لحياتهم بما فيها من حقائق، وبالتالى تزيد فرص اصابتهم بالمرض النفسي.
(6) الحالة المدنية: تبين الاحصائيات أن الاضطرابات العقلية والنفسية أكثر حدوثا بين الذين لم يتزوجوا عنها بين المتزوجين، ولا يمكن هنا الفصل بين السبب والنتيجة بمعنى أن عدم الزواج فى ذاته قد يكون مظهر للهرب من المسئولية كما أن الطلاق قد يكون اعلانا لعجز فى القدرات على التكيف، على أن العلاقة الزوجية تعتبر من أهم العلاقات الانسانية ان لم تكن أهمها اطلاقا، فهى لا توفر الاستكفاء الجنسي فحسب ولكنها تحمل ضمانات أخرى نرى أن الافتقار اليها يؤذى بل ويحطم الشخصية، ونقصد بذلك اشياع الدوافع الاجتماعية فى الانسان، فيحس أنه مرغوب فيه وأنه موضع اهتام الشريك الأخر مما يبعث على الاطمئنان ويؤكد الشعور بالامان وخاصة فى الازمات والاوقات الحرجة التى يمر بها مثل أزمة المرض ووقت الشيخوخة. وقد تبين أيضا أن نسبة المرض النفسى أو العقلى أعلى فى المطلقين عنها فى المتزوجين، وقد يكون سبب ذلك أن الطلاق يحرم الانسان من مصادر الاشباع للدوافع النفسية والاجتماعية والعضوية التى يحققها الزواج. وفى هذه الحالة يكون الطلاق سببا للمرض النفسى ولكنه قد يكون فى أحيان أخرى – كما ألمحنا – مظهرا للاضطراب النفسى أدت اليه نفس الاسباب التى أدت المرض النفسي، الذى يظهر مؤخرا وكأنه نتيجة للطلاق، أى تلك الاسباب التى أدت الى تفكك الاسرة فالطلاق هى نفس الاسباب التى أدت الى المرض النفسى مؤخرا.
(7) التعليم والدراسة: ان من حق كل انسان أن ينال من التعليم القدر الذى تسمح له به مواهبة الموروثة، فان زاد مستوى التعليم عن مستوى مواهب الشخص وقدراته أصبح عبئا ثقيلا يهييء للامراض النفسية والعقلية أما اذا نقص عن مستوى مواهب الشخص ادى ذلك الى شعوره بالظلم وعدم الرضا والاحساس بعدم تكافؤ الفرص مع ما يستتبع ذلك من تفاعل نفسى قد يؤدى الى التوتر والقلق أو غير ذلك من الاضطرابات ومن البديهى أن الطلبة يختلفون من حيث قدراتهم العقلية. وارغام الطالب على نوع معين من الدراسة قد لا تهيئه له قدراته العقلية أو قد لا يثير فى نفسه نوعا من الرغبة أو الاهتمام سيؤدى الى تأخره الدراسى مع ما ستتبع ذلك من صعوبات اجتماعية قد لا يستطيع الطالب التكيف لها.
والعلاقة بين الطالب وزملائة فى المدرسة، وبينه وبين هيئة التدريس تمثل وتكمل علاقته باخوته ووالديه فان كانت هذه العلاقة سليمة ساعدت على النمو النفسى الطبيعى للانسان وعلى احتماله لصعوبات الحياة المقبلة أما اذا فسدت هذه العلاقة فانه يتعرض لهزات نفسية شديدة، الامر الذى يؤدى به الى المرض مستقبلا.
(8) العمل: لكى يتمتع الانسان بالصحة النفسية ينبغى أن يكون عمله ملائما لقدراته وميوله وتعليمه وخبراته السابقة، كما ينبغى أن يكون أجره كافيا لحاجاته الضرورية مما يسمح له بالمعيشة على مستوى يلائم مركز الاجتماعي، وعدم التوافق بين قدرات الشخص ونوع العمل. وكذلك عجز الاجر عن الايفاء بمستلزمات الحياة يؤديان الى الشعور بعدم الرضا والسخط، كما يؤديان الى الانحراف الاجتاعى بشكل أو بآخر 0كالسرقة والاختلاس وغيرها).
ويعزو بعض الناس أحيانا ما يصيبهم أو يصيب أقرانهم من أمراض نفسية وعقلية الى ) الارهاق فى العمل) على أن هذا الافترض ان وافق الواقع حينا فهو يخالفه أحيانا حيث أن الارهاق كثيرا ما يكون عرضا للمرض النفسى لا سببا له، اذ كثيرا ما يسبق الانهيار النفسى محاولة من جانب المريض لحل الصرع النفسى الواقع فى داخله بالهروب منه فى العمل والاستغراق فيه، كما قد يكون هذا السلوك محاولة للابتعاد عن المشاكل التى لم تجد لها حلا مرضيا ناجحا، ونحب أن نؤكد أنه لا يوجد دليل على أن المجهود العقلى أو الجسمى الزائد يودى الى الاضطراب النفسى أو العقلي. ولكن مما لا شك فيه أن الارهاق العقلى والجسمى يقللان من القوى النفسية التى تقى الانسان من الانهيار، وقلة هذه القوى الذى يعطى الفرصة للاسباب الاخرى المرسبة والمهيئة لكى تقوم بعملها فى احداث الاضطراب النفسي.
وتمثل العلاقة بين العامل وزملائه صورة أخرى للعلاقة الاسرية فان هى كانت طيبة سليمة ساعدت على النمو السليم والتكيف السوي، وان هى اضطربت واختلت هيأت للمرض النفسي.
هذا، وهناك أنواع من العمل تعتبر سببا مباشر للمرض النفسى وهى الانواع التى يتعرض فيها العامل لمواد كيميائية تؤثر على الجهاز العصبى المركزي، مما يؤدى الى الاضطراب النفسى والعقلي، ومثال ذلك التعرض للرصاص والبترول ومشتقاتهما. كما أن هناك نوع آخر يعتبرسببا غير مباشر للاصابة بالمرض النفسي، فقد لوحظت زيادة نسبة بعض الامراض بين طوائف مهنية معينة، مثل ادمان الخمر بين عمال وموظفى شركات تشطير الخمور وادمان العقاقير المخدرة والمنبهة بين الممرضات والاطباء وذلك لان طبيعة عمل كل فئة تعرضها لتعاطى الخمور أو المخدرات ثم التعود عليها ثم ادمانها – كما لوحظ أيضا انتشار الزهرى (بمضاعفاته العقلية والنفسية) بين البحارة، وذلك لانهم يكثرون من التنقل بين الموانى المختلفة بعيدا عن زوجاتهم فيتعرضون للعدوى نتيجة اتصالهم بالساقطات.
4- النقص الخلقى:
نقصد بالنقص الخلقى حالات العيوب الوراثية الجسمية التى يولد بها الفرد والتى تؤثر على قدراته أو على شكله الظاهرى مما يولد عنده الشعور بالنقص والعزلة ومن ثم يهيئة للمرض النفسي.
وقد يكون النقص الخلقى فى تكوين الجهاز العصبى والمخ سببا رئيسيا (مهيئا ومرسبا) فى حدوث المرض النفسي.
5- الاصابة السابقة بالمرض النفسى أو العقلي:
بعض الامراض الباطنية مثل أنواع معينة من الحميات (كالحصبة) تكسب الذى يتعرض لها بعد شفائه منها،مناعة ضد هذا المرض قد نصل الى سنوات عديدة بينما نرى أن بعض الامراض الباطنية الاخرى مثل الذبحة الصدرية وهبوط القلب وانسداد الشرايين، والسل الرئوى تترك المريض بعد شفائه أكثر عرضه للاصابة مرة ثانية بنفس المرض، أما فى الامراض النفسية والعقلية فان الاصابة الاولى تترك المريض بعد شفائه منها أكثر عرضة للنكسة أو الاصابة مرة ثانية الا اذا عولج علاجا طويلا هادفا بقصد وقايته من الاصابة، وذلك بالعلاج العضوى والنفسى الذى يؤدى الى أن يغير المريض من طريقة تفاعله لمصاعب الحياة الى طريقة سليمة فيصير بذلك أصلب عودا وأقدر على مواجهة المتاعب.
ثانيا: الاسباب المرسبة
تنقسم الاسباب المرسبة للمرض النفسى الى أسباب عضوية وأسباب نفسية وفى أغلب الاحيان تكون الاسباب المرسبة عضوية ونفسية معا – غير أنه قد ترجح كفة احداهما على الاخرى تبعا لنوع المرض والمريض، فالانسان جسم ونفس يتفاعلان معا ليكونا وحدة لا تتجزأ تعيش متكاملة فى بيئة تؤثر فيها وتستجيب لها. ونستطيع أن نوجز الاسباب المرسبة فيما يلي:
(أ) الاسباب العضوية:
يعتقد بعض أطباء الامراض النفسية والعقلية أن معظم أشكال المرض العقلى كالفصام والجنون الدورى أنما هى نتيجة لتغيرات عضوية مما لم يتأكد حتى الآن، غير أنه من الملاحظ أن بعض التغيرات العضوية المرضية ينتج عنها ويصاحبها اضطراب نفسى أو عقلي. ونورد هنا أهم تلك الاسباب:
1- الحمى والامراض المعدية:
من المشاهدات المتكررة أن الوظائف العقلية تضطرب مع أرتفاع درجة الحرارة لاى سبب من الاسباب. ولعل كثيرا منا قد مر بحالة هذيان نتيجة التهاب فى اللوزتين مثلا سبب أرتفاعا كبيرا فى درجة حرارة الجسم. على أن الحميات بأنواعها قد يصاحبها اضطراب نفسى وعقلى أثناء فترة ارتفاع الحرارة ولكن قد يحدث هذا الاضطراب قبل الحمى وقد يتبعها. ذلك لأن سببه ليس ارتفاع الحرارة فحسب وانما سببه اضطراب فى التمثيل الغذائى لخلايا المخ نتيجة للحمي، ويكون هذا الاضطراب فى الاغلب اضطرابا مؤقتا.
هذا بالاضافة الى أن هناك أمراضا معدية خاصة مثل الزهرى والتهاب المخ السحائى نكون لها أعراض نفسية وعقلية خاصة نتيجة للاصابة المباشرة للمخ.
2- الاصابات:
لا تسبب اصابات الجمجمة أمراض عقلية الانادرا، الا أنه من المشاهد حدوث تغيرات فى السلوك والشخصية فى البالغين عقب شفائهم من أصابات الجمجمة، وتكثر مثل هذه التغيرات السلوكية بعد الاصابة فى الاطفال حتى أن الاصابات تعتبر السبب الثانى فى الاهمية بعد التهاب المخ السباتى Encephalitis Lethargica التغير السلوكى فيهم ولا يلزم أن تكون الاصابة على الرأس حتى تضطرب الشخصية ويترسب المرض النفسى بل تكفى اصابة الجسم أو حتى تضطرب الشخصية ويترسب المرض النفسى بل تكفى اصابة الجسم أو حتى وقوع حادث دون اصابة الجسم أو الرأس ليترسب المرض. وذلك فى الاشخاص المهيئين.
3- التسمم:
يرسب التسمم بأنواعه المختلفة المرض النفسى أو العقلي… والتسمم قد يكون تسمما خارجياً نتيجة لتعاطى عقاقير كالكحول والمخدرات والمهدئات والمورفين والبنزدرين وغيرها، وكثرة تعاطى مثل هذه العقاقير قد يصبح عادة تصل الى حد الادمان. وقد يكون التسمم داخليا نتيجة لاختلال وظائف بعض الأعضاء كالتسمم البولى (يوريميا)، والتسمم الكبدى (كلويميا)، والغيبوبة السكرية وغيرها، كما قد يكون تسمما نتيجة لوجود بؤرات ميكروبية فى الجسم تفرز سمومها.
4- التشوه:
التشوه هو حدوث عيوب جسمية نتيجة للمؤثرات المختلفة التى قد تكون خارجية كالحريق والاصابات أو داخلية كالتشوه الناتج من بعض الامراض الجلدية… فاذا حدث مثل هذا الامر لاحد الاشخاص المهيئين للمرض النفسى فانه يحس بالنقص والعزلة كما قد يحس بنفور المجتمع مما يرسب المرض النفسى أو العقلي.
5- أمراض المخ والاعصاب:
نقصد بأمراض المخ والاعصاب الامراض التى تؤثر على الخلايا العصبية والمخية مهما تعددت أسبابها – ولما كان الجهاز النفسى هو فى الواقع وظيفة من وظائف التركيب العصبي، فان أى خلل فى هذا التركيب يودى الى اضطراب الوظائف النفسية وبالتالى الى المرض النفسى أو العقلى وأمثلة ذلك مرض الرقص الزنجى (الكوريا) والشلل الاهتزازى (الباركينسونزام) والالتهابات السحائية والمخية والشوكية، والاورام المخية بأنواعها الحميدة والخبيثة، والشلل الجنونى العام.
6- نقص الفيتامينات:
اذا لم يستكمل الجسم حاجته من الفيتامينات حدث خلل فى توازن التمثيل الحيوى للاعضاء، وبالتالى فى وظائف خلايا المخ مما يؤدى الى أعراض عقلية ونفسية ومثال ذلك مريض البلاجرا المتوطن فى بلادنا ومرض نقص فيتامين (ب،أ) وقد يحدث هذا النقص بصورة مزمنة ويكون النقص حينئذ سببا مهيئا كما قد يحدث بصورة حادة، أو يتضاعف النقص المزمن بشكل سريع ويكون النقص الفيتامينى حينذاك سببا مرسبا.
7- اضطراب الغدد الصماء:
للغدد الصماء تأثير كبير على القدرات العقلية وتكوين الشخصية ولاضطراب هذه الغدد تأثير كبير على القدرات العقلية كما يحدث فى حالات النقص العقلى الناتج عن نقص افراز الغدة الدرقية (الكثم ) Cretinism وقد يؤدى اضطراب الغدد الصماء الى تفاعل مرضى نتيجة لتغير التكوين الجسمى للمصاب عن بقية افراد المجتمع مما يبعث فى نفس المريض الشعور بالغرابة والنقص كما يحدث فى حالات العملقة Gigantism أو السمنة المفرطة فى مرض زيادة افراز الغدة الكظرية Cushing Syndrom
8- التعرض لدرجات الحرارة العالية:
أن طول مدة العمل أمام الأفران الكبيرة، وشدة حرارة الجو قد تسببان فى الأفراد المهيئين للأمراض النفسية تغيرا نفسيا شديدا، ولذلك نلاحظ أن الخبازين وعمال صهر الحديد والصلب شديدى الحساسية حادى المزاج على وجه العموم، كما نلاحظ أن الأوربيين الذين يقيمون فى المناطق الحارة يغرقون فى شرب الخمر كدليل على توترهم النفسي. وقد يؤدى هذا التغير إلى المرض النفسى أو العقلي.
ومن الملاحظ أن نسبة الإصابة بالأمراض النفسية أو العقلية ترتفع مع ارتفاع حرارة الجو فى الصيف كما لوحظ أن ضربة الشمس قد ترسب اضطرابا عقليا فى صورة هذيان أو غيره فى الأشخاص المهيئين للمرض.
(2) الأسباب النفسية:
الأسباب العضوية التى ذكرناها لتونا كثيرة وسهلة الاكتشاف فباستعمالة مقياس الحرارة (الترمومتر) مثلا لبضعة دقائق يمكننا معرفة إلى أى مدى ارتفعت درجة حرارة المريض – وبإرسال عينة الدم أو سائل النخاع إلى المعمل يمكننا اكتشاف أن المريض مصاب بالزهرى أو التسمم البولى أو الغيبوبة أو غير ذلك – أما الأسباب النفسية فهى صعبة الاكتشاف تحتاج إلى جهد، وصبر وملاحظة واستنتاج حتى نصل إلى جذورها، فمثلا نجد أن من أهم الأسباب النفسية للمرض النفسى الصراع الذى كثيرا ما يحدث فى اللاشعورى دون إدراك من المريض أى بعيدا عن دائرة وعيه أو إرادته، ولذلك فإنه لا يكون سهل الاكتشاف.
وينشأ الصراع دائما إذا ما كانت هناك صعوبة فى الإختيار بين دافعين وذلك إذا ما أثير أكثر من دافع فى وقت واحد وكان أحدهما يتعارض مع تحقيق الآخر، ومثال الصراع الشعورى بين الدوافع هو ما يكابده الشاب من صراع بين ارضاء دافع الجنس وإشباع الدافع الاجتماعى باكتساب احترام المجتمع. وإذا حدث هذا دون وعى الشاب وإدراكه سمى صراعا لا شعوريا – وإذا احتد هذا الصراع وأشتد التعارض بين الدوافع صعب على النفس تحمله وأوجدت لنفسها مخرجا مما هى فيه ولو على صورة مرض نفسي.
ومثال ذلك ما نراه أن ظهور الأعراض الهستيرية (كفقدان النطق) عند شخص أهانه رئيسه أمام زملائه يحل الصراع وينهى للقلق: فقد كان المريض بين أمرين أما أن يرد الإهانة، ويتهدده رئيسه فى رزقه وإما أن يرضى بالاهانة ومن ثم يحتقره زملاؤه وربما احتقر هو نفسه، فإذا ما فقد النطق مرضيا (دون إرادة شعورية) وجد مبررا لعدم الرد على رئيسه.. وفى نفس الوقت احتفظ باحترام ذاته… وهكذا.
وقد يظهر الصراع إلى العالم الخارجى بصورة مقنعة أخرى مثل صورة الوساوس أو النيوراستانيا… الخ.
هذا – ولو أن الصراع النفسى هو أهم الأسباب النفسية المحدثة للمرض النفسى إلا أن هناك سببان آخران وهما الاحباط والحرمان، ففى الإحباط يصاب المرء بخيبة أمل فيما يريد تحقيقه فلا يصل إلى هدفه لوجود ظرف قاهر أكبر من إرادته وامكانياته وذلك مثل الخسارة المالية أو الرسوب فى الامتحان.. الخ.
أما الحرمان، فهو إنعدام الفرصة لتحقيق دافع ما أصلا، أو انتقاؤها بعد وجودها.. ومثال ذلك الحرمان الذى يصاب به دافع الابوة بعد فقدان الولد.. الخ.
ونحب أن نشير إلى أننا إذا تحدثنا عن الأسباب النفسية كعامل مرسب نجد أن أغلب الناس يعزون ظهور المرض النفسى إلى الإحباط والحرمان دون الصراع وذلك لأن الصراع كثيرا ما يدور بعيدا عن دائرة الوعى دون إدراك من المريض.
وقد ثبت أن الإنسان يستطيع تحمل الصدمات النفسية العنيفة قصيرة المدى رغم شدتها، بينما لا يقوى على تحمل الصدمات النفسية الأقل شدة إذا ما تعرض لها لمدة طويلة.
الموجز
أسباب الأمراض النفسية
الأمراض النفسية ما هى إلا نتيجة تفاعل قوى كثيرة ومتعددة موجودة فى البيئة والإنسان معا وأسبابها أما مهيئة أو مرسبة.
أولا: الأسباب المهيئة:
الأسباب المهيئة متعددة ومختلفة وربما استمر تأثيرها على المريض عدة سنوات، وهى تهييء لحدوث المرض أى تجعل الإنسان عرضة – أكثر – من غيره – لظهور المرض النفسى إذا ما أصابه سبب مرسب. وأهمها ما يلي:
1- الوراثة:
وهى عامل عام يكاد يشمل الناس جميعا إذ قلما تخلو عائلة من وجود مرض نفسى أو عقلى بها، وتلعب جميع أنواع الوراثة دورا واضحا فى تكوين المريض النفسى وتهيئته لظهور نوع معين من المرض.
2- مراحل العمر:
تعتبر مراحل المراهقة (12-20) وسن اليأس (حول 50) وسن الشيخوخة (بعد 60) مراحل حرجة فى حياة الإنسان يكثر فيها حدوث المرض النفسي، وذلك لعدم التوازن بين الناحية الجسمية والناحية النفسية فى مرحلة المراهقة، وكذا للشعور بقرب النهاية والعزلة والضعف الجسمى ونقص الكفاءة فى مرحلة سن اليأس والشيخوخة.
3- البيئة:
تنقسم العوامل البيئية الى عوامل عامة تشمل جميع افراد المجتمع و عوامل خاصة تتعلق بالفرد.
أ- العوامل العامة:
(1) المدنية و الحضارة: تمثل عبئا على عدد كبير من الناس لا سيما ضعيفى القدرات و ذوى التكوين النفسى الهش
(2) التصنيع: يحتاج العمل الصناعى الى قدرات أكبرمن العمل الزراعى و يحتاج بذلك الى طاقة نفسية اكبر للتكيف، وهكذا يعتبر التصنيع عبئا على نفوس الناس و يهيئ للمرض النفسى.
(3) القوانين: بتقدم الحضارة تتعقد القوانين و تمثل تقييدا لحرية الانسان وتهديدا لطمأنينته.
(4) الحرب: ان و قوع الحرب و الخوف من حدوثها يمثلان تهديدا للانسان و يثيران احساسا بالاسى و الضياع.
(5) العلاقة بالزمن: ان العصر الحاضر و هو عصر السرعة يجعل الفرد انسانا اليا و لا يسمح له بفرص التأمل و الاسترخاء و الاستجمام مما يهيئه للمرض النفسى.
ب- العوامل الشخصية:
(1) التعلق بالوالدين: يجعل الاستقلال عنهما صعبا فى الكبر وبذلك تصعب الحياة وتبدو قاسية لا أمان لها لاسيما بعد أحد الوالدين أو كليهما.
(2) القسوة والتدليل: ان المبالغة فى القسوة يجعل الحياة تبدو مؤلمة كما أن زيادة التدليل يفقد الانسان القدرة على مواجهة صعوبات الحياة بطريقة سليمه وكلا الامرين يهددان الصحة النفسية والتكيف مع المجتمع.
(3) شدة النظام يشبه القسوة فى تأثيره على تنشئة الطفل ويزداد خطره اذا لم يفهم الطفل سبب كل هذا التمسك بالنظام والدقة.
(4) عدم التوافق الاسرى. ان كثرة الشجار بين أفراد الاسرة وتفككها بالانفصال أو الطلاق تعنى أن الطفل سينشأ مفتقرا الى المعنى الصحى السليم للاسرة والى الرعاية الواجبة من الوالدين.
(5) الافتقار الى الثقافة الجنسية: ان ذلك يعرض الاطفال الى استقاء معلوماتهم من مصادر جاهلة أو خسارة كالكتب الرخيصة وبالتالى يورثهم الفهم السقيم والخيال المشوه.
(6) الحالة المدنية: تكثر الامراض النفسية بين غير المتزوجين ( أعزب أو مطلق ) عنها بين المتزوجين. فالزواج مصدر للامان النفسى فهو يرضى الحاجات الاجتماعية كما يفى بالاستكفاء الجنسى. كما أن عدم الزواج أو الطلاق قد يعتبران مظهرا للمرض النفسى فى صورة مخففة أو خفية.
(7( التعليم والدراسة: ان تناسب مستوى التعليم مع القدرات يمنح الراحة النفسية، فزيادة المستوى التعليمى عن المستوى العقلى يشعر الانسان بالنقص، وانخفاض المستوى التعليمى عن الامكانيات العقلية قد يبعث على الاستهتار أو الشعور بالظلم ان كان السبب هو عدم اتاحة الفرصة.
(8) العمل: ان العمل مخرج لطاقة الانسان، كما أنه يشعره بقيمته، وهو ضرورى كوسيلة للرزق، فاذا لم تتح الفرصة للقيام به أو كان الاجر منه لا يفى بحاجات العامل، أصبح الفرد مهيئا لحدوث المرض النفسى.
وهناك من الأعمال ما يكون سببا مباشرا للاصابة بالمرض النفسى مثل التعرض لمنتجات الرصاص أو سببا غير مباشر له مثل ادمان الخمر بين عمال وموظفى شركات تقطير الخمور.
(9) الاصابة السابقة بالمرض النفسى أو العقلى تعرض المريض لتكرار الاصابة، الا فى النادر وذلك اذا ما أعطى علاجا طويلا هادفا.
4- النقص الخلقى:
العيوب الوراثية والجسمية قد تؤثر على قدرات الفرد أو تشعره بالنقص والعزلة فتهييء للمرض النفسى. كما أن النقص الخلقى فى تكوين الجهاز العصبى يكون سببا رئيسا فى حدوث المرض وذلك مثل حالات ضعف العقل.
ثانيا: الاسباب المرسبة:
(1)الأسباب العضوية:
1 – الحمى ( بأنواعها ) والامراض المعدية.
2- الاصابات: سواء كانت اصابات للرأس أو للجسم وهى فى الاطفال أهم من الكبار كسبب لاضطراب السلوك.
3- التسمم: ويكون اما تسمما خارجيا كالحول والمخدرات أو داخليا كالتسمم البولى ( يوريميا ) أو الكبدى ( كوليميا ) أو الغيبوبة السكرية.
4- التشوه: بالحريق أو الامراض الجلدية أو غير ها، يحدث عيوبا جسمية تبعث على الشعور بالنقص والغرابة والعزلة، ومن ثم تساعد على ظهور المرض.
5- أمراض المخ والاعصاب: وهى الامراض التى تؤثر على الخلايا العصبية والمخية وتفسد وظيفة التركيب العصبى وبالتالى يضطرب عمل الجهاز النفسى ، وأمثلتها، الالتهابات السحائية والمخية، وأورام المخ الخبيثة والحميدة والشلل الجنونى العام.
6- نقص الفيتامينات: لاسيما مركبات فيتمين ب المركب تؤدى إلى الأمراض كمرض البلاجرا المتوطن فى بلادنا وكذل النقص الحاد لفيتامين ( ب) الذ ى يؤدى الى أعراض عصبية وعقلية حادة.. وهكذا.
7- اضطراب الغدد الصماء: ان زيادة افراز الغدد الصماء ( كالتسمم الدرقى ) أو نقصها ( كالكثم ) قد تنشأ عنه اضطرابات نفسية. كما أن التشوه الذى يحدث نتيجة الاضطراب يؤدى الى ما يؤدى اليه عامل التشوه الذى ذكرناه.
8- التعرض لدرجات الحرارة العالية: ان طول مدة العمل اما الافران الكبيرة وكذا ضربة الشمس فى الحر الشديد قد ترسب المرض النفسى.
(2) الاسباب النفسية:
الاسباب النفسية المسببة للمرض النفسى أصعب اكتشافا من الاسباب العضوية وهى تتلخص فيما يلى:
1- الصراع: وينشأ الصراع اذا تعارضت رغبتان من رغبات الانسان وكان عليه ان يختار بينهما ولم يستطع ان يرجح احداهما على الاخرى. ويكون الصراع شعوريا، أى بعلم الانسان وادراكه أو لاشعوريا أى دون علم الانسان وخارج دائرة الوعى وهذا النوع صعب الاكتشاف.
2- الاحباط: وفيه يصاب الانسان بخيبه أمل فيما يريد تحقيقة فلا يستطيع الوصول الى هدفه لظروف قاهرة أكبر من ارادته.
3- الحرمان: وهو انعدام الفرصة أصلا لتحقيق دافع ما، ورغم حدة هذا الدافع
الفصل الثانى
تركيب الشخصية
إن وجود اسباب المرض النفسى التى أفضنا فى شرحها فى الباب السابق يؤثر على شخصية المريض تأثيرا يستتبع حدوث التفاعل المرضى فى أى ناحية من نواحى الوظائف النفسية. ويتم هذا فى الغالب نتيجة تفاعل ديناميكى بين جوانب الشخصية المختلفة وتكون علينا دراسة تركيب الشخصية من الناحية الوظيفية، وكيف تتأثر الوظائف، كل على حدة بالمرض النفسى ، ثم كيف تتأثر علاقة الوظائق ببعضها – ثم دراسة القوى المؤثرة على الشخصية وكيفية تفاعلها، أى تركيب الشخصية من الناحية الديناميكية، وذلك قبل دراستنا لاعراض الامراض النفسية فى الفصل القادم.
ونعنى بتركيب الشخصية هنا تركيب النفس وتقسيمها ووظائفهما وتفاعلاتها.
أولا: التركيب الوظيفى:
ونبدأ الحديث من الناحية الوظيفية فنقول أن مكونات وظائف الشخصية هى: المعرفة Congnition (وتشمل التفكير والادراك والذاكرة) والوجدان Affect (وقد نتحدث عنها بمصطلحات أخرى: كالانفعال والعاطفة والشعور والمزاج) ثم العمل conation (ويشمل النشاط الحركى والارادة).
ونجد أن هذه الوظائف تسير – فى الحالات العادية – جنبا الى جنب فى توافق وانتظام شديدين، وكأن الشخصية ساعة ذات ثلاث تروس تسير مرتبطة ببعضها بنسب مجددة (مثل النسب التى بين تروس الساعات والدقائق والثوانى مثلا) ويكون وجه الساعة حينئذ هو المظهر العام للانسان، ولنضرب مثالا لكيفية سير هذه الوظائف اتفاق وتتابع فان الانسان اذ يرى مصدرا للخوف – كلب مسعور- يعرف ويدرك (تفكير) ان هذا حيوان شرس مؤذ فينفعل بالخوف (انفعال) ثم يطلق ساقيه للريح أو يحاول قتله والتخلص من أذاه (سلوك) حركى – ومثل أبسط من ذلك أن الطالب اذ يعرف قرب موعد الامتحان يعتريه انفعال القلق ثم يعمل على استذكار دروسه بجد.. وهكذا، فاذا أصيب الانسان بمرض نفسى أو عقلى فان هذه العلاقة قد تستمر متناسقة، أو قد تضطرب وتختل، ومثال ذلك ما سنراه من تغير الانفعال والعاطفة فى جنون الهوس والاكتئاب وما يستتبع ذلك من تغير فى الفكر والعمل، وهنا تستمر العلاقة سليمة اما فى مرض الفصام فان الشخصية تتفكك وتنفصم عراها وبذلك تفسد العلاقة بين وظائفها وتختل. اذا فمن الناحيتين الوصفية والوظيفية نرى أن كل الامراض النفسية تتلخص فى الاضطراب اختلال فى وظائف المجالات الاخرى ، أو ان الاضطراب يكون أساسا فى العلاقة بين هذه الوظائف بعضها ببعض، فضلا عن اضطراب كل وظيفة على حدة وهكذا نحب أن نشير الى اننا فى وصفنا للامراض النفسية بمختلف ابعادها وأنواعها لا تخرج عن دراسة تأثير كل مرض على كل وظيفة على حدة، ثم عليها مجتمعة أى على الشخصية ككل.
ونورد هنا مفهوم كل وظيفة وطبيعتها وعلاقتها بالمرض النفسى:
أولا: العواطف (الوجدان)… والمرض النفسى
أهمية العواطف:
العواطف هى القلب النابض للشخصية فكما أن استمرار ضربات القلب أساسى لاستمرار أداء أعضاء الجسم المختلفة لوظائفها، حتى أنه اذا ما توقف القلب مدة كافية انتهت حياة الجسم، كذلك أمر العواطف للنفس والشخصية، فهى ضرورية لاستمرار الوظائف النفسية السوية، فاذا انعدمت العواطف تعطلت الوظائف النفسية واضطربت، وكلنا يعلم ما يفعله الحب والكراهية والغضب فى سلوك الانسان. ورغم هذه الاهمية القصوى للعواطف فانه تنقصنا الوسائل العلمية لقياس كمية هذا الحب والكراهية أو الغضب كما نقيس كمية البولينا فى الدم أو السكر فى البول… الخ وقد بذلت محاولات علمية لقياس بعض المظاهر العاطفية النفسية كالاكتئاب والمرح والقلق وغيرها عن طريق مقاييس الشخصية.
والعواطف هى منبع الطاقة والقوة المحركة لسلوك الانسان وهى التى توجه هذا السلوك أو ذاك الى طريق الخير أو الشر والعواطف – عادة – لا تتبع التفكير، وأن كان قد يؤثر عليها فيقلل من حدتها ولكنه عادة لا يغير مجراها. فكثيرا ما نسمع قائلا يقول: لم أستطيع كبح جماح نفسى رغم يقينى أنى على خطأ. ومعنى هذا أن تفكير الانسان لم يستطع أن يغير مجرى سلوكه العاطفى.
وللعواطف أبعاد مختلفة فهى مثلا تتفاوت بين السرور والكدر وهذا هو البعد الاول الذى يشمل مشاعرنا التى تتوزع عليه من أقصى السرور الى غاية الكدر- وغالبا ما تتصف بأيهما بدرجة تزيد أو تنقص حسب مجريات الامور. غير أنه قد يحدث أحيانا أن يقع الشعور بين منطقتين فلا نحس بالسرور أو الكدر.. وهناك أبعاد أخرى للعواطف مثل الاثارة والخدر أو التوتر والاسترخاء… الخ.
والانفعال هو شعور مثار نحو موقف معين، وهو عاطفة يغلب عليها حالة تهيؤ حركى للقيام بسلوك معين، وهو مصاحب لكافة أنواع الدوافع التى تهدف الى تحقيق غاية بذاتها، وهو بذلك لازم للحياة السوية، ولكن اذا زادت حدة الانفعال فانه قد يصبح خطرا على حياة الانسان السوية اذ أنه يعوق تكيفه الاجتماعى وقد يثير صراعا محتدما بين نواحى الشخصية يستغرق طاقة الانسان التى كان ينبغى أن يواجهها الى الانتاج والتكيف، وبذلك يصبح أقل فاعلية وأبعد عن السواء. ودليل ذلك مثلا: أن القلق لازم للانتاج ولكنه اذا زاد عن الحد السوى فانه يعوق الانتاج بمعنى انه اذا لم يقلق الطالب اطلاقا على النجاح لم يذاكر دروسه أما اذ عايش ذلك القلق بدرجة كبيرة مزعجة فانه سوف ينشغل بالقلق عن العمل المنتج ويتشتت ذهنه ويضعف تركيزه – وهكذا نرى أن انفعال الغضب اذا زاد عن حده أفقد الانسان أصدقاءه وأعجزه عن التكيف… وهكذا.
الاستجابة العضوية للعواطف:
ان الاستجابة العاطفية مهما كانت ضعيفة وأيا كان نوعها تكون مصحوبة عادة ببعض التغيرات فى بعض وظائف الجسم، فنرى تغيرات أخرى نتيجة لاضطراب الغدد الصماء والجهاز العصبى الذاتى فنرى ارتفاع ضغط الدم أو انخفاضه وسرعة النبض والعرق وارتفاع نسبة السكر فى الدم وغير ذلك. وقد بلغ من تلازم هذه التغيرات للانفعالات الشديدة أن اتخذت مقياسا لشدة العواطف التى أنتجتها.
التغيرات العاطفية نتيجة للاستجابة العضوية:
كل تعبير عضوى عن العواطف، مثل الضحك لعاطفة السرور والبكاء لعاطفة الحزن والتهيج البدنى لعاطفة الغضب يساعد شعور الانسان بهذه العاطفة على الاستمرار وذلك لان هذا التغيير العضوى فى ذاته (مثلا: ضحك) يثير العاطفة المقابلة (مثلا: سرور) – كما أن الشعور العاطفى (سرور) يؤدى الى تعبير عضوى معين (ضحك) وهكذا تنشأ حلقة مفرغة بين الشعور بالعاطفة والتعبير العضوى عنها وتسمى الحلقة الجسمية النفسية.
هذا وقد تضطرب العواطف كما وكيفا اضطرابا بالغا يظهر فى الامراض النفسية المختلفة وسيرد ذكره فى أعراض الامراض النفسية فى الفصل القادم، كما قد يؤثر اضطراب العاطفة تأثيرا مرضيا على سائر اعضاء الجسم مما سنذكره فى الامراض الجمسية النفسية Psychosomatic Disorders.
ثانيا: التفكير… والمرض النفسى
التفكير لغة: هو اعمال النظر فى الشيء وفى علم النفس هو نشاط عقلى يهتم أساسا بايجاد حل للمشاكل، وهو نشاط ينبغى أن نميزه عن النشاط الحسى والحركى، فهو نشاط مستقل عن أيهما وان كان لا يستغنى عنهما فى أداء وظيفته.
ويمكن تقسيم التفكير حسب الموضوع الذى يدور حوله الى ما يلى:
1- التفكير الذاتى Egocentric وهو الذى ينشغل فيه الانسان بنفسه باعتباره مركز الثقل فى هذا الكون فيربط كل المفهومات بشخصه ولا يدرك من مفهوم الكائنات الا ما يرتبط بنفسه ولا يهمه من أى شيء الا مقدار تأثيره عليه نفعا أم ضرا، فكأنه ينظر الى العالم بمنظار كتب عليه أنا وهذا التفكير يتصف به عادة بعض مرضى الامراض النفسية مثل مرضى الفصام وبعض اضطرابات الشخصية مثل الشخصية السيكوباتية.
2- التفكير الموضوعى – Obecttive : فى هذا النوع من التفكير ينظر الانسان الى الكائنات كما هى بكل علاقتها ويتجرد فى نظرته تلك من انفعالاته الشخصية وتجاربه السابقة، وهذا النوع من التفكير هو أفضل الانواع لانه يجعلنا نحكم على الاشياء حكما صائبا دون هوى أو تحيز، لذلك فهو التفكير الذى يهدف العلاج النفسى إلى تنميته فى المريض ليصبح أقدر على حل مشاكله حلا موضوعيا صحيحا.
هذا ويمكن تقسيم التفكير من ناحية علاقته بالواقع الى الانواع الثلاث التالية:
1- التفكير الواقعى Realistic فى هذا النوع يكون مصدر تفكيرنا مواضيع من واقع حياتنا ونلتزم فيه بما يفرضه علينا هذا الواقع ويعرف هذا النوع أحيانا بالتفكير المنطقى وهو تفكير سوى تماما.
2- التفكير المثالى – Idealistic : ويستمد هذا النوع من التفكير موضوعه من تصورنا لما ينبغى أن يكون، ضاربين عرض الحائط بما هو كائن فعلا من عدم تكامل وقصور فى الاشخاص والاشياء وهذا النوع من التفكير ينبع من المثل التى يفرضها المفكر ثم يؤمن بها ويحترمها مهما خالفت الواقع مما يجعل هذا التفكير غير عملى ، ولو أنه ليس تفكيرا شاذا اذ أن الواقع قد يرغم هذا المفكر على الالتزام بقوانينه بعد حين فيغير أفكاره لتطابق الواقع ولكن هذا النوع من التفكير اذا جاوز الحد ساعد على عدم التكيف الاجتماعى بكل مساوئه.. ومن ثم ساهم فى احداث المرض النفسى.
3- التفكير الخيالى: يغلب على هذا النوع من التفكير أن يأخذ موضوعه من الرغبات التى يتمنى الشخص تحقيقها مهما بعدت من الواقع واوغلت فى الخيال ولذلك يعتبر هذا النوع من التفكير أقرب الى المرض اذا لم تصاحبه أيه محاولة لتنفيذ الرغبات اكتفاء بتصور حدوثها.
وقد يشمل التفكير الخيالى التفاخر، والرواية الكاذبة، وأحلام اليقظة، وحينما يبلغ مبلغا خطيرا أسواء بالاسراف فيه أو باعتباره الطريقة الوحيدة التى يستطيعها الانسان فانه يصبح ظاهرة مرضية خطيرة.
4- الاحلام: الاحلام هى تخيلات النائم، وفى أثناء النوم يقل النشاط العقلى لدرجة ان الاتصال بالبيئة يكون معدوما تقريبا وتختلف المدارس النفسية فى تفسير الاحلام وتقويمها ولكن مما لاشك فيه أن الاحلام تعتبر مادة غنية جدا فى دراسة المريض النفسى وفى تتبعه وعلاجه.
هذا وقد يضطرب مجرى التفكير أو محتواه اضطرابا بالغا فى المرض النفسى كما سيرد ذكر ذلك فى أعراض الامراض النفسية.
ثالثا: العمل… والمرض النفسى
ان تحقيق أهداف الانسان السوى لا يتم الا بالعمل والانتاج فى ظل من الراحة النفسية الداخلية والتكيف الاجتماعى القويم. فاذا كانت العاطفة هى القوة الدافعة والتفكير هو حل للمشاكل وتخطيط الخطة المرسومة. والعمل المنتج دائما تصحبه وتلازمه بل وتسبقه الارادة السليمة، فالارادة هى تحكم مقصود ومرسوم فى العمليات النفسية تتعلق بتحقيق الهدف، وهى استجابة مؤجلة تهدف الى تحقيق غرض ما، وهى تبدأ بالوصول الى قرار. ولكن عملها لايقتصر على ذلك فاننا ما نصادف من يتكلمون عن أنهم وصلوا الى قرارات نهائية دون أن تبدر منهم بادرة نحو التنفيذ، وقد يصل بهم الحال الى التمادى فى اتخاذ القرارات ورسم الخطط والاكتفاء بذلك عن العمل الجدى ، حتى يستطيع الانسان أن يصف قراراتهم وخططهم بأنها أحلام يقظة وليست قرارات ارادية البته، فالعمل بذلك يكمل القرار ويظهر جديته وصدق الارادة فيه، ولنا أن نشك فى قيمة القرار وصفته الارادية اذا لم يتبعه عمل، كما أن العمل – ولو بدأ تنفيذه – قد لا يعنى ارادة حقه وانما قد يكمل أن أحلام اليقظة اذا هو اقتصر على الدفعة الاولى ولم يستمر فى طريقه لتحقيق الهدف، لذلك كان استمرار العمل لازما للدلالة على أن القرار ارادى وأن العمل جاد هادف، واستمرار العمل والتصميم عليه يطلق عليه لفظ المثابرة.
واضطراب الارادة فى الامراض النفسية أمر بالغ الاهمية، وسوف يرد ذكره فى أعراض الامراض النفسية دون تخصيص ولذا ينبغى أن نشير هنا الى أمثلة من مظاهر اضطراب الارادة كالتردد Hesiancy والقابلية للاستهواء suggestibility التى يتصف بها العصابيون. وكذا الطاعة الآلية Automatic Obedience (بما فى ذلك المحاركة Echopraxia والمصاداة Echolaia والتصلب الشمعى Flexibilites crea) وفى الخلف Negativsm وهذه الصفات نجدها فى مرضى الذهان ولا سيما الفصاميون.
التركيب التشكيلى للشخصية:
كثر الحديث فى الاعوام الاخيرة عن ما يسمى التحليل التركيبى للشخصية وعن التركيب النفسى التشكيلى للشخصية وهو ما يعنيه أحيانا ru tural Confilur rtion ويستحسن أن نورد ما يعنيه هذين التعبيرين فالتعبير الاول يشير الى ان العلاقة بين قوى الشخصية ليست مجرد علاقة بين وظيفة ووظيفة أخرى (مثل التفكير والعاطفة) بل انها علاقة بين كيان وكيان، وكأن الشخصية الواحدة تحوى أكثر من كيان ويظهر كل كيان حسب الظرف الخاص به، ففى كل منا كيان طفلى يظهر فى الاجازات واللعب والانطلاقات الحرة.. مهما بلغ بنا العمر، وكيان والدى يرعى الاصغر منه ويأخذ بيده ويوجهه ويعاتبه أحيانا – وكيان اليافع وهو الكيان الخاص بالعلاقة بالواقع المباشر وبالسعى الجاد لاكتساب العيش وحسابات الواقع وما يترتب عليه، ويظهر كل كيان فى الوقت المناسب له ليؤدى وظيفة لازمة للحياة لا يمكن الاستغناء عنها والعلاقة السليمة بين الكيانات وبعضها وتوقيت ظهورها يدل على الصحة النفسية، أما تصادفها أو اختلاطها ببعضها فيدل على الاضطراب النفسى.
وكثير من الاتجاهات الحديثة تفسر الامراض النفسية كافة بطبيعة العلاقة بين هذه الكيانات وبعضها.
أما التعبير الآخر. هو التركيب النفسى التشكيلى للشخصية فانه يشير الى بعض ماورد فى حديثناعن التركيب الوظيفى للشخصية الامر الذى زادت أهميته لدرجة أن دراسة تغير كل وظيفة فى شكلها وطبيعتها وعلاقتها بالوظائف الاخرى أصبح مرحلة هامة جدا تصل ما بين التكوين الدينامى للنفس البشرية والذى يتم منذ الولادة حتى قبيل المرض وبين مرحلة ظهور الاعراض، بمعنى أن الطفل يولد باستعدادات خاصة ثم يتكون ديناميا نتيجة لتأثير خاص حتى يصل الى تشكيل معين فى علاقة وظائفه النفسية ببعضها، وبناء على طبيعة هذا التشكيل ومداه تظهر الاعراض أو لا تظهر فى وقت بذاته.
وكأن التركيب النفسى التشكيلى للشخصية اذا ما اضطراب بشكل معين كان نتاج هذا اضطراب ظهور أعراض معينه بهذا الشكل أو ذلك.. وكأن تسلسل الاحداث يتم على الصور التالية…
فى حالة السواء
استعداد فطرى —–> تركيب دينامى ينظم قوى الشخصية —–> وينتمى الى تركيب نفسى تشكيلى للشخصية.
التركيب النفسى الشخصية قابل للنمو والتحور حسب الاحداث وذلك فى حالة السواء.
وفى حالة المرض
استعداد فطرى —–> تركيب دينامى مثقل تتصارع فيه قوى الشخصية —–> ينتهى الى تركيب نفسى تشكيلى للشخصية يتصف بأنه معوق للتناسق بين الوظائف ومغير لطبيعتها وتسلسلها وانتظامها —–> ظهور الاعراض (المرض).
ثانيا: التركيب الديناميكى للشخصية
نعنى بالتركيب الديناميكى للشخصية التركيب الذى يشرح ويوضح القوى المختلفة التى تؤثر فى تكوين الانسان والتى يكون سلوك الانسان محصلة لعملها , ويجرنا هذا الحديث الى تقسيم النفس الانسانية من حيث وعينا بمحتوياتها من عدمه وهو التقسيم الذى أعلن معالمه وحددها أساسا العالم النمسوى سيجموند فرويد ثم عمقة ووسع مفهومه العالم كارل جوستاف يونج , ويمكن تقسيم الشخصية بناء على ذلك الى منطقتين أساسيتين: منطقة الشعور ومنطقة اللاشعور، وكل منهما تحوى مجموعة من الاستعدادات والخبرات والعمليات والدوافع والقوى، على أنه ينبغى تأكيد أنه لا يوجد حد فاصل بين الشعور واللاشعور فما هو شعورى الآن قد يصبح لاشعوريا فى الحال أو بعد فترة، تبعا للطريقة التى ينتقل بها الى اللاشعور اما بالكبت أو بمرور الزمن والنسيان , وما هو لاشعورى الآن يمكن أن يخرج الى حيز الشعور بتغير الظروف أو بطرق نفسية خاصة كالتداعى الحر أو التفريغ.
ويتكون محتوى اللاشعور من مصادر عدة: أولها: ما يفترضه البعض من وراثة خبرات وتجارب أجيال سابقة لا ندرك ما هيتها وان أثرت فى سلوكنا وصفاتنا النفسية. ثانيها: الغرائز الفطرية التى لا نتبين حقيقة معالمها ومدى تأثيرها وان كانت شديدة الفاعلية فى توجيه كل تصرفاتنا. وثالثهما: نمر به من خبرات تختزن فى اللاشعور مباشرة دون أن ندركها ادراكا واعيا كاملا مثل ما يحدث والانسان بين اليقظة والنوم أو وهو منتبه كلية لامر اخر , ورابعها: ما نشعر به وندركه من تجارب وأحداث تنتقل الى اللاشعور اما فى الحال بالكبت دون أن نفرغ الشحنة العاطفية التى تحملها أى دون أن نعيش تجربتها الى غاية مداها بمعنى أن الحوادث المؤلمة التى تقهر الى اللاشعور قسرا لا نحس فيها بكل الالم المناسب لشدتها، وانما هى تلقى فى حظيرة اللاشعور خوفا من الالم الذى يمكن ان تؤدى اليه بما فى ذلك من خداع للنفس وتأجيل للمعاناة، وقذف بالتجربة بكل ظروفها الى مكان أبعد وندركها بالنسيان ومرور الزمن بعد أن نعيشها ونعطيها قدرها من العواطف والانفعالات والتحكم اللا إرادى فيها، وتكون هذه الطريقة الاخيرة أقل فاعلية من حيث الضغط الداخلى فى اللاشعور اذ أن شحنتها العاطفية تكون أقل كثيرا من الشحنة التى تحملها.
الحوادث التى تختزن بالطريقة الاولى وهى الكبت، فتكون بذلك ذكريات كامنة لا تؤثر فى سلوكنا بنفس القوة.
والدليل على وجود اللاشعور وتأثيره على سلوكنا هو ما نلاحظة من أخطاء ذات معنى – يرتكبها الناس فى الكلام أو الكتابة. ثم يعتذرون عنها بأنها ليست الا فلته لسان أو زلة قلم فى حين أنه بالاستقصاء يتبين لنا أنها تعنى موقفا نفسيا محددا. ومثال ذلك المثل الذى أورده فرويد فيما معناه أن خطيبا من تلاميذة أحد العلماء قام يمدحه فى حفل تكريم له فقال ان جمود هذا الباحث… الخ وكان يعنى أن يقول ان جهود هذا الباحث.. الخ وكأن لاشعوره لا يعترف لهذا الباحث الاستاذ بأى جهد حقيقى بل بالعكس انه يأخذ عليه جموده فى البحث والامثلة المشابهة كثيرة ومنها أن الانسان ينسى مكان الاشياء وأسماء الاشخاص الذين لا يحب تذكرهم.. الخ.
ونحب أن نشير هنا الى وجود قوة تؤثر على النفس وتساعد على الكبت بل وتمنع كثيرا من محتوى اللاشعور من الظهور الى منطقة الشعور (وهذه العملية الاخيرة صورة من صور الكبت وتسمى المقاومة)… هذه القوة الجديدة هى التى تتمثل فى ما يسمى تجاوزا الضمير… وهو الوازع الخلقى الذى يتحكم فى سلوك الانسان ليكون سلوكا مقبولا من الناحية المثالية، والتربوية، والاجتماعية وهو يقع بين الشعور واللاشعور فيمثل جزءا من النفس الشاعرة كما يمثل قوة لاشعورية تعمل دون ارادة الانسان بعيدا عن يديه.
هذا، والقوى الخارجية المسئولة عن الضعط على النفس هى قوى البيئة بما تحمله من ضغوط خارجية وحرمان واحباط (خيبة أمل) وصراع نتيجة التنافس والسعى وراء مطالب الحياة العامة والخاصة وما يلاقيه الانسان فى سبيل ذلك من صد وكف وارهاق وغيرها.
والشكل يوضح تركيب الشخصية الديناميكى فنرى فيه أن الضغوط الخارجية والداخلية تعمل على ذلك الجدار الذى يمثل النفس باستمرار ويتوقف سمك هذا الجدار على العوامل الوراثية التى تكون الشخصية وكذا على عوامل البيئة من طريقة التربية الى ظروف الدراسة والعمل والنشاط الاجتماعى وغيرها.
اضطراب الشخصية وتصدعها (المرض النفسى)
اذا كان محتوى اللاشعور مليئاً بالتجارب ذات الشحنات العاطفية المناسبة، وكانت ضغوط البيئة متوسطة الحدة، وكانت النفس الانسانية قوية متماسكة، فان الانسان يعيش هانئا مستريحا ينفع نفسه وينفع مجتمعه وجنسه. ولكن يحدث أن تكون النفس هشة متداعية لظروف وراثية مثلا، ثم ينشأ الفرد على طريقة تربية غير صحية فيختزن فى اللاشعور قوى هائلة متضاربة متعارضة ثم تأتى ضغوط البيئة شديدة صارخة فتزيد الطين بلة ويظهر المرض النفسى. فالمرض النفسى ينشأ نتيجة صراع بين الدوافع المختلفة ويكون ذلك الصراع اما شعوريا يعلم الانسان ماهيته ويدرك أبعاده، أولا شعوريا فتظهر آثاره دون أن يعلم ماوراءها ،وهذا الصراع ينشأ عنه توتر نفسى ، وقد ينشأ هذا التوتر نتيجة الصدام بين دافع ما وبين قوة الاحباط (عدم ارضاء الدافع) ، ويكون هذا التوتر – اللازم لاحداث المرض النفسي- شديدا لا يطيقه الانسان، فيحاول التخلص منه ويتم ذلك بظهور الأعراض المرضية. فظهور الاعراض المرضية ما هو الا اضطراب لسواء الشخصية وفاعليتها وله مظهران أساسيان: فاما أن تلتوى الشخصية نتيجة لزيادة الضغط من الداخل والخارج فتصبح مشوشة غير عملية وان استمر تماسكها ويسمى ذلك مرض العصاب وفيه تستمر عملية الكبت والمقاومة بل وقد تزيد حدتها فلا يظهر معنوى عملية الكبت فيظهر محتوى اللاشعور كما هو فى صورته الصريحة، اللاشعور فى سلوك الانسان صريحا فجا وان بدا تأثيره واضحا جليا. والطريق المرضى الثانى أن تتصدع
الشخصية تصدعا تاما وتختفى فى سلوك المريض ويسمى ذلك مرض الذهان.
الفصل الثالث
الأساليب الدفاعية
شعر الانسان أثناء تطوره الطويل بالحاجة الملحة الى التكيف مع بيئته والدفاع عن نفسه. وكذا الى تجنب الالم والسعى الى تحيق أهدافه، والبيئة فى مجال التكيف تعنى كلا من البيئة الداخلية (أى محتوى اللاشعور) والبيئة الخارجية على حد سواء ….
وليس التكيف بمعناه الواسع قاصرا على الانسان، فان بعض انواع الحيوانات قد تلجأ الى وسائل للتعمية مستعمله أساليب الخداع حتى تحمى نفسها من عدوها فى البيئة الخارجية. ومثال ما تلجأ اليه الفراشة أو الحرباء من تغيير للونها حسب ما حول الاولى من أزهار وماحول الاخيرة من أحجار حتى تماثل البيئة الخارجية فتتجنبان بذلك الخطر، وأسلوب التوافق هنا أسلوب تشريحى: اذ أن تجمع الخلايا الملونه بطريقة معينة انما يتصل بعلم التشريح الدقيق ( الهستولوجيا وتركيب الخلايا ) أساسا، وان كانت وسائله فسيولوجية من خصائص علم وظائف الاعضاء.
وقد تمتع الانسان على وجه خاص – بعد كل هذا التاريخ من التطور- بأساليب دفاعية تهدف الى التكيف مع البيئة والتقدم نحو الاحسن. ولم تقتصر هذه الأساليب على ناحية دون الاخرى وانما شملت الاساليب التشريحية والفسيولوجية والنفسية جميعا، وكلها تهدف الى التوافق مع كل من البيئة الداخلية والخارجية على السواء، فمن الاساليب الفسيولوجية ما هو معروف من سلوك هادف نحو اشباع دافع الجوع اذا ما نقصت كمية السكر فى الدم، أو اشباع دافع العطش اذا ما نقصت كمية الماء فى الجسم أو ما تفرز. الغدد الصماء من هورمونات استجابة لحالات الضغط الخارجى.
وكل هذه الاساليب تهدف الى الدفاع عن النفس ضد غائلة العطش أو تهديد كيان الانسان . . . الخ.
وليست الاساليب الدفاعية النفسية بمختلفة عن سائر وسائل الدفاع التى هيأتنا لها الحياة، فهى أساليب تهدف الى حفظ تماسك الفرد وحفظ ذاته وحفظ نوعه، أى أنها تهدف الى التكيف مع البيئة والدفاع عن الكيان الشخصى فى آن واحد .
اذا، فدراستنا للاساليب الدفاعية هى محاولة استقصاء عن كيف يتغلب المرء على ما يلاقيه من صعوبات فى بيئته، تلك الصعوبات التى قد تكون شعورية يعلم الانسان ما هيتها ويقدر خطورتها. كما قد تكون لاشعورية تهدد كيانه دون أن يعيها … وفى كلا الحالين يكون دفاعه مباشرا أو غير مباشر بوعيه أو بدون وعيه .
ولنا أن نتساءل: ما هو المثير الحقيقى لهذه الاساليب وما هو الهدف الاساسى من ورائها ؟ . . والجواب هو أن القلق الشديد الذى لا يستطع الانسان احتماله هو المثير لكل هذا السلوك، وأن الهدف الاساسى من وراء تلك الاساليب هو خفض التوتر.
1- الاساليب الشعورية: ونقصد بها الاساليب التى تخضع للتفكير والارادة مثل الوصول الى قرار، والعمل والمثابرة . . وغير ذلك.
2- الاساليب اللاشعورية: وهى الاساليب التى لا دخل فيها للتفكير أو الارادة وتشمل الحيل النفسية اللاشعورية، وهذه الاساليب وسائل دفاعية يلجأ اليها أغلب الاسوياء ولكنها قد تزيد عن حد المعقول، وتصبح وسائل هروبية ومن ثم يكون الاغراق فيها من مظاهر المرض النفسى.
الأساليب الشعورية
1- ازالة العقبة:
اذا صادفت الانسان عقبة فى طريقه الى اشباع دافع ما والوصول الى غايته فان أول اجراء يتجه اليه هو ازاحة هذه العقبة عن الطريق، وهذه هى الطريقة المثلى بالنسبة للحواجز المادية، فالطفل الذى يجد أمامه كرسيا مرتفعا يحول بينه وبين قطعة الحلوى على المنضدة سرعان ما يحاول ازالته من طريقه، وهذا هو نفس التصرف البدائى الذى يدفع الحيوان الى أن يزيح ما أمامه من كائنات وأشياء للوصول الى فريسته وهو وهو التصرف ازاء العقبات الاجتماعية، فالشاب المتقدم الى فتاة اذ يعترضه تقدم آخر لها فى نفس الوقت لن يلبث أن يحاول ازاحته عن طريقه باظهار عيوبه والحط من شأنه وتقليل فيمته فى نظر الفتاة وأهلها.
2- تغيير الطريق:
وقد تكون العقبة كؤودا لا يمكن تحطيمها، أو لا يمكن ازاحتها، وهنا يتجه الانسان الى تغيير طريقة الوصول الى الهدف ولو أن الهدف لا يزال هو هو لم يتغير ففى المثال السابق اذا لم يستطع الطفل ازاحة الكرسى المرتفع ربما انصرف عن هذه المحاولة وفكر قليلا ثم اهتدى الى تسلقه للوصول الى هدفه وهو قطعه الحلوى .
وبالنسبة للعقبات الاجتماعية نرى أن الفتاة التى لا تتمتع بقسط وافر من الجمال لا تصل الى هدفها – وهو أعجاب الرجال بها – قد تتحول الى طريق آخر وهو الظهور فى هواية بذاتها أو اتقان فن الحديث والمقابلة أو اتقان انتقاء ملابسها التى تلائمها، وكلها طرق بديلة للوصول الى نفس الغاية – وهى الحظوة عند الجنس الآخر.
3- تغيير الهدف
يحدث هذا عادة اذا خابت الطريقة الاولى والثانية فلم توصل الى خفض التوتر، وفى هذه الحالة يكون الهدف بعيدا أو يكون غير متناسب مع امكانيات الفرد وقدراته، وهذا الابدال – فى هذا الصدد – يكون شعوريا واراديا ( بعكس ذلك الذى سنذكره فى الحيل النفسية)، وتتوقف قيمة الابدال على مدى ارضاء الحاجة أو اشباع الدافع الذى كان وراء الوصول الى الهدف الاول.
ومثال ذلك أن الطالب الذى دخل كلية الهندسة لانه حصل على مجموع عال فى الثانوية ثم أصابه الاخفاق رغم أن ذكاءه العام لا يعوق دون مواصلته الدراسة، وانما كان العائق تأخرا فى قدرته الميكانيكية والحسابية، هذا الطالب قد يبدل الكلية بأخرى مثل الآداب فان حققت له الشعور بالزهو والامل فى وفرة المكسب المادى وعلو المركز الاجتماعى مثلا كان الابدال ناجحا والا فربما كان الابدال بكلية الطب أنجح لتقارب مستوى المجاميع فى الكليتين وكذا المستوى الاجتماعى والاقتصادى لخريجها مما يرضى دوافع ارضاء الذات والسيطرة.
وقد يكون الابدال بعيدا عن تحقيق، وهنا لا يحدث خفض التوتر بالدرجة التى تعتبره فيها ناجحا . ومثال ذلك الذى يبدل رغبته فى احتراف التمثيل باتقان تدبير المقالب، وادخالها بحبكة على أصدقائه ومعارفه .
وقد وجد أن تغيير الطريق للوصول الى نفس الهدف يؤدى الى نتائج أعمق وأنجح من تغيير الهدف بهدف آخر.
4- التوفيق والتأجيل:
نعنى بهذا السبيل التقريب بين القوى المتصارعة ومحاولة ارضائها جميعا ولو بطريقة جزئية أو ولو على حساب تأجيل احداها مؤقتا، ومثال ذلك الطفل الذى يريد الطعام ويريد ممارسة اللعب فقد يؤجل اشباع دافع الجوع ان لم يكن ملحا حتى يرضى دافع المناولة والاستطلاع وقد يفعل العكس ان كان دافع الجوع شديدا، وفى كلا الحالتين يعود لارضاء الدافع المتروك بمجرد اشباع الدافع الملح.
5- التعويض:
ان ما يعنينا من أنواع التعويض هنا ليس سوى النوع الشعورى الذى ينتج من دراسة الموقف والتفكير فيه موضوعيا ثم دراسة العوائق ثم رسم الخطة نحو تعويض النقص الذى يشعر به، وهناك من الامثلة مالا حصر لها لاثبات ذلك فمثلا الطالب الذى لا تهيئة قدراته العقلية للتفويق الدراسى قد يعوض هذا النقص بممارسة الرياضة والتفوق فيها واشباع دافع السيطرة واعتبار الذات عن هذا الطريق .
وهناك نوع من التعويض نطلق عليه زيادة التعويض وهو يعنى تعويض النقص بتحديه والمران والمثابرة حتى يتفوق المرء فى المجال الذى يحس فيه بالنقص نفسه فديموسثينش الذى كان حاكما أغريقيا كان مصابات بعقله فى لسانه ويشكو من ضعف فى صوته، فتغلب على هذا الضعف بالمران على الخطابة وقد وضع الحصى فى فمه، وبمحاوله مغالبة صوت هدير الموج على الشاطيء برفع صوته عاليا حتى صار أخطب قومه ( فضلا عن كونه حاكمهم ورئيسهم) وكذلك ما يعرف من تاريخ الرئيس روزفلت الذى كان يعانى من شلل الاطفال فلم يكتف بالتفوق فى السياسية بل تفوق فى الرياضة كذلك.
هذا ويمكن اعتبار ابدال الاهداف الذى تحدثنا عنه من التعويض وهذا التعويض يختلف عما سنتحدث عنه فى الحيل الدفاعية بإنه تعويض مدروس ارادى هادف، يدرك فيه الانسان نقصه ويرسم خطة للتغلب عليه حتى ينتصر على شعوره بالدونية والانزواء .
وفى كل الطرق السابق شرحها يلعب التفكير الارادى دورا أسياسيا فى حل المشكلة وتحليلها موضوعيا، فيلجأ الانسان الى مواجهة نفسه فلا يخدعها ولا يتغاض عن عيوبه الخاصة ومدى مسئوليته تجاه حل المشكلة ثم يبحث عن الطريق السليم لذلك باللجوء الى كل الوسائل التى أشرنا اليها فى اثارة الدوافع وتقوية الارادة والتصميم على المثابرة للوصول الى الهدف. واحترام الواقع وتخطيط كل هذه الخطوات بعد الدراسة والتمحيص بل ويمتد الى تقدير الفشل وتقييم العقبات التى أدت اليه أو قد تؤدى اليه.
الحيل اللاشعورية
لا يخفى على الناظر المتفحص للاساليب الشعورية الواقعية التى تهدف الى التوافق وخفض التوتر أنها أساليب تتطلب جهدا وعزما كما يشترط فيها أن يكون الصراع شعوريا يحدث تحت سمع الانسان وبصره فيعيه ويدرك كافة نواحيه ويكون الفشل والاحباط قد تسميا باسميهما دون التواء أو تعمية فالفشل اذ ذاك هو الفشل والعجز عن بلوغ الهدف هو ضعف فى الامكانيات . . . الخ . هكذا يدرك الانسان الساعى نحو الهدف . ولكن بعض الاشوياء قد يجدون أن الجهد الذى يتطلبه التوافق الواقعى أكثر مما يحتملون، أو يخشون زيادة التوتر نتيجة لذلك بدلا من خفضه أو يستكثرون المتاعب والآلام التى تصاحب الحل الارادى ويفضلون أن يعفوا أنفسهم منها، فيلجأون الى الوسائل اللاشعورية التى تهدف الى خفض التوتر وهم اذ يفعلون لك يجدون أنفسهم تتصرف ذلك التصرف آليا بعيدا عن دائرة الوعى .
وقد تحدث الوسائل اللاشعورية ( الحيل ) بصفة متكررة حتى تصبح عادة سلوكية وقد تكون معوقة أحيانا لاسيما فى الاشخاص ناقصى النضج أو المهيئين للامراض النفسية .
أما اذا زاد اللجوء اليها زيادة أعمت الفرد عن ادراك نقصه ودراسة عيوبة فخدعته عن حقيقته، ولجأته الى تجنب الالم مهما صغر أو كان ضروريا لمعرفة مجريات الامور والوصول الى أهداف الحياة . اذا زادت كذلك حتى أبعدته عن الحياة الاجتماعية والمشاركة فى المعترك المتلاطم من الاهواء والانواء، اذا حدث هذا أصبحت هذه الاساليب اساليبا مرضية تعوق التوافق السوى رغم أنها فى البداية كانت تهدف للتوافق وخفض التوتر .
ونحب أن نقول ان الاساليب الخمسة التى تحدثنا عنها سالفا قد تحدث هى هى ، ولكن بدون علم الانسان لماهيتها ولا للاهداف من وراءها وهنا تصبح أساليب لاشعورية، فالابدال والتعويض قد يحدثان دون ادراك الفشل فى الأول أو النقص فى الثانى وكذا ازاحة الحاجز وتغيير الطريق وتغيير الهدف والتأجيل قد تحدث جميعها آليا بغير ادراك لحقيقة الهدف المراد الوصول اليه .
من كل هذا يتبين لنا أن الحد الفاصل بين الاساليب الشعورية أو اللاشعورية انما هو ادراك المرء لها ولرماها ومغزاها من عدمه .
هذا، ويطلق أحيانا على الاساليب ضد زيادة التوتر المعوق وأن الاسوياء كثيرا ما يلجأون اليها ولكن الافراط فيها والتعود على المعوق منها أمر يدخل فى نطاق المرض .
وقد سبق أن شرحنا اللاشعور وما يتعلق به من قوى لا ندركها وان أثرت فى كافة تصرفاتنا وميولنا وآرائنا فى كثير من الاحيان .
وسنورد هنا الحديث عن الحيل الدفاعية: ولكنا لن نقصرها على وظيفتى الدفاع والتكيف بل سنحاول أن نبين كيف تكون الحيلة التى تهدف ابتداء الى التكيف طريقا للمرض وعرضا له، وسوف نعرض فى حديثنا هذا الى وجودها فى الانسان وتأصلا فى عاداته وسلوكه منذ قديم الازل وقد أدرك الاقدمون هذه الحقيقة وصاغوها فى أمثال وتعقيبات متداولة مما تمثل فى الامثال والاغانى العامية العرقية فى مجتمعنا، وعلى قدرة الانسان الطبيعية على الاستبصار والتعمق فى ما وراء السلوك الظاهرى من دوافع خفية ملتوية
وتبدأ كل هذه الحيل بعملية أساسية وهى الكبت .
ويمكن أن نعتبر هذه العملية فى ذاتها حيلة دفاعية أساسية، أو جزءا من حيلة أخرى مترتبة عليها . هذا ويمكن تقسيم سائر الحيل الاخرى الى حيل اعتدائية، اخرى انسحابية وثالثة استبدالية ورابعة تفكيرية .
والخطوات الاساسية للحيل تبدأ بالصراع الذى يخلق التوتر والقلق اللذان قد لا يطيقها الانسان فيلجأ الى ما يسمى بالكبت، ومن ثم الى التوتر ثم سائر الحيل.
ويطلق الكبت على العملية اللاارادية واللاشعورية التى تحدث بصفة آلية فتنقل الافكار والخبرات من دائرة الشعور والوعى الى دائرة اللاشعور حيث لا يمكن – فى الاحوال العادية – استرجاعها أو تذكرها، وهذه العملية تعد من أكبر العمليات المتواترة الحدوث لحل الصراع وتجنب القلق، وهى عملية تسبق كل الحيل الاخرى ويمكن أن نعتبر أنها عملية نسيان آلى للأفكار والنزعات وهذا النسيان يصاحبه انكار للحدث أصلا … فاذا أحسست مثلا برغبة فى مصاحبة احدى الفتيات وامتنعت عن ذلك لظروف اجتماعية أو شخصية فهذا ليس كبتا لانك أدركت رغبتك واحترمتها ثم تحكمت فيها أما اذا أنكرت أصلا أنك ترغب فى مصاحبتها فان الغاء الاعتراف بهذه الرغبة مع وجودها فى اللاشعور هو الكبت بعينه وفيه ما فيه من خداع للنفس . وعادة ما تكون الافكار والنزاعات التى نكبت مشحونة بالإنفعال الذى عجز الانسان أن يخفيها فى داخل نفسه ظانا منه أنه تخلص منها فى حين أنها تدخل اللاشعور مشحونة بالإنفعال.
اذا فالكبت هو العملية التى تمحو من الشعور ومن التعبير الحركى المباشر اندفاعات وأفكارا لو أدركها وعاشها صاحبها لكانت مؤلمة أو مخزية أو مخيفة، أو باختصار هو عملية نفى فكرة أو اتجاه بما يصاحبهما من انفعال – من حظيرة الشعور، وهى عملية تحتاج الى طاقة تستمدها من الانفعال الاساسى الناشيء عن الصراع القائم وهو القلق وتستمر هذه العملية طول الحياة . ولكنها تحدث أكثر ما تكون فى السنوات الاولى من العمر .
ويقوم الكبت عادة بدور بالغ الاهمية فى تكوين الشخصية والتطور ما يساعد على الصحة النفسية والتكيف والوظيفة الاساسية للكبت هى وقاية الفرد – أو بعبارة أدق رقابة الذات الشاغرة مما يؤذيها أو يؤلمها أو لا يتفق مع فكرة المرء عن نفسه فيهدد احترامه لذاته أو يجرح كبرياءه فالكبت عملية انكار لمشاعر يبدو أنها قاسية، وهو هرب من الواقع المؤلم ( فعلا أو تخيلا ).
ومن أبسط أمثلة السلوك الدالة على الكبت ما يلى:
1- نسيان ميعاد طبيب الاسنان: وهذا هو ما نسميه النسيان الآلى لتجنب تجربة مؤلمة ( وهى خلع الضرس فى هذه الحالة ).
2- يحدث أن يشعر الانسان بمحبة شديدة لاحدى المحرمات – زوجة أخية مثلا – فينساها أو يتجنب زيارة أخية دون مبرر أو يدير دفة الحديث اذا ما ذكرت أمامه كل ذلك وهو لا يدرى له سببا وذلك لانه لو لم يحدث الكبت فى هذه الحال لما استطاع أن يستمر فى احترام ذاته التى تجرأت فانتكهت حرمة التقاليد واشتهت المحرمات .
3- يحدث أن يشعر الطفل بميول عدوانية نحو والده مثلا فيكبتها وينكرها على نفسه اذ أن اعترافه بها يحطم المثل التى تربى عليها ويهدد مستقبلة أحيانا الامر الذى يتجنبه بانكار هذا الدافع أصلا .
4- وقد يصل الكبت الى سلوك مرضى ، ففى رأى بعض مدارس علم النفس أن جنون الضلال والميول التشككية وأحيانا الوساوس ليست الا نتيجية لكبت ميول جنسية مثيلية كبتا غير ناجح فتستمر تلك الميول تلح للاشباع .
وهكذا يمكن للانسان عن طريق الكبت أن يتجنب الصراع المؤلم ويبقى سلوكه فى مستوى مقبول من الناحية الاخلاقية والاجتماعية ولكن مضار الكبت هو تأجيلها واخفاؤها فى اللاشعور حيث قد لا تتاح لها الفرصة للتعبير عنها بالطريقة السوية الامر الذى يؤثر على سلوك الانسان، وقد يصل هذا التأثير إلى درجةالمرض .
فمتى حجرعلى هذه الافكار والمشاعر فى دائرة اللاشعور وهى محملة بالطاقات الانفعالية أصبحت فى عمل دائب حتى تخرج الى الشعور مرة ثانية فيقاومها الانسان أيما مقاومة حتى لا تشوه فكرته عن نفسه وتخل بتقليده ومثله وتزعج المقاومة ويمكن تعريفها بأنها الحاجز النفسى ضد اخراج الموثرات اللاشعورية الى دائرة الشعور .
ونحب هنا أن نميز بين عملية الكبت وعملية القمع التى تعمل المنع أو الكف الشعورى لنزعة أو رغبة لا يستسيغها الانسان وهى عملية ضبط النفس بعلم الانسان وارادته والكبت مقبول فى الصغر وهو يساعد – كما ذكرنا فى نضج الشخصية وتكوين الضمير، ولكنه لا معنى له بعد النضج ويصبح خطرا على الشخصية وعلى التوافق السوى اذا زاد عن الحد .
ويحتاج الكبت لطاقة نفسية حتى يستمر فى حفظ المحتويات المكبوتة فى اللاشعور أو بمعنى آخر ان المقاومة التى تحدثنا عنها والتى تحدث لاشعوريا تحتاج الى طاقة كبيرة لتقوم بعملها فاذا نقصت هذه الطاقة عن حد معين لم نتمكن بعده من مواصلة الحجز على المادة المكبوتة اضطر الانسان الى اللجوء الى الحيل الاخرى ليحور هذه الدوافع المكبوتة فتظهر فى دنيا الشعور وقد تقنعت أو تغيرت ملامحها باستعمال الحيل المختلفة مما سيرد ذكره حالا .
ويمكن القول على هذا الاساس أن الحيل اللاشعورية هى عملية تساعد الكبت فى أداء وظيفته وتجنب الانسان الألم وتحافظ على احترامه لذاته ومسايرته لمجتمعه فى نطاق المعقول .
وقبل أن نلجأ الى تقسيم الحيل نود أن نذكر أن أى تقسيم انما يتداخل بعضه فى بعض وان كل الحيل تبدأ من حدود السواء وتنتهى بالتمادى والتكرار الى منطقة المرض كما أن الحيلة قد تقع فى أكثر من قسم واحد فهى بذلك تتصف بأكثر من صفة واحدة.
ويمكن تقسيم الحيل الى ما يلى:
أولا: حيل اعتدائية
وتشمل الاعتداء وتوجيه الاذى الى الغير أو الى الذات نفسها ويمكن تقسيم الحيل التى تقع تحت هذه المجموعة الى اثنتين: العدوان ( ويدخل فيه العدوان على الذات ) والاسقاط ( ويمكن أن يشمل – قياسا – الاحتواء ) .
1- العدوان Aggression
يحدث العدوان كحيلة دفاعية لخفض التوتر نتيجة لتأزم شديد أو اعاقة بالغة، وقد يتخذ صورة مباشرة ويكون هذا عادة موجها نحو الشخص أو الشيء المسئول عن التعويق كما أن شكل الهجوم قد يكون عدائيا صريحا وقد يكون غير ذلك، وعادة مايدرك المرء انفعاله ويوجه اندفاعه نحو هدف بذاته وهذا ليس حيلة اذ أنها دخلت دائرة الشعور: ولكن ما نعنيه هنا هو العدوان غير المباشر، وهو الذى يتجه الى هدف غير سبب التعويق يكون نتيجة لتوتر عام، ولا نجد أصدق من المثل الذى يصور تحول العدوان نتيجة حرمان اشباع دافع ما الى هدف لادخل له بالموضوع ذلك المثل القائل مالقوش عيش يتعشوا بيه . . . جابوا عبد يلطشوا فيه فقد عبر كيف أن العجز عن اشباع دافع الجوع أنشأ حالة من التوتر حاول صاحبها خفضها بعدوان غير مباشر على شخض لم يكن هو سبب التعويق أو الحيلولة دون اشباع الدافع، وهذا المثل يفسر كذلك ما نراه من كثرة المنازعات التى تصل الى حد الاعتداء الصريح فى أيام الصيام ويعتذر الناس عن توترهم بأنهم صائمون وكأن هذا الايذاء الذى لجأوا اليه دون مبرر كان وسيلة لخفض التوتر الذى نشأ من الجوع أو العطش وقد لا يكون العدوان صريحا فيتخذ صورة الكيد أو التشهير أو الغمز أو حتى الامتناع عن المساعدة، كما قد يكون هدفه عاما ليس خاصا، ومن ذلك العدوان على التقاليد والنظم بالاضراب والثورة وغيرها، كل هذا من ضروب العدوان الهادف الى خفض التوتر .
وقد يتجه العدوان الى الجماد فنرى أن دافع العطش، وهو دافع شديد، اذ لم يشبع أنشأ حالة من التوتر لا قبل للمرء باحتمالها فقد يكسر الاناء عدوانا عليه وفى هذا قيل العطشان يكسر الحوض.
وقد يكون العدوان على أشياء تافهة لا علاقة لها بمصدر التوتر مثل قذف الحاجيات أو سب الاشياء ولعنها، وقد عبر المثل عن ذلك حين قالوا فيمن يهش ذبابة ويتابعها فى غيظ يحاول أن يقتلها باصرار انه لا يعدو ان يكون مليئا بالتوتر والحنق لسبب أو لآخر وأن هذا التصرف من سبيل الطرق العدوانية لخفض هذا التوتر فيقولون فى المثل دى مش دبانة . . دى قلوب مليانه .
ولعل من صور العدوان الذى يخفض التوتر ما شاع فى الشعر العربى من ضروب الهجاء بالتصريح والتلميح من المعتدل والمقذع حتى صار من أهم أبواب الشعو العربى لفترة من الزمان .
أما العدوان على الذات فهو أشد وطأة وأكثر تعقيدا لانه ينشأ عادة من الشعور بأن العدوان متجه الى شخص محبوب فيصاحبه توتر وشعور بالذنب فيتجه الى الداخل هادفا من حيث المبد الى خفض التوتر الا أنه فى هذه الحالة يزيد التوتر فى أغلب الاحيان وهنا تشترك حيلة أخرى مع العدوان وتسبقه وهى التقمص والاحتواء ( مما سيرد ذكره ) فان الشخص الذى يؤذى نفسه انما يتقمص شخصية المراد ايذاؤه ثم يبدأ فى اطلاق اتجاهه العدوانى اليه فى صورته الجديدة ومثال ذلك ما نراه فى تصرف الطفل الذى يلقى بنفسه على الارض أو يضرب رأسه فى الحائط حين يعوق عن الوصول الى هدفه وكأنه يضرب العائق الذى أعاقه .
ويتخذ العدوان صورة مرضية فى حالته، فاذا توجه الى الخارج قد يصل الى الرغبة فى القتل أو القتل فعلا، واذا انقلب الى الداخل فانه قد يصل الى الانتحار .
2- الاسقاط:
هو حيلة لا شعورية نلقى بها اللوم عن أنفسنا فنتحرر من المسئولية التى نشعر بها بأن ننسبها للآخرين. كما أنها تجعل الانسان يشعر أن الافكار التى تراوده والتى لا يتقبلها وأن النزعات والرغبات البغيضة الى نفسه، فالزوج الذى تنطوى نفسه على رغبة فى خيانة زوجتة يرميها بالخيانة وقد عبرعن ذلك المثل زانى ما يآمن لمرأته.
والاسقاط يتصل اتصالا وثيقا بالحيل الاخرى فالكبت فان الانسان يسقط ما ينكره على نفسه من مادة مكبوتة على غيره .
والاسقاط يشوه مفهوم الانسان عن العالم الخارجى فانه لا يرى العالم الخارجى بنظرة موضوعية صادقة وانما يرى نفسه فيه وكثيرا نسمع تعابير متوارة لا تدل على شيء الا عن محتويات اللاشعور عند قائلها فان الذى يقول كل الذمم تباع وتشترى يكاد يعترف ضمنا أن ذمته كذلك أيضا وان أنكر ذلك عند السؤال . . . والشعر الذى يقول .
نعيب زماننا والعيب فينا .. وما لزماننا عيب سوانا
كان يعبر عن هذه الحيلة تعبيرا صادقا. ولا يقتصر الاسقاط على الافكار السيئة والاخطاء الشخصية بل قد يكون – وان كان ذلك أقل تواترا – اسقاطا لصفات طيبة فالكريم مثلا يصف الناس أو أغلبهم بالكرم، والشجاع يتصور الناس جميعا شجعانا وفى هذه الحال يكون ادراج الاسقاط تحت باب الحيل تجاوزا، فهو ليس حيلة لخفض التوتر هنا، لذلك لم نجد حرجا فى وضع الاسقاط تحت الحيل الاعتدائية اذ أنه اذا كان حيلة هادفة لخفض التوتر فانه فى العادة اعتداء يلصق تهما وعادات وأفكار سيئة بالغير. وهو فى حدوده الطبيعية حدث يحدث لكل انسان كل يوم أما اذا أصبح عادة فانه – كالكبت – يصبح غشاوة على بصيرتنا فنعمى عن عيوبنا بل ونلصقها بالغير.
أما فى المرض فان الهلوسات وكثيرا من الضلالات لا تعدو أن تكون اسقاطا للمحتوى المرضى فى اللاشعور فكثيرا ما نجد أن الهلوسات وكذا الضلالات من نوع تحقيق الرغبات مثل رؤية الحور العين أو تجسيم المخاوف مثل رؤية الشياطين، لعشير من الجان وهو ما يعرف عند العامة بقولهم مخاوى وهو الذى يسقط رغبة لاشعورية فى معاشرة أنثى جميلة الى العالم الخارجى فتتجسد له وتحدثه وتناغيه . . الخ
وعكس الاسقاط تماما الاحتواء Introgection وهو حيلة تقابل العدوان الذاتى الذى تحدثنا عنه فى حيلة العدوان، وهذه الحيلة تعنى أن الانسان – لاسيما فى مرحلة الطفولة – يلجأ الى احتواء الاشكال والاشخاص المكروهين أو المحبوبين فى داخل نفسه فتصبح رموزا داخل نفسه وتحدث هذه العملية بصورة آلية لاشعورية .
ويقال أن هذه الحيلة تشمل اختلاط الشيء المحتوى بالنفس تماما فى حين أن هناك حيلة شبيهه بها وهى الادخال Internalisation حيث يبقى الشيء منفصلا عن النفس غريبا عنها محتفظا باستقلاله ونستطيع أن نعتبر أن عملية الادخال هى عملية أولية تسبق عملية الاحتواء . والطفل يشعر فى أول أيامه أنه جزء لا يتجزأ من أمه ثم تصبح أمه شكلا محبوبا مصدر لديه وخاصة ثديها الذى هو مصدر الحياة، أو بغيضا لانها تكون أحيانا مصدر الحرمان – ثم هو يحتوى هذا الشكل بما ألصق به من صفات انفعالية كالحب أو البغض ويصبح جزءا من لاشعوره الامر الذى يؤثر عليه مستقبلا، ولعل الاحتواءأكثر – على عكس الاسقاطا يحدث غالبا للاشياءالحبيبة الى النفس، ولعل الاغانى الشعبية الحب والغزل تحتوى معانى الاحتواء أكثر من أى مظهر آخر، فالاغنية الشعبية ” أحطلك فى عينى واتكحل عليك” أو “أحطك فى شعرى واتضفر عليك” لا تعدو أن ترمز لهذا الاحتواء.
وقد يكون الاحتواء للاحداث أو الاشكال البغيضة فان الأهداف التى خيبت الظن سرعان ما يحتويها العصابى أو الذهانى داخل نفسه ثم هو يقضى عليها فى محاولته الانتحار وقد أصبحت جزءا من نفسه وهذا ما يقابل العدوان الذاتى الذى تحدثنا عنه، وبديهى أن ظاهره الانتحار لم تعد حيلة دفاعية لخفض التوتر وانما أصبحت عرضا مرضيا .
ثانيا: الحيل الانسحابية
فى هذا النوع من الحيل ينسحب الانسان من المعركة التى لم يعد يحتمل الصراع الناشيء منها وما يستتبعه من قلق يؤدى الى الالم وأحيانا الى الاعتراف بالفشل واحتقار الذات الى آخر هذه المشاعر التى يسعى الانسان إلى تجنبها أو خداع نفسه عنها. والانسحاب هنا ليس خطة مدورسة، ولا عملا اراديا وانما هو تجاهل للصراع واستصغار لشأنه أى أنه نوع من الهرب اللاشعورى الذى يهدف الى الاحتفاظ باحترام الذات، وعدم الاعتراف بالفشل الذى يعتبره الانسان مخجلا، وقد يكون الانسحاب نفسيا فحسب أو قد يكون ماديا ونفسيا أيضا، وهذا الاخير هو النوع الذى يمثل الانسحاب تمثيلا حقيقيا . . . ويسمى الانطواء، وهو فى أبسط صورة يمثل عدم الرغبة فى المشاركة الاجتماعية والانصراف الى عالم خاص ليس فيه احتكاك مع العالم الخارجى الا نادرا . . . وهذه هى الصفة التى يتصف بها كثير من الافراد الانطوائيين ومما لا شك فيه أن الانسحاب من المجتمع يحرم الانسان من ارضاء دوافعه الاجتماعية . . . وهنا قد يلجأ الى أحلام اليقظة ليسد بها هذا النقص والفراغ وليغطى بها عجزه فى عالم الواقع عن مواصلة الصراع .
وقد يحدث الانسحاب فى صورة تقهقر من مرحلة من النضج الى مرحلة سابقة أكثر أمانا واعتمادا على الغير وهذا ما نسميه بالنكوص Regression أو قد يحدث بانكار الصراع كلية أو أحد أطرافه أصلا أو بمحاولة ابطال مفعوله ومحوه وكأن شيئا لم يكن، وأخيرا فقد تكون النواحى المتصارعة أجزاء من الشخصية لا يمكنها، اذا احتدم الصراع، أن تسير جنبا الى جنب، وهنا يحدث التفكيك وهو لا يعدو أن يكون انسحاب جزء من الشخصية وانفصاله عن الجزء الآخر بحيث ينطلق الى التعبير عن نفسه دون دراية الجزء الآخر، وبهذا التفكيك ينتهى الصراع وما يصاحبه من قلق.
وغنى عن البيان أن كل هذه الاساليب الانسحابية تحدث دون وعى الانسان بعيدا عن دائرة الشعور ويصاحب أغلبها – أن لم يكن جميعها – حيلة التبرير التى تحاول تفسير كل هذه التصرفات تفسيرا منطقيا يبدو لاول وهلة أنه معقول فى حين أنه تكملة لمحاولة الهرب والانسحاب.
على أن الانسحاب فى الوقت المناسب – من أفضل الاساليب الدفاعية اذا لم يبالغ فيه، وكان تقدير الموثق سليما وهذا ما عبر عنه المثل القديم بأن الهرب نص الشطارة أو فى قولهم ان جار عليك جارك، حول باب دارك أما اذا كان الهروب فى غير موضعه أو كان سبيلا سهلا يلجأ اليه الانسان حتى يخدع فى أحواله ويفقد بصيرته ويصبح عادة قد تؤدى الى المرض فان مواجهة الواقع مهما كان مؤلما ومهما كانت امكانيات المرء قليلة أفضل من اللجوء الى الهرب، وهذا مصداق للمثل الآخر ضرب الطوب ولا الهروب.
وعلى هذا فيمكن القول أن الحيل الانسحابية هى: الانطواء والخيال وأحلام اليقظة والنكوص، والانكار والابطال، والتفكيك والتبرير. واليك تفصيلها:
1- الانطواء Introversion
وهنا يكون الانسحاب ماديا ومعنويا فيعزف الانسان عن مشاركة الناس ويهرب منهم الى نفسه ويقلل من الاختلاط حتى لا يعرض نفسه للصراع ويأخذ فى تبرير موقفه وانه اللى يخرج من داره . . ينقل مقداره وقد نرى هذا التصرف فيمن يغلق على نفسه باب حجرته بعد أن تنزل به هزيمة مهنية ويظل يرفض مقابلة أحد لمدة تطول أو تقصر . والانطواء فى صورته المرضية ظاهرة لها دلالة خطيرة فقد تلجيء المرء الى اعتزال العالم والانصراف عن كسب عيشه بل وقد ينطوى على نفسه فلا يحدث غيرها ولا يتصل بأى ممن حوله أى نوع من الاتصال وهذه الاعراض نشاهدها فى الاطوار المتأخرة من مرض الفصام .
2- الخيال وأحلام اليقظة Fantasy & Day – Dreaming
ويسمى الخيال حيلة اذا كان الهدف منه هو ارضاء دافع لم يمكن اشباعه فى عالم الواقع، ونشأ من ذلك شعور بالعجز والفشل . . . وهنا يستبدل الانسان معالجة الموقف معالجة واقعية بالانسحاب واطلاق العنان لخياله حتى يحقق مالم يستطع تحقيقه فى عالم الواقع – ومن أمثلة ذلك أن الطالب الذى لم يوفق فى اجابة معينة فى الامتحان الشفهى قد تحضره الاجابة بعدها فيجلس مع نفسه ويتصور أن الاستاذ يسأله وهو يجيب الاجابة، الصحيحة، وقد ينطلق فى تصوره الى مناقشة . . . . . عريضة وأسئلة أخرى واجابات وايماءات وهكذا يعوض ما أصابه من فشل فى الامتحان بهذا التخيل – وأحلام اليقظة تصاحب الانطواء عادة فان المنطوى يطلق خياله ليحقق رغباته التى عجز عن تحقيقها فى عالم الواقع.
وقد تصل أحلام اليقظة عند بعض المرضى الى عالم متكامل يعيش فيه المريض ولا يستطيع التخلص منه بل ويصرفه عن الاندماج فى العالم الواقعى وهذا هو ما يحدث فى مرضى الفصام .
3- النكوص: Regression
النكوص لغة هو الرجوع، وفى الاستعمال النفسى إنما يعنى الرجوع الى طور سابق من أطوار النضج فالنكوص فى الكهولة مثلا – بأبسط صورة – هو الرجوع الى طور وسط العمر أو الطفولة (فى الملبس والمظهر مثلا)، ولا يحدث النكوص عادة فى كل النواحى وانما قد يقتصر على مظهر من مظاهر السلوك دون سائر المظاهر، والنكوص كحيلة يحدث بشكل رمزى، وهو محاولة للتراجع أمام ضغوط الحياة الى طوره يعتبره الانسان أكثر أمانا، فاذا نكص الكهل الى مرحلة الطفولة كان ذلك لتحقيق الاعتماد على الغير وهى صفة من صفات الطفولة وكأن وظيفة هذه الحيلة هى الاتجاه الى الاستكانة وطلب الحماية وعدم الاعتماد على النفس والتصرف كالاطفال بدون مسئولية، وبالتالى بدون قلق والنكوص يختلف عن التثبيت الذى يعنى توقف تطور الشخصية عند مرحلة من النضج لا نتعداها وسيأتى ذكره فيما بعد.
ونقابل النكوص كتصرف عادى عند الاطفال حين يشعرون بالغيرة ممن هم أصغر منهم سنا، فالطفل ذو الخمسة أعوام يعود للتبول اللاارادى – بعد أن كان قد منعه – اذا ما ولد له أخ أصغر، عسى أن يحظى بالاهتمام والعناية كما كان هو فى الطور الذى يباح فيه التبول ؟
وعند الكبار نرى النكوص فى التصرف الانفعالى ( بالثورة والغضب مثلا ) عند الفشل، وهو تصرف أقرب الى تصرفات الاطفال اذ أنه ليس فيه تحكم فى النفس، وهو نكوص فى مجال التعبير الانفعالى فحسب ويحدث لفترة وجيزة .
ويبدو أن النكوص عملية طبيعية تحدث بمرور الزمن، وقد أشارت الكتب السماوية لذلك ومن نعمره ننكسه فى الخلق ولو أن النكوس غير النكوص الا أن النكوس يعنى الرجوع أيضا. فنكسة المرض تعنى الرجوع الى طور سابق من المرض بعد الشفاء.
والنكوص الوقتى فى حدوده السوية قد يفيد المرء فى سعيه الى التوافق، فالانسان الناضج الذى ينكص فى مجال الانفعال فيطلق لانفعالاته العنان لتعبر عن نفسها بطريقة طفولية مثل البكاء والصياح يفرغ طاقة لو كان حبسها لخلقت له توترا مخلا .وقد يحدث النكوص بدرجة كبيرة ولمدة طويلة كمظهر من مظاهر المرض فنرى ذلك فى مرضى الحالات المزمنة والمتأخرة من مرضى الفصام حيث لا يتحكمون فى تبولهم أو تبرزهم كالاطفال سواء بسواء بل قد تصل بهم الحال الى التعرى التام . وكأن النكوص قد وصل الى مرحلة الولادة أو قبلها .
وكثيرا ما يستعمل العامة ألفاظا تدل على فهم لهذه العملية وان جرت فى حديثهم مجرى المزاح أو الهمز واللمز فإذا وصف سلوك رجل بالتهور وعدم ضبط النفس قيل أنه “عامل زى العيال” فإن كانت العملية طارئة عليه قيل أنه “بيستعيل”. أى يتشبه بالأطفال فى تصرفاتهم.
4- التثبيت:Fixation
التثبيت كما ذكرنا غير النكوص وأن ارتبط به. ويقال أنه يحدث فى أطوار النضج كما يحدث فى مواجهة المواقف العنيفة التى لا يملك الإنسان لها حلا لمشكلتها التى تفقده القدرة على التصرف السليم الهادف نحو إيجاد سبيل للتخلص من التوتر الناشيء منها.. فالمرء إذا تحيط دوافعه قد يكرر آخر فعل يعمله بصورة لا معنى لها وكأنه ثبت عند هذه المرحلة لا يريد أن يتعداها، ويحدث هذا بصورة آلية… ومن أبسط صوره ما نشاهده أحيانا حين يبلغ زميل زميلا له – كان يحسب نفسه من الناجحين – أنه رسب، فقد يستوضحه ما ذكر بقوله: بتقول إيه؟.. ثم يتبين الأمر فيأخذ فى تكرار هذه الكلمة بتقول إيه؟ بتقول إيه؟ .. بغير معنى أو هدف، وقد يعلق العامة على مثل هذا الموقف واصفين إياه بأنه “علق” مشبهينه بالحاكى حين تثبت ابرته على موضع خدش فى الإسطوانة فيكرر القطع مرارا!…
والتثبيت فى كل هذا أمر طبيعى ولكنه قد يكون ظاهرة مرضية خطيرة إذا اتخذ صفة الدوام، فتوقف النمو عند مرحلة من التطور لا يتعداها، فيقال أن الجنسية المثلية لا تعدو أن تكون تثبيتا فى أحد مراحل النضج إذ أن الإنسان يمر بمراحل منها مرحلة الجنسية المثلية.. فإذا توقف عندها ولم ينتقل إلى مرحلة الجنسية الغيرية سمى ذلك تثبيتا عند هذه المرحلة.
5- الإنكار: Denial
لما كان الصراع يستلزم وجود قوتين متصارعتين، كان الإنكار هو اغفال إحدى هذه القوى التى تشترك فى الصراع لدرجة اعتبارها غير موجودة أصلا، فاللاشعور هنا ينكر وجود مثل هذه القوة أو انتمائها إليه. وقد ينكر الخطر الخارجى الذى يسبب ضغطا وتوترا فى النفس، يعتقد اللاشعور أنه ليس أهلا لاحتماله، وأن التشبيه القائل “كالنعام يدفن رأسه فى الرمال” ليعبر أصدق تعبير عن هذه الأفكار فالنعام إذ يفعل ذلك فلا يرى الحيوان المتوحش القادم لافتراسه يتصور أنه لا خطرهناك، فالانكار كما ترى صورة من صور الكبت أو هو نوع من أنواع يتميز عنه إدراك الخطر ولو لفترة قصيرة ثم انكاره..
والإنكار قد يفيد فى تجنب الألم فيساعد على التوافق، ولكنه يكون مفيدا فقط إذا كان بغرض التأجيل فحسب حتى يستجمع الإنسان شعاع نفسه ويكون أكثر احتمالا لهذه المصاعب، أما إذا كان عادة وديدنا فله ما للكبت من مضار كخداع النفس والهرب من الواقع وغيرها.
وقد يصل الإنكار إلى حد مرضى خطير فينكر المريض وجود العالم الخارجى أو وجود أحد أعضائه أو وجوده هو أصلا وهو ما يسمى بضلال الإنعدام Nihilistic delusion ويحدث هذا فى مرض الفصام والإكتئاب الشديد.
6- الابطال Undoing
وهذه الحيلة تعتبر من الحيل الأولية البسيطة التى قد يلجأ إليها الأطفال فى تصرفاتهم اليومية: “هى تعنى أبطال مفعول عمل ما أو شعور يشعر به الإنسان بتغطيته بفعل آخر وفى هذه التغطية انسحاب أولى وكان الفعل الأول أصبح غير ذا موضوع أى كأنه أبطل مفعوله، فالعله الذى ضرب أخاه الأصغر سرعان ما يقبل عليه يلاعبه ظانا منه أن هذا اللعب سيعطل مفعول الضرب السابق.
ونرى هذه الحيلة فى المرض فى بعض حالات الوساوس والقهر فمثلا يحسب العصابى أن غسيل يديه بالماء والصابون بصوة متكررة سيظل مفعول الشعور بالذنب الذى يعانى منه لا شعوريا، وكأنه يحاوله محو هذا الشعور وهو نوع من الهرب من الفعل الأول واعتباره لم يكن بمحاولة محوه بالفعل التالي، ولكنه فى نفس الوقت محاولة تكفير عن فهم وشعور لا يرضاهما الإنسان على نفسه.
وهناك حيلة تكفيرية أخرى قد يطلق عليها الإصلاح Retaliation وهو العمل الذى يعمل على إصلاح ما أفسده عمل سابق و ذلك للتخلص من شعور بالذنب نتج عن الفعل الأول، وهذه الحيلة تختلف عن سابقتها فى أن محو العمل السابق يلزم أن يكون بعمل إصلاحى أو تكفيرى، فرجل الأعمال الناجح الذى يرصد جائزة لأحسن بحث علمى، أو يبنى مؤسسة تخدم الأغراض العلمية قد يكون عمله هذا تكفيرا عن الطريقة غير المشروعة التى جمع بها ثروته.
7- التفكيك: Dissociation
فى هذه الحيلة يحدث إنفصال بين الأجزاء المتصارعة فى الشخصية وبهذا يحل الصراع مؤقتا أو تخف حدته على الأقل فيختفى التوتر المصاحب. وأحيانا يحدث هذا التفكك فى الأحوال السوية مثل المشى أثناء النوم أو التحدث أثناء النوم، حيث ينفصل الجهاز الحركى عن بقية مقومات النفس والجسم.
والتفكيك فى حالة المرض يمثل حيلة أساسية فى حالات الهستريا ومن أوضحها تمثيلا لتفكيك الصراع: ازدواج الشخصية وقد يكون التفكيك بين وظائف الشخصية كأن يحدث انفصال بين التفكير والعاطفة فى مرض الفصام وهوما يطلق عليه التباين. Incongruity
8- التبريرRationalization
التبرير هو محاولة من جانب الشعور لتفسير وتسويع فعل أو رأى ليس له فعلا ما يبرره.. إلا دوافع خفية لا يقبلها الإنسان على نفسه ويأبى الإعتراف بها – أى أنه تقديم أعذار مقبولة للنفس تبدو مقنعة لكنها ليست الأسباب الحقيقية، وكثيرا ما تكون هذه الأسباب غير لائقة لا يتقبلها السامع بسهولة فهى غير متناسقة أو ملائمة كالعيون الزرق على الوجه الأسود، فالشاعر الذى انتقد تبرير البخيل بأنه حرص وتبصر أو تأمين للمستقبل لم يستسغ حججه التبريرية فقال فيه.
وللبخيل على أموال حجج .. زرق العيون عليها أوجه سود
وعادة يكون التبرير فى لهجة حماسية مبالغ فيها ولكن لا يقف أمام التصدى والمناقشة.
والتبرير أصيل فى كل اللغات وكل المجتمعات عند الأسوياء والمرضى.
سواء بسواء. وأن دراستنا للتراث الشعبى لتوضح كيف تعمل الأمثلة العامة بصورة ملحة فى هذا الغرض، فنجد لكل مثل تقريبا مثل آخر يعكس معناه، وكأنها ذخيرة لا تنضب لتبرير الأعمال الغربية أو غير المقبولة، حتى قيل “أفعل أى شيء تقرره.. وستجد مثلا يبرره.
والتبرير يعمل لتغطية الشعور بالنقص فى الحيرة أو عجز فى القدرات وهذا ما يعبر عنه المثل القائل: “اللى ما تعرفش ترقص تقول الأرض عوجة. أو “إيش حايشك عن الرقص يا أعرج…، قال قصر الاكمام” أما الحكاية العالمية وهى حكاية العنب المر فقد نظمها الشاعر العربى قائلا:
وثب الثعلب يوما وثبة شغفا منه بعنقود العنب
لم ينله، قال هذا حصرم حامض ليس لنا فيه أرب.
أى أن الإنسان الذى لا يحظى ببغيته سرعان ما يقلل من شأنها بل أنه قد يقول أنه لم يكن جادا فى مطلبه وأنه إنما كان يلهو ويمزح وأنه لو إراده فعلا لوصل إليه دون عناء.
كما ترجمها الشاعر صلاح جاهين
العنب دا طعمه مر قال كده الثعلب فى مره
والدليل على أنه مر أنه جوه وأنا بره
ونقابل التبرير فى الحياة اليومية فى كل لحظة وآن، وهو كحيلة لا شعورية لا يدرك الإنسان فيه العلاقة بين تفسيره وبين واقع شعوره وهذا هو الفرق بينه وبين الكذب فالمبرر يكذب على نفسه وهكذا نرى أن التبرير هو اللمسة الأخيرة للاشعور التى يضيفها على الحيل عامة والحيل الانسحابية خاصة.
ثالثا: الحيل الإبدالية
حين تحدثنا عن الوسائل الشعورية الإرادية للتوافق أفضنا فى قيمة الإبدال وأنواعه ومدى فاعليته فى خفض التوتر، ثم أشرنا إلى أن الإبدال قد يحدث بدون إرادة ودون وعى وهنا يصبح حيلة من الحيل اللاشعورية.
والحيل الإبدالية – قد تهدف إلى إبدال هدف مكان هدف أو إزاحة شعور وانفعال إلى هدف آخر أو إبداله بعكسه وهذا هو التعميم أو إبدال رمز مكان حقيقة، أو هدف سام مكان حاجة دنيا وهذا هو الإعلاء أو إبدال الغير مكان الذات وهذا هو التقمص فإذا حظى هذا الغير بتقدير بالغ وأصبح مثلا أعلى يحتذي، سمى ذلك تقديسا ويمكن إبدال نشاط معين أو تفوق خاص مكان نقص أو قصور وذلك فى محاولة لتعويض النقص، وهذا ما نطلق عليه حيلة التعويض.
وفيما يلى تفصيل الحديث عن هذه الحيل الإبدالية.
1- الإزاحة:Displacement
هذه الحيلة تمثل المجموعة ككل، وهى عبارة عن إبدال أهداف مقبولة مكان أهداف لا نرضى عن توجيه مشاعرنا إليها وإن كانت موجودة فى اللاشعور، ومثال ذلك أن تتحول مشاعر الكره التى قد تراود الطفل تجاه أحد الوالدين إلى هدف أكثر احتمالا لهذا الشعور دون أن يلحق به شعور بالذنب، فإن بغض الطفل لمدرسه مثلا – لا يثير عنده شعور بالذنب فى حين أن كرهه لوالده يثير عنده خليطا من المشاعر قد تسبب له التوتر والألم.
والمدرس الذى يقسو على طلبته قد يكون هدفه هو القسوة على المجتمع الكبير الذى حرمه حظه من التقدير والرعاية ثم أزيح هذا الشعور العدوانى وانصب على الطلبة الأبرياء، وهذا ما يعبر عنه المثل القائل: “ماقدرش على الحمار أتشطر على البردعة” وقد يبدل الشعور بشعور أخف فيبدل الرغبة فى القتل بالاعتداء أو التحطيم.
وفى المرض قد تكون بعض أنواع المخاوف نتيجة للإبدال، فإن الخوف من الأشياء العادية التى لا تخيف- مثل الافلام أو الخيال.. الخ – قد لا تكون سوى إبدال هدف مكان هدف آخر يأبى العصابى الاعتراف به.
2- تكوين رد الفعل:Reaction formation
تكوين رد الفعل هو الحيلة التى يظهر بها الإنسان عكس ما يضمر دون أن يدرك هو نفسه أنه يفعل ذلك، وهذا خلاف ما قد يشعر به من دافع غير مساغ فيرغب عامدا فى إخفائه وإظهار عكسه، فهذا هو التصنع وليس تكون رد الفعل الذى هو سلوك لا شعورى ينتج عن دافع محظور مكبوت.
ولذلك كثيرا ما نشك فى حقيقة ما نشاهده أو نسمعه من أفكار وآراء وعواطف مبالغ فى التعبير عنها – ومثل ما نشاهده من العطف البالغ الذى يبديه الطفل ذو الأربع أعوام على أخيه الرضيع فيعرقه بالقبلات وفجأة تظهر حقيقة مشاعره فلا نسمع إلا صياح الرضيع ونتبين بعد لحظات أنه قرصه أو عضه رغم ما كان يحاول أن يبديه من عطف وحنان.
وقد عبر المثل العامى عن الشك فى الحنو البالغ الذى قد يخفى وراءه دافع عدوانى فى حنو القط على الفأر فى قولهم “الفأر وقع من السقف، القط قال له.. اسم الله.. قاله أبعد عنى وخلى العفاريت تركبني” ويضرب هذا المثل فى التحذير من العواطف الزائدة التى ليس لها ما يبررها.
ونرى تكوين رد الفعل فى الخوف المرضى إذ قد يخاف المريض ما يشتهيه فعلا.
3- التعميم: Generation
التعميم هو الحيلة التى يعمم بها الإنسان خبرته من تجربه سيئة على سائر التجارب المشابهة أو القريبة منها وهو كحيلة لخفض التوتر تحاول تجنب الإنسان الآلام التى عاناها من تجربته الأولى باجتناب كل المؤثرات المشابهة لها، وقد عبر عن هذه الحيلة المثل القائل “اللى انقرص من الحية يخاف منديلها” وأصدق منه “إلى انقرص من التعبان يخاف من الحبل”.
وفى التعميم كما نرى إبداله مؤثر مكان آخر، لذلك أدرجناه تحت حيل الإبدال، ويعمل التعميم بصورة متواترة فى زمن الطفولة ثم يقل تأثيرة مع مرور الزمن.
4 الرمزية: Symbolization
فى هذه الحيلة يعتبر الإنسان المؤثر الذى لا يحمل أى معنى عاطفى رمزا لفكرة أو اتجاه لا شعورى مشحون بالعواطف وعادة ما يكون الرمز موجودا فى البيئة ويمثل لدى الإنسان ما اختبأ من عواطفه ومشاعره، قد يقتصر اهتمام شاب على ملابس السيدات رمزا لعاطفة لم يسمح لها بالتعبير وهى ميله نحو الجنس الآخر، وهذا سبيل لخفض التوتر رغم أنه غير كاف .
5- الاعلاء: Sublimation
وهنا يعبر الانسان عن بعض دوافعه بصورة مهذبة، اذ لا يسمح المجتمع بالتعبير عنها بصورتها الفجة وقد اختلف الباحثون فى قيمة الاعلاء ومدى فاعليته ،ولو أننا نعتبره من أكثر الوسائل السلمية لتحرير طاقة الدوافع الى أهداف اخلاقية سامية .
وقد يحدث الاعلاء باديء ذى بدء دون احباط ظاهر، ولكنه يحدث نتيجة لفشل واضح أو حرمان ظاهر فاننا كثيرا ما نشاهد تصرف انسان فشل فى الحب فاتجه الى الاشتغال بالفن أو الادب وبذلك ينفس عم ما حدث له من احباط . ومثال آخر نشاهده فى السيدة التى حرمت من الانجاب ( أو الزواج) فجأت الى ارضاء دافع الامومة بالاشتغال بالتمريض أو التدريس . على أن هذه الامثلة لا تعنى بالضرورة ان الاعمال الانسانية هى مجرد اعلاء اذ كثيرا ما تقدم هذه الاعمال الانسانية كهدف أصيل تطبيقا لمثل أخلاقية سامية.
6- التقمص Identification
يقوم التقمص بدورهام فى النضج والتطور ،كما يؤدى وظيفة أساسية فى الاستمتاع بمباهج الحياة . . . والتقمص هو الحيلة التى يدمج بها الفرد شخصيته فى شخصية آخر وذلك بشعوره وسلوكه جميعا – فالطفل يتقمص شخصية أبيه، وقاريء القصة قد يتقمص شخصية بطلها وهكذا مما نشاهده فى خبراتنا اليومية والتقمص فى الحب مشهور معروف و متواتر فى كلام المحبين وتعبيرهم عن ذواتهم وكيف انهم يشعرون بما يشعر به أحباؤهم بل ويذوبون فيهم فكأنهم كل لايتجزأ والشاعر الصوفى الذى يقول:
أنا من أهوى ومن أهوى أنا نحن روحان حللنا بدنا
عبر عن هذه الحيلة أصدق تعبير ويبلغ التقمص والإندماج مداهمة فى قول الآخر.
ومازلت إياها وإياى لم تزل ولا فرق، بل ذاتى بذاتى جنت
وقد يتقمص الآباء شخصية أبنائهم – كما يتقمص الأبناء شخصية آبائهم سواء بسواء -، وهذا يحس الوالد – مثلا – بشعور إبنه فى الفرح والألم وغيرها، ولعله يحس حتى باشباع حاجاته العضوية مصداقا للمثل السائر “من أطعم صغيرى بلحة… نزلت حلاوتها بطني” وكأنه شعر بشعورى الشبع واللذة الذين شعر بهما الصغير.
فالمشاركة الوجدانية إذا نوع من أنواع التقمص وإن صاحبتها حيلة أخرى هى الإسقاط، وهذا هو ما يلجأ إليه – بإدراك ووعى – طبيب الأمراض النفسية فى محاولة تفهم مرضاه وعلاجهم كذلك.
والتقمص قد يبلغ حدا مرضيا بالغ الخطورة حين يصل إلى الاعتقاد الراسخ عند المريض بأنه النبى مثلا أو حتى الإله.
7- التقديس:
ونعنى بالتقديس هنا: المبالغة فى التقدير والتنزيه، وهو أن يرفع الفرد من قيمة إنسان آخر – أو حتى موضوع آخر – بشكل مبالغ فيه فيصفه بكل المحاسن التى فيه فعلا والتى حرم منها كذلك بل ويخلع عليه أفضل أفكاره وأحسن ماله وينزههه عن كل نقيصة أو خطأ. وهو حيلة ترمى إلى خفض التوتر باستبعاد الصفات غير المرغوب فيها والتى قد تخلق صراعا بين الأقدام والأحجام نحو هذا الهدف المراد، بل وبإحلال صفات حسنة أخرى تبرر كل هذا الإندفاع نحو ذلك الهدف أو التعلق بذلك الشخص.
وقد يعمل التقمص مع التقديس فى تكوين الضمير، فأحيانا يكون من غير المهم مدى إتصاف المثل بهذه الصفات الحسنة ما دام هذا هو ما يسعى إليه الفرد ويتشبه به.
ومع ذلك فإن للتقديس عيوبا كثيرة وعواقب قد تكون وخيمة فإنه قد يعمى الإنسان عن حقيقة الأشياء ويحرمه من النظرة الموضوعية للأمور كما قد يصاب الإنسان باحباط شديد إذا ما تبين مؤخرا ما كان فيه من خداع الذات حين يتبين حقيقة الفرق بين ما تصوره وما هو كائن فعلا.
والوقوع فى الحب مثل واضح من أمثلة المبالغة فى صفات المحبوب والتغاضى عن عيوبة أو بتعبير أصح التعامى عنها، وهنا نحب أن نشير إلى ما يتواتر فى هذا الصدد، فحين قال عمر بن أبى ربيعة “حسن فى كل عين ما تود” كان يعنى إغفال العيوب وإبراز الحسن إرضاء لنزعة الحب.
وقد يبالغ المحب فلا يرى حسنا إلا هذا المقدس كما هو الحل قول قيس بن الملوح (مجنون ليلي): “محب لا يرى حسنا سواها” ففى الحالة الأولى أضفى المحب الصفات الحسنة على المحبوب، أما فى الحالة الأخرى فقد نفى صفات الحسن عن أى أحد إلا محبوبته، وهذا هو مصداق المثل القائل “عين الحب عميا”.
8- التعويض Compensation
كما أن التعويض وسيلة شعورية إرادية لمقاومة النقص والتغلب عليه، فهو كذلك حيلة لا شعورية ترمى إلى نفس العرض. والتعويض هنا هو محاولة للتوازن حتى يتميز المرء فى نواح معينة من النشاط والخبرات ليعوض ما يشعر به من نقص – حقيقى أو خيالى – فقد لا يدرك الإنسان أنه يعانى من نقص ما فى حين أن هذه المعاناة موجودة فى اللاشعور، فهو يتصرف فى تعويضه آنذاك وكأنه تصرف تلقائى لاهتمامه بموضوع التعويض نفسه، وكأنه ليس سدا لنقص ما.
فالشخص الذى يبذل جهدا فى التحصيل أو فى البروز فى نوع من أنواع الرياضة أو فى ممارسة نوع من النشاط الاجتماعى أو السياسى كل هؤلاء قد يهدفون إلى تعويض نقص لا شعورى كالشعور بعدم التقديم الاجتماعى أو الافتقار إلى الحب.
ونشاهد أبسط أنواع التعويض فى محاولة تطوير الشخصية وإكتساب خفة الروح لمن حرموا من نعمة الجمال حتى قيل فى المثل “يا وحشه كونى نغشة” – أى خفيفة الظل والحركة.
تعقـيب
بعد هذه الإفاضة فى الحديث عن الحيل اللاشعورية قد يتبادر إلى ذهن القاريء الشك فى كل تصرف كريم والميل – بغير إمكانيات أو دراسة – إلى تأويل النوازع الإنسانية الحميدة والأعمال الخلاقة إلى نوازع ودوافع دونيه بما فى ذلك من إمتهان واحتقار للحضارة ومكاسبها ومدى ما وصلته من نضج، فقصة الإعلاء هى جزء من قصة الحضارة، وقصص التعويض تشمل مثلا وضروبا من البطولة تجعل الإنسان أكثر رضا عن نوعه وثقة فى قدراته – فليست المحافظة على الأطفال ورعايتهم رد فعل لرغبة التخلص منهم بقدر ما هى غريزة الامومة التى تسعى للمحافظة على النسل، كما أن الحماس والتصميم والعناد لا يمكن وصفها بأنها تغطية للشعور بالتواكل والإستهانة والتبعية.
لكل ذلك لزم التنويه أنه على الرغم من صدق هذه الحيل وحدوثها لنا جميعا على اختلاف درجات نضجنا النفسي، وعلى الرغم من تكرار حدوثها فى كل يوم وكل لحظة إلا أن تفسيرها وفهمها يتطلب من الجهد والدراسة والصبر والأناة والمران والخبرة ما يتطلبه أى كشف عن أى مخبوء مجهول، وأن هذا الكشف حتى بعد أن يتم لا يعدو أن يكون احتمالا لا أكثر ولا أقل قد تثبته الأيام والأحداث وقد تنفيه.
بل أن تقبلنا لهذه الآراء نفسها ومفهوم الحيل اللاشعورية من حيث صدق النظرية أو مخالفتها للصواب هو فى ذاته دليل على مدى تقبلنا لتفسير ذواتنا تفسيرا واقعيا مجرد أو التمادى فى دفن رؤوسنا فى الرمال.
ولكن لنا أن نتصور أيضا كيف تكون الحياة ممجوجة وسمجة إذا تجردت من هذه المظاهر اللطيفة التى تعطى لها معنى وطعما، فنادى العراة الخاص بالنفوس لا يستطيع أن يعيش فيه إلا القلة القليلة، أما سائر البشر فعليهم أن يرتدوا من الحيل ويصطنعوا من الأساليب ما يؤدى إلى العمل والإنتاج ويهدف إلى التمتع بالحب والفن والجمال دون تفسير أو تحليل.
ولكن عليهم أيضا ألا يبالغوا فى السير فى طريق الخداع حتى نهايته، فإذا كان استخدام الحيل يهدف إلى التوافق وخفض التوتر والتكيف الاجتماعى فيها ونعمت، أما إذا كان الإنطواء أسلوبا، والهرب ديننا، والإبدال عادة، فإن العاقبة وخيمة لا تقتصر على الفرد فحسب بل تتعداه إلى احتلال المجتمع واضطراب العلاقات بين الأفراد.
وإذا حاولنا أن ندرس وظيفة الحيل النفسية فإننا نجد أنها تهدف إبتداء إلى خفض التوتر بتجنب الألم والإنصراف عنه أو بتأجيله إلى وقت يكون الإنسان فيه أقدر على مجابهته. كما أن لها وظيفة تكفيرية وإصلاحية فإن العمل على إصلاح ما فسد شيء طبيعى ومحبب إلى كل نفس سواء حدث شعوريا أو لا شعوريا. كما أن التعويض يعتبر أساسا سليما لسد النقص حتى ولو كان هذا النقص وهميا.
وقد سبق أن كررنا أن التمادى فى هذا السبيل يلجيء إلى المرض، وذكرنا بعض الأمراض التى ترد فيها كل حيلة.
فإذا سأل سائل: إذا، متى ينبغى على المرء أن يفسر نفسه ويدرس هذه الحيل ويتهم اتجاهاته ومشاعره، ومتى ينبغى عليه أن يدع الأمور تجرى فى أعنتها، لأجبنا أننا لا ننبش حول زرع باسق ناضر متناسق مع ما حوله من زروع وإنما نحن ننبش حول الزرع العليل ونجتث الحشائش غير ذات الفائدة التى تضر بانتاج الزرع من حولها، ومن ثم فإنه بالنسبة للإنسان العادى فإن من بدأ طريق الإستبصار الذاتى فإنه عادة سوف يتمه بفهم نفسه رغم ما يبدو فى هذا الفهم من قسوة أحيانا – وقد يحتاج إلى مساعدة طبية فى ذلك – أما الذى يعيش “هكذا” فحسب وليس أمامه الفرصة إلى السير فى الطريق حتى نهايته فسنرى أن بعض الحيل أفضل من نصف الحقيقة.
الفصل الرابع
الأعراض
تختلف الأعراض التى تظهر على مرضى الأمراض النفسية اختلافا بينيا، فقد تكون الأعراض شديدة واضحة حتى يدركها العامة لأول مرة وهلة، وقد تختفى لدرجة أن يصعب تمييزها إلا لذوى الخبرة المتمرسين على اكتشافها وإدراكها مما يضطرنا أحيانا إلى إعطاء بعض العقاقير المثيرة كى تساعد على ظهورها وتمييزها. والأعراض المقنعة لا تقل أهمية عن الأعراض الظاهرة بل قد تزيد، إذ أن إدراكها يكون فى المراحل الأولى للمرض، تلك المراحل التى يمكن أن يعالج المريض علاجا ناجحا إذا نحن بذلنا الجهد الكافى للوصول إلى “التشخيص المبكر”. هذا وقد تكون الأعراض بالغة الشدة بحيث تضطرب معها علاقة الفرد بمجتمعه، الأمر الذى يجعل المريض عبئا ثقيلا على عائلته كما قد تكون خفيفة حتى أن المريض يستطيع أن يمارس عمله ويحافظ على مستوى انتاجه وعلاقاته الاجتماعية، الأمر الذى قد يجعل ذهابه إلى الطبيب النفسى مدعاة لدهشة مخالطيه، غير أن هذه الأعراض الخفيفة قد تسبب لصاحبها من الألم والمعاناة ما لا يطيق، رغم مظهره السوى.. هذا فضلا عن أنها قد تتطور الأعراض إذا ما أهملت إلى أعراض أشد خطرا وأصعب علاجا.
أما من ناحية النوع فإن الأعراض قد تؤثر على أى وظيفة نفسية فقد تظهر فى وظائف التفكير أو العاطفة أو العمل أو فى علاقة هذه ا لوظائف بعضها ببعض.
لكل ذلك فإننا نتبع أسلوبا مفصلا فى فحص المريض حتى لا يفوتنا أى واحد من هذه الأعراض صغيرا أ كبيرا، فنبدأ بفحص المظهرالعام وننتهى إلى الفحص العضوى الشامل وبذلك يمكننا الاهتداء إلى كافة الأعراض ما ظهر عنها وما بطن.
على أن فحص أعراض المريض هو فحص “طرفي” بمعنى أننا نفحص المظهر والسلوك الخارجى لنستتنتج منه فى النهاية التركيب الداخلى لأجزاء النفس ووظائفها، وهذه الطريقة نافعة وضرورية لمبتديء ومن خلالها يجد الفاحص نفسه قادرا على النظر إلى التركيب العام لوجود المريض فى مجتمعه فى هذه الحياة. وقد يهتم بالفحص بتفاعل المريض الكلى للحياة أولا وهذه الطريقة هى ما تسمى بالفحص “المركزي” فنعرف بها ومن خلالها طبيعة وجود المريض وهدفه فى الحياة “بصفة عامة” ثم نتتبع مظاهر هذا الوجود من المركز إلى الطرف فى بحث متدرج لاستكمال التفاصيل الظاهرية التى يمكن أن نستتبعها تبعا لطبيعة هذا الوجود الشامل، وهذه التفاصيل ما هى إلا الأعراض.
1- المظهر العام
إذا نظرنا بدقة وعناية إلى المظهر العام للمرض أمكننا أن نعلم من حالته النفسية والعقلية الشيء الكثير مما يساعدنا فى تشخيص المرض ومعرفة درجة خطورته، لذلك فإننا نحاول أن نفحص فى المظهر العام ما يلي:
1- التكوين الخلقيPhysique : يختلف التكوين الخلقى من شخص لآخر، فهناك الشخص النحيفAsthanic والبدين Pykine وذو التكوين العضليAth’etic وذوى التكوين غير المنتظم Dysplastic وقد يتصف الإنسان بأكثر من صفه من الصفات فى نفس الوقت، وهناك اعتقاد أن كل مرض نفسى يكثر تكوين خلقى معين وذلك لأن كل تكون جسمى يرتبط بتكوين الشخصية بشكل ما، فنرى أن الشخص ذو التكوين البدين أميل إلى المرح وتكون شخصيته انبساطية بينما الشخص النحيف يكون أميل إلى الانطواء .. وهكذا، وقد لوحظ أن جنون الهوس والاكتئاب يكثر فى التكوين البدين، بينما الهستريا والصرع يكثران فى التكوين العضلى وأما النيور استانيا فنجدها أكثر ما تكون فى التكوين النحيف، ونجد الفصام كذلك فى التكوين النحيف وغير المنتظم، لكل ذلك نجد أننا بملاحظة التكوين الخلقى للمريض يمكن تكوين فكرة عامة عن شخصيته ومرضه – ولكنها ينبغى أن تكون فكرة مبدئية قابلة للمناقشة والتحوير لأن أى مرض يمكن أن يحدث فى أى تكوين.
2 – تعبيرات الوجه: تدل تعبيرات الوجه على حالة المريض الانفعالية فمثلا ترى المريض المكتئب يظهر الحزن واضحا على وجهه بينما نرى المريض فى حالة الهوس (لا سيما الهوس الخفيف) يطل السرور من عينيه .. ونجد الوجه بلا تعبير اطلاقا فى بعض حالات الفصام. على أننا لا ينبغى أن نخدع فى تعبير الوجه فكثيرا ما يبتسم المريض “وقلبه حزين” (على حد تعبيره) وكثيرا ما يكون الابتسام دالا على موقف سخرية أو هزء أو عدمية وليس على مرح أو سعادة لذلك فأن الدقة فى معرفة ماوراء الابتسام مهمة ولازمة.
3 – حالة الملابس: طريقة الانسان فى ارتداء ملابسه وحالة هذه الملابس ولونها قد تساعد على معرفة شخصية الانسان ومدى انفعالاته، فارتداء الملابس السوداء قد يدل على الحزن، واهمال الملابس علامة على عدم الاهتمام والاضطراب وهكذا.. وكذلك الحال فى المرض النفسى فقد تكون الملابس نظيفة وأنيقة كما فى حالات الهستيريا، أو قذرة وممزقة كما فى حالات الهياج، أو غير متناسقة وشاذة مما يدل على وجود اضطراب فى تفكير المريض، ويغلب هذا فى مرض الفصام. كما قد نجد مريض “الهوس الخفيف” وقد ارتدى ملابسا زاهية الالوان جدا، وان كانت فتاة أو سيدة فقد تلبس ملابس مبهرجه.
4 – حالة الشعر: ان حالة الشعر كحالة الملابس تساعد على الاستدلال على الحالة النفسية للمريض، فقد يكون الشعر طويلا أو قصيرا بشكل غير عادي، وقد يكون نظيفا ممشطا أو قذرا مشوشا، وقد يكون للشعر دلالة خاصة: فالمريض الذى يترك خصلة من شعره على جبهته بطريقة معينة “قصة” قد يشير ذلك إلى احتمال أنه يعانى من ضلال العظمة وأنه يعتقد أنه “هتلر” وكذلك المريض الذى يحلق رأسه بالموسى قد يكون متقمصا شخصية أحد ممثلى السينما الصلع.
5 – الوضع Posture: قد يكون وضع المريض (الوقفة أو الجلسة) ذا دلالة خاصة تفيد فى التشخيص، ومثال ذلك أن المريض الذى يضع يده بصفة دائمة فى فتحة قميصه قد يكون معتقدا أنه “نابليون بونابرت” والمريض الذى يمد يده تجاه الشمس باستمرار قد يعنى هذا أنه يعبدها أو أنه يتشبه بفقراء الهنود… وهكذا.
6 – الحركة Motor activity: يختلف النشاط الحركى للانسان بتغير حالته الانفعالية. فأننا قد نرى الشخص السعيد المرح كثير الحركة والكلام، كما قد نرى الشخص الحزين بطيء الحركة .. وهكذا، وفى المرض تختلف الحركة كذلك من حيث الكميه والنوع. فمن حيث الكمية قد تكون الحركة قليلة ( فى الاكتئاب مثلا) أو كثيرة فى الهوس، ومن حيث النوع قد تتصف الحركة بطابع خاص يحتاج إلى توضيح وافاضة نورده فيما يلى:
7 – أن الحركة قد تتصف بالتكرار كما يبدو فى الصور التالية:
(أ) الاسلوبية Stereotypy: وهى حركة أو مجموعة حركات غريبة يعيدها المريض باستمرار بطريقة متواترة:
وذلك مثل عمل حركة تعبيرية معينة بواسطة عضلات الوجه (كرفع الحاجبين مثلا) ثم، يكرر هذه الحركة بطريقة مستمرة، أو مثل لف اليدين على بعضهما وكأنه يغسلهما دون توقف .. الخ وقد تظهر الأسلوبية فى الكلام فيكرر المريض بعض الكلمات بطريقة مستمرة دون أن يقصد معناها ولا يفوتنا أن نذكر فى هذا المقام أن الكلام تفكير ثم تنفيذ حركى لهذا التفكير باستخدام حركة أعضاء الكلام كالشفتين واللسان.. الخ.
على أن الاسلوبية تتم عادة من وراء وعى المريض بحيث إذا سئل عما يفعل لدهش أو لم يجد تفسيرا، هذا إذا أجاب.
(2) الانثنائية الشمعية Flexibilities Cerea: فى هذه الحالة يكون التكرار هو تكرار الوضع أى ثباته واستمراره، فيمكن الفاحص أن يضع أحد أطراف المريض أو حتى جذعه أو رقبته فى أى وضع ثم يتركه. فنجد أن المريض يستمر على هذا الوضع لمدة طويلة تفوق المدة التى يمكن للانسان المعادى أن يتحملها بكثير، وذلك لان خاصية التعب العضلى الفسيولوجى تضطر الانسان العادى إلى أن يغير ن الوضع الثابت المتعب إلى وضع مريح، بينما يضطرب هذا الادراك فى هذا المريض. وتسمى هذه الظاهرة بالانثنائية الشمعية لان الاطراف تنتثنى معنا كيف شئنا وكأنها مصنوعة من الشمع اذ يمكن تشكيلها ووضعها فى أى صورة.
(3) اللوازم tics: وهى حركة بسيطة متكررة تدل على عادة متأصلة يصعب التخلص منها ومثال ذلك الجفنين وفتحمها (البربشة) أو رفع الحاجب أو تحريك الفم بطريقة معينة.. الخ ويحدث هذا أحيانا للاشخاص الاسوياء كما يحدث عند المصابين بالعصاب.
ب – وقد تتصف الحركة بالاستهواء Suggestibility: أى قابلية المريض آليا لاية أو امر تلقى اليه دون تفيكر أو تبصر حتى ولو كانت هذه الاوامر شاذة أو ضارة، فلا يستطيع مثلا أن يمتنع عن اخراج لسانه اذا ما طلب منه ذلك حتى لو هددناه أننا سوف ندخل ابرة فى لسانه اذا ما أخرجه.
(2) ورجع الكلام Echolalia ورجع الحركة Echopraxia : وهى أن يقلد المريض حركات الشخص الذى يتحرك أمامه حرفيا: فاذا رفع يده رفع المريض يده كذلك واذا أخرج لسانه قلده المريض تقليدا أعمى .. وهكذا، أما رجع الكلام فهو أن يعيد المريض الكلمات، وكله من المحاركة (رجع الحركة) والمصاداة (رجع الكلام) تتمان بطريقة آلية وهما صورة من صور الطاعة الآلية (ونود أن نشير الا أن رجع الكلام ما هو الا نوع خاص لرجع الحركة فليس الكلام الا نشاط حركى صوتي).
(3) الخلف Negativism : هو أن يستجيب المريض لاى أمر يلقى اليه استجابة عكسية، فاذا طلبنا منه رفع يده خفضها واذا طلبنا منه الالتفات إلى اليمين التفت إلى الشمال وهكذا… و “المقاومه” Resistance نوع من الخلف وفيها لا يقوم المريض بالفعل الذى يطلب منه ولا يقوم بالفعل العكسى ولكنه يقاوم الامر ولا يأتيه.. ويتضح أنه يرفض الطاعه لاى أمر، فاذا طلبنا مثلا من المريض الدخول الى الحجرة وهو عند الباب فانه يظل واقفا عند الباب لا يدخل ولا يخرج ويلاحظ ان الخلف والمقاومة هما عكس الطاعه الآلية على طول الخط. لذلك تسمى الطاعة الآلبة استهواء ايجابى positive suggestibility أى الاستجابة إلى الامر كما هو، كما يسمى الخاف والمقاومة استهواء سلبى Negative suggestibility وهو الاستجابة إلى الامر بفعل عكسه أو عدم فعله اطلاقا. ونلاحظ كذلك أن التصلب الشمعى الذى هو تكرار لموضع معين ما هو الا طاعه آلية حركية اتصفت بصفة التكرار.
7 – الذهول stupor: وهنا يبدو المريض وكأنه قد تجمد فى موضعه، فلا تبدو منه أية حركة ولا يظهر على ملامح وجهه أى تعبير، وإذا اشتدت الحال أصبح لا يستجيب للمؤثرات، حتى وان كانت مؤلمة. وقد يتصف بأحد مظاهر الاستهواء مثل “الخلف” فيقاوم المريض أية محاولة لتغيير موضع أطرافه. ويسمى حينئذ “الذهول المخالف”، أو مثل الطاعة الآلية أو التصلب الشمعى … الخ.
2- الكلام
للكلام أهمية مزدوجة من ناحية الشكل ومن ناحية الموضوع، أما من ناحية الشكل فأنه كمظهر حركى يسرى عليه كثير مما ذكر فى التغيرات التى تطرأ على الحركة كالقلة والبطء والتوقف والمصاداة (وقد سبق الاشارة إلى ذلك) وهو من ناحية الموضوع يدل على محتوى الفكر سواء كانت هذه المحتويات مضطربة أو سليمة فالكلام قد يختلف من حيث الكم والسريان ومدى تحقيقة لوظيفتة الاجتماعية، واللغة هى الاداة الاولى للتكيف الاجتماعى لانها الاداة الاولى للتواصل بين البشر.
أ – فمن حيث الكم:
1 – قد يكون الكلام كثيرا بدون داع فيتداعى بانطلاق وحتى بدون توجيه أسئلة وتسمى هذه الظاهرة “الثرثرة” volubility
2 – وقد يقل الكلام الى درجة كبيرة فيظهر فى صورة أجابات مقتضبة للاسئلة، وفى هذه الحالة عادة لا يتكلم المريض ابتداء وانما يتحدث ردا على سؤال.
3 – وقد ينعدم الكلام نهائيا فيعجز المريض عن الكلام أو حتى عن النطق بأى صوت وتسمى هذه الحالة أحيانا “البكم” Mutism
ب – ومن حيث سريان الكلام stream of talk قد يطرأ عليه مايلى من تغيرات فى السرعة أو فى الاتجاه.
1 – قد يكون سريان الكلام بطيئا كما فى حالات الاكتئاب.
2 – قد يكون سريعا متصلا كما فى حالات الهوس الخفيف.
3 – وقد يتوقف سريانه فجأة وبدون أى سبب ويسمى ذلك “العرقلة” Blocking
4 – وقد يتخذ مجرى الكلام طرقا جانبية فيتطرق الحديث إلى تفاصيل لا داعى لها ولكنه يصل إلى غرضه فى النهاية وتسمى هذه الظاهرة “التفصيل” Circumstantiality ومثال ذلك ما نراه فى الذين نطلق عليهم لفظ”الرغاي” كالذى يحكى حادثة ذهابه الى السينما قائلا: “نويت امبارح أروح السينما. ولبست البدلة الزرقة اللى اشتريتها من محل شركة بيع المصنوعات اللى فى آخر الشارع قدام بتاع السجاير وبعدين لبست عليها الكرافتة الحمراء وفيه ناس بيقولوا ان الاحمر على الازرق ما ينفعش، لكن أنا رأيى ان الاحمر النبيتى يليق على الازرق، لكن الاحمر الطرابيشى لا. وبعدين ….’ ويستمر فى وصف تفاصيل سيره فى الشارع وأى أتوبيس ركب، وأى شخص قابل، وهكذا… ولكنه فى النهاية يذكر أنه وصل الى السينما، وبذلك يفى بالقصد الذى قصد اليه فى أول الكلام.
5 – وقد يغير المريض مجرى كلامه نهائيا وذلك استجابة لمؤثر داخلى أو خارجى مثل كلمة عابرة وردت أثناء الكلام، وهو عادة لا يصل الى غايته أبدا ويحدث هذا فى ظاهرة “طيران الافكار”
ويحدث هذا عادة فى الهوس ومثال ذلك أن الذى أخذ يحكى حادثة ذهابه الى السينما قد تنحرف ححكايته بعد كلمة “الطرابيشي”. الى سبيل آخر تماما فيقول ‘…….. وحتى الطرابيش راحت عليها. هوه حد عاد بيلبس طربوش اليومين دول.. أنا شخصيا ما اعرفشى حد بيلبس طربوش الا خالي، وهوه قاعد فى البلد واسمه زكى افندي، مع انه لا أفندى ولا حاجة، بس علشان لابس طربوش وجلابية.. والجلاليب أريح من البيجامات فى اللبس فى الحر… وحر السنة دى العن حر مر على مصر من 25 سنة يعنى من أيام الثورة ما قامت، حاكم الثوره دى أحسن من ثورة 1919 …’ ويستمر هكذا ولكنه لا يصل أبدا إلى اكمال حديثه الذى بدأه وهو أنه ذهب أمس الى السينما.. مثلما كان الحال فى التفصيل، فالفرق بينهما هو فرق فى الدرجة ومقدار التشتت.
جـ – وقد يتصف الكلام بالتكرار ومن أمثله ذلك ما ذكرنا من قبل ونحن نتكلم عن الحركة حيث أن الكلام حركة صوتية وأهم تلك الامثله.
1 – الاسلوبية Stereotypy: وهى تكرار لكلمات معينة لا يظهر القصد منها واضحا، فنرى مريضا يكرر ليل نهار عبارة مثل. الاشارة اما حمراء أو خضراء … الاشارة اما حمراء أو خضراء .. وقد يرمز هذا الى معنى خفى يدل على صعوبة اخنيار الحلول الوسطى التى تعتبر أقرب الى الواقع ولكن ذلك المعنى قد لا يبدو للفاحص من أول وهلة.
وقد يجيب المريض على كل الاسئلة بنفس الاجابة فاذا سئل اسمك؟ قال: “الحمد لله” ثم سئل: أين أنت؟. قل “الحمد لله.. ثم سئل: فى أى الايام نحن؟” أجاب، الحمد لله.’ وهكذا .. وقد تشير هذه الظاهرة الى الجمود أو رفض التواصل بالاخر أو الانغلاق على الداخل أو العناد.. الخ.
2 – المصاداة Echoia: “رجع الكلام” وقد ذكرنا أنها تكرار الكلام الذى يسمعه المريض أو تكرار أواخره ، و مثال ذلك أنك اذاسألت مريضاما:مااسمك؟..قال…ما اسمك؟واذاسألته:أنت فين؟..قال…أنت فين ؟قاذاقلت له:لا تكرر ما يقال …، فانه قد يرد:يقال …يقال… وكأنه صدى لما يسمع.
د – قد لا يؤدى الكلام وظيفته الاجتماعية فلا يفى بالغرض منه وهوالتفاهم، وقد يكون السبب فى هذا عدم القدرة على تكوين الجملة المفيدة، ويكون هذا دليلا على اضطراب فى القدرات العقلية أو فى التفكير، وقد يصل الامر الى التعبير بلغة جديدة لا يعرفها الا المريض حتى ان العامة يطلقون على مثل هذه الظاهرة “بيرطن” “بالسرياني” وتصيب هذه الظاهرة المرضى العقليين وتسمى هذه الظاهرة “اللغة الجديدة”. Neologism
هذا وقد يكون اختلال وظيفة الكلام نتيجة لصعوبة فى التعبير ذاته أى صعوبة فى النطق مثل حالات التهتهة
Stuttering وهى حركة كلامية يصعب ايقافها كأن يقول “اسمى محمد محمد محمد محمد محمد محمد، ……. محمد” أو العقلة stammering وهى وقفة كلامية يصعب تحريكها كأن يقول “م م م م م مش قادر أنطق”..
وقد يكون محتوى الكلام مضطربا، وفى هذه الحاله تكون دلالة اضطرابه هى اضطراب التفكير مما سيرد ذكره.
3 – اضطراب الفكر
Thought Disorder
قد يضطرب نشاط الفكر فى أى من مظاهره وهى: سريانه، ومحتواه والتعبير عنه، والظاهرة الاخيرة – أى التعبير عن الفكر- تتم بالكلام أو بالنشاط الحركى الآخر كالإشارات والإيماءات، وقد درسنا مظاهر اضطرابهما.
أ – اضطراب مجرى الفكر stream disorder: الافكار دائما السريان فى حالتى اليقظة والنوم مثلها فى ذلك مثل الدم الذى يسرى فى الشرايين والاوردة بدون انقطاع، والانسان قد يدرك حركة التفكير المستمرة ويوجهها فيفكر بارادته فى مواضيع بذاتها ويكون التفكير هنا شعوريا، وقد يحدث سريان الفكر دون أن يتنبه الانسان لحدوثه أو يضبط اتجاهه ويكون التفكير اذا ذاك لاشعوريا، وكما أن القلب هو الذى يدفع الدم الى السريان باستمرار فان العاطفة والدوافع هى التى تدفع الافكار الى السريان كذلك – وقد يضطرب سريان الفكر بصورة من الصور التالية:
1 – فقد يبطيء مجرى الأفكار فيجد المريض صعوبة فى التفكير بانطلاق ويحدث هذا فى الاكتئاب وقد تسمى هذه الظاهرة “بطء التفكير” ويكون هذا البطء مصحوبا عادة بصعوبة تكوين الافكار وتسمى هذه الظاهرة “صعوبة التفكير”.
2 – وقد تنطلق الافكار فى سرعة وعجلة أكبر من السرعة العادية، تصل أحيانا الى حد الطيران وتسمى هذه الظاهرة “طيران الافكار” وقد تحدثنا عنها، والحقيقة ان الافكار فى هذه الحالة تكون تحت تأثير العاطفة الجامحة (فى مرض الهوس مثلا) لدرجة تجعلها تحت رحمه جميع المؤثرات الداخلية والخارجية. فبينما يعبر المريض عن فكرة معينة. يتأثر سمعه أو بصره أو أى حاسه أخرى بمؤثر آخر سرعان مايسترعى انتباهه، وقد يكون هذا المؤثر فكرة داخلية أو كلمة من الفكرة الأولي(راجع المثال السابق ص 99) فتتحول أفكاره فى الاتجاه الجيد.
3 – وقد يتوقف للحظة أو لحظات ثم يعود سريانه ولكن فى موضوع، آخر، ويسمى هذا “عرقلة التفكير”
Though Block وفى الحالات المبكرة قد يعاود السريان فى نفس الموضوع الا أن المريض ذاته يشكو من هذا التوقف وهذه العرقلة.
ب – اضطراب محتوى الفكر Thought Content Disorder:
1 – قد يضطرب محتوى الفكر بشكل عام: فنجد أن المحتوى كثير بدرجة غير عادية، أو هو يكثر فجأة وكأن الافكار فى حالة ضغط مرتفع (مثل نوبات حالة ضغط الدم المرتفعة اذا ماشبهنا الافكار بالدم) وتسمى هذه الحالة “ضغط الافكار” pressure of thought وقد يكون المحتوى ضعيفا وهنا نطلق على هذه الظاهرة “فقر الافكار” poverty of thought وقد يشكو من أن الافكار توضع فى رأسه دون ارادته وتسمى هذه الظاهرة أقحام الافكار” thought insertion وكل من انتزاع الافكار واقحام الأفكار واذاعة الافكار تدل على وضع سلبى للغاية فيبدو المريض كما لو كان لا ارادة له فى التحكم فى فكره ويدرج ذلك أحيانا تحت ظاهرة “السلبية”
وقد يكون اضطراب محتوى الفكر اضطرابا نوعيا خاصا، يعنى وجود صفة خاصة أو تفكير شاذ بذاته، ومن صور ذلك ما يلى: 1 – الانشغال:preoccupation وهذا يدور التفكير حول موضوع ما .. بشكل يطغى على سائر الموضوعات الاخرى رغم أهميتها، كأن ينشغل المريض بذكرى وفاة ولد له أو بالسعى لشغل وظيفة ما .. الخ
ويحدث هذا للاسوياء. ولكنه قد يشتد فيعطل كل اهتمام آخر ويصبح بذلك مرضيا.
2 – الوساوس obsession: حيث يجد المريض نفسه مسطرا الى التفكير فى موضوع بذاته أو حول فكرة معينة رغم كون هذه الفكره شاذة أو تافهة ورغم يقينه بغرابتها. ورغم محاولته التخلص من التفكير فيها، الا أنه لا ينجح فى كل ذلك فلا يستطيع ضبط أفكاره وأحيانا تتحول هذه الافكار الى سلوك لا يستطيع المريض منعه، فمثلا اذا تشاءم انسان من رقم 13 بدرجة مرضية أخذ يفكر فيه أو يخاف منه لدرجة أنه لا يمكنه أن يسكن فى منزل رقمه .13 ولا يستطيع أن يركب سيارة رقم 13 أو يمتنع عن الخروج من منزله فى أيام 13 من كل شهر أو يرفض أن ينفذ قرار النقل الى وظيفة فى “مديرية التحرير” لان عدد حروفها 13 أو يمتنع عن المشى فى “شارع ’26 يوليو” لان 26 ضعف العدد 13 أو “شارع قصر العيني” لان عدد حروفه 13 …. وهكذا.
3 – قد يتصف محتوى التفكير بالتحيز، فيتبع عقدة خاصة، عادة ما تكون ذات صبغة عاطفية، وينبع من الذات ويعود اليها دون الواقع فيكون أقرب الى الخيال ومحدد بالرغبات والدوافع ويسمى هذا النوع “التفكير الذاتي” Autistic Thinking
4 – وقد يكون التفكير ملوثا بأفكار غريبة وغامضة أو تشبه فلسفية معوقة فى السطحية والسفسطة الى درجة يتعذر معها التفكير المثمر.
5 – تناقض الافكار قد يحدث أن توجد فكرتين متضاربتين فى تفكير الانسان فى نفس الوقت ولا يستطيع المريض التخلص من أيهما على حده، بل يظلان معا رغم تعارضهما.
ويطلق تعبير الاضطراب التركيبى للفكر Formal thought disorder على الاعراض التى تدل على خلل فى عملية التفكير ذاتها من حيث هى تسلسل مترابط بطريقة منطقية عامة تجيب على تساؤل مشكل أو تحقق فرضا قائما، ولعل اختلال هذا التسلسل والترابط بين الافكار التى توصل الى هدف التفكير الاساسى هو أهم ما يميز مرض الفصام ويظهر كأعراض فى صورة عدم الترابط، والغموض، والارتباط السطحي، وعرقلة الافكار، وفقرها، كما يذهب آخرون الى تجميع بعض الاعراض مثل اقحام الافكار، وانتزاع الافكار، واذاعة الافكار تحت عنوان اضطراب ملكية الافكار thought possession
6 – الضلال: الضلال هو اعتقاد وهمى خاطيء يتميز بأنه (1) لا يتفق مع الواقع (2) ولا يمكن تصحيحه بالحجة الصادقه والمنطق السليم (3) ولا يتناسب مع تعليم المريض وبيئته:
وقد تكون الضلالات أولية primary delusion أى أنها تظهر دون سابق انذار، وتحمل معها قوة الاقناع بها (دون أى حاجه الى اثبات أو دليل) كأن يعتقد المريض فجأة أنه مضطهد من المجتمع أو من أحد أفراده بالذات – وقد تكون ثانوية secondary delusion بمعنى أن تكون خاطئة ولكنها قائمة على اضطرابات أخرى أساسية مثل “ضلال أولي” أو “هلاوس” أو “اضطرابات حسية أخري” ومثال ذلك أن يكون ضلال العظمة تفسيرا لضلال الاضطهاد فيقول المريض أن الناس يضطهدونه اذا أنه عظيم من العظماء .. أو أن الهلاوس التى يسمعها فى أذنيه فى صوره رنين انما هى نتيجة لتسلط بعض الناس عليه. وتأثيرهم فيه .. وهكذا .
وقد تكون الضلالات مرتبة systematised Delusion متسقة منطقية رغم بعدها عن الواقع فتكون الافكار رغم غرابتها متسلسلة بطريقة مقنعة فيكفى قبول الفكرة الاولى فيها لقبول بقية الافكار، فمثلا اذا قال مريض أنه حصل على شهادة دكتوراه من جامعة لندن وأنه يعمل أستاذا فى الجامعة وله مولفات كذا وكذا وسوف يلقى محاضرات كيت وكيت .. الخ، فانه يكفى قبول فكرة حصوله على الدكتوراه لقبول بقية الافكار المترتبة على ذلك دون أن يبدو فيها اضطراب أو غرابة، ويحدث هذا عادة فى حالات الضلال المنتظم .. وتسمى أحيانا “حالات” البارانويا. Paranoid Stateولكن قد تكون الضلالات مشوشة غير منتظمة Unsystematised فلا تسلسل فيها ولا رابط بينها ولا يقنع السامع بموضوعها ويحدث هذا عادة فى “الفصام”.
وهناك أنواع كثيرة من الضلالات من حيث محتواها وتفاصيلها:
أ – ضلال الاشارة Delusion of Reference: وفى هذا النوع يعتقد المريض أن كل ما يحدث حوله يشير اليه، فاذا غمز أو همس انسان لجاره، أو حتى اذا ابتسم أو سعل أى شخص فى وجوده اعتقد أنه يقصده بذلك، وأحيانا تتسع هذه الدائرة فتشمل ما يقرا فى الصحف والمجلات، أوما يسمعه أو يراه فى الاذاعة والتليفزيون فيعتقد المريض ان بعض هذه البرامج أو المقالات موجه اليه للتحذير أو التهديد أو غير ذلك.
ب – ضلال الاضطهاد Delusion of Persecution: وهنا يعتقد المريض أن شخصا ما، أن هيئة أو جماعة تضطهده. فيقول مثلا أن أمه تكرهه وتنوى أن تضع له السم فى الطعام، أو أن رئيسه فى العمل هو سبب كل المصائب لانه يضطهده ولا يعطيه حقه (فى حين أنه يكون قد نال كل ترقياته وعلاواته فى أوقاتها) أو أن هناك من يدبر له أمرا، أو أن المسيحيين جميعا يترصدون له لكى يقتلوه لانه مسلم وموحد بالله… وهكذا.
ج– ضلال العظمة Delusion of Grandeur: وهنا يعتقد المريض أنه شخص مهم بصورة خاصة، فيؤمن أن له قوة جسمية أو عقلية هائلة أو أنه رجل عظيم، أومخترع فذ، أو مستكشف أو ملك أو امبراطور أو رئيس جمهورية أو نبى مرسل أو حتى الاله نفسه.
د – ضلال الاثم واتهام النفس Delusion of sin: وهنا يعتقد المريض أنه مذنب، أو أنه ارتكب من الخطايا مايستحق من أجله التعذيب والعقاب وعادة ما يطلب العقاب بوسائل وحشية مثل الرجم بالحجارة أو الحريق فى أماكن علمة حتى يكفر عن الذنب الذى يتصور أنه ارتكبه.
هـ – ضلال التأثير Delusion of Influence : وهنا يعتقد المريض أن هناك من يؤثر عليه فيدفعه الى التفكير والتصرف دون ارادة منه، أو يعتقد أن هناك كهرباء أو لاسلكى مسلط عليه، يوثر فيه ويحكم تصرفاته ويوجهه، ويدل هذا الضلال على السلبية والقدرية لذلك يسمى أحيانا “ضلال السلبية” Passivity delusion
و- ضلال تغير الكون Delusion of Derealisation: ونعنى بذلك الضلال الذى يتعلق بالكونوما فيه بما فى ذلك المريض نفسه، فأحيانا يعنقد المريض أن كل ما حوله قدتغيركالمنازل والشوارع والناس والجيران والاصدقاء وحتى أفراد أسرته أصبحوا جميعا، أو بعضا منهم غير ما كانوا، وهناك نوع آخر يشبه هذا الضلال “ويسمى ضلال نغبر الشخص” Delusion of Depersonalisation وفيه يعتقد المريض أنه هونفسه قد تغير وأصبح شخصا آخر كلية، ولابد أن نميز بين هذا الضلال وبين خبرة تغير الكون والذات Depersonalisation Experience حيث يكون الاضطراب فى الادراك مصاحب بانفعال خاص، أما هنا فانا نعنى ثبات الفكرة الضالة على المستوى الذهنى أكثر فأكثر
ز- الضلال الحشوى الجسمى Hypochondriacal Delusion: وهنا يعتقد المريض بوجود مرض فى بعض من أجزاء جسمه، ويكثر المريض، من وصف الآلام التى يشعر بها والتى تشبه فى عمومياتها ما يصفه المرضى المصابون بأمراض باطنية غير أنها لاتتفق وأعراض أى مرض عضوى معين، ويثبت الفحص الاكلينيكى والابحاث المختلفة خلو الاحشاء والاعضاء من الامراض العضويه، غير أن المريض لا يقنع بذلك، وحتى ان اقتنع، يكون اقتناعه سطحيا وموقتا يزول بعد فترة قصيرة.
جـ – ضلال الانعدام Nihilistic Delusion: قد يبدو أن ضلال الانعدام هو درجة قصوى أو المرحلة النهائية لضلال تغير الكون أو تغير الشخص أو الضلال الحشوى الجسمى فهنا يتحدث المريض ويعتقد فى انعدام الاشياء أو عدم وجودها أصلا، فأحيانا يعتقد أن معدته غير موجودة، فهو لا يأكل ولا يشرب، أو أمعاءه غير موجودة فهو لا يتبرز أو أن مخه غير موجود فهو لا يفكر، وقد يعتقد أن شخصه غير موجود وجودا حقيقيا وأنه ظل وليس له كيان وقد يعتقد أن الاشياء من حوله قد انعدمت فينكر وجود والده أو والدته أو ابنه رغم وجودهم جميعا.
4 – اضطراب الادراك
Disorder of Perception
الادراك هو العملية التى تعطى للاحساس معني، أى أنه احساس أو مجموعة من الاحساسات لها معنى خاص، ولاضطراب الادراك مظهران:
1 – الخداع Illusion: وهو ادراك حسى خاطيء كثير الحدوث فى حياتنا اليومية فكثيرا ما نقابل شخصا غريبا فى الطريق فنعتقد لاول وهلة أنه صديق معين لنا أو أنه قد سبق لنا رؤيته والسبب فى حدوث هذا الخداع أن الانسان يكون فى حالة توتر نفسى وترقب عاطفى بما يهييء الظروف لحدوث هذه الادراكات الخاطئة، ومثال ذلك أن الذى ينتظر مكالمة تليفونية هامة يكون فى حالة تهيؤ لسماع رنين الهاتف (التليفون) ولذلك فهو قد يدرك رنين جرس الباب على أنه رنين التليفون ويظهر الخداع كعارض مرضى فى كثير من الحالات العقلية:
ففى حالات الهذيان Delerium ولا سيما الهذيان الارتعاشى Delerium Tremens يبدو غطاء السرير للمريض كحيوانات ضارية وثعابين تدخل فى قلبه الرعب فينزوى فى ركن من أركان السرير فى حالة خوف وفزع شديدين.
وفى حالات الفصام: قد يسمع المريض ضوضاء بالمنزل فيعتقد أنها أصوات تتوعده أو قد يرى ظل على الحائط فيعتقد أنه ملاك نزل عليه من السماء، ويمكن تصحيح الخداع عند الاشخاص الاسوياء بالمنطق السليم اذا هدأت حالتهم العاطفية أما الخداع عند مرضى الامراض العقلية فلا يمكن تصحيحه مهما كان المنطق سليما، ويظل المريض مقتنعا بوجهة نظره، بل ربما حاول اقناع الآخرين، ولا يزول الخداع الا بزوال المرض.
2 – الهلوسة Hallucinations: هى ادراك حسى مع عدم وجود احساس حقيقى ولا مؤثر يثيره، والفرق بينها وبين الخداع أنه فى الخداع يوجد مؤثر ولكن المريض يسيء فهمه وتأويله، ولكن فى الهلوسه لايوجد مؤثر أصلا.
ويحدث كل من الهلوسة والخداع فى جميع الحواس وهى البصر والسمع واللمس والشم والذوق والاحساسات العضلية والتوازنية وغيرها من الحواس الداخلية والحشوية، وعلى هذا فالمريض قد يعانى من هلوسة بصرية: فيرى أشياء لا وجود لها، أو هلوسة سمعية: فيسمع أصواتا لا وجود لها أو هلوسة شمية: فيشم روائح – عادة كريمة – بمذاق له طعم معين دون وجود ما يبرره فعلا فقد يحس بمرارة أو حلاوة لا وجود لما يفسرها، أو هلوسة حسية: فيحس المريض بأنه يلمس أشياء لا وجود لها أو قد يشكو من أن هناك احساس بأشياء تمشى على جلده مثل ما يحدث فى مدمنى الكوكايبن اذا يحسون بأن حشرة “كالبق” تتحرك تحت جلودهم، أو هلوسة حشوية: بحس المريض باحساس؛ الالم أو الاحتراق أو غيرها فى أحشائه دون وجود مرض يبرر ذلك.
قد تختلف الهلوسات من حيث صفاتها العديدة:
أ – من حيث الوضوح قد تكون مجرد احساسات مبهمة غير محددة كزيغ البصر (الزغللة) فى المجال البصري، والطين (الوش) فى المجال السمعى وهكذا ولكنها قد تأخذ صورة واضحة المعالم مثل رؤية أشخاص بكامل هيئاتهم أو سماع أصوات أو أحاديث واضحة.
ب – وقد تختلف من حيث الحجم فاما أن يرى المريض الهلوسات – الاشخاص مثلا – بالحجم العادي، واما أن براهم بحجم مصغر فى صورة أقزام واما أن يراهم أكبر فى صورة عمالقة .. وقس على ذاك سائر الهلاوس .. وهذا النوع قد يحدث عادة فى اضطرابات المخ العضوية العرضية.
جـ – وقد تختلف الهلاوس من حيث استجابة المريض لها فقد تكون شديدة التأثير فيستجيب لها بالاشارة والايماء أو يرد على ما يسمع، وقد تكون أقل تأثيرا فيستطيع المريض أن يخفيها وينكرها رغم أنه يعانى منها، هذا وقد يدرك المريض أن هذه الاحساسات – رغم ادراكه لها – ليست احساسات حقيقية وقد تسمى هذه الحالة “شبه هلوسة”.
د – والهلوسة تختلف كذلك من حيث دلالتها فى التشخيص والتنبؤ: فاذا صاحبها هياج أو مرض عضوى كانت أقل خطورة مما لو وجدت والمريض فى حالة من الوعى التام دون أن يصحبها هياج أو مرض عضوى وهذه هى ما يطلق عليها اسم “الهلوسة الباردة” Cold Hallucin alions وهى غالبا ما تكثر فى الفصام.
5 – اضطراب العاطفة
Emotional Disorder
العاطفة هى القوة الدافعة للشخصية فى الصحة والمرض واضطرابها يعنى الكثير فى التشخيص والعلاج وقد يكون هذا الاضطراب من حيث النوع كما قد تضطرب من حيث الكم.
ونعنى باضطراب النوع وجود أنواع من الانفعال غير مألوفه للشخص العادى من حيث تناقضها أو تباينها أو تقلبها الشديد مما يدل على فقد القدرة على التحكم فى الانفعال وكذلك قد يدل على تمزق داخلى فى الشخصية.
وصور الاضطراب فى النوع هى:
1– التباين Incongruity: وهنا يشعر المريض بعاطفة معينة لا تتفق مع مجريات الامور ومحتوى الفكر، ولذلك قد تسمى الظاهرة تباين العاطفة والتفكير: ومثال ذلك أن يظهر على الانسان الفرح حين يسمع نبأ سيئا مثل وفاة والده أو رسوبه فى الامتحان. أو نرى أن المريض يبتسم وهو يتحدث عن تحويله لمستشفى الامراض العقلية. وهكذا، ويحدث هذا عادة فى الفصام.
2 – السيولة Liability: وهنا تكون العاطفة غير ثابتة فتتغيير من النقيض إلى النقيض بسرعة وبدون سبب، أو لسبب تافه، فنجد أن المريض يظهر عليه المرح والسعادة، وبمجرد أن نسأله عن اسمه مثلا ينطلق فى البكاء لفترة تكون عادة قصيرة ثم يعود إلى حالته الاولى وهكذا.
3 – التناقض الوجدانى (أو ثنائية الوجدان) Ambivalence: ونعنى به هنا وجود الشعور ونقيضه فى نفس الوقت فقد يحس المريض بالكره والحب فى نفس اللحظة نحو شخص معين – والده مثلا – ونقابل مثل هذا الحال عند الاطفال ومرضى الفصام.
ب – وقد يكون اضطراب العاطفة كميا: فنرى فى المريض نفس العاطفة التى يشعر بها الشخص العادى السليم ولكن بصورة شديدة جدا تعوق تكيفه أو بكمية ضئيلة جدا قد تصل الى العدم فتحرمه من التمتع بالحياة ومن أمثلة ذلك:
1 – فقدان الشعور Apathy: حيث يفقد المريض القدرة على التعبير عن عواطفة وقد اعتبرنا ذلك تغيرا كميا من حيث أنه قريب من درجة الصفر فى ادراك العواطف أو التعبير عنها رغم أنها قد تكون موجودة ولكنها منسحبة الى الداخل فى اللاشعور.
2 – اللامبالاة Indifference: وهنا يشعر المريض بالشعور السليم المناسب ولكنه يفقد القدرة على التعبير عنه، فيبدو للفاحص أنه فاقد للشعور ولكن اذا سئل عن شعوره أجاب بما يفيد أنه حزين أو مسرور.. الخ.
3 – التعبير الاجوف أو السطحى: وهنا قد يبدو على المريض مظهر الانفعال العاطفى ولكنه يقرر أنه لا يشعر بحقيقة هذه العواطف أو قد يتبين الفاحص فيما بعد سطحية هذه العواطف وفراغها.
4 – الاكتئاب Depression: وهو الشعور بالحزن لدرجة كبيره جدا دون سبب مناسب. أو مع وجود سبب لا يستلزم كل هذا الحزن، ويوجد هذا الشعور عادة فى مرض الاكتئاب.
5 – المرح Elation: وهنا يبدو المريض فى حالة شديدة من الفرح والانشراح دون مبرر مناسب أو لسبب ضعيف واه، ويحدث هذا عادة فى مرض الهوس. وقد يصاحب الشعور بالرفعة والاعتزاز ويسمى هذا الشعور “الزهو”.
ونحب أن نشير الى أن كلا من شعورى الاكتئاب والمرح يتصفان بقدرتهما على .. المحيطين، فعادة ما يشعر الطبيب بالحزن أثناء فحصه للمريض المكتئب، كما قد يحس بالسرور مع المريض المرح، تعاطفا مع المريض ومشاركه له دون أن يؤثر ذلك فى حكمه وقدرته على مديد العون له.
6 – القلق المرضى Morbid Anxiety: وهو حاله من الخوف المجهول المصد، ويصحبه عادة توتر وتهيب للمواقف صغيرها وكبيرها، وعدم استقرار عام، وهو شعور عادى فى مواقف التوقع والقلق – فى حدود معقولة- يدفع الانسان للعمل حتى يوجه طاقته الى تحقيق الخير واجتناب التوتر، ولكنه قد يزيد عن حده حتى يصبح عائقا عن الانتاج ومزعجا للفرد فى كافة مجالات نشاطه، ويصبح حينئذ قلقا مرضيا.
6- اضطراب الذاكرة
Memory Disorder
تضطرب الذاكرة فى الامراض النفسية اضطرابا بالغا ، ويظهر هذا الاضطراب اما فى كمها أو فى تغير طبيعتها (نوعها ) ، ومن صور الاضطراب الكمى ما يلى:
1- حدة الذاكرة Hypermnesia: وهنا تشتد الذاكرة فحتى تشمل كل الاحداث بكل التفاصيل . . فيحكى المريض تاريخ حياته مثلا بمنتهى الدقة ذاكرا الايام بل واحيانا الساعات التى وقعت فيها الاحداث .
2- فقدان الذاكرة Amnesia: وقد تقابل فقدان الذاكرة فى أحد الصور التالية:
أ- فقدان الذاكرة للاحداث القريبة Anterograde Amnesia: ويتصف عادة بأنه يزيد بمرور الايام ويحدث أكثر ما يحدث فى الشيخوخة و وتصلب الشرايين.
ب – فقدان الذاكرة للاحداث البعيدة Retrograde Amnesia: وهذا هو ما يحدث عادة فى النسيان العادى، وهو لايزيد بمرور الوقت، وقد يصحب النوع الثانى النوع السابق.
جـ – فجوات الذاكرة Amnesic Gaps: وهنا يحدث فقدان الذاكرة لاحداث فترة محددة من الزمن، حيث يستطيع المريض تذكر ما قبلها وما بعدها بصورة واضحة: وتحدث هذه الفجوات فى الهستريا وبعد الارتجاح.
وقد يكون اضطراب الذاكرة نوعيا ويحدث فى أحد الصور التالية:
1 – التزييف Falsification: ويكون فى صورة اضافه تفاصيل كاذبة على أحداث حدثت فعلا، ويحدث هذا دون قصد واضح أو ادراك كامل بحدوثه. وعادة ما نلقاه فى حالات الهستريا والفصام الضلالى البارنونوى.
2 – التاليف Confabulation: وهو التحدث عن وقائع لم تحدث اطلاقا على أنها حوادث وقعت للمريض فعلا يحدث هذا فى الهستريا وبعض انواع الامراض النفسية العضوية، وقد يسمى العامه هذه الظاهرة “الفبركه”.
3 – ظاهرة الألفة Familiarity Phenomenon: وهى الظاهرة التى تتوقف على خداع النظر أو .. السمع كأن نقابل شخصا عربيا فى الطريق فنعتقد لأول وهلة أنه صديق قديم وأن وجهه مألوف لدينا، أو نسمع اغنية لأول مرة فنتصور أننا سبق أن سمعناها.. وهكذا.
7 – الوعى ... الانتباه … ادراك البيئة
Consciousness Attention Orientratio
الوعى هو حالة من اليقظة يدرك فيها الانسان نفسه وعلاقته بما حوله من زمان ومكان وأشخاص، كما يمكنه أن يستجيب للمؤثرات استجابة صحيحة، واذا اضطرب الوعى اضطرب معه الانتباه وادراك البيئة.
اضطراب الوعى: قد يكون اضطراب الوعى كميا أو نوعيا ويتغير الوعى من حيث الكم فى أحد الصور التالية:
1- النوم: وهو تغير طبيعى للوعي، غير أن النوم قد بضطرب فى حد ذاته وذلك فى صورة من الصور الآتية:
أ – قد يشكو المريض من كثرة النوم Hypersomnia فى حالة الهستريا وبعض أنواع الفصام.
ب – قد يشكو المريض من قلة النوم أو انعدامه Insomnia فى حالات الاكتئاب والهياج.
وهنا نشير الى أن الارق أول الليل أكثر تواترا فى حالات الاكتئاب التفاعلي، أما الارق آخر الليل أى الاستيقاظ مبكرا والعجز عن النوم فهو فى حالات الاكتئاب الداخلى أساسا.
جـ – قد يشكو من تقطع النوم .. فى حالات التوتر والقلق.
د- قد يشكو من اضطراب نظام النوم فينام المريض بالنهار وبصحو بالليل مثلا فى حالات الفصام أو الاضطرابات العضوية.
هـ – قد يصاحب النوم مظاهر أخرى كالكلام والمشى أثناء النوم والكابوس وغيرها.
2 – الذهول stupor: وهنا يقل الوعى والانتباه لدرجة كبيرة ولا يستجيب المريض الا للمؤثرات الشديدة كالألم الشديد مثلا.
3 – الغيبوبة Coma: وهى أشد درجات الذهول، وفيها لا يستجيب المريض لاى مؤثر مهما كانت شدته.
وقد يتغير الوعى نوعيا فى أحد الصور التالية:
1 – الانشقاق Dissociation: وهنا يتميز كل نشاط بدرجة من الوعى تختلف عن درجتها فى النشاط الآخر، ومثال ذلك ما يحدث فى المشى أثناء النوم Somnambulism حيث نجد أن النشاط الحركى يكون واعيا فى حين أن النشاط الحسى والكرى يكون غير واع وهكذا – وقد يحدث هذا الانشقاق فى اليقظة بصورة كاملة أو جزئية فى الحالات المرضية كالهستريا.
2 – التوهان Disorientation: وهنا يعجز المريض عن التعرف الصحيح على ما بالبيئة من أشخاص أو زمان أو مكان أحدها أو جميعها، ولكنه يستجيب للمؤثرات الاخرى. ويحدث هذا عاده فى الامراض العقلية العضوية.
3 – ازدواج ادراك البيئة Double Orientation: وفى هذه الحال يدرك المريض أنه موجود فى مكانين بعيدين عن بعضهما فى نفس الوقت وقد يتحدث عن ذلك، ومثال ذلك الشخص الذى يجالس أصدقاءه فى مسجد الحسين، بالقاهرة ويخبرهم أنه يصلى العشاء فى ذات اللحظة فى مسجد السيد البدوى بطنطا ويسمى العامة ذلك أنه من “أهل الخطوة”0
وقد كثر الحديث فى الآونة الاخيرة عن درجات الوعى وأنواه بحيث أصبحت دراسة ذلك لازمة لكل مشتغل بالطب النفسى – ولن نستطرد هنا الى هذا التفصيل ولكننا نكتفى بالاشارة الى أن الوعى فى الحالات العادية لا يكون فى أعلى درجاته، وانه فى بعض الامراض مثل الهستريا قد يضطرب لدرجة تفسر الاعراض، وفى نفس الوقت قد يكون الفنان الخالق أو المتصوف ممن يعايشون درجة أعلى من درجات الوعى دون أن يكونوا مرضى بحال.
اضطراب الانتباه:
1 – زيادة الانتباه Hyperprosexia: قد يزيد الانتباه زيادة ملحوظة فينتبه المريض الى كل المؤثرات والى تفاصيلها كذلك ويحدث هذا فى مرض الهوس.
2 – قلة الانتباه Inattention: قد يقل الانتباه تماما أو ينعدم كما ذكرنا فى حالة الذهول أو الغيبوبة: ولكنه قد يقل بدرجة أقل نسبيا فى حالة الاكتئاب أو الاضطراب العقلى والعضوى.
3 – الانشغال: Preoccupation: قد يتجه الانتباه الى المؤثرات الداخلية دون الخارجية، فينشغل المريض بكشل زائد بمشكلة ما تحتل فكره وتؤرقه ويكون هذا على حساب الانتباه الى موثرات البيئه.
4 – تحول الانتباه Distractability: وقد يتصف الانتباه بسرعة تحوله من مؤثر إلى آخر …. كان المؤثر الجديد غير متعلق بالموضوع الاصلى.
8 – البصيرة
Insight
البصيرة ظاهرة هامة فى الامراض النفسية والعقلية. فهى تكون موجودة فى الحالات النفسية وغير موجودة فى الامراض العقلية، ووجودها دليل على تماسك الشخصية وكذا على احتمال الشفاء، والبصيرة تعتمد على قدرة الانسان على تأمل نفسه داخليا وخاصة فيما يتعلق بشكواه وأعراض المرض الذى يعانيه وأن يدرك – جزئيا على الاقل – أن سبب ذلك كله يرجع الى المرض الذى أصيب به، وتكون البصيرة كامله اذا ما كان ادراك المريض لطبيعة مرضه سببا يدفعه الى استشارة الطبيب المختص باحثا عن علاج، ثم ينقبل العلاج ويستمر فيه حتى الشفاء.
9 – الاعراض الجسمية
ينبغى أن يفحص المريض النفسى فحصا عضويا شاملا، وذلك كالمتبع فى أفرع الطب الاخرى مثل الامراض الباطنية العامة والخاصة والجراحة وأمراض النساء وغيرها، ولا يقل فحص الجسم فى الاهمية عن فحص النفس فى حالة المرض النفسى أو العقلى اذ كثيرا ما تكون الاعراض النفسية والعقلية نتيجة لتغير عضوى. وبالمثل قد تحدث الاعراض والامراض تغيرا عضويا فى أجهزة الجسم المختلفة.
ثانيا: تشخيص المرض النفسى
مما سبق فى هذا الباب يتبين للقارئ كيف أن أعراض المرض النفسى تختلف وتتباين فمن مظاهر وأعراض يمكن ملاحظتها فى المظهر العام الى مظاهر وأعراض نلاحظها على الكلام الى أعراض اضطراب الفكر والادراك والعاطفة والذاكرة والوعى والانتباه والبصيره ثم هناك الاعراض الجسمانية المختلفة.
ولتشخيص المرض النفسى فاننا لا نعتمد على عرض بذاته وانما على نمط الاعراض مجتمعة فالعرض الواحد قد يتواجد فى عديد من الامراض النفسية، فالضيق مثلا قد نجده فى الاضطرابات العصابية كحالات الاكتئاب الموقفية وحتى حالات القلق النفسى والوهن النفسى كما قد نجدهما فى حالات ذهانية مختلفة كما هو الحال فى اضطراب الهوس والاكتئاب بل حتى فى الفصام بأنواعه المختلفة وعلى وجه الخصوص فى الفصاميين فى مرحلة الشباب المبكر أو فى نوع الفصام الانفعالى أو الوجدانى وقد يجدها أيضا فى حالات الاضطرابات العقلية العضوية وهكذا أن الغرض الواحد يفقد قيمته التشخيصية وحده وينال قيمته فى التشخيص من تواجده فى نمط معين لمجموعة الاعراض. وهكذا نستطيع بالاعراض المصاحبة لمرضى الاكتئاب والضيق فى المثل السابق أن نجد الاضطرابات المختلفة التى سبق سردها من بعضها البعض.
وباختصار شديد فاننا نعتمد على نمط مجموعة الاعراض للوصول الى تشخيص المرض النفسى وليس على عرض بذاته. وان كان هذا لا ينفى قيمة بعض الاعراض فى الدلالة على أمراض بذاتها.
وينبغى ان نتنبه أيضا الى أن تشخيص الحالة النفسية مريض لا يكون كاملا الا اذا حددنا فى التشخيص شخصيته فى فترة ما قبل المرض فنحن نعلم قيمة ذلك ليس فقط فى التشخيص وانما فى متابعة وتحديد مصير الحالة.
وتشخيص المريض النفسى لا يكمل دون تحديد الاعراض الاساسية جسمية ونفسية. والخلفية لاجتماعية المريض وتحديد الاسباب مرسبة ومهيئة. فكل هذه الامور لها دلالتها التشخيصية والعلاجية.
ثالثا: تقسيم الامراض النفسية
بعد دراستنا لاعراض الامراض النفسية نود أن نشير الى أنه يندر أن تجتمع كل الاعراض فى مريض واحد، ولكننا نجد فى الواقع هذه الاعراض تتالف مع بعضها فى مجاميع مختلفة تكون أمراضه متباينة.
وقد اختلف الباحثون فى تقسيم الامراض النفسية تبعا لوجهة النظر التى ينظرون خلالها الى هذه الامراض، وتبعا للمدارس النفسية التى اتبعها صاحب كل تقسيم: ولكنا نرى أنه يمكن تبسيط الامر وتقسيم هذه الامراض تبعا للاسباب وطبيعة التغير المرضى الذى ينشأ عنها كما يلى:
1 – أمراض عقلية ونفسية عضوية: ونعنى بها الامراض التى يكون ذلك: النقص العقلى والضمور العقلى الشيخوخى والشلل الجنونى العام وتصلب شرايين المخ والمرض العقلى المصاحب لبعض الاورام المخية السحائية وبعض حالات الصرع.
2 – أمراض عقلية ونفسية سمية: وتشمل هذه المجموعة الامراض التى تتسبب من التسمم بأنواعه المختلفة: الحاد والمزمن، وتتميز هذه المجموعة بأنها أمراض مؤقته أى أنها تشفى اذا منعنا أسبابها وأوقفنا التعرض للسموم المسئولة عن احداثها. ومن أمثلة السموم الخارجية التى تؤدى الى أمراض عقلية: الخمر والحشيش والادوية المنومة والمنبهة والغازات السامة مثل أول أكسيد الكربون .. وغيرها . ومن أمثلة التسمم الداخلى (نتيجة لافراز مواد ضارة تؤثر على المخ، أو نتيجة لعدم التمثيل الغذائى الكامل لبعض المواد مما يؤثر على المخ كذلك)، التسمم البولى “يوريمبا” والتسمم الكبدى “كوليميا” والغيبوبة العسكرية.
3 – أمراض نفسية وعقلية وظيفية: وتشمل هذه المجموعة الامراض التى لم يكتشف الطب لها سببا عضويا حتى الآن، ويرجع السبب الاكبر فى حدوثها الى تغير وظيفة الجهاز النفسى فى المريض، وتنقسم هذه الامراض بدورها الى:
أ- الامراض النفسية الوظيفية: كالهستريا والقلق النفسى والعصاب الوسواسى والنيوراستانيا وعصاب الشك والاكتئاب التفاعلى وغيرها.
ب – الامراض العقلية الوظيفية: كالفصام وجنون الهوس والاكتئاب وجنون الضلال.
على أن مشكلة تقسيم الامراض النفسية مشكلة خطيرة وليس لها حل سهل، وقد اختلفت فيها المدارس العليمة والحضارات المتنوعة، وقد حاولت الجمعية المصرية للطب النفسى أن تضع تقسيما مناسبا للامراض النفسية والعقلية مستمدا من التقسيم العالمى ومهتديا بالفكر البريطانى والتقسيم الامريكى والفرنسى وذلك منذ سنة 1972 ونجحت فى اخراج أول تقسيم مصرى صدر فى أوائل سنة 1975 وقد أقره مؤتمر الصحة النفسية العربى الثانى المنعقد فى القاهرة سنة 1975 على أن يكون أساسا للتقسيم العربى. . وسنحاول أن نلتزم به ما أمكن دون الاخلال بشخصية هذا الكتاب المستقلة.
على أن نفس تعبير الامراض النفسية مما يعنى العصاب أو الاضطرابات الطفيفة وتعبير الامراض العقلية بما يعنى الذهن و الكيميائى بحيث أصبح الفصل بين المجموعتين فصلا صعبا وأصبحت التسميات السابقة متداخله وغير كافية.
المـوجــز
أولا: أعراض الامراض النفسية
تختلف الاعراض من حيث النوع والشدة والوضوح.
(1) المظهر العام:
1- التكوين الخلقي: تغلب أنواع معينة من الامراض النفسية فى كل تكوين بذاته. والتكوينات الشائعة هى: النحيف، والبدين والعضلى. وغير المنتظم.
2- تعبيرات الوجه: تدل على الحالة الانفعالية للمريض.
3- حالة الملابس: قد تشير الى نوع المرض كما تدل على مدى عناية المريض بنفسه أو على هدوئه أو هياجه.
4- حالة الشعر: لها نفس دلالة الملابس كما قد يكون لهادلالة رمزية فى بعض الامراض. فاعتقاد المريض أنه هتلر قد يجعله يرخى خصلة من شعره على جبهته.
5- الوضع: يحدث فيه تغيرات نتيجة للمرض وقد يكون لها دلالة رمزية أيضا.
6- الحركة: قد تتصف الحركة بالكثرة أو بالقلة أو بالانعدام كما قد تختلف طبيعتها:
أ- فتتصف بالتكرار: ويكون أما تكرار الحركات ويسمى الاسلوبية أو تكرارا لوضع ويسمى التصلب الشمعى كما قد يكون تكرار الحركة أقرب الى عادة متأصلة يصعب مقاومتها ويسمى ذلك اللوازم. وقد ينثنى الجذع حسب رغبة الفاحص وكأنه تمثال من شمع الانثنائية الشمعية.
ب – قد تتصف الحركة بالاستهواء ويكون ايجابيا مثل:
(1) التصلب الشمعى: ويبدو المريض فيه كتمثال الشمع يصفه الفاحص كيفما شاء.
(2) المحاركة: وهى تقليد الحركة التى يأتيها الشخص أمامه. وقد يكون الاستهواء سلبيا. مثل:
أ) الخلف: وهو عمل عكس الحركة المطلوبة.
ب) المقاومة: وهى الامتناع عن عمل الحركة المطلوبة (دون عمل عكسها).
7- الذهول: وفيه لا تبدو من المريض ادنى حركة ولا يستجيب الا للمؤثرات شديدة الالم.
(2) الكلام:
1- من حيث الكم: قد يكون الكلام كثيرا دون داع الثرثرة وقد يكون قليلا وقد ينعدم تماماالبكم.
2- من حيث السريان: قد يكون السريان بطيئا وقد يتوقف فجأة ثم يعاود انطلاقه ويسمى هذا العرقلة كما قد يسير فى طرق جانبية ثم يعاود تفصيلا لا داعى لها ويسمى ذلك التفصيل كما قد يتغير مجرى الكلام نهائيا نتيجة لاى مؤثر طارئ ولا يصل المتحدث الى غرضه أبدا.
3- قد يتصف الكلام والتكرار: ومن صور ذلك:
أ- الاسلوبية: وهى تكرار كلمات معينة دون الاشارة الى معنى واضح لها!
ب – التثابر: وهو الاجابة بنفس الكلمات مهما اختلف السؤال .
ج – المصاداة: وهى تكرار الجمل أو أواخر الجمل أو اخر الكلمات التى يسمعها المريض. . وكأنه صدى لما يقال.
4- قد لا يؤدى الكلام وظيفته وهى التفاهم للتكيف الاجتماعى ويحدث ذلك نتيجة لخلل فى التفكير كاختراع لغة جديدة أو نتيجة لخلل فى التعبير كالتهتهة.
(3) اضطراب الفكر:
1- اضطراب مجرى الفكر: قد يبطئ سريان الافكار ويسمى ذلك بطء التفكير وقد يسرع ويسمى ذلك طيران الافكار وقد يتوقف برهة ثم يعاود سريانه ويسمى هذا العرقلة.
2- اضطراب محتوى الفكر: قد يكثر المحتوى عن المعتاد ونسمى هذه الظاهرة ضغط الافكار وقد يقل ويسمى هذا فقر الافكار وقد يشكو المريض من انتزاع الافكار من رأسه أو اقحام الافكار عليها دون ارادة منه وقد يكون اضطراب الفكر نوعاً خاصا ومثال ذلك:
(1) الانشغال: وهنا يدور التفكير حول فكرة تشغله وتغطى على سائر الموضوعات الاخرى.
(2) الوسوسة: وهنا يضطر المريض الى التفكير فى موضعوع بذاته رغم عدم أهميته وربما شذوذه. ولكنه لا يستطيع مقاومة ذلك أبدا وقد يصحب هذا سلوك اضطرارى يكون نتيجة للوسوسة.
(3) قد يكون محتوى التفكير خياليا متحيزا يصطبغ بالعاطفة كما قد يكون شبه فلسفى مغرقا فى السفسطة السطحية الغامضة.
(4) تناقض الافكار: فتوجد فكرتين متضاربتين فى نفس الوقت لايستطيع المريض التخلص من احداهما.
(5) الضلال: هو اعتقاد وهمى خاطئ لا يتفق مع الواقع ولا يمكن تصحيحة بالحجة الصادقة والمنطق السليم ولا يتناسب مع تعليم المريض وبيئته.
وقد يكون للضلال أوليا يظهر لاول وهلة دون سابق أنذار وقد يكون تفسيرا لضلال آخر أو عرض آخر ويسمى هذا ضلالا ثانويا وقد تكون الضلالات مرتبة منسقة أو مشوشة غير منتظمة، ومن أنواع الضلال ما يلي:
1- ضلال الاشارة: حيث يعتقد المريض أن الناس تضطهده وتدبر له المكائد.
2- ضلال العظمة: حيث يعتقد المريض أنه رجل عظيم (زعيم أو نبى.. أو حتى الاله نفسه).
3- ضلال الاثم واتهام الذات: وفيه يعتقد المريض أنه مذنب وأنه يستأهل أقصى العقوبات.
4- ضلال تغير الكون: حيث يعتقد المريض أن الكون تغير عن ذى قبل، وضلال تغير الشخص يعتقد فيه المريض أنه تغير تماما أو حتى أنه أصبح شخصا آخر.
5- الضلال الحشوى الجسمي: وهنا يعتقد المريض أنه مصاب بمرض حشوى أو جسمى دون وجود ذلك المرض فعلا.
6- ضلال الانعدام: وفيه يعتقد المريض بانعدام الكون أو الاشياء أو نفسه أو بعض أجزآء جسمه أو أحشائه. . أى أنه يعتقد أنها غير موجودة.
(4) أضطراب الادراك.
1- الخداع: هو ادراك حسى خاطئ يدرك فيه المريض المؤثر الخارجى على غير حقيقته. فقد ينظر الى حبل مثلا فيراه ثعبانا.
2- الهلوسة: هى آدراك حسى مع دعم وجود احساس حقيقى. وتحدث فى أى من الحواس الخمس، وفى الاحساسات الحسوية كذلك فهناك خلوسة بصرية،وسمعية، وشمية، وذوقية. ولمسية وحشوية – وقد تكون الهلوسات مبهمة كما قد تكون محددة المعالم لاشخاص أو أشياء واضحة كما قد تحتلف من حيث الحجم فتكون أكبر أو أصغر من الحجم المعتاد أو قد تماثله، هذا وقد تكون الهلاوس باردة أى لا يصحبها هياج ولا اضطراب عضوى وهذا النوع أخطر دلالة مما لو صحبة أحد هذه المظاهر.
(5) اضطراب العاطفة:
تضطرب العاطفة من حيث النوع فى أحد الصور التالية:
1- التباين: وهو عدم توافق العاطفة مع التفكير فيسير كل فى واد.
2- السيولة: وهنا تكون العاطفة غير ثابتة ، فتتغير من النقيض الى النقيض فى زمن قصير.
3- التناقض: وهنا يوجد الشعور ونقيضه فى نفس الوقت دون أن يستطيع المريض التخلص من أيهما: كأن يحب الطفل والده ويكرهه فى نفس الوقت.
وقد يكون الاضطراب كما، ومن صوره.
1- فقدان الشعور: حيث يفقد المريض القدرة على الاحساس بالعاطفة وعلى التعبير عنها.
2- اللامبالاة: وهنا بفقد المريض القدرة على التعبير عن العاطفة دون الاحساس بها.
3- التعبير الاجوف: وهنا يعبر المريض عن عاطفة بذاتها دون احساس بها.
4- الاكتئاب: وهو الشعور بالحزن لدرجة تفوق الشعور العادى بذلك.
5- المرح: وهو الشعور بالفرح والانشراح الزائدين دون مبرر وقد يصاحب ذلك شعور بالاعتزاز ويسمى ذلك زهوا.
6- القلق المرضى: وهو القلق الزائد عن الحد الذى يزعج صاحبه ويعوقه عن الانتاج.
(6) اضطراب الذاكرة:
ويكون اضطراب الذاكرة كميا. ومن صور ذلك:
1- حدة الذاكرة حيث يتذكر المريض كل الاحداث وتفاصيلها بشكل غير عادى.
2- ضعف الذاكرة وقد يصل الى فقدانها ويكون اما للاحداث القريبة فقط، أو للاحداث القريبة والبعيدة على حد سواء أو قد يكون فى فجوات بمعنى أن المريض يستطيع أن يتذكر ما قبل فجوة النسيان وما بعدها بسهولة.
وقد يكون اضطراب الذاكرة نوعيا ومن صور ذلك:
1- التزيف: وهو اضافة تفاصيل كاذبة لذكريات حدثت فعلا
2- التأليف (الفبركة): وهو اختلاف أحداث أم تحدث اطلاقا.
3- ظاهرة الالفة: وفيها يخيل للفرد أن الغرباء مألوفون لديه وكأنه رآهم من قبل أو أن الاصوات مألوفة لديه وسبق أن سمعها.
(7) اضطراب الوعى .. والانتباه
1- النوم: هو تغير طبيعى للوعى . وقد يزيد النوم أو يقل عن المعتاد، وقد يختل نظامه، كما قد يتخلله أعراض كالمشى أثناء النوم أو الكابوس.
2- الذهول: وهنا يقل الوعى لدرجة كبيرة ولا يستجيب المريض الا للمؤثرات شديدة الالم.
3- الغيبوبة: وهى أشد درجات الثبات وفيها لا يستجيب المريض لاى مؤثر مهما بلغت شدته.
وقد يتغير الوعى نوعيا مثل:
1- الانشقاق: وهنا يتميز كل نشاط بدرجة من الوعى تختلف عن النشاط الآخر كالمشى أثناء النوم حيث يكون النشاط الحركى واعيا فى حين أن النشاط الحسى نائما.
2- التوهان: حيث بعجز المريض عن التعرف على ما بالبيئة من أشخاص وزمان ومكان.
3- أزدواج أدراك البيئة: وهنا يدرك المريض أنه يوجد فى مكانين بعيدين عن بعضهما فى نفس الوقت (مثل وجوده فى القاهرة وطنطا فى نفس اللحظة).
وقد يضطرب الانتباه فى أحدى الصور التالية:
1- زيادة الانتباه: فينتبه لكل المؤثرات ولتفاصيلها أكثر من العادة.
02 قلة الانتباه: وهو أول درجات الذهول.
3- الانشغال: وهنا ينتبه المريض الى مؤثر داخلى (فكرة) فيشغله عن الانتباه للمؤثرات الخارجة.
4- تحول الاتنباه: حيث يتحول الانتباه من مؤثر إلى آخر بسرعة مهما كان المؤثر غير متعلق بالموضوع الأصلى.
(8) البصيرة
البصيرة الكاملة هى أن يدرك المريض مرضه ويذهب الى الطبيب المختص ويتقبل العلاج ويستمر فيه، ووجود البصيرة دليل طيب على أحتمال الشفاء.
ثانيا: تشخيص المرض النفسى
تشخيص المرض النفسى يعتمد على مجموعة الاعراض (نمط الأعراض) التى تبدو على المريض كما أنه لكى يتكامل يلزم أن تتحدد الشخصية قبل المرض والاعراض الأساسية والأسباب المرسبة والمهنية والخلفية الاجتماعية للمريض.
ثالثا: تقسيم الأمراض النفسية
1- أمراض عقلية ونفسية وعضوية: وفيها تغير عضوى ملموس فى خلايا المخ وأمثالها: النقص العقلي، والشلل الجنونى العام وأورام المخ.
2- أمراض عقلية ونفسية سمية: نتيجة لسموم تؤثر فى وظيفة المخ وتكون أما سموما خارجية مثل الكحول وأول أكسيد الكربون أو داخلية مثل التسمم البولى والتسمم الكبدى.
3- أمراض نفسية وعقلية وظيفية: لم يثبت بعد بصورة نهائية وجود أسبابها العضوية وهي:
أ- الأمراض النفسية الوطيفية: كالهستريا والقلق النفسى والعصاب الوسواسى والنبوراستانيا وعصاب الشك والاكتئاب التفاعلى .
ب- الأمراض العقلية الوظيفية: كالفصام وجنون الهوس والأكتئاب وجنون الضلال.
الفصل الخامس
الأمراض النفسية الوظيفية
1- العصاب
(ورمزه فى الدليل المصرى رقم “10”)
NEUROSIS
يعتبر العصاب النفسى من أكثر الاضطرابات النفسية حدوثا، فهو أكثر ما يصاحب الطبيب النفسى إطلاقا فى عمله خارج مستشفى الأمراض العقلية كما أنه يمثل نسبة كبيرة من مجموع المرضى الذين يترددون على سائر الأطباء ولاسيما الممارس العام، وتختلف نظرة هؤلاء الأطباء إلى أولئك المرضي، فأحيانا يخبرونهم أن ليس بهم شئ وأحيانا يلجأون إلى تشخيصات عامة غير محددة لا تستند إلى دليل مادى أكيد ومن أمثلة هذه التشخيصات فقر الدم (الأنيميا) ونقص الفيتامينات، والروماتيزم العام، والتهاب القولون، والأرق، والكبد والمرارة .. ألخ حتى كادت تصبح هذه التشخيصات من تواتراها – مواضيع للحديث فى المجتمعات أكثر مما هى مرض عضوى محدد المعالم(!) ولا نجانب الحقيقة إذا قلنا: إن حوالى سدس المرضى المترددين على المستشفيات العامة، وثلث المرضى المترددين على العيادات الخاصة أو يزيد مصابون باعصاب ليس إلا، وإن ما يصفه العامة من أن فلانا عصبى المزاج أو أن أعصابه تلفانة أو عصبى أو أعصابه مهزوزة أو خلقى …. إلى آخر هذه التعبيرات، لا يعنى فى العادة إلا هذا النوع من المرض النفسى وهو العصاب.
أسباب العصاب:
العصاب ما هو إلا أستجابة خاطئة لمصاعب الحياة، ولعله أكثر الاستجابات الخاطئة حدوثا، ويعتبر التوتر الناتج عن اضطراب العلاقة مع الآخرين من أهم أسبابه. وتضطرب العلاقة مع الآخرين نتيجة لشوائب ترسبت من الماضى (لاسيما فى زمن الطفولة )، وتحصلت داخل النفس فهى دائمة الحركة فى اللاشعور دون أن يدرى صاحبها عنها شيئا، ولكنها تقلقه وتعوق تكيفه مع البيئة. وقد تضطرب كذلك تلك العلاقة (مع الآخرين) نتيجة للمصاعب التى يكابدها الإنسان فى حاضره سعيا وراء تحقيق آماله وطموحه وجريا فى سباق التنافس والتقدم، وينتج من هذا وذك صراع داخلى عنيف لا يدرك المريض حقيقته وتفاصيلة، فيظهر فى صورة أعراض العصاب المختلفة ولكن المريض لا يستطيع عادة الربط بين أعراض العصاب التى يشكو منها وذلك الصراع المحتدم فى داخله فيبدو لأول وهلة وكأن العصاب ليس له ما يبرره. ويلاحظ أن العصاب الذى يتكون من زمن الطفولة نتيجة لاضطراب نفسى يستمر مدة طويل حتى يصبح بالتعود عادة من عادات السلوك وجزءا من الشخصية تصبغ تصرفات صاحبها وتكون سببا فى اضطرابات تكوينه الشخصى وكثيرا ما نقابل العصاب فى عائلة تشتهر بالعصبية أو ضيق الخلق، وقد نجد أن فى التاريخ العائلى أكثر من مريض يشكو من نفس المرض.
علاقة العصاب بالذهان:
يعتبر بعض المشتغلين بالعلوم النفسية أن العصاب (المرض النفسى) صورة مخففة من الذهان (المرض العقلى) فى حين يعتبر آخرون أنهما حالتان منفصلتان تماما، وسواء كان أى الرأيين صحيح فإننا نرى أن الفروق بينهما كثيرة وواضحة بحيث يمكن التمييز بينهما، فمن الناحية الديناميكية مثلا نجد أن الشخصية فى الذهان تتغير تماما وقد تتصدع أركانها حتى يخرج محتوى اللاشعور فى صورته الصريحة الفجة ويظهر فى سلوك المريض وأعراضه، وذلك لاختفاء المقاومة والكبت فى حين أنه فى العصاب تلتوى الشخصية وتضطرب تحت تأثير الضغط ولكنها لا تتصدع، ويظل الكبت والمقاومة على اشدهما (شكل 4) وربما زادت حدتهما – ومن الناحية الوصفية نجد أن مظـاهر اضطراب وظائف النفس الثلاث تكون فى اشد درجاتها وأكثر صورها غرابة وشذوذا فى الذهان.
على أنه دخول العقاقير الحديثة إلى مجال العلاج فى الأمراض النفسية، وكذلك بعد الاهتمام بالتشخيص المبكر للذهان أصبحت مشكلة التفرقة بين العصاب والذهان مشكلة أصعب، والخلط بينهما أكثر فأكثر…
وقد لجأ مؤلفا هذا الكتاب فى كتابهم “ألف باء الأمراض النفسية” باللغة الإنجليزية إلى استحداث تصنيف لما يمكن أن يسمى الحالا الوسط intermediate disordersتشمل أنواعا من اضطراب الشخصية والأشكال المجهضة ( التى لم تكتمل مسيرتها المرضية) للذهان والأشكال التى يصعب وضعها بين السواء والمرض، وهى مجموعة تكمل مايسمى بالحالات البين بين Border – line cases التى تقع بين العصاب والذهان ولا يمكن تصنيفها ( فى البداية على الأقل ) إلى أى من التشخيصين.
وقد أشار دليل تصنيف الأمراض النفسية المصرى (1975) إلى هذه الصعوبة وأنه يمكن تصنيف الذهان بسوء تأويل وتقييم الإدراك Misevaluation of perception الأمر الذى يسمح لنا بتشخيص مبكر تماما لحالات الذهان…
لكل ذلك فإننا هنا إلى وجوب التحفظ فى تصور إمكان التفرقة الشديدة بين هذين النوعين من الأمراض… لما طرأ على تصنيفهما من تغيرات فى السنين الأخيرة…
والجدول التالى يوضح الفرق بين العصاب والذهان فى مختلف نواحى السلوك:
العصاب | الذهان | |
الشخصية | تتغير تغيراً جزئياً كمياً | تتغير جذرياً وهذا التغير يكون كمياً شديداً أو تغيراً كيفياً ملحوظاً إلى اسوأ أو تفككاً. |
الصلة بالواقع | تظل سليمة من الناحية الشكلية | تضطرب اضطراباً بالغاً سواء فى إدراك الواقع أم العلاقة به أم المسئولية فيه. |
المظهر العام | يحافظ المريض على مظهره | يتدهور المظهر العام عادة. |
السلوك العام | يظل فى حدود الطبيعى، أو تظهر فيه بعض الغرابة المعقولة. | قد تظهر تصرفات بدائية (كالتبول والتبرز على ملابسه) (نتيجة لعملية النكوص الشديد لا سيما فى الحالات المتأخرة. |
الكلام | لا يتغير تغيراً ملحوظاً | قد يتشتت الكلام وقد ينعدم أو يصبح لغة جديدة خاصة بالمريض. |
اضطراب التفكير | قليل (إن وجد) وقد يظهر فى صورة وساوس وانشغال | واضح وشديد، ويظهر فى صورة ضلالات بأنواعها، وتفكك، وطيران، وضحالة، وتشتت. |
الهلاوس | لا توجد (أو نادرة جداً ومؤقتة) | موجودة بأنواعها. |
اضطراب المزاج | اضطراب كمى طفيف لا يعدو القلق أو الاكتئاب | اضطراب كمى شديد واضطرابات نوعية متعددة |
البصيرة | سليمة عادة | مضطربة عادة (وقد تكون سليمة فى أول المرض) |
محتوى اللاشعور | لايظهر فى سلوك المريض بصورة واضحة ولكنه يؤثر على تصرفاته بطريق غير مباشر لاستمرار الكبت والمقاومة | قد يظهر بصورته الشاذة فى سلوك المريض لانتفاء الكبت والمقاومة |
أنواع العصاب:
يمكن أن نقسم العصاب النفسى إلى أنواع متعددة حسب الأعراض التى تغلب فى كل نوع ولكنا نحب أن نشير إلى التقسيم لا يمكن أن يتم بصورة محددة واضحة فكثيرا ما نجد أعراضا مشتركة بين الأنواع المختلفة أى أننا نجد أعراض نوع معين من العصاب مختلطة بأنواع عصاب آخر مما يدل على وحدة أصل كل هذه الأنواع ويتوقف التشخيص على الأعراض الغالبة من أى نوع من الأنواع على سائر الأنواع الأخري، وسوف تدرس فى هذا الصدد الأنواع المتواترة من العصاب وهى القلق النفسي، والنيوراستانيا والهستيريا، وعصاب الوسوسة وعصاب الشك والأكتئاب العصابى.
1- عصاب القلق
(ورمزه فى الدليل المصرى: رقم 10 / صفر)
ANXIETY NEUROSIS
يعتبر عصاب القلق هو العصاب الأول والأساسى حيث أن كل الأنواع التالية إنما تظهر لتجنب شدة الإحساس بأعراض القلق وهو أكثر الأمراض النفسية انتشارا، كما أنه أكثرها استجابة للعلاج – إلا إذا أزمن وأصبح عادة من عادات السلوك.
وظاهرة القلق فى الإنسان السوى عامة تعتبر تفاعلا طبيعيا لظروف الحياة العادية وخاصة فى مواقف التوقع مثل دخول الأمتحان، أو الإقدام على الزواج أو انتظار نبأ هام… وهكذا، بل وينبغى أن ندرك أن القلق فى حدوده الطبيعية يعمل كدافع قوى نحو الإنتاج والتقدم. ولكن إذا زاد القلق عن حده وأصبح شديداً قاسيا مما يقف فى سبيل التكيف ويعوق الإنتاج ويعرقل التقدم أصبح عرضا مرضيا، وذلك هو الذى نطلق عليه عصاب القلق.
أسباب عصاب القلق:
1- الوراثة: كثيرا ما نلاحظ أن والدى المريض – وأحيانا أقاربه الآخرين – يعانون من نفس القلق، وهذا يدل على اضطراب البيئة التى نشأ فيها المريض بقدر ما يدل على أهمية عامل الوراثة.
2- اضطراب الجو الأسرى: والتفكيك الأسرى والتهديد بالانفصال ينشئ الأطفال مهيئين للإصابة بالقلق النفسى.
3 – الصراع النفسى: قد يكون الصراع النفسى – كما ذكرنا – شعوريا والأخير هو الأغلب، ونعنى بالصراع تنازع رغبتين أو دافعين واصطدامهما ومحاولة كل منهما أن تتحقق على حساب الأخري، فيحس المريض بالحيرة التى تولد التوتر وعدم الاستقرار (القلق).
4- أسباب مرسبة: مثل توقع خيبة الأمل أو صعوبات العمل، أو فقدان عزيز أو اضطراب فى العلاقة بالجنس الآخر أو أى صدمة نفسية أخري، ويمكن أن يكون السبب عضويا مثل الحمى أو الإصابة أو غيرها.
أنواع القلق:
نستطيع أن نميز فى القلق الأنواع التالية:
1- القلق العام: وهو الذى لا يرتبط بشئ محدد.
2- المخاوف: وهنا يرتبط القلق بموضوع محدد كالخوف من المرض أو السرطان .. إلخ وسنبحث ذلك فى المخاوف.
3- القلق الكيانى: وهو الذى لا يتعلق بمشكلة التكيف وإنما بطبيعة الوجود نفسه (من أنا؟ لماذا نعيش .. الخ) وهو قد يكون فى بداية الذهان..
4- القلق الثانوى: وهو الذى يصاحب الأمراض النفسية والعقلية الأخرى.
الأعراض والمظاهر:
قد يشكو المصاب بالقلق من أعراض تتصل بنفسه أو بجسمه، وعادة ما يشكو بهما معا.
الأعراض النفسية:
1 – الشعور بالتوتر العام.
2 – المخاوف العامة غير المحددة.
3 – ضعف القدرة على التركيز.
4 – ضعف القدرة على العمل والإنتاج.
5 – زيادة الحساسية فيصبح شعور المريض مرهفا جدا.
6 – عدم الاستقرار.
7 – الأرق، واضطراب النوم الذى يتخلله الأحلام المزعجة والكابوس
الأعراض الجسمية:
تظهر الأعراض الجسمية فى أى جهاز من أجهزة الجسم تكون عادة نتيجة لاضطراب الجهاز العصبى الذاتى وعادة ما يحدث بعضها دون الآخر، ويمكن إيجازها فيما يلى:
1 – خفقان القلب وسرعة ضرباته.
2 – النهجان.
3 – الإحساس بدق الأوعية لا سيما فى الرأس.
4 – الإحساس بالاختناق أو الضغط على الصدر.
5 – فقد الشهية ويستتبع ذلك فقد الوزن.
6 – الشعور بالغثيان والرغبة فى القئ.
7 – الإمساك (أو الإسهال أحيانا).
8 – كثرة التبول.
9 – طنين بالأذن (وش) أو زيغ فى البصر (زغللة).
10 – انقطاع الطمث (العادة الشهرية) عند النساء. أو عدم انتظامه.
11 – القذف السريع أو العنه (عند الرجال).
وفيما يلى وصف حالة العصاب القلق
حالة (1) السيد / ح .. موظف كتابى بأحدى الشركات عمره 23 سنة – أعزب يقيم بالقاهرة وموطنه الأصلى إحدى قرى الصعيد. كانت شكواه بنص كلامه كما يلى ‘القلق المستمر، ألاقى حالات جسمانية تصيبنى – مرة يقيسولى الضغط يلاقوه عالى ومرة طبيعى بالليل آجى أنام أبقى مش عارف أبص ألاقى كإن فيه حاجه فوق راسى مقفلة عينى – آخد علاج الضغط مفيش فايدة، فى شغلى بعد ما كنت منظم وكويس دلوقت مش قادر أشتغل، أقعد على مكتبى خمس دقائق أروح قايم رغم إنى عارف إن شغلى متعطل، فى الفترة الأخيرة لقيت نفسى باثور لأتفه الأسباب زى النهارده الصبح داخل الساعى جه قال لى مش عارف إيه رحت واخده بكوباية الينسون.. لو فيه موضوع معين فى مخى عايز أدرسه ألاقى مخى مش قادر أركز ولا اعرف ابتدى منين، لا يمكن دلوقت أقدر أقرأ حاجة وتثبت فى دماغى على الرغم من إنى كنت متفوق فى دراستى – كثير وأنا ماشى فى الشارع يتهيألى أن فيه عربية حتصدمنى.
وبدراسة تاريخه الأسرى وظروف تنشئته تبين أنه نشأ فى بيئة محافظة فقيرة فى الصعيد وكان أكبر إخوته وأن والدته ماتت وهو فى سن الرابعة عشرة (وكانت وقت موتها غضبانه فى بيت والدها!!) وأنها هى التى كانت تحرص على أن يتعلم، حتى أن إخوته الأصغر منه لم يتعلموا وربما كان ذلك بسبب موتها، وكانت تحرص على أن تراه متفوقا جدا فيقول ‘مرة طلعت التانى قلعت الشبشب وضربتني’ وكانت علاقتة بوالده سيئة للغاية ‘كان باستمرار يضربنى ويطردنى ويقولي، أنت لو نجحت حتعملى إيه؟’ وتزوج الوالد بعد وفاة الوالدة مباشرة وكانت زوجة الأب قاسية ‘مسيطرة على كل حاجة، وإن كانت فى الفترة الأخيرة بتحاول تتقرب منى علشان أساعدهم ماديا’ وكان رب الأسرة هو جده المريض (والد أبيه) وكانت شخصيته مسيطرة على كل من بالمنزل وهو الذى صمم على أن يكمل المريض تعليمه، ولكنه كان سببا فى صدمة المريض نفسيا منذ الصغر إذ أن المريض اكتشف علاقة بين جده وزوجة أبيه فصدم صدمة شديدة.. هزت مثله العليا، وحاول أن ينبه جده إلى أنه رأى ذلك المنظر بطريق غير مباشر، فأخذ يقص عليه قصته وكأنه قرأها فى كتب المدرسة، وكان فحوى القصة ماجرى بين الجد وزوجة الأب، وما كاد الجد يسمع هذه القصة حتى تبين ما يعنيه حفيده فأصيب بنوبة قلبية فشهق ومات (!) (ولم نستطيع التأكد من مدى صحة هذه الرواية!) وشعر بعد ذلك المريض بشعور بالذنب وأنه السبب فى وفاة جده الحريص على تعليمه، ولكنه كان يبرر ذلك بأنه لو ترك الأمور تسير دون تدخل منه لكان من المحتمل أن يكتشف والده العلاقة وينهار البيت جميعه. أما السبب المرسب فكان انتهاء علاقة حب بين المريض وبين إحدى الفتيات التى كانت على غير دينه، وابتدأت كل أعراض القلق تقريبا حين أخبرته أن قريبا لها خطبها.
وبالفحص العضوى تبين أن جسمه سليم وأن أعراضه ليس لها ما يبررها عضويا’.
وهكذا نرى كيف تلعب الأسباب المهيئة دورا هاما فى الإعداد للمرض، وهى فى هذه الحالة فقر الأسرة، وقسوة الوالد. ووفاة الأم وسوء معاملته زوجة الأب ثم سيطرة الجد. ثم تحطيم المثل الأعلى فيه، ثم الشعور بالذنب نحو وفاته.
ونرى أن السبب المرسب وهو خيبة الأمل فى الحب، وكان يمكن أن يمر بسلام لولا كل هذه المقدمات.
ونحب أن نشير إلى أن روايته عن حادثة جده وزوجة أبيه ثم وفاة جده بهذه الصورة الدرامية قد كان لها دلالتها فى تكوين نفسية المريض وفى العلاج سواء كانت حقيقة أم من نسج الخيال.
العـلاج:
إن أهم ما يتخذ تمهيدا للعلاج هو تقصى تاريخ المريض تفصيلا وفحصه فحصا شاملا ثم نتقدم بعد ذلك فى علاجه كما يلى:
1- العلاج النفسى: وهدفنا فيه تطوير شخصية المريض حتى يصير أكثر تكيفا، وهو أهم أنواع العلاج فى هذا المرض ويشمل الايحاء والحث والتوضيح، وقد نلجأ إلى العلاج السلوكى بتغيير عادات المريض وطبيعة استجابته للمثيرات وقد يكون التحليل النفسى الطويل مساعدا على التخلص من جذور المشكلة على المدى الطويل.
2- العلاج الاجتماعى: ويتركز فى تكييف حالة المنزل والعمل حتى نخفف عن كاهل المريض بعض أعبائه التى تزيد من حالته.
3- العلاج العضوى: وذلك بالعقاقير المهدئة، وكذلك علاج الأعراض المصاحبة كفقد الشهية وغيرها، وعلينا أن نراعى ألا يكون هذا العلاج أساسيا أو وحيدا وإلا تعرض المريض لإدمان تلك العقاقير.. ونستعمل هنا المهدئات الخفيفة عادة.
2- الهستيريا
(ورمزها فى الدليل المصرى: (10 / 1)
HYSTERIA
الهستيريا مرض نفسى تظهر فيه الأعراض والعلامات، وكأن المريض يقصدها ليحقق بها هدفا ما، ولكنه فى الحقيقة لا يدرك كيف تظهر هذه الأعراض فى تلك الصورة، إذ أن ذلك يحدث دون وعى منه ودون أن يدرى كيف حدث ذلك، ولماذا. والغرض الأساسى من ظهور أعراض الهستيريا هو الهرب من القلق الشديد غير المحتمل. فالهستيريا لها علاقة وثيقة بالقلق إذ أنها عادة ما تحل محله فيصبح المريض غير قلق، والعكس صحيح فقد يظهر القلق متى اختفت أعراض الهستيريا، ونود أن نشير إلى أن كلمة (هستيريا) قد أسئ استخدامها لدى العامة فأصبحت مرادفة لكلمة الجنون فى حين أنها كما ذكرنا مرض نفسى محدد المعالم فهى نوع من العصاب النفسى وليست نوعا من الذهان.
أسباب المرض:
1- الوراثة: لوحظ أن 6% من إخوة المرضي، وكذا 15% من إبنائهم مصابون بنفس المرض. وقد نعزو هذا إلى الوراثة كما قد نعزوه إلى الإيحاء البيئى والميل إلى التقليد.
2- عادة ما يكون المريض الهستيرى ذو تكوين عضلى أو نحيف إلا أنها يمكن حدوثها فى أى تكوين جسمى آخر.
3- لوحظ أن مرض الهستيريا يغلب فى الأشخاص ضعيفى الذكاء قليلى الحيلة.
4- شخصية المريض قبل المرض: تتصف عادة بميله إلى حب الظهور، واستدرار العطف، وحب الذات وحب التملك، كما يتصف المريض عادة بالمبالغة والتهويل فى كل الأمور وقد يطلق على هذه الشخصية اسم ‘الشخصية الهستيرية’.
5- أسباب مرسبة: مثل إثارة الصراع بين الرغبات الغريزية وإرادة الضمير بموقف مثير لهذه الغرائز، أو بين دافع اعتبار الذات (المحافظة على الكرامة) والرغبة فى الاستكانة (ربما للمحافظة على مصدر الرزق ولقمة العيش) بموقف مثل إهانة رئيس لمرؤوسه أمام زملائه .. الخ، وكذلك قد يكون السبب المرسب هو الحرمان من نيل مطلب عزيز، وما يتبعه من خيبة الأمل أو يكون سببا عضويا كالإصابة فى حادث، وهنا لا ينتج عن الحادث أى عجز عضوي، إلا أن العجز يكون هستيريا فى الأشخاص المهيئين لذلك لا سيما بين العمال الذين يطمعون فى الاستفادة بالتعويض، وفى هذه الحالة يكون التخلص من الأعراض صعبا جدا.
الخصائص المرضية للهستيريا:
يتصف مرض الهستيريا بالخصائص التالية:
1- مظهر عضوى دون وجود مرض عضوى.
2- نوبات عقلية مثل: فقدان الذاكرة أو نوبات الإغماء أو التجوال
3- هدوء نفسى مصاحب للأعراض (وذلك لأن العرض الهستيرى يزيل القلق الناتج عن الصراع بطريقة جزئية – ولو أنها مرضية – كما يحقق للمريض بعض الاهتمام والعطف الذى يفتقر إليهما فى العادة) على أن هذا الهدوء يرتبط بالعرض فقط وليس بأنواع السلوك الأخرى.
المظاهر المرضية:
(أ) مظاهر حركية: كالرعشة. والتشنجات والتقلصات والمشى بطريقة شاذة، واللوازم الحركية، وتسمى هذه جميعا مظاهر حركية إيجابية وهناك مظاهر حركية سلبية: كالشلل والبكم وفيها تقل الحركة أو تنعدم.
(ب) مظاهر حسية: مثل زيادة الإحساس أو قلته أو فقده، وذلك كالعمى والصمم أو ضعف البصر أو زيادة حدتهما، وغيرها.
(ج) مظاهر حشوية: مثل فقد الشهية والشره والإفراط فى الشرب والقئ ونوبات الفوق (الزغطة) وغيرها.
(د) مظاهر أخرى: مثل التهاب الجلد الزائف (وهو مرض يتصف بأن المريض يحدث فى جلده خدوشا دون وعى منه ويحدث ذلك عادة أثناء النوم).
كل هذه المظاهر يمكن أن نميزها عن شبيهاتها من الاضطرابات العضوية بما يلى:
1 – أنها لا تتفق مع الوصف الدقيق العلمى الأصلى للمرض العضوى المشابه.
2 – أن شدتها تختلف قوة وضعفا فى فترة وجيزة: فنجد مثلا فقد الإحساس شديدا فى لحظة ما، وبعد دقائق نجد أنه قد أصبح طفيفا إلى درجة كبيرة بالمقارنة بالحالة الأولى.
3 – أن الأعراض والعلامات يمكن تغييرها بالإيحاء: فيمكن مثلا زيادة المساحة الجلدية لفقد الإحساس، أو نقلها قليلا عن مكانها الأول وذلك بالإيحاء.. أثناء الفحص.
4 – أن شخصية المريض وظروف البيئة تفسر كثيرا من الأعراض.
المظاهر العقلية:
1 – فقدان الذاكرة Amnesia: وتحدث عادة فى فجوات (راجع الأعراض ..) هذا وقد تمتد حتى تشمل الماضى كله، وينسى المريض الحوادث المؤلمة أو التى لو ظهرت لشوهت صورة ذاته أمام نفسه أو أمام الآخرين.
3 – التجوال Fugue: وهنا يترك المريض بيته أو عمله ويخرج على غير هدى فى تجوال أو رحلة ثم يعود ولا يذكر عن هذه الرحلة شيئا، ولو أن هذا العرض يحدث فى كثير من الأمراض الأخرى مثل الاكتئاب والصرع والفصام المبكر.
3 – المشى أثناء النوم somnambulism : وهنا يسيرالمريض أثناء نومه، وغالبا ما تحدث هذه الحالة فى سن الطفولة، وتختلف هذه الحالة عن التجوال فى أنها تحدث أثناء النوم. ولفترة قصيرة، ويكون المريض على علاقة ضعيفة بما حوله.
4 – مرض الإجابات التقريبية: (مرض جانسر).
Syudrome of Approximate Answers (Ganser Syndrome)
وهنا يجيب المريض على الأسئلة البسيطة إجابات خاطئة أو تقريبية كأن تسأله ما هو مجموع 2 x 2 فيقول 5 أو حاصل ضرب 3 x 4 فيقول 11 رغم أن ذكاءه وتعليمه يؤهلانه للإجابة الصحيحة.
5 – الطفلية الهستيرية Peurilism: وهنا يتصرف المريض أو يتكلم مثل الأطفال فمثلا يطلب سكينا صغيرا فيقول: ‘عاوذ ثكينة ثغيرة’ وهكذا (والحالة النموذجية التى سنوردها مثلا للأعراض العقلية للهستيريا هى من هذا النوع.
6 – العته الكاذب Pseudo dementia: وهنا يتصرف المريض وكأنه معتوه ذهب عقله فلا يتذكر إلا قليلا ولا يعلم التاريخ ولا يستطيع التعرف على المكان بسهولة.. (لاحظ وجه الشبه مع المرض السابق رقم 4) وهكذ، ولكنه لا يبدى أى أعراض عته حقيقى مثل الضلالات، وفقدان الشعور، كما أن الحالة تكون عادة مؤقتة. هذا .. وقد يلتزم المريض إجابة واحدة على كل الأسئلة التى تلقى عليه، أى أنه تبدو عليه ظاهرة ‘التثابر’ مثل المعتوه سواء بسواء، كما قد يتحدث عن رؤى وهلوسات ليس لها وجود فى الواقع.. ولكنها من نوع الصور الخيالية وليست هلوسات حقيقية أصيلة.
تطور المرض:
فى كثير من الحالات تكون أعراض الهستيريا مؤقتة وتزول نهائيا وتلقائيا، ولكنها قد تستمر وتعاود الظهور لا سيما فى الشخصية الهستيرية، ونحب أن نشير إلى أن الهستيريا قد تكون عرضا ثانويا فى حالات عقلية أخرى كالفصام واكتئاب سن اليأس، أو فى حالات عقلية عضوية كأورام المخ وتصلب شرايين المخ وهنا ينبغى العناية بالمرض الأصلى أكثر مما نعتنى بالأعراض الهستيرية.
وفيما يلى وصف حالتين من حالات الهستيريا: الأولى تغلب عليها الأعراض العضوية التى تتمثل فى تقلص حركى لا إرادى والثانية تمثل نموذجا للأعراض العقلية وهى حالة طفلية هستيرية:
حالة (2) ‘السيدة’ أ ..‘ ربة منزل عمرها 28 سنة متزوجة وليس لها أولاد تقيم فى أحد الأحياء الشعبية بالقاهرة تشكو من انتفاضة متكررة فى ساقها ‘نترة – رعشة’ وفواق ‘زغطة’، وصداع، ودوخه .. وبملاحظة انفعالاتها لم نستطع أن نجد علاقة بين شكواها وما يبدو عليها من مشاعر فكانت. تقول ‘… صداع فظيع .. حيموتنى .. راسى حتفرقع… مش قادرة استحمل…’ وهى تبتسم فى دعة وطمأنينة، وقد ابتدا المرض بعد موت والدها مباشرة وكانت تبلغ من العمر اثنى عشر عاما .. ‘كنت باحبه حب مش معقول.. بعد وفاته حصلى إغماءات مستمرة، أقعد ساعة وساعتين مش واعية لنفسي’ وكانت ترغب فى إكمال دراستها ولكن الظروف الإجتماعية والإقتصادية – بعد وفاة والدها – حالتا دون ذلك، ثم تزوجت من زوجها الحالى وهو سعودى الجنسية والإقامة وفى مثل سن والدها، تزوج قبلها ست مرات وكانت إحداهن لاتزال فى عصمته رغم انفصاله المؤقت عنها .. وقد كان الزواج بناء على رغبة المريضة شخصيا حيث رفضت كل الشبان الذين تقدموا لها وفضلت زوجها هذا عليهم ثم عاودها المرض حين أرجع زوجها زوجته الأولى إلى عشرته ‘… وحصلى شلل فى رجلى الشمال ودخت وغبت عن وعيى وقمت لقيت رجلى بتنتر .. ولسه بتنتر لحد دلوقت ..’ وقد حضرت المريضة إلى وطنها جمهورية مصر العربية للعلاج واستمرت فيه مدة سنتين على نفقة زوجها وهى لا تريد الرجوع إليه لأن عواطفها قد تغيرت تجاهه.. ‘..أنا حاسه انى باكرهه دلوقتى وعايزه أسيبه.. إنما مش قادرة…’
بفحص المريضة عضوياً تبين ان جسمها سليم تماما، وظهر من الأبحاث بما فى ذلك رسم المخ الكهربائى – أن التركيب العضوى خال من أى مرض يفسر هذه الظواهر.
وقد تبين من الفحص النفسى أنها تتصف بضحالة العواطف وتقلبها،. ‘أكون زعلانة وبابكي، واحد قال حاجة تضحك .. أضحك على طول والدموع لسه فى عينى .. وأن الحركة التى تعاودها مظهر خاص فهى تبدو كأنها ترفص أحدا أمامها، وكأن لها دلالة رمزية تشير إلى رفض شيء أو شخص ما .. كذلك تبين أن شكواها لا تتفق مع حقيقة شعورها، وكان حديثها يتصف بالمبالغة والتهويل .. فإذا درسنا تاريخ نضجها العاطفى وجدناها متعلقة بأبيها بدرجة غير عادية، وزاد من تعلقها به موته وهى تخطوا أولى خطوات المراهقة الأمر الذى يفسر زواجها من بديل له لا يلائم سنها ولا طبيعتها، وهكذا نشأ الصراع بين التعلق بالزوج كبديل للأب، وبين رفضها له من الناحية الموضوعية لكبر سنه ومعاشرته أخري… واختلاف طباعهما وتنافرها..’
ونحب أن نشير هنا إلى أن المكاسب التى حققها العرض ثبتته وجعلته متأصلا فقاوم العلاج مقاومة عنيفة واستمر لمدة طويلة.. كما أن ظهور العرض أمكن المريضة من العودة إلى جمهورية مصر العربية بين أهلها وذويها، وهيأ لها حياة اقتصادية طيبة بما يرسله إليها زوجها من نفقات، كما حقق حاجتها إلى الرعاية والاهتمام وذلك بترددها على الأطباء وإثارة العطف والشفقة من حولها… الخ وقد أتاح المرض تأجيل البت فى إنهاء العلاقة الزوجية بما يترتب عليه من هبوط المستوى المادي، واحتمال عدم الزواج ثانية.. والوحدة .. إلخ. إذا فالمرض أبعدها عن زوجها فى ذات الوقت الذى ساعد على الاحتفاظ به، وقد كانت المريضة تتحسن جزئيا بالعلاج ولكن العرض كان يعاودها بمجرد تصور انقطاع العلاج أو الحديث عن الشفاء التام والعودة إلى ممارسة واجباتها. ففى الوقت الذى ستشفى فيه سترجع إلى زوجها حيث يثار الصراع ثانية. أو على الأقل ستنقطع النفقات الجارية.. وهكذا تتمسك بالمكاسب التى حققها المرض فتقاوم الشفاء أيما مقاومة.
حالة (3): الآنسة ‘ع….’ طالبة فى السنة الثانية الثانوية النسوية عمرها 19 سنة لم تتزوج تقيم فى القاهرة جاءت تشكو من حالة غريبه تنتابها ‘لسانى بيتعوج ما بقدرش اعدله اتكلم زى العيال الصغيرين، ساعات أبقى دارية بالحكاية دى وساعات افتكرها بعدين، والحكاية دى بتقعد يوم أو اثنين، دايما صداع فى دماغى بين النوبات دي، أذاكر أنسى المذاكرة، بانسى كتير اليومين دول، نفسى مسدودة عن الأكل’ وصفت والدتها حالتها بأنها ‘… بتبقى عاملة زى العيلة بتاعة أربع سنين، ودى حاجة تكسف قدام الجيران وفى المدرسة وبنبقى فرجة، أصلى أنا مش عايزة تطلع على البنت سمعة، وحاكم أنا ما بعتقدشى فى الاسياد لأنى مثقفة وكنت مدرسة ابتدائى وهوه (زوجها) اللى قعدنى فى البيت’.
وبدراسة الجو الأسرى ثبت أن عدم التوافق بين الزوج والزوجة شديد جدا وأن المريضة عجزت عن وقف الشجار بينهما وبالتالى عن اكتساب بعض الاهتمام الحقيقى بها وبإخوتها بدلا من ‘.. النقار طول الليل والنهار..’ فأخذت تنزوى فى حجرتها وتبكى ثم ظهرت الأعراض – وتقول الزوجة عن حياتها الزوجية وعن زوجها ‘ماشيين فى خطين قصاد بعض مش حنتقابل أبدا، هوه معندوش شخصية وعنده مركب نقص، وأكبر منى فى السن، كان أعمال كتابية وأخد شهادة خدمة اجتماعية من 6 سنين بس .. مع إن عنده 52 سنة وفاهم أنه عالم نفسانى يقدر يعالج الناس كلها.. مع إنه هوه اللى عنده شك فى الناس وفى تصرفاتى وكان سبب ضياع مستقبلى لأنه خلانى أسيب شغلي’ – أما الأب فكان رأيه أن ثقافة زوجته وتدليل إخوتها لها فى الصغر هما سبب المصائب، وأنها مدعيه، وتظهر العناية بأولادها مع أنها السبب فى مرض ابنتها.
هذا وقد تطور اكتئاب الزوجة – أثناء علاج ابنتها – حتى وصل إلى حد الأفكار الانتحارية بل ومحاولة الانتحار فعلا الأمر الذى اضطرنا إلى قطع الحلقة المفرغة ببضعة جلسات كهربائية (للام) ثم استكمال العلاج النفسى والاجتماعى للأسرة .
وهكذا نرى كيف ظهرت هذه الأعراض الهستيرية هروبا من جو أسرى مريض وكوسيلة لجذب الانتباه والاحتجاج كما نلاحظ وجود صداع بين النوبات نتيجة لوجود صراع داخلى تحله الأعراض موقتا لذلك يختفى الصداع مع ظهور الأعراض ويعود مع اختفائها.
العلاج:
1- العلاج النفسى: وهو أهم أنواع العلاج فى هذا المرض. وينبغى أن ندرك أن الإيحاء فحسب قد يزيل العرض ولكنه لا يغير طريقة التفاعل لصعوبات الحياة… ولذلك يلزم أن يكون العلاج أعمق وأبعد هدفا أى أنه ينبغى أن يهدف الى تطوير شخصية المريض حتى يقابل صعوبات الحياة بمنطق الواقع لا الهرب منه و التعلل بالامراض ويكون ذلك بوسائل العلاج النفسى المختلفة والعلاج السلوكي.. الخ . وقد يستعمل العلاج السلوكى لإزالة العرض أيضا حيث نحاول أن يرتبط ظهور العرض بمؤثر مؤلم أو منفر. فى حين يرتبط اختفاؤه بالتقبل والطمأنينة (بعكس الذى يجرى عادة حيث تلتف الأسرة حول المريضة – مثلا – أثناء الإغماء وتهملها تماما وهى سليمة).
2- العلاج الإجتماعى: ويتجه إلى تعديل جو البيئة بما فيه من أخطاء أو ما يفرضه من ضغوط على المريض، وبذلك يتمكن المريض من التغلب على العقبات بطريقة أقرب إلى الواقع . وفى بعض الأحوال قد تضطر إلى إبعاد المريض عن الجو الذى يثبت العرض بعض الوقت.
3 – عصاب النيوراستانيا
(ورمزه فى الدليل المصرى “10 / 5”)
NEURASTHENIA
النيوراستانيا عصاب نفسى يطلق عليه أحيانا اسم ‘الضعف النفسى’، أو ‘الوهن النفسى’. وقد كان هذا الاسم قديما يطلق على كثير من أمراض العصاب ولكن هذه النظرة قد تغيرت مؤخرا إذ ثبت أننا قليلا ما نشاهد المرض وحده بصورته النقية، ولكنا نراه عادة مع غيره حتى أن كثيرا من الباحثين يعتبرون النيوراستانيا عرضا من أعراض الأمراض النفسية الأخرى ومثال ذلك أنها قد تكون عرضا هستيريا تصاحب عصاب الهستيريا أو مظهرا لضعف الإرادة فى الفصام البسيط أو نتيجة لتغير عضوى كنقص الفيتامينات أو كإحدى مضاعفات الحمى مثل الأنفلونزا وتظهر عادة فى دور النقاهة، ولكن تبقى حالات قليلة يمكن أن تتصف بأعراض النيوراستانيا فقط دون دليل على وجود أمراض أخرى مصاحبة وهذه نسميها النيوراستانيا الأولية.
الأسباب:
هناك كثير من الأسباب والنظريات التى تشرح وتعلل لظهور أعراض هذا المرض، ومن ذلك :
1– الوراثة: ويدل على أهمية هذا العامل وجود أمراض نفسية مختلفة فى أقارب وأسلاف المصابين بالمرض.
2- التكوين الجسمى: يلاحظ ظهور النيوراستانيا فى الأشخاص ذوى التكوين النحيف، الذين يتصفون بشدة حساسية الجهاز العصبى.
3- التسمم الذاتى: افترض كثير من الباحثين أن الجسم يفرز سموما لسبب أو لآخر. تسرى فيه; وتسبب المرض – مما لم يثبت صحته حتى الآن
4- الإنهاك : ويقال كذلك إن الإرهاق والإجهاد من الأسباب المباشرة للمرض.
5- الإيحاء والاستهواء : يرجع آخرون أسباب المرض إلى سهولة الاستهواء عند بعض المرضي، فسرعان ما يؤمن المريض بما توحيه إليه نفسه (أو غيره) من أنه قليل الحيلة ضعيف الإمكانيات فى كافة المجالات .
6- الصراع النفسى: إن وجود اضطراب عاطفى نتيجة تضارب فى الرغبات واستمراه لفترة طويلة قد يسبب استنفاذ الطاقة فى هذه المعركة الداخلية المستمرة، ومن ثم الإنهاك كما قد تكون مظاهر النيوراستانيا نتيجة صراع شعورى بين الإقدام والإحجام عن عمل ما، وتكون النتيجة هى الشعور بالضعف والتخاذل لعدم القدرة على اتخاذ رأى محدد.
الشكوى والأعراض:
1 – التعب الجسمى والعقلى بشكل مزمن دون مبرر ظاهر.
2 – الإحساس بضغط فى الرأس.
3 – عدم القدرة على التركيز
4 – ضعف الذاكرة العام.. (وليس فى فجوات محددة مثل الهستيريا).
5 – حدة المزاج.
6 – آلام عامة غير محددة، وعادة ما يشكو المريض بضيق بالغ من هذه الأعراض المعطلة بعكس الهستيريا، وفيما يلى وصف حالة نموذجية تظهر فيها أعراض النيور استانيا نتيجة صراع شعورى.
حالة (4) ‘السيد ‘م………’ موظف عمره 42 عاما، أعزب يقول فى شكواه ‘حاسس إنى مش قادر أعمل حاجة، مش قادر أشتغل، فيه تنميل فى جسمى وحاسس إنى ‘هابط – هابط’، وبتوصل بى الحال إلى التفكير المتعب اللى يجيب داغ الإنسان، رجليه لما تمسكها تبقى منملة إنما فيه فوران – عندى ضغط دم واطي* سريع الغضب إلى أبعد الحدود، خايف لحسن من ضعفى أقع فى الشارع ما حدش يعرفنى – فى حالة هدوئى أبقى وديع خالص زى طفل صغير’.
وبدراسة تاريخه الأسرى تبين أنه أوسط تسع إخوة وأخوات (الخامس) وأن جميع إخوته الأكبر منه لم يتزوجوا وفيهم ثلاث عوانس (52، 50، 44 سنة) رغم غنى والدهم الفاحش وسطوته فى الصعيد. ويقول المريض ‘… والدى بطبعه يكره حاجة اسمها جواز، وهوه منفصل عن والدتى من غير طلاق بقاله ثلاثين سنة، بنشوف العائلات الثانية الأب يدفع أولاده للزواج إلا ده، رغم إنه سافر بره ومتنور، زى ما يكون بيعتبر زواج أولاده عيب أو إهانة شخصية له. ولما صممت على زواج أختى الصغيرة غصب عنه عشان ما تحصلش إخواتها .. ابتدأت الحالة تظهر عندى بسيطة’ ثم يذكر أن الأعراض اشتدت جدا وظهرت بوضوح حين وجد نفسه فى حيرة بشأن البت فى زواجه هو شخصيا، فقد احتار بين رغبات الأب وسيطرته وبين رغبته الطبيعية فى الزواج والاستقلال وتكوين أسرة، وخصوصا وأن شخصية الأب كانت طاغية من نوع خاص، ذلك الأب الذى ‘…. يعرف فى كل حاجة : إنجليزى وفرنساوى وطليانى وهيروغليفى كمان; عنده ثمانين سنة ومتدين، مع إنه مرافق غير والدتى (!) – مش مخلى حاجة مالوش فيها’ وهكذا ظهر المرض الذى أعجزه عن العمل.
وهكذا نرى كيف نشأت الأعراض نتيجة لصراع بين الإقدام والإحجام وكيف استغرق هذا الصراع كل طاقة المريض حتى ظهرت أعراض الإعياء والإنهاك واضحة جلية.
الـعــلاج:
1 – الراحة الكافية.
2 – التمرينات الرياضية مع زيادتها تدريجيا حسب طاقة المريض.
3 – التطبيب بالماء والحمامات.
4 – العلاج النفسى: وهو يساعد كثيرا فى هذه الحالات، إذ يساعد المريض على تفهم نفسه، ومعرفة إمكانياته، وأن قدراته لا يمكن أن تصاب بكل هذا العجز دون مبرر، وبالتالى محاولة معرفة الأسباب وراء هذه الأعراض ومن ثم الوصول إلى قرار…
5 – العلاج الاجتماعى: ويهدف إلى تحسين ظروف المريض الاجتماعية، لا سيما إذا وجد سبب للصراع فى البيئة.
6 – علاج النيوراستانيا الثانوية: ويكون بعلاج المرض الأصلى بما يتفق وطبيعته فإن كان اكتئابا مثلا فيعالج بمضادات الاكتئاب أو الصدمات الكهربائية.. الخ.
4 – عصاب الوسواس القهرى
(ورمزه فى الدليل المصرى هو ’10 / 3′)
OBSESSIONAL NEUROSIS
إن ظاهرة القهر والإلزام ما هى إلا حالة سلوكية متكررة لا تخضع للمنطق أو التفكير السليم، ولا يمكن للمريض أن يتغلب عليها رغم إدراكه لطبيعتها الشاذة وعدم اتفاقها مع الواقع، ورغم محاولته إبعادها ومقاومتها وقد تظهر هذه الحالة السلوكية فى أى مجال من مجالات السلوك، فإذا ظهرت فى مجال العاطفة، ظهرت فى صورة ‘مخاوف مرضية’ وهى خوف متكرر لا مبرر له نحو شيء بذاته، وإذا ظهرت فى مجال التفكير سمى ذلك التفكير الاجترارى ‘الوساوس’، فتظل الفكرة السخيفة تعاود الإنسان وتراوده وتشغل فكره فلا يستطيع التخلص منها، وأخيرا فقد يظهر هذا السلوك الإلزامى فى مجال العمل والسلوك الحركي، فيضطر الإنسان إلى القيام بأعمال سخيفة لا طائل من ورائها، إلا أنه يشعر أنه ملزم بتكرارها، ولا يهدأ إلا إذا أتم تنفيذها، وحتى إذا تمكن من وقفها مؤقتا فإنه يحس بتوتر شديد لا يزول إلا إذا عاود الفعل القهرى وكثيرا ما تحدث المظاهر الثلاث – مع بعضها فى المريض الواحد مما يدل على وحدة أصلها رغم اختلاف صورها.
الأسباب:
1- الوراثة: ويدل على أهمية هذا العامل أننا نجد أن شخصية والدى المريض بهذا العصاب تتصف هى أيضا بالنزعة إلى الوسوسة.
2- الشخصية قبل المرض: تتصف شخصية المريض قبل المرض بالصلابة ويقظة الضمير وحب النظام، والدقة فى المواعيد والمثابرة وحدة الذكاء واعتناق المثل العليا بعيدة المنال.
3- التكوين الجسمى: يغلب التكوين الجسمى النحيف على مرضى هذا العصاب.
4- أسباب بيئية مهيئة: كفرض النظام الشديد أثناء طفولة المريض أو القسوة فى تربيته المنزلية أو المدرسة… الخ.
وقد تكون الأسباب البيئية مرسبة فيبدأ المرض عقب وقوع حادث نفسى معين مثل خيبة الأمل والاصطدام بواقع الحياة، لاسيما وأن مثل المريض تكون عادة بعيدة عن الواقع.
المظاهر الأكلينيكية:
يتخذ هذا العصاب صورا إكلينيكية مختلفة هى المخاوف الوسواسية والأفكار الوسواسية والمظاهر التسلطية المختلفة للقهر الوسواس (الطقوس)
أ – المخاوف الوسواسية المخاف OBSESSIV PHOIAS
وهنا يشكو المريض من خوف إلزامى موجه نحو موضوع بذاته، وفيه يتبين المريض أنه لا داعى لكل هذا الخوف من أشياء يدرك تماما أنها لا تخيف إلا أنه لا يستطيع التحكم فى نفسه أو إبعاد الخوف عنها، ومثال ذلك أن يحس المريض بالخوف الملزم نحو شيء تافه لا معنى للخوف منه (كالحبال مثلا) – أو لا داعى للخوف منه كخوف سليم البنية من الإصابة بالسرطان أو السل، وهناك أمثلة أخرى لهذه المخاوف مثل : الخوف من الأماكن المفتوحة، أو المقفولة، أو الخوف من ركوب المواصلات، أو الوقوف فى الشرفات … الخ.
وفيما يلى وصف حالة يغلب على أعراضها ظاهرة المخاوف:
حالة (5) ‘السيد’ ح .. ، فنى عمره 31 سنة متزوج وله ثلاث بنات ويقيم فى القاهرة، جاء يشكو من حالة خوف قهرى متكرر ‘… أهم مشكلة عندى هى الخوف بدون مبرر، مقتنع تماما أن كل الحاجات اللى بخاف منها ملهاش لازمة إنما دى حاجة متأصلة فى من زمان.. أخاف من الأمراض من 15 أو 20 سنة ودلوقتى لسه برضه، وأخاف من الموت بشكل غير معقول ما احبش افكر فيه ولا أسمع سيرته، وساعات اقدر أتخيل إزاى هو حييجي، وازاى شعورى حيبقى ساعتها بالضبط.. واترعب’. وقد كان يتحكم فى خوفه بطريقة غريبة نوعا ‘…. لما أحس بالخوف أحرك عضلات بطنى وعضلات داخلية فى رأسى وعضلات أسنانى ولما أسمع صوت حركة العضلات أهدأ شوية، ولو ما عملتش كده أتنى دايخ وخايف…’
هذا وقد كان يعانى فعلا من مجموعة من أمراض الحساسية (زكام وأكزيما وأرتيكاريا). وبدراسة تاريخه وجد أن والده منفصل عن والدته (وهى من بلد عربى شقيق وتقيم فى بلدها الآن) منذ سنوات طويلة، وأنه كان قاسيا غريب الأطوار هز كل القيم والمثل فى نفوس أولاده .. فقد كان يتحدث عن الشرف والصدق والأخلاق فى الوقت الذى يذكر فيه المريض أنه سرق (شوك وملاعق) من فندق بفلسطين وكان عمر المريض حينذاك حول السابعة وقد ذهل الطفل من فعل والده الذى يوصيه بالصدق والطاعة، وذكر المريض حادثة أخرى أقسى من السابقة كان لها عواقب مادية وخيمة وهى أن والده اضطره أن يحمل مخدرات وهو طفل وضبطه البوليس فاعترف على والده الأمر الذى كان سببا مباشرا فى إلقاء الوالد فى السجن بضعة سنوات بما يتبع ذلك من شعور دفين بالذنب وقد كانت أحلامه كثيرة جدا تدور حول أمرين : الأول المطاردة المستمرة والثانى القذارة البالغة .. ومن أمثلة هذه الأحلام… ‘… حلمت أن فيه مؤامرة لقلب نظام الحكم وسمعت الراديو يذيع تفاصيل المؤامرة وإن أنا من أنصار الملك السابق ومطلوب القبض على … الخ’ ومن حلم آخر … حلمت أنى بلغت المباحث عن جواسيس ولكنهم قالوا لى إنى لازم أتسجن معاهم سنتين رغم أنى وطنى وبعدين وعدونى إنهم حيساعدونى عشان اطلع براءة .. وجانى خاطر غريب فى الحلم، هو ان البوليس لما ييجى يقبض على حيفتكر إنى مجنن قتلت حد’ ومن حلم ثالث ‘….. أنا فى حمام آخد دش ومن الغريب ان الميه كانت تنزل من السيفون بدل الدش. وما كنتش شاعر انى باتنظف بالعكس كنت حاسس انى باتوسخ زيادة وكنت قرفان جدا من الحكاية دى …….’
وهكذا نرى كيف زرعت المخاوف زرعا أثناء الطفولة من حوادث قاسية وكيف اهتزت المثل والقيم فى نفسه، وكيف تحمل شعورا بالندم بعد أن تسبب فى سجن أبيه عائل الأسرة، ثم كيف تجمع كل هذا فى اللاشعور الذى تترجم عنه الأحلام تارة بأحلام القذارة والمطاردة، ويترجم عنه المرض تارة أخرى بالأعراض التى يغلب عليها الخوف القهرى.
(ب) الأفكار الوسواسية Obsessive Thoughts
فى هذه الحالة ينشغل المريض بفكرة أو عدة أفكار تعطل كل اهتمام آخر للمريض، الأمر الذى يسبب له الضيق والتوتر. وقد تكون هذه الفكرة فكرة عامة غير ذات أهمية إطلاقا للمريض; مثل التفكير فيما إذا كانت البيضة وجدت قبل الفرخة أم العكس وقد تكون لها أهمية عاطفية; مثل التفكير فى وفاة أحد الأقارب. وأحيانا تكون الفكرة مرتبطة بحادث يهم المريض ولكنها لاتتفق مع واقعه وحقائق الأشياء مثل تفكير طالب ما فيما إذا كانت نتيجة امتحان العام السابق نتيجة صحيحة أم لا وذلك رغم انتقاله إلى السنة الدراسية التالية، ورغم أنه يحاول إبعاد هذه الفكرة عبثا.
وفيما يلى وصف حالة تمثل هذه الأعراض :
حالة (6) ‘السيد س …’ طالب بالجامعة عمره 23 سنة لم يتزوج جاء يشكو من خوف وعدم قدرة على التركيز وتفكير شديد لا يستطيع التخلص منه ‘… الحكاية بدأت لما كنت قاعد باذاكر وجه واحد زميلى باحبه وأعزه قالى ‘ارحم نفسك’ قعدت أفكر فى الكلمة دى ومش قادر اتخلص منها، ومانمتش كويس، وأقعد أقول الواحد لازم يبطل أفكار قبل ما ينام يقوم الفكر يجيلى تانى : والزميل ده اللى ساكن معايا حساس زيى وفيه صفات كثير منى وأنا باحترمه وباحبه لكن خايف الحب ده يكون نوع من الشذوذ .. وبعدين الفكرة تقلب معايا : ياترى أنا عندى شذوذ جنسى ولالأ؟ … واشمعنى باهتم بالجدع ده دون خلق الله، وليه بازعل منه هوه بالذات لما يمس طرفي، وعلى كل حال هوه يشبهنى قوى.’
وبدراسة تاريخه وجد أنه نشأ فى عائلة ريفية متزمته، وأن والده كان يتصف بالشدة والحساسية وكان بينه وبين آخرين ثأرا لم يأخذه، فكان دائم التحفز والتوتر والحذر، ولما قتل غريمه بغير يده أحس أنه لم يقم بما عليه من واجب…. وتبين أن والده كان يكثر من تحذيره من العلاقات الجنسية الشاذة بين الأولاد ‘… أول ما انتبهت للحكاية دى كنت اتأخرت بره شوية، فوالدى قالى لازم العيال كانوا بيعملوا فيك حاجة – صدمت وبكيت وعزعلى نفسى وبقيت حساس جدا، لو حد لمس جلابيتى لازم المس جلابيته زى ما لمسنى…’
هذا وقد استمر اجترار أفكاره مدة طويلة لدرجة أنها هاجمته فى امتحان الفصل الدراسى الأول ولم يستطع التخلص منها فكانت سببا فى رسوبه، ثم عاودته الأفكار وزادت عليها فكرة احتمال تكرار المأساة فى الفصل الدراسى الثانى وعدم جدوى العلاج.
وقد عولج المريض بالمهدئات والعلاج النفسى وتحسنت حالته وهدأ نومه وحسن استعداده للامتحان، ورغم أن الأفكار كانت تراوده بينالحين والحين إلا أن التوتر كان أقل شدة بالتأكيد.
وهكذا نرى علاقة الوساوس بالحساسية الشخصية : وكيف يمكن أن تؤثر حالة الوالد النفسية فى طفله، كما نرى كيف أن الكلام العابر مهما بدا عرضيا قد يترك فى النفس آثارا عميقة، وقد يرسب المرض النفسى فعلا.
(جـ) القهر الوسواس (الطقوس) Obsessive Compulsive Rituals
فى هذه الحالة يجد المريض نفسه ملزما بأن يقوم بعمل معين، ليس له ما يبرره وقد يكون هذا القهر نتيجة لمخاوف مرضية، أو وساوس ملحة ويحاول المريض أن يقاوم هذا الدافع مرارا ولكنه يفشل، وحتى إذا نجح فى مقاومته فإنه يحس بتوتر واضطراب شديدين لايزاولانه إلا إذا عاد إلى الفعل القهرى ثانية وهكذا ومثال ذلك المصابون بوساوس النظافة الذين يجدون أنفسهم مضطرين إلى غسل أيديهم وأشيائهم مرارا وتكرارا، وقد وصلت الحال بإحدى المريضات إلى غسل الخبز بالماء والصابون.
ونلاحظ أحيانا أن أعراض الوسواس القهرى تظهر بصورة دورية مثل أدوار الهوس والاكتئاب وتكون بديلة لهما
وفيما يلى وصف حالة نموذجية لعصاب القهر :
حالة (7) : السيد ‘ .. .’ طالب بالثانوية العامة عمره 18 سنة جاء يشكو من ضيق وتردد وعدم استقرار نتيجة لاضطراره للقيام بأفعال غريبة لا يملك إزاءها شيئا ولا يستطيع التحكم فيها.. ‘.. أبص فى المراية..أكرر البص أربع مرات أو 16 مرة (كل مرة 4 مرات) لو بصيت فى المراية 4 مرات وبعدين نظرى جه على أى حاجة فى الأودة أرجع أكرر البص ثاني، لو حسيت بأى حركة فى جسمى أو دبانة جت على وشى أثناء البص فى المراية أكرر من الأول لما حا تفلق، ‘وأنا ماشى فى الشارع لو لقيت ورقة مرمية ونظرى جه عليها أرجع أبص لها، أربع مرات’…. وكان يشكو أحيانا من أن المسألة كانت تتعدى النظر إلى أفعال أكثر تعقيدا’.. لا مؤاخذة مرة لقيت فردة جزمة فى الشارع بصيت لها وبعدين بعدما وصلت البيت نزلت تانى شطها. ورجعت البيت ونزلت ثالث رحت شايطها لحد ما عملت الحكاية دى أربع مرات’، وكان لا يمكنه التحكم فى هذا التصرف ويزيد من ضيقه أن أهله وأصدقاءه يلومونه على أفعاله تلك ‘… بيقولو لى مادام انت عارف إن دى مش أصول ومالهاش لازمه بتعملها ليه؟. أقولهم مش قادر… مش فاهمين’.
وكان يصحب هذه الأعراض وساوس متفرقة وتفكير اجترارى وخوف ‘.. لو حد قال كلمة قدامى أقعد أقول ليه علشان إيه وتقعد الكلمة ترن فى ودنى ساعات أحس إنى عامل عاملة وأن نهايتى فى السجن’.
’لما أبص من أى حاجة عالية أحس إنى عايز أرمى نفسى أروح مبتعد على طول .. بعدما يحصل الحاجات دى أقول ليه أنا باعمل كده أشوف حل للحكاية دى مش قادر’
وبدراسة تاريخه لم يهظر أى سبب يفسر هذه العوارض ولم يستطع المريض أن يفيض بما فى نفسه أو ينطلق فى الحديث عن طفولته رغم ما بذل معه من محاولات وصبر، إلا أن السبب المرسب كان تدهور حال الأسرة الاقتصادي،ولم نجد تفسيرا للرقم ‘أربعة’ بالذات، والظاهر أنه كان نتيجة لتقدم أطوار المرض فإن الأمر ابتدأ بمرتين ثم زاد إلى ثلاثة ثم إلى أربعة ‘أول ما ابتدأ المرض كنت فى الإعدادية، أبص للحاجة مرة واثنين لحد ما وصلت الحكاية أربعة أربعة ومش عارف حتزيد لحد ما توصل كام.
وكانت نتيجة هذه الأفعال القهرية ضيق شديد وصل إلى حد التفكير فى الانتحار ‘. لو استمرت الحالة كده يبقى الواحد يموت نفسه أحسن’.
وقد عولج المريض بأشد أنواع المهدئات والتنويم الكهربائى والعلاج النفسى ومحاولة إصلاح الجو الأسرى دون جدوى.
وهكذا نرى مثلا لحالات القهر المتأصل التى لم نستطع بسهولة أن نتوصل إلى أسبابها الخفية مما قد يحتاج إلى عمق أكبر كما نرى كيف أنها تقاوم كل أنواع العلاج التى ذكرت تقريبا ولا تستجيب لها.
العلاج:
يعتبر هذا العصاب من أقل الأمراض النفسية والعقلية تحسنا بالعلاج على اختلاف أنواعه. إلا فى الحالات الدورية التى تكون بديلة للاكتئاب مثلا، أو فى الحالات التى تكون الأعراض فيها مصاحبة لمرض آخر فإنها تشفى بعلاج المرض الأصلى.
أولا : العلاج العضوى : ويتلخص فيما يلى :
1 – العلاج بالصدمات الكهربائية والتنويم الكهربائى لا سيما فى الحالات المصحوبة بالإكتئاب.
2 – العلاج بالعقاقير المهدئة، ويفيد فى تخفيف حدة التوتر المصاحب للوساوس والقهر، وإن لم ينجح فى القضاء على الفكرة الغريبة ذاتها، وفى بداية ظهور الوسواس قد يستجيب للعلاج المكثف بمضادات الاكتئاب مع المهدئات العظيمة.
3 – العلاج الجراحى : بقطع الفص الأمامى فى المخ فى الحالات المستعصية التى تصل فيها الوساوس والقهر درجة يستحيل معها أى نشاط آخر للإنسان (مثل حالة وصلت لأن تغسل الخبز بالماء والصابون ثم لا تأكله طبعا حتى كادت تهلك هزالا).
ثانيا: العلاج النفسى: يقال إن العلاج بالتحليل النفسى طويل المدى يفيد فى هذا المرض كثيرا. كما أن الشرح والتوضيح والإيحاء قد يكون لهم دورهم – بالإضافة إلى العلاج العضوى – فى إزالة التوتر المصاحب للوساوس والقهر .. وإن كانت نتائج التحليل النفسى محدودة وطريقته صعبة.
ثالثا: العلاج السلوكى: وهو يفيد كثيرا فى ربط العرض بمؤثر منفر حتى يزول .
رابعا: العلاج الاجتماعى: وهو يوجه نحو إزالة مزيد من الصعوبات البيئية التى قد تزيد من توتر المريض وضيقه.
ملحوظة هامة: على أننا ينبغى أن نلاحظ أن هناك حالات يكون فيها الوسواس غطاء محكما لذهان مهدد، فإذا تحمسنا وتسرعنا فى إزالة هذا العرض بعنف ودون تمهيد بعلاقة علاجية عميقة فإنه قد يظهر هذا الذهان المختبيء بدلا من الوسواس ما يضاعف من مسئولية المعالج .. الأمر الذى ينبغى تجنبه .. أو فى الأحوال الخاصة .. ينبغى أن يتم فى مجتمع علاجى خاص قادر على علاج الذهان الذى سيظهر بالعلاج بإعادة بناء الشخصية دون وساوس وبطريقة أكثر فاعلية وأكثر قدرة على التكيف والنمو.
5 – عصاب الشك
PARANOID NEUROSIS
(ليس له رمز خاص فى الدليل المصرى ولذا يوضع تحت رمز “10 / 9“)
يتميز هذا المرض بميل المريض إلى الشك وفرط الحساسية وسوء التأويل لكل ما يدور حوله. بما فى ذلك نظرات الناس إليه ورأيهم فيه. وهذا الميل موجود فى الحياة العادية عند الإنسان السوي، ومثال ذلك أنه إذا دخل إنسان ما على جمع من الناس اكتمل عقده; فإنه يحس أن الإنظار متجهة إليه مما يشعره بالحرج والاضطراب، ولكن سرعان ما يزول هذا الحرج بعد أن يعاود المتحدثون حديثهم، ولكن إذا زاد هذا الإحساس وأصبح ملحا يصبغ كل تصرف ويفسر كل سلوك فإنه يصبح مرضا لا يمكن اعتباره سلوكا سويا، هذا وقد نصادف الميل إلى الشك مع أمراض كثيرة أخرى مثل القلق والاكتئاب والفصام والأمراض العقلية العضوية .. على أن الشك هنا طارئ عادة ويزول بالمنطق .. ويزيد فى المواقف الضاغطة.
الأسباب:
1- الوراثة: للوراثة أهمية خاصة فى هذه الأمراض فقد لوحظ أن معظم أقارب المريض لاسيما الوالدين يتصفون بفرط الحساسية والتوجس وربما كان هذا الشعور يصبغ تنشئه الطفل بالإضافة إلى عامل الوراثة.
2- الشخصية قبل المرض: تتصف شخصية المريض قبل المرض بالحساسية المفرطة والصلابة والاعتداد بالرأى والتركيز على الذات.
3- السن: يغلب حدوث هذا المرض فى سن متأخرة نوعا ما على أنه كثيرا ما يحدث فى سن المراهقة.
4- التسمم: قد نقابل أعراض المرض فى حالات التسمم الكحولى والمزمن.
الشكوى والأعراض:
عادة ما يشكو المريض من قلق عارم يصاحب شعوره بالشك، وقد يبدأ المرض بالخجل من عمل ما مثل ممارسة العادة السرية أو الفشل مع الجنس الآخر إلخ ثم يتصور المريض أن هذا الأمر يعرفه الآخرون، ويعزو إلى ذلك نظراتهم ولمزاتهم.. وقد يبتئس المريض نتيجة لذلك فتبدو عليه أعراض الاكتئاب .. من هم وضيق وصعوبة فى التفكير وبطء حركى .. الخ ويختلف هذا النوع عن الفصام الضلالى وجنون الضلال فى أنه وقتى وأننا كثيرا مانجد أسبابا تفسره فى البيئة وأنه سرعان ما يتحور بتغير البيئة والشرح والإيضاح.
وقد يستمر هذا المرض فترة أطول كما أنه قد يزمن ويصبح سائدا وملازما فى تفاعل المريض نحو بيئته، وفى هذه الحالة ينبغى أن نتأكد من عدم وجود ضلالات أو هلاوس . وكذا من استمرار التفاعل العاطفى السوى وذلك لأنه إذا حدث أن وجدت هلاوس أو ضلالات دائمة مع نقص فى التفاعل العاطفى فإن المرض يصبح نوعا من الفصام هو ‘الفصام الضلالي’ مما سيرد ذكره فى حينه.
وفيما يلى وصف حالة تشرح هذا المرض وتوضحه:
حالة (8): الآنسة ص ..“ عمرها 26 عاما تعمل فى سكرتيرة فى إحدى الشركات وهى لم تتزوج جاءت تشكو من أن ” أن (زميلتاها) بيتودودوا على زى زمان – أصل فيه واحد زميلنا كان خاطب وساب خطيبته فهم بيبصولى كل ما يخش علينا الأودة أو يخرج وده من يوم ماحكيت لهم عن شعورى نحو زميل ثانى فى الشغل – حاسه أن الناس بتكرهنى وفاهمين انى بطالة مع إنى أخلاقى كويسة جدا ..”
وبدراسة تاريخها وجد أنها الشقيقة الكبرى لأختها الوحيدة المتزوجة والتى تخرجت من الجامعة وتزوجت من ثلاث سنوات .. وقد تبين أنها أقل جمالا وذكاء من أختها، وأنها اصيبت وهى طفلة بمرض شديد عوق نموها فتأخر كلامها وسيرها ومظاهر نشاطها، ثم كانت متوسطة فى الدراسة حتى لحقت أختها بها وسبقتها فدخلت الجامعة فى حين دخلت المريضة معهد السكرتارية، وقد كان والدها ووالدتها منفصلين منذ طفولتهما ولم تعد الحياة الزوجية بينهما إلا بمناسبة زواج اختها حرصا على المظهر الاجتماعى ‘…. وياريتها مارجعت طول النهار خناقات – مش كفاية الشغل لأ البيت كمل على ..’ وقد تربت فى رعاية عمتها العانس وهى تخشى أن يكون مصيرها مثلها .. وقد وصلت بها الأعراض إلى التعميم: ‘. كل واحد يقدرنى ويدينى اهتمام يروحوا يقولو له كلام غلط يبتدى يبصلى نظرات مش كويسة حتى ك. بقت زيهم رخره’ [ك. هى الإخصائية الاجتماعية فى الشركة.]
إلا أن هذه الأعراض لم تكن ثابته وكثيرا ما كانت المريضة تراجع نفسها وتستبعد حدوثها وحدها أو بعد شرح بسيط وبالعلاج النفسى على مستوى التنفيث والإيضاح والمهدئات تحسنت حالتها وزالت ظنونها وآمنت أنها لا أساس لها فى الواقع فأصبحت أكثر تكيفا فى العمل وإن لم يزل ضيقها من جو الأسرة واكتئابها من نقص فرصها فى الحياة وخوفها من أن يتركها قطار الزواج ..،
ولو أن الحالة قد عاودتها بعد تسعة أشهر عقب مشادة مع زميلة لها. وعادت إلى العلاج وتحسنت ثانية بسرعة ملحوظة .
وهكذا نرى أن تأخر المريضة عن أختها فى كل مجالات الحياة – فى الجمال والدراسة والعمل والزواج – قد هيأ للمرض النفسى بالإضافة إلى اضطراب الجو الأسرى ونرى أن العامل المرسب كان بسيطا جدا ولولا كل هذه المهيئات وتكوينها الشخصى الخجول المتحفظ لما ظهر، ذلك أن حديثها مع زميلتيها عن شعورها الخاص نحو ذلك الزميل اتخذ مجالا للمزاح، الأمر الذى لم تستطع تحمله فظهر المرض. وابتدأت سلسلة الشك والتوجس التى سرعان ما وضح مصدرها واختفت بالعلاج والاقناع ومن ثم اعتبرنا هذه الأفكار عصابية الصبغة وليست ضلالات.
العلاج:
يتلخص فى العلاج النفسى وإزالة مؤثرات البيئة أو تخفيفها كما يستجيب المرض للمهدئات ومضادات الاكتئاب حسب الحالة.
6- عصاب الاكتئاب
DEBRESSIVE NEUROSIS
(ورمزه فى الدليل المصرى: 10 / 4)
يتفاعل الانسان السوى لحوادث الحياة المؤسفة أو المؤلمة التى من طبيعتها أن تثير الشجن وتبعث الحزن: بالاكتئاب، فإذا زاد هذا الاكتئاب عن حده، وكان غير ملائم لطبيعة السبب أو شدته أو إذا استمر لمدة أطول من المعتاد. اعتبر هذا التفاعل مرضا نفسيا. وهنا يكون التفاعل من نوع الاكتئاب الذى يغطى القلق الأساسي، ولكنه لا يصل فى حدته إلى درجة ذهانية..
الأسباب:
1- عادة ما يحدث فى الأشخاص ذوى التكوين البدين الذين يتصفون بمزاج متقلب حاد.
2 – نقابله فى أكثر من فرد واحد فى العائلة.
3 – قد يوجد سبب فى البيئة .. ولكنه لا يتناسب مع كمية الاكتئاب والأعراض المصاحبة له.
الأعراض:
1 – مزاج حزين.
2 – الشعور بالتعب من أقل مجهود.
3 – يسود تفكير المريض التشاؤم والأفكار السوداء وتبدو الحياة بلا أمل.
4 – نوم متقطع يتخلله أحلام مزعجة، ويتميز الأرق بحدوثة فى أول الليل.
5 – أعراض جسمية خفيفة مثل ارتفاع طفيف فى ضغط الدم. وسوء الحالة الهضمية، وفقدان الشهية.. إلخ
العلاج:
قد تزول أعراض المرض دون علاج ولكن ذلك يستغرق عادة فترة ليست قصيرة، لذلك فإن العلاج النفسى التدعيمى قد يفيد كثيرا. كما أن العلاج النفسى الهادف إلى تغيير شخصية المريض حتى تصبح أكثر احتمالا وأقل تفاعلا ينبغى أن يبدأ مبكرا وإن كان الاكتئاب بتزايد حتى يكاد يصبح صبغة الحياة وفى حالات كثيرة يكون الاكتئاب شديدا ولا يمكن إزالة السبب المسئول، وهنا نلجأ إلى العقاقير المضادة للاكتئاب من النوع المثبط لإنزيم أحادى الأمنيات (مثل البارنات أو الماربلان).
وفيما يلى وصف حالة توضح صورة المرض:
حالة: ‘السيد ب ..’ م عمره 28 سنة يعمل كاتب أرشيف متزوج وله ولدان وبنت جاء يشكو أنه ‘.. من يوم ابنى مامات من شهرين وأنا ألاقى نفسى أعيط لوحدي، النوم بقى صعب قوى وحتى لما أنام أقوم مفزوع أدور على الولد فى الشقة، ولوحد عمل جنبى أى حركة بسيطة على سهوة اتخض واتفزع وافكارى مش قادر اتحكم فيها لأنى فى سرحان على طول ..’.
وبدراسة تاريخه وجد أنه كان على غير وفاق مع زوجته وأنه أغضبها أربع مرات وطلقها مرة وقد وصلت بها الحال أن تعمل له عمل فيقول ‘… وحين فتحت الحجاب اللى لقيته تحت المخدة لقيت فيه شطه وفلفل وعيدان كبريت وآثار ميت وشبه،. وغيره، ومكتوب بالحب بين الزوج والزوجة ولاكره بينى وبين أمي، .. وفى مذاكراته الخاصة يتساءل ‘ما حكم الزوجة التى يسعدها إيلام زوجها؟’
وقد كان المريض أكبر إخوته، ومات بعده أربعة أخوة وبقى الأخير وهو مازال طالبا فى الإعدادى، وقد كان ذلك سببا فى تعلق أمه به تعلقا شديدا ربما شارك فى إحداث الشقاق الزوجى.
وهكذا ترى أن السبب المرسب رغم قسوته والعجز عن إزالته حدث فى جو يدعو إلى الاكتئاب وينميه كما صاحبه اعتقادات بيئية شائعة مثل الاعتقاد فى السحر والأعمال، لذلك كان العلاج أساسا فى هذه الحالة هو العلاج الاجتماعى والعلاج النفسى مع العقاقير المضادة للاكتئاب.
7 – عصاب المخاوف
PHOBIC NEUROSIS
(ورمزه فى الدليل المصرى ’10 / 2′)
وهذا العصاب يصف حالات من المخاوف المرضية تتصف بخوف شديد من موقف أو شيء يعرف المريض أنه ليس خطرا إلى هذه الدرجة، ويصاحب هذا الخوف عادة شعور بالإنهاك وصل إلى الإغماء وسرعة فى نبضات القلب وعرق غزير وأحيانا ميل إلى القيء ورعشة وقد يصل إلى درجة ‘الهلع’. ويتميز هذا العصاب عن المخاوف الوسواسية التى سبق ذكرها مع العصاب الوسواسى فى أن مصاحباته من اضطرابات الجهاز العصبى الذاتى شديدة وطاغية، كما أنه لا يصاحبه مقاومة محددة يعقبها توتر مزعج، وأخيرا فإنه عصاب انفعالى (AFFECTIVE) بالدرجة الأولي، فى حين أن المخاوف الوسواسية يغلب عليها الجانب العقلانى (INTELLECTNAL) المتكرر، وهذه التفرقة هامة لأن العلاج يختلف وتوقع سير المرض يختلف، ففى حين نجد أن علاج المخاوف الوسواسية صعب للغاية .. وتوقع سير المرض ومصيره سيء تماما، نجد أن العلاج فى عصاب المخاوف يتركز على وقف التفاعلات العصبية الذاتية المصاحبة (نبضات القلب والعرق والنهجان .. الخ) بعقاقير مختلفة مثل عقار البارنات (من مثبطات أحادى الأمين) وبالتالى قطع الدائرة المفرغة التى تحافظ على المخاوف وتزيد منها .. وكأنه علاج كيميائى يقوم بدور العلاج السلوكى بشكل غير مباشر .. وعادة ما يستجيب المريض لهذا العلاج استجابة طيبة .. ولو استعمل هذا العلاج فى حالات المخاوف الوسواسية التى أصبحت مشكلة عقلانية لما أتى بنفس النتيجة .
كما أن العلاج السلوكى أكثر نجاحا أيضا فى عصاب المخاوف عنه فى عصاب المخاوف الوسواسية..
وأخيرا فلابد من الإشارة إلى أنه من ناحية الحدوث فإن هذه المخاوف قد تنشأ من حادث شديد ترسب فى الأعماق وارتبط ارتباطاشرطيا بموقف بذاته مثل طفل أغلق عليه المصعد بضعة ساعات فأصبح يخاف بعد ذلك من الأماكن الضيقة والمغلقة، كما أنها من الناحية الدينامية .. قد تعبر عن إزاحة المخاوف الداخلية اللاشعورية إلى مخاوف خارجية يمكن إسقاط الانفعال عليها..
والحالة التالية تمثل هذا العصاب المخاوفى:
حالة: ‘السيدة ع. ل.“ فى الخامسة والأربعين من عمرها، تعمل ربة منزل ذات تكوين من النوع البدين ومزاج انفعالى نوابى ..، أنجبت طفلتها الأخيرة منذ عشرة شهور قبل الاستشارة .. ولها خمسة أولاد آخرون أكبرهم فى الخامسة والعشرين من عمره جاءت تشكو من الخوف من أن تقتل ابنتها الرضيعة، وتقول أنها تحبها حبا شديدا.. وأنها لا تتصور بحال من الأحوال أن هذا ممكن الحدوث ولكنها تصاب بالفزع الفجائى حين ترضعها أو تقترب من الشرفة وهى تحملها خشية أن تستجيب لهذا الدافع الغريب .. ‘.. والنبى يا دكتور أنا مش عارفه إيه اللى جرى فى عقلى .. هو ده معقول .. دى البنت اللى أنا شاحتاها من ربنا . دى ضناى . حد يقتل ضناه .. إنما أعمل إيه فى مخى . ساعات يتهيأ لى إنى حارميها من إيدى راسها تتدشدش .. وساعات يتهيأ لى انى حاحط المخدة على راسها نفسها يتكتم.، وقلبى يدق على واترعب واعرق وابقى حادوخ.. أنا مش عارفه جرى لى إيه’، وقد تبين من الفحص أنها ولدت هذه الطفلة بعد إنجاب خمسة أولاد عمر أصغرهم اثنى عشر عاما، وأنها كانت حريصة عليها .. وغامرت بالحمل والولادة فى هذه السن لتحقيق رغبتها.. فلما تحققت لم تصدق . وكأن أملها كان أكبر من الواقع بحيث كانت تتصور أن كل مشاكلها ستحل بمجرد تحقيقه.. وكأن توازنها النفسى سيتحقق بهذا الأمل الخيالى كركيزة تلتف حولها، فلما صدمها الواقع بحجمه المتواضع اختل هذا التوازن وظهرت المخاوف..
وقد عولجت بمضادات الاكتئاب من نوع مثبط أحادى الأمينات (البارنات) مع جرعة خفيفة من المهدئات العظيمة من نوع الفينوثيازين، وتحسنت حالتها تماما مع جلسات العلاج النفسى التدعيمى..
وهكذا نرى كيف أن المخاوف هنا انفعالية يصاحبها نشاط فى الجهاز العصبى الذاتى .. وكيف أنها لا تحمل طابع التكرار والتوتر الملازم .. ولكن يصاحبها الخوف والجزع والأغراض الفسيولوجية أساسا، وكيف أنها استجابت للعلاج بسرعة..
8 – عصاب توهم المرض (الهيبوكوندريا)
HYPOCHONDRIA
(ورمزه فى الدليل المصرى: ’10 / 6′)
ويتصف هذا العصاب بالتركيز الزائد للمريض على جسمه مع مخاوف متعددة واعتقادات مؤكدة (لا تصل إلى درجة الضلال) بوجود مرض هنا أو هناك، وتستمر هذه المعتقدات تشغل بال المريض حتى تصرفه عن أغلب الاهتمامات الخارجية.، ويختلف هذا المرض عن الهستيريا وعن الاضطرابات السيكوسوماتية بأنه لا يصحبه اضطراب حقيقى فى وظيفة أى عضو، كما أن التعبير عن الأعراض لا يتم خلال الجهاز العصبى الذاتى أو الحسى الحركى وإنما هو اضطراب فى محتوى الفكر أساسا وفى ‘صورة الجسم’ فى المخ.
الأسباب:
1- الوراثة: كثيرا ما يوجود هذا العصاب فى عائلات شديدة الاهتمام بالمرض، يشكو أكثر من فرد من أفرادها بنفس المرض أو بعصاب آخر.. وأحيانا ما يوجد تاريخ ذهانى فى العائلة.
2- البيئة: تتصف أسرة المريض عادة بالتركيز على الصحة الجسمية والإكثار من التردد على الأطباء والخوف من المرض مما يجعل اهتمام المريض يتركز منذ كان طفلا على جسمه ووظائفه، فإذا ما واجه ضغطا ما فى البيئة ظهر المرض.
3 – أسباب مرسبة: قد يكمن السبب فى صراع لاشعوري، أو رفض موقف مزمن، أو تهديد داخلى بظهور ذهان كامن، وقد تكون كل هذه العوامل سببا فى ظهور هذا العصاب.
الأعراض:
تتركز الأعراض أساسا فى الشكوى من أعراض جسمية وآلام متنقلة وصداع وما يصاحبه من وهن وقد تكون هذه الشكاوى مبررا لأعراض نفسية أخرى مثل ضعف التركيز أو الانصراف عن الاستذكار ..، وينبغى أن نلاحظ أنه إذا زادت الأعراض حتى شوه فكرة المريض على نفسه، وأخلت إخلالا مستديما بتوازن شخصيته، وأبعدته عن الواقع تماما وشوهت علاقته به.. فإننا ينبغى أن نخشى أن يكون وراءه ذهان كامن.
العلاج:
يصعب علاج هذه الحالات بصفة عامة:
1- العلاج العضوى: قد يفيد علاج العقاقير مثل مضادات الاكتئاب والمهدئات فى التخفيف نم التوتر المصاحب وأحيانا ما يزيد الاكتئاب المصاحب لدرجة تبرر علاج المريض بالصدمات الكهربائية .. إلا أنه فى كثير من الأحيان ماتزيد الأعراض نتيجة للآلام المصاحبة للصدمات، لذلك فيستحسن تجنب الصدمات الكهربائية ما أمكن.
2 – العلاج النفسى: وهو العلاج الذى يهدف إلى تحويل اهتمام المريض إلى العالم الخارجى بعيدا عن التركيز على جسمه وقد يلجأ فى ذلك إلى العلاج السلوكى أو العلاج التدعيمى ونادرا إلى العلاج التحليلى العميق.
3 – أما العلاج الاجتماعى: فدوره هنا أقل لأن الأسباب الخارجية رغم أهميتها تكون عاملا مرسبا فقط، ونادرا ما تزول الأعراض تماما لأن المشكلة عميقة الجذور داخل النفس.
والحالة التالية تظهر حالة عصاب من هذا النوع:
“حالة: السيد .ع. ل“ عمره 37 سنة، متزوج منذ 12 سنة ولم ينجب .. يعمل موظفا فى بنك، جاء يشكو من آلام حول صدره وفى أسفل ظهره.. و ‘مغص فى سمانة رجلى وانفجار فى مخى وزى شكشكة فى طراطيف صوابعى .. والكبد مش منتظم مع المرارة .. ومعدتى مش كويسة’.. وكان كلما أقنع بأن هذا العضو سليم حسب الكشف والتحاليل أشتكى من عضو آخر .. وهكذا ..
وقد كان لا يستمر على علاج يعطى له أبدا ولا يحضر فى مواعيد العلاج النفسي، وكان يبدو فى قرارة نفسه وكأنه لايريد أن يتخلص من هذه الأعراض رغم شدة شكواه بالألفاظ منها .. ثم انقطع تماما عن العلاج بعد عدة أسابيع.
وهكذا نرى كيف أن هذا العصاب من أشد أنواع العصاب مقاومة للعلاج، وهو يماثل فى ذلك عصاب الوسواس القهرى.. والإثنان يعتبران من العصابات التى تخفى وراءها فى كثير من الأحيان ذهان كامن ومن هنا تأتى مقاومة المريض للعلاج حتى لا يتعرض لخبرة الذهان المرعبة.
9- العصاب الموقفى والتفاعل
Reactive And Situational Neurosis
(ورمزه فى الدليل المصرى “10 /7”)
ويشمل هذا النوع مجموعة التفاعلات العصابية التى تحدث كنتيجة مباشرة لمؤثر فى البيئة أو موقف خارجى ..، ويتميز هذا النوع عن سائر أنواع العصاب بأن السبب الخارجى يحدد تماما وقت ظهوره وكذلك محتواه وأنه يستمر طالما استمر السبب قائما، كما أنه يختفى إذا زال السبب، وكذلك فإن التفاعل المرضى يتناسب إلى درجة ما مع شدة السبب المحدث له..، وقد يأخذ هذا لنوع من العصاب شكلا محددا بمعنى أنه قد يكون عصابا اكتئابيا مثلا.. ولكنه من النوع التفاعلي، ويمكن تمييزه عن العصاب الاكتئابى بهذا التناسب والتلازم والتوقيت بين السبب وبين ظهور الأعراض ..
وبديهى أن هذا النوع من العصاب لا يحتاج إلى أمثلة تفصيلية، فلنا أن نتصور الاكتئاب العصابى الذى يترتب على حادث مثل الرسوب فى الامتحان والفصل من الكلية أو فقد عزيز مثلا، ولنا أن نتصور القلق العصابى الذى ينشأ من غياب ابن (عمره 6 سنوات مثلا) عن والدته دون أن تعرف أين ذهب..ويظل هذا القلق عارما ..ويصل إلى درجة المرض العصابى حتى يعود الطفل .. وهكذا..
والعلاج هنا يتركز أساسا فى محاولة إزالة السبب من ناحية، وإعطاء بعض العقاقير المساعدة فى تهدئة الأعراض من ناحية أخري، ثم تطوير الشخصية لتحسين نوع التفاعل من ناحية ثالثة.
الموجز
الأمراض النفسية الوظيفية
العصاب
يعتبر العصاب من أكثر الاضطرابات النفسية حدوثا بوجه عام، وهو صورة متواترة للاستجابات الخاطئة لمصاعب الحياة، وهو يعبر عن صعوبة فى التكيف مع الآخرين أساسا بما يعكسة ذلك من اضطراب داخلي، والقلق هو الاضطراب الأساسى فيه وهو قد يظهر كما هو (عصاب القلق) أو قد يضبط ويحول بوسائل دفاعية أخرى تسبب الأنواع الأخرى من العصاب مثل الهستيريا أو الوسواس.
1 – عصاب القلق (الرمز 10 / صفر)
إذا زاد القلق عن الحد العادي، وعوق التكيف الاجتماعى وعطل إنتاج الفرد وفاعليته وعكر هناءه وطمأنينته واعتبرناه قد وصل إلى حد المرض سمى ذلك ‘عصاب القلق’.
الأسباب:
1 – الوراثة: قد يوجد المريض ضمن أسرة عصابية، فهو يرث هذا الميل إلى القلق.
2 – اضطراب الجو الأسرى: المشاجرات والتردد فى التربية وعدم الاستقرار بين الوالدين.
3 – الصراع النفسى بين رغبات متعارضة أو دوافع متنافره.
4 – أسباب مرسبة مثل توقع الفشل أو توقع الهجر.. إلخ
الأعراض:
1 – الأعراض النفسية: التوتر العام، والمخاوف غير المحدودة، وضعف القدرة على التركيز والعمل والانتاج، وإرهاف الحس وعدم الاستقرار، والأرق واضطراب النوم والكابوس.
2 – الأعراض الجسمية: خفقان القلب، والاحساس بنبض الأوعية الدموية والنهجان، وفقد الشهية، والشعور بالغثيان والقيء والإمساك (أو الاسهال أحيانا) وكثرة التبول، وطنين الأذنيين واضطراب الطمث (عند النساء) والعنه (عند الرجال).
العلاج:
1- العلاج النفسى: لإزالة الأعراض ثم تطوير الشخصية:
2- العلاج الاجتماعى: لتحسين حالة المنزل وإزالة الأسباب البيئية.
3- العلاج العضوى: بالعقاقير المهدئة (على ألا تكون هى الأساس خشية الإدمان).
2 – الهستيريا (الرمز 10 / 1)
الغرض الأساسى من ظهور أعراض الهستيريا هو الهرب من القلق الشديد غير المحتمل ويحدث ذلك دون وعى المريض وتكون نتيجته ظهور (1) مظهر عضوى دون وجود مرض عضوى أو (2) نوبات عقلية مثل فقدان الذاكرة. وبظهور هذه الأعراض تزول حالة القلق فيبدو المريض هاديء البال مطمئن النفس تجاه العرض بوجه خاص.
الأسباب:
1 – الوراثة
2 – التقليد (الإيحاء البيئى).
3 – يتصف المريض عادة قبل المرض بالمبالغة والتهويل وميله إلى حب للظهور وأحيانا ضعف الذكاء وقلة الحيلة.
4 – أسباب مرسبة: كلصراع أو الأصابة فى حادث.
المظاهر المرضية:
(1) المظاهر العضوية:
(أ) مظاهر حركية: إيجابية: كالرعشة والتشنجات والتقلصات سلبية: كالشلل والبكم.
(ب) مظاهر حسية: مثل زيادة الإحساس أوفقده (كالعمى والصمم).
(ج) مظاهر حشوية: مثل فقد الشهية والقيء.
ويمكن تميز المظاهر الهستيرية عن شبيهاتها من الاضطرابات العضوية بأنها لا تتفق مع الوصف العلمى الدقيق للمرض الأصلى كما أنها تختلف قوة وضعفا من وقت لآخر وأن الأعراض يمكن تحويرها بالإيحاء كما أن ظروف البيئة وشخصية المريض قد تفسر ان كثيرا من الأعراض.
(2) المظاهر النفسية:
1 – فقدان الذاكرة 2- التجوال 3 – المشى أثناء النوم
4 – الإجابات التقريبية 5- الطفيلية الهستيرية 6- العته الكاذب
العلاج:
1 – النفسى: وينبغى ألا يقتصر على الإيحاء وإزالة الأعراض وإنما عليه أن يهدف إلى تغيير تفاعل المريض لصعوبات الحياة.
2 – الاجتماعى: ويهدف لتخفيف ضغوط البيئة.
3 – العضوى: للأعراض المصاحبة مثل الامتناع عن الأكل والقيء وفقد الوزن.
3 – النوراستينيا (الرمز 10 / 5)
قليلا ما نشاهد هذا المرض وحده، ولكنا نراه عادة مع غيره كعرض ثانوى لمرض آخر كالاكتئاب العصابى (كمظهر للتأخر الحركي) أو الفصام (كمظهر لفقد الإرادة) أو الهستيريا (كمظهر هروبي).
الأسباب:
توجد أسباب وراثية، وأسباب تتعلق بالتكوين الجسمى النحيف، أو التسمم المزمن أو نقص الفيتامينات، كما توجد أسباب تتعلق بالنزعات.
الطفلية للاعتماد وسرعة الإنهاك وقد يستنفد الصراع الداخلى الطاقة فلا يبقى للنشاط الخارجى فائض طاقة فتظهر الأعراض.
الشكوى والأعراض: إرهاق جسمى ونفسى مبرر، مع عدم القدرة على التركيز وآلام عامة غير محددة.
العلاج:
التمرينات الرياضية التدريجية، والحمامات الباردة والدافئة، والراحة لفترة محددة إن كان السبب هو الإنهاك ثم العلاج النفسى والاجتماعى لإزالة الأسباب وتطوير الشخصية وتغيير نوع التفاعل لضغوط الحياة.
4 – عصاب الوسواس القهرى (الرمز 3/10)
هو عصاب يتميز بظواهر القهر والإلزام والتكرار.. وهو عبارة عن فكرة متسلطة أو فعل (طقوسي) متسلط، أو مخاوف متسلطة تلح على المريض فيحاول مقاومتها لعلمه بسخفها وخطئها، فيتولد توتر عنيف، فلا يطيقه، فيتسلط عليه السلوك فيقوم به.
الأسباب:
يحدث عادة فى شخصية وسواسية تميل إلى النظام والنظافة وتتصف بيقظة الضمير وصلابة الطبع، ويكون صاحب هذه الشخصية عادة من ذوى التكوين الجمسى النحيف، ويهيئ لظهوره النظام القاسى المحكم فى التربية ويرسبه أحيانا ضغط بيئى طارئ أو إثارة صراع داخلى أو الإحباط أو التهديد به.
المظاهر الأكلينيكية:
(1) المخاوف الوسواسية: وهى شعور ملزم متكرر بالخوف من موضوع بذاته، ورغم علم المريض بسخف ذلك فإنه لا يستطيع التخلص من التفكير فى هذا الخوف وأمثلة ذلك: الخوف من المرض أو من الموت، وتختلف هذه المخاوف بأنها تتصف بالتكرار المصاحب بالتوتر والمقاومة، وأنها تميل إلى أن تكون عقلانية أكثر مما تميل إلى أن يصاحبها اضطراب فى الجهاز العصبى الذاتى.،، وعلاجها بالتالى أصعب.
(2) الوساوس القهرية: وهنا ينشغل المريض بأفكار غير ذات أهمية – وهو يعلم ذلك – ، وهى تعاوده تكرارا فلا يستطيع التخلص منها، وهذه الأفكار عادة ما يصاحبها مخاوف أو عمل طقوس قهرية.
(3) الفعل القهرى (الطقوس): وفى هذه الحالة يجد المريض نفسه ملزماً بأن يقوم بعمل معين لا يجد له ما يبرره، ويحاول أن يقاومه دون جدوي، ولا يهدأ توتره – مؤقتا – إلا إذا قام به.
العلاج:
العلاج عموما فى هذه الحالات صعب وطويل والاستجابة له ضعيفة وبالتالى فإن توقع سير المرض ومصيره سيئ عادة.
1- العلاج العضوى: هنا يشمل الصدمات والتنويم الكهربائى والمهدئات الشديدة، ويصل إلى العلاج الجراحى بشق الفص الأمامى للمخ.
2- العلاج النفسى: ويشمل العلاج السلوكى بتغيير للعادات (وإن كان البعض لا يعتبره علاجا نفسيا أساسيا)والعلاج التدعيمى وأحيانا التحليل النفسى.
3- العلاج الاجتماعى: ويوجه نحو إزالة الضغوط الإجتماعية وتغيير ظروف النظام المحكم إن وجد، بالتدريج وأبداله بعواطف دافئه محيطة.
5 – عصاب الشك (الرمز: يوضع تحت 9/10)
يتميز هذا المرض بميل المريض إلى الشك وسوء التأويل وفرط الحساسية إلا أن هذا كله عرضه للاختفاء بالاقناع والمنطق السليم.
الأسباب:
تتميز شخصية المريض بالحساسية والصلابة والإعتداد بالرأى والتركيز على الذات والخوف من النقد، كما يظهر فى سن متأخرة نوعا (منتصف العمر) وقد تكون هذه المظاهر لبعض التسميمات مثل التسمم الكحولى.
الصورة الاكلينكية:
1- الشك. 2- القلق.
3- الاكتئاب الناتج عن ذلك والمصاحب له. 4- الشعور بالنقص.
5- سوء التأويل الذى يقبل النقاش والتعديل.
العلاج: و يشمل:
1- العلاج النفسى: بالإيضاح والتدعيم والقناع والود، وعادة ما يستجيب المريض لكل ذلك.
2- العلاج العضوى: فى صورة المهدئات ومضادات الاكتئاب حسب الحالة.
3- العلاج الاجتماعى: بالحد من المثيرات والمواقف التى تثير شكوك المريض.
6 – عصاب الإكتئاب (الرمز 4/10)
يتصف هذا المرض بنوع من الإكتئاب الذى يأتى أساسا للتخلص من القلق [وقوع البلا (فى الخيال) ولا انتظاره]، وهو بذلك وسيلة دفاعية ضد القلق أساسا.
الأسباب:
يحدث هذا المرض فى الأشخاص ذوى المزاج الحاد، والذين لا يحتملون القلق مدة طويلة ويميلون إلى التشاؤم، وهو يحدث لأكثر من فرد فى العائلة، كما يوجد له عادة سبب فى البيئة.
الأعراض:
1- الحزن 2- التعب بلا مبرر 3- التشاؤم والأفكار السوداء.
4- الأرق فى أول الليل، ونوم متقطع وأحلام مرعبة.
5- فقد الشهية مع أعراض جسمية متنوعة.
العلاج:
بإزالة السبب من البيئة إن وجد وإعطاء مضادات الإكتئاب الخفيفة. والصدمات الكهربائية لا تعطى إلا نادرا حين يشتد الإكتئاب ليصبح قريبا من الحدة الذهانية.
7- عصاب المخاوف (الرمز: 10/2)
وهنا يكون المريض خائفا خوفا شديدا من موقف أو شئ يعرف أنه ليس بهذه الخطورة، ويصاحب هذا الخوف اضطراب فى الجهاز العصبى الذاتى (السمبتاوى خاصة) مثل الخفقان وعرق اليدين والشحوب، وتتميز هذه المخاوف عن المخاوف الوسواسية بالميل إلى تغليب الإنفعال والخوف حتى الهلع … وكذلك تهييج الجهاز العصبى الذاتي، أما فى المخاوف الوسواسية فيغلب عليها الجانب العقلانى وتقل المصاحبات الفسيولوجية.
والأسباب هنا: تتعلق بالتثبيت عند موقف مخيف فى تاريخ المريض، أو بإزاحة خوف داخلى مرعب إلى شئ خارجى ملموس.
والمظاهر الاكلينيكية: تكون متعددة ومثالها الخوف من الأماكن الضيقة أو من الأماكن المزدحمة أو من الأدوار العالية. الخ
والعلاج: يتركز أساسا على العلاج السلوكى وإعادة التعود على عادات أحسن، وكذلك بإعطاء عقاقير (مثل البارنات) توقف المصاحبات الفسيولوجية ومن ثم تقطع الحلقة المفرغة وتساعد العلاج السلوكى.
8- عصاب توهم المرض (الهيبو كوندريا) (الرمز: 10/6)
يتصف هذا العصاب بالتركيز على الجسم، حيث يعتقد المريض اعتقادات مؤكدة (لا تصل إلى حد الضلال) بوجود مرضى هنا أو هناك، ويبلغ تركيزه واهتماماته بجسمه وتخوفه من الأمراض وإنشغاله بها إلى حد يصرف انتباهه عن مسئوليات الحياة العادية.
وأسباب هذا العصاب كالعادة هى:
الوراثة: حيث يوجد هذا المرض عادة فى أكثر من فرد فى العائلة.
والبيئة: حيث ينشأ المريض عادة فى بيئة تركز على المظهر والصحة الجسمية بشكل مفرد وتكثر من زيارات الطبيب دون داع.
وأخيرا: فالأسباب المرسبة: قد تكون صراعا أو ظرفا ضاغطا فينشأ هذا العصاب استجابة لذلك.. وقد تكون نشأته لمنع ظهور ذهان كامل.
أما العلاج: فهو صعب للغاية، وعادة ما يتمسك المريض بأعراضه ولا يستجيب للعقاقير، إلا أنه بالصبر والاقتراب النفسي، وإعادة التعود وبالعقاقير المضادة للاكتئاب، أو المهدئات أو الأثنين معا (حسب الحالة) قد تخف الأعراض وقد تستجيب جزئيا للعلاج.
9- العصاب الموقفى والتفاعلى (الرمز: 10/7)
إذا حدث أى نوع من العصاب مما سبق ذكره، (أو لم يتميز بعد) نتيجة لموقف بذاته أو لسبب خارجى تماما وتناسب التفاعل العصابى فى شكله وطبيعته مع هذا الموقف، وزال بزواله (افتراضا على الأقل) فإن هذا العصاب يسمى تفاعليا أو موقفيا، ويمكن أن يأخذ أى شكل من الأشكال السابقة إلا أنه فى هذه الحالة يسمى موقفيا (مثال: الاكتئاب التفاعلي) وعلاجه أساسا هو العلاج الاجتماعى ويليه العلاج النفسى وبدرجة أقل العلاج العضوى.
الفصل السادس
(تابع) الأمراض النفسية الوظيفية
إضطرابات الشخصية والطباع
PERSONLITY AND CHARACTER DISORDER
(الرمز فى الدليل المصرى “11”)
يطلق هذا الاسم اضطرابات الشخصية الطباع على مجموع من الشخصيات التى تتصف بصفات شديدة التطرف عن صفات الشخصيات العادية، وعلى ذلك فنحن هنا إذا قلنا أن الشخصية وسواسية مثلا، لا نعنى ذلك الميل المعتد إلى النظام والدقة .. أو هذا التحفظ الخاص بشأن النظافة أو المواعيد مما قد يصف شخصا عاديا دون أن يندرج تحت لفظ اضطراب. ولهذا ينبغى – ومنذ البداية – أن نميز بين نوع الشخصية وهو الذى نجده فى الحياة العادية وبين الأفراد والأسوياء، وبين اضطراب الشخصية وهو الذى نشير إليه هنا.
وعلى ذلك ينبغى التنبيه أننا لا نصف شخصا بأن عنده هذا النوع من اضطراب الشخصية لمجرد أن عنده هذه الصفات أو تلك، ولكنا نصفه بذلك إذا أصبح سلوكها مصدر معاناة أو لمن حوله من أسرته ومعارفه أو مصدر تصادم بالمجتمع أو القانون.
الصفات العامة لهذه المجموعة: وعلاقتها بالعصاب والذهان.
وتتصف هذه المجموعة بصفة عامة بوجود صفات مميزة فى الشخصية تؤدى إلى سلوك معين يصعب عملية تكيف الإنسان. هذا السلوك غير التكيفى يختلف بوضوح عن السلوك فى كل من العصاب والذهان معا.
فهو يختلف عن العصاب بأن الشخصية فى العصاب إذ تحاول أن تتكيف بصعوبة للضغوط الداخلية والخارجية إنما تظهر صعوبتها هذه فى شكل أعراض فى المجال النفسى والجسمى على حد سواء فى حين أنه فى اضطراب الشخصية تظهر هذه المحاولة المرضية للتكيف فى شكل أنماط ثابتة من السلوك التى تصف كل نواحى الشخصية أو جانبا هاما من جوانبها.. وبمكن ـ إرجاع وجود هذه الأنماط السلوكية إلى الطفولة المبكرة .. وعلى هذا فإن بداياتها تكاد لا تحدد حتى يمكن أن يقال إن بداية المرض غير موجودة تقريبا بمعنى أن صاحب هذا الاضطراب كان طول عمره كده أو من صغره كده على حسب التعبيرات الشائعة ..
أما بالنسبة للذهان فرغم القول حديثا بأن اضطراب الشخصية مكافئ للذهان ديناميا (بمعنى أنهما نوع من الوجود متحوصل على نفسه، ليس له علاقة حقيقية بالواقع لأن الرؤية فيهما ذاتية صرفة. نقول بالرغم من هذا التكافؤ الدينامى بين اضطراب الشخصية وبين الذهان إلا أننا نميز الذهان بأن له بداية واضحة فى العادة يعقبها تغير نوعى فى الشخصية أو تغير كمى شديد يشمل كل نواحى الشخصية تقريبا، وكذلك فإنه لا يوجد فى اضطراب الشخصية تلك الأعراض الذهانية الصريحة كالهلوسات والضلالات وتناثر الشخصية والنكوص وتشويه الواقع وقلبه على عقبيه.
تقسيم اضطرابات الشخصية والطباع:
كان – ومازال – من أصعب الأمور فى الطب النفسى هذا التقسيم لاضطرابات شائعة فى المجتمع ومتداخلة فى بعضها البعض.
على أنه إذا اعتبرنا أن التقسيم دائا يحمل درجة من التداخل وخاصة فى الأمراض النفسية وخاصة فى هذا النوع المزمن من الاضطرابات لأمكن أن نقسمها على الوجه التالى:
أولا: اضطرابات نمط الشخصية
Personality Pattern Oisorder
(ورمزها فى الدليل 11/صفر)
وهذه المجموعة تشير إلى الاضطرابات التى تشمل الشخصية ككل فى معظم النواحى، وكأن السلوك جميعه فى كافة المجالات قد اتخذ نمطا خاصا متميزا على مدى الحياة هذا التميز هو تطرف شديد فى صفات نمط الشخصية التى يجوز الفرد (ما لم تتناثر الشخصية تحت ضغط مروع أو تعطى فرصة لإعاده تنظيمها بمرور الزمن وأزمات النمو)، وبمعنى آخر فإن الاضطراب النمطى التكيف بينما أن التكيف يتحقق فى أنماط الشخصية جميعها. وحتى فى الشخصية المضادة للمجتمع فإننا نلاحظ وجود هذه الميول بصورة مقبولة فى كثير من الأفراد إلا أنها إذا تجاوزت الحد المألوف حتى تخل بالتكيف أصبحت نوعا من أنواع اضطراب نمط الشخصية . وسوف نورد هنا بعض الأمثلة الشائعة لهذا الاضطراب النمطى.
1 – الشخصية الشيزويدية [1]: (شبه الفصامية)
Schizoid Personlity
(ورمزها فى الدليل المصرى 11/صفر صفر)
وتتصف هذه الشخصية بأن حياتها الانفعالية خالية من الاستجابات الوجدانية السلسة وكذلك من الرنين الوجدانى الداخلي، وتبدو تفاعلاتها الانفعالية على طرف نقيض من شدة الحساسية والاستثارة على ناحية إلى اللامبالاة والبرود على الناحية الأخري، وغض النظر عن التصرفات الظاهرية للشخص الشيزويدى فإنه يشعر شعورا عميقا بالوحدة وأن أحدا لا يفهمه وأنه غير راض باستمرار، كما أنه متحوصل حول ذاته، دائم الاستبصار والتفكير فى ذاته، شديد التحيز الشخصى فى تفكيره حتى لا يكاد يتعرف على الواقع خارجه، وقد يتصف بالخجل والعناد والغموض وأحيانا المثالية والميل إلى الشك والانطواء .. مما قد يعوق انطلاقه الخلاق حتى ليقوم بواجبه بشكل متواتر رتيب..
ويمكن أن تقسم هذه الأنواع إلى أنواع فرعية أهمها:
(أ) الشيزويدى الحساس المستثار: وهو الذى ينفعل لأقل لمسة، ويثور لأقل هفوة، وينسحب تحت أقل ضغط
مثال“… .. ع. م “ شاب فى السادسة والعشرين من عمره يعمل محاسبا فى شركة جاء يقول .. من بين شكواه أنا طول عمرى وأنا وحدي، ما أحبش حد يدوس لى على طرفي، أنا أفضل استقيل أو اموت ولا إن رئيسى ما يفهمنيش لدرجة إنه يوجهلى كلام جارح .. وعشان كده أنا مش حاتجوز طول عمرى .. لأنى ما اعرفش هيه حاتكون رأيها فى إيه الخ.
(ب) الشيزويدى الرقيق الخجول: وهو الذى يبدو مهذبا يعمل حسابا للآخرين ولا يجرح شعور أحد بدرجة مفرطة (وهو فى الواقع يحافظ على ألا يجرح أحد شعوره بالتالي) وهو يتبع آداب السلوك بشدة ويبالغ فى الود الظاهرى رغم شعوره الدفين بالوحدة والتفرد.
مثال“ ن . س.“ باحث فى أحد مراكز البحوث. كان من ضمن أقواله بعد أن انتظر دوره حتى نهاية المرضى. وسمح لمن بعده أن يدخل قبله وظل منزويا فى حجرة الانتظار خلال ساعات دون أن يستعجل دوره يقلب فى الصحف القديمة مرات ومرات: قال من بين ما قال .. .. الظاهر الدنيا دى مش للى زيى، أنا حاسس إنى باحاسب على الناس طول عمرى زى ما اتربيت، إنما ما حدش قادر يقدر ولا يفهم ….. على ما روح آخر النهار من كتر ما باحاول أعيش مضبوط ألاقينى زى ما اكون كنت فى معركة حربية مع الصفاقة وقلة الذوق …. أنا مش عارف هاقدر أكمل كده وللا إيه؟
(ج) الشيزويدى المتبلد: وهو نقيض الصنفين السايقين وبالرغم من شعوره الداخلى بالوحدة إلا أنه يضرب عرض الحائط بمشاعر الآخرين للحصول على رغباته ولا ينتبه لاعتراضاتهم، ولا يحاول أن يقف عند حقوقهم وكأنه يئس من أى علاقة حتى ألغى وجود الآخر تماما.
مثال: .. ل. ا. ..“ موظفة فى مكتبة عامة من أقوال صديقتها .. هى طول عمرها مالهاش إلا نفسها، تدخل ما تستأذنش كإن مافيش حد فى الأودة، ولو شافت الدنيا تتهد قدامها ما تتحركش مادام مش حاجتها الخاصة، ومرة دهست كلب بعربيتها ما وقفتش حتى تشوف جرى إيه.. وبصراحة أنا حسيت أنها بتضحك وبتحاول تخفى ضحكتها ساعة مادهسته لأنى كنت قاعدة جنبها.. إلخ
(د) الشيزويدى الخيالى: وهو الشخص دائم التهويم فى أحلام اليقظة، ورسم خطط مستقبلية لا يمكن تحقيقها، فى نفس الوقت لا يتنازل عنها ليقينه أن هذا هو المثال الواجب.
مثال: … س. ا.“ طبيب مبتدئ كان من بين ما قاله .. أنا عندى مشروع لتغيير كل عمل الوحدات المجمعة دى .. وجعلها منارات ثقافية فى جوف الريف .. وأعتقد أن الفلاح المصرى قادر فهم شكسبير بس هوا ما خدش فرصة .. ومش كفاية إنه يتعلم يفك الخط، الانسان من غير لغة أجنبية لا يمكنه أن يطلع علىثقافات الغير..
وحين روجع فى هذا الكلام .. لم يتمسك بضرورة تنفيذه فورا وإنما قال أن هذا هو الأمل الذى يجعله يصبر على العمل فى الريف سنة التكليف وأنه لا يمكن أن يتنازل عنه لأن الخيال جزء من الواقع فى المستقبل، وبالتالى فلم يمكن دمغه باضطراب التفكير، لأنه كان هكذا طوال حياته المنعزلة.
(هـ) الشيزويد المتلون [شخصية كأن][2]: وهذا النوع من هذه الشخصية يتميز بأنه من فرط خواء ذاته وشعوره بعدم التقبل وخوفه من الترك والهجر يتلون بلون المجتمع أو الشلة أو الموقف الذى هو فيه .. ، وهو يختلف عن الأمعة أو التابع حيث أن هذا الأخير قد يندرج تحت الشخصية السلبية الاعتمادية أما المتلون فإنه يتلون تلقائيا وبدون وعى منه، فهو مع المهرجين مهرج، وهو مع المفكرين مفكر، وهو مع المتدينين متدين، وهو ليس تابعا بقدر ما يبدو مقتنعا (فى الظاهر) بما يفعل، حتى لقد يبن أفراط المجموعة فى مضمارها أحيانا.. إلا أنه يفتقد إلى الأصالة ويتصف بثقل الدم والخواء حيث لا معالم خاصة له..
2– الشخصية البارنوية: :Paranoid Personality ورمزها فى الدليل المصرى 11/صفر واحد).
يتصف هذا النمط من السلوك بالحساسية المفرطة، والتصلب فى الرأي، والمبالغة فى الشك، والميل إلى الغيرة، ومشاعر الحسد والحقد الغالبة، والمبالغة فى تقدير الذات مع ميل إلى لوم الآخرين واتهام العالم من حوله بالشر والعدوان، وقد تتدخل هذه الصفات فى علاقاته الشخصية فتعجزه عن علم علاقات ناجحة خاصة:
“مثال .. م. ز. “ فى اخامسة والأربعين من عمره، مطلق ويعمل فى إدارة المطبوعات .. من ضمن أقواله .. أنا مش عارف إنتو عايشين ازاي
فى وسط العالم الوحوش دول اللى ما يمشوش إلا بضرب الجزم، أنا لو مكانك كنت سويت الهوايل، ناس ما عندهاش ذمة ولا ضمير. هوا أنا طلقت مراتى من شئ شوية، كل الحريم زى العبيد لازم لهم الكرباج.. بصراحة أنا ما شفت زيى فى الدنيا دى.. إنما أنا بختى مش ولابد.. دنيا..
3- الشخصية النوابية Cycolid Porsonality: (ورمزها فى الدليل المصرى 11/صفر اثنين).
وتتميز هذ الشخصية بفترات متانوبة من الاكتئاب والمرح، ولكن أيهما لا يصل إلى درجة المرض المحدد وظهور الأعراض المميزة (وإن كان صاحب هذه الشخصية يتميز بأنه عرضة لهذه الأمراض الدورية) وتتصف فترة الاكتئاب بالتشاؤم وهبوط الطاقة والاحساس باللاجدوى.
مثال: من أشهر الشخصيات التى وصفت نفسها (وشخصت كذلك) بهذا التناوب هى شخصية الشاعر الفنان الذى وصف التناوب فى شعره العامى بالنسبة للربيع، فلما جاء ربيع الاكتئاب قال فيه
نسمة ربيع لكن بتكوى الوشوش
هى الحياة كلها فى الفاشوش
…… …… ……
وفى ربيع آخر غلبته موجه المرح قال:
مرحب ربيع مرحب ربيع مرحبا
يا طفل يا للى فى دمى ناغى وحبا
علشان عيونك يا صغنن هويت
حتى ديدان الأرض واللغربا
4– الشخصية الوسواسية القهرية :Obsessive Compusive Personality
و(رمزها فى الدليل المصرى 11/صفر ثلاثة).
وتتصف هذه الشخصية بالمبالغة فى الاهتمام بالنظام والتمسك بقيم ثابتة وضمير حى تماما، وبالتالى فإن صاحب هذه الشخصية قد يبدو صلب الرأس، شديد القيود الداخلية، شديد شعوره بالواجب والأصول وغير قادر على الاسترخاء، كما يتميز بالدقة المتناهية والنظافة والترتيب.
ولا بأس أن نكرر أن مثل هذا الشخص يتصف بهذه الصفات منذ طفولته، فهى لم تطرأ عليه وليس لها بداية محددة وليس لها أعراض جزئية مرهقة حتى درجة المرض العصابى المحدد وظهور الأعراض المميزة كما هو الحال فى العصاب الوسواسى القهرى.
مثال .. ل. م. “ مدرس لغة رياضية فى إحدى المدارس الثانوية كان من ضمن أقواله: … إزاى البلد حاتتقدم وهيه بالفوضى والهرجلة دي، تصور إن باب المدرسة اللى مفروض يقفلى ثمانية إلا عشرة قفل ثمانية إلا 7 أول امبارح ويوم الثلاث اللى قبل اللى فات قفل الساعة ثمانية إلا خمسة، وتعالى شوف الهرجلة فى الفصل: أدخل أدور على الباشورة لقيتها مش فى مطرحها بعد حصة العربى وحضرة المدرس اللى قبلى سايب الكلام مكتوب على التختة زى ما تكون ملكه . كان جرى إيه لو كان مسحها قبل ما يخرج.. الأولاد حيتعلموا النظام ازاى.
وقد قال عنه زميله أنه هكذا طول عمره حتى اشتهر بأنهم يضبطون عليه ساعاتهم.
5- الشخصية المضادة للمجتمع Antisocial Personlity : ورمزها فى الدليل المصرى 1/صفر. أربعة).
وهذه الحالة هى التى كان يطلق عليها قديما السيكوباتى المتعدى وهى ترجع إلى سن مبكرة.. لميكن من خلال التنشئة الخاصة أن تتأقلم مع المجتمع أو تحترم قيمه، وهى غير قادرة على الاستجابة والتأقلم لفرد أو لمجموعة أو للقانون أو للمجتمع ككل، كما تتميز بأن قدرتها على احتمال الإحباط ضعيفة للغاية، وأن أنانيتها ظاهرة وشعورها متبلد وتصرفاتها فجة وفجائية، وكثيرا ما يسرع صاحب هذه الشخصية إلى تبرير أفعاله ولوم الآخرين. على أنه ينبغى الإشارة إلى أن مجرد التصادم مع المجتمع أو الحكم على أحد الأفراد بحكم قانونى لا يدرج الشخص تحت هذا النوع من الشخصيات بالضرورة، إذ قد يحدث التصادم مع المجتمع فجأة، أو بالصدفة، أو نتيجة ظروف طارئة، أما هذه الشخصية فهى تتصف بهذه الصفات الشمولية بصفة دائمة.. سواء وقعت تحت طائلة القانون أم لا.
وسوف نورد هنا الحالة الطويلة التى كانت فى الطبعة الأولى تحت عنوان السيكوباتى المتعدى لأهميتها ونموذجيتها فى نفس الوقت ولنؤكد أن الاسم القديم هو ذاته أصبح هذا الإسم الجديد فى التقسيم الحديث.
حالة الآنسة س …“ عمرها 17 سنة طالبة بمعهد عالى بالقاهرة وموطنها الأصلى إحدى محافظات الوجه البحرى.
أحضرها خالها (وولى أمرها) للفحص رغما عنها واشتكى من نوبات اعتداء على إخواتها بقسوة شديدة وذلك للحصول على ما تطلب فى الحال ودون أى تأخير، كما اشتكى من تصرفاتها الشخصية مع الجنس الآخر .. أنا راجل محافظ ومش عايز فضايح ودى أمانة فى رقبتى – إخواتها بيقولوا إنها تعرف واحد، ولو إنى ماعرفشى أصله إيه، وملاحظ إن عينها فارغة … وخايف تصرفاتها دى تفضحنا فى البلد وسؤالها عن شكواها قالت أنها طبيعية مائة فى المائة وأن كان ما نسب إليها نتيجة لحرص خالها وتحفظه …أصله محافظ ومتدين ورجعى شويه فحكمه على الناس مش مضبوط…
وكانت تبدو فى حديها فى أول مقابلة متزنة مرتبة ومننطقية وما أن دخلت القسم الداخلى حتى تشاجرت مع هيئة التمريض فردا فردا واستدعت الطبيب النوبتجى خمس مرات متتالية فى أول ليلة دون حاجة وكانت تنزل شخصيا لاستدعائه دون اللجوء إلى هيئة التمريض معتدية على كل من يعترض طريقها.
وبعد أيام قلائل كانت تشتبك مع كل الناس وأصبحت تذكر أقاربها بألفاظ نابية – رغم أنها كانت تبدو لينة رقيقة عند مقابلة الطبيب طالما هى تريد الوصول إلى مطلب ما … فإذا لم يتحقق مطلبها ثارت ولم تتورع عن قذفه باللفظ الجارح، وقد حاولت أثناء وجودها بالمستشفى الاتصال بأحد الأطباء
الإمتياز كانت له شهرة رياضية خاصة.. ثم تطور سلوكها إلى ثورة عارمة بعد أن تأكدت أن الجميع قد أدركوا خلقلها وعرفت أنه لم يبق أحد تستطيع خداعه، وكانت تحاول الإيقاع بين المرضى بعضهم مع بعض.
وبدراسة تاريخها تبين أنها ثالثة ثلاث أخوات، وأن والدها توفى منذ سنوات فتولى خالها رعايتهن، وقد تبين من تاريخها الدراسى أن مستواها العقلى فوق المعدل الطبيعى كما كانت حالة الأسرة الاقتصادية ميسورة ولم يكن هناك مشاكل إلا اختلاف معاملة التدليل التى كن يتلقينها من والدهن عن معاملة الصرامة التى اتبعها خالها بعد ووفاة الوالد.. ولكن أختيها استمرتا فى تكيفهما على أحسن حال.. وقد ظلت فى المستشفى مدة طويلة ولكنها لم تستفد من العلاج بصورة ملحوظة كما لم ينفع معها أى نوع من التهديد أو الوعيد…
(ثانيا) : إضطرابات سمات الشخصية
Personality Trait Disorder
(الدليل المصرى 1/1)
وتتصف هذه المجموعة بالمبالغة فى إحدى سمات الشخصية أو مجموعة من السمات، وهى تتميز عن اضطرابات نمط الشخصية بأن الاضطراب لا يشمل كل جوانب الشخصية ولكنها تشمل سمات معينة فى جوانب معينة من الشخصية، وتشمل هذه الاضطرابات أنواعا كثيرة نورد هنا أهما:
1- الشخصية الانفجارية :Explosive Personality (ورمزها فى الدليل المصرى 12/1صفر)
وتتصف هذه الشخصية بنوبات انفجارية عنيفة من الغضب والاندفاع
اللفظى أو بالفعل اليدوى، وهذه النوبات تختلف عن سلوك المريض فى الأحوال العادية حتى أنه قد يندم عليها بعد حدوثها، ويعتبر مثل هؤلاء الأشخاص سريعى الإثارة سريعى التهيج لضغوط البيئة مع العجز عن التحكم فى التصرفات والانفعالات، على أنه ينبغى التأكد على أنه إذا أعقب مثل هذه الحالات نسيان لما حدث فينبغى التأكد من أنه ليست نوبات صرعية أو هستيرية انشقاقية (راجع الهستيريا الانشقاقية والصرع).
مثال: م. ن.. “ طالب فى السنة الثانية الثانوية (راسب هذا العام) بدا وديعا أثناء المقابلة فى أول الأمر وكانت والدته تشكو من أنه لا يحتمل أى توجيه، فيثور ويكسر ما أمامه حتى كسر لوح زجاج النافذة منذ أيام واضطر إلى جراحة صغيرة فى ذراعه (ثلاث غرز) وكانت العرز مازالت بيده.. وحين سئل عن هذه النوبات، كان يعتذر ويقول عنها أنها … غصب عنى أصلى ما باستحملش حد ينرفذنى. . وهم مش بيراعوا شعوري، وقد حاول الطبيب أن يكتسب وده وفعلا تبادلا بعض عبارات المجاملة والتشكرات، وما أن عرض عليه الطبيب دخول المستشفى بعض الوقت لمحاولة إراحة والدته والتغلب على هذه العادات السيئة حتى تغير وجهه وفام فجأة وأمسك بمطفأة السجائر وقذف بها من النفاذة دون عتبار لاحتمال رصابة أحد المارة، واندفع خارجا من الباب دون استئذان وصفق الباب خلفه.. وقفت أمه مشدوهة تعتذر..
ولم يعد ثانية أبدا للاستشارة ولم نعرف ماذا تم له بعد ذلك.
2- نزعة السرقة المرضية Kleptomania: (الرمز 11/11).
وهذا النوع من السلوك يصيب الإناث فى الأغلب، وهن يسرقن
أشياء يحتجنها فى العادة حتى أنهن قد يرجعنها بعد سرقتها إلى مكانها الأول دون أن يدرى أحد.
مثال: … السيدة ن. ع… من أسرة طيبة، وعلى درجة معقولة من الثراء … تعودت أن تذهب إلى محلات العطور بوجه خاص وتخفى فى حقيبتها بعض زجاجات العطور الثمينة ثم تعيدها بعد أيام أو أسابيع دون استعمالها، وذات مرة أثناء إعادة إحدى الزجاجات سمعت خبرا بين العاملات يفيد بأن العاملة التى كانت موجودة يوم أن اختفت زجاجة العطر الأخيرة.. قد أودعت السجن رهن التحقيق فجزعت وخافت أن ترد زجاجة العطر وعادت أدراجها.. وجاءت لتستشير الطبيب بعد ذلك مباشرة..
وقد عولجت بالعلاج النفسى طويل المدي، وتبين درجة عدم الأمان المرعبة التى كانت تعانى منها، وأنها كانت بهذا التصرف تتحدى المجتمع وتحاول أن تثبت لنفسها بأنها – رمزا قادرة على أن تأخذ أطيب ما فى المجتمع عنوة واقتدارا.. (هذا كان التفسير اللاشعورى لهذه النزعة حينذاك)..
3- نزعة الحريق المرضى Pyromaniac Character : (الرمز 11/21)
وفى هذا السلوك نجد أن صاحبه يميل إلى إشتعال الحرائق لفترات محدودة فى أشياء تافهة أو ثمينة، وقد لا نجد بعد ذلك أى اضطراب آخر فى السلوك، وهكذا نرى أنها نزعة خاصة تماما وليست نمط سلوك شامل.
مثال: … م. أ. جـ ” شاب فى السادسة من عمره جاء والداه به يشكو من أنه انتظر كثيرا حتى يتخلص من هذا الطبع المدمر ولكن يبدو أن انتظاره سيطول … تصور يا دكتور وصل الحال إن الباسبور بتاعى كان حيروح فى وسط الحريقة وأنا مكسوف وباقول بكره يعقل، بعده يعقل، وقافل على كل الأوراق المهمة، وشايل أغلبها فى المكتب … بصراحة أنا خفت الولد يكون مخه جرى له حاجة.
وبسؤال المريض عن ما يدفعه إلى ذلك بدا عليه بعض الحرج، وقال إنه ليس دائما مسلوب الإرادة.. أمام منظر النار ولكنه يجد لذة لا تقاوم أمام هذه الأفعال، وقد عولج هذا المريض بالعلاج السلوكى بعد مد طويلة إلى التخلص من هذه النزعة من جهة وإلى التخلص أيضا من الخوف الذى نشأ عن العلاج السلكوى من جهة أخرى.
4- السلوك الشاذ عن المجتمع Dissocial Character : (الرمز 12/31).
ويصف هذا النوع من انحراف الطباع مجموعة من الأفراد تتصرف سلوكا شاذا ليس بالضرورة مضادا للمجتمع إلا أنه لا يضع اعتبارا للمألوف السائد فيه .. وأحيانا ما ينتج عن هذا السلوك تعارض أو تصادم مع المجتمع ..، وكثيرا ما يكون هؤلاء الأقراد قد نشأوا معظم فترات حياتهم فى بيئة لها قيمها الخلقية الخاصة، وكثيرا ما ينشئون مجتمعات صغيرة تقبل شذوذهم وترعاه مثل بعض تجمعات شباب الكوميونات فى البلاد الغربية أو بعض نوادى الهيبى ولكن الأفراد رغم هذا الشذوذ قد يظهرون ولاء للقيم الجديدة فيما بينهم. حتى ولو وصلت هذه القيم إلى تخطى حدود القانون إلى درجة تقع فى مجال الجريمة فعلا، وفيما عدا هذا الانحراف عن المجموع فإن شخصياتهم لا يظهر عليها أى اضطراب آخر.
مثال1: ل. س “ شاب فى الثانية والعشرين من عمره، أعفى لحيته وشعر رأسه ويرفض الاستجابة إلى تعلميات والده.. وقد اتفق مع سبعة من زملائه على تأجير عوامة قديمة للعيش فيها مع اعتزامهم بإكمال دراستهم والعمل كمنادين للسيارات بالتناوب حتى يحصلوا على أكلهم بعرقهم. وكان من بين أفكاره أن هذاالعمل فى النهاية سوف يصلح المجتمع ويحرر الشباب من سلطة الآباء التى تهدد شخصيات الأبناء مقابل ما ينفقون عليهم.
وقد كان الشاب منطقيا ولم يتوقف عن دراسته ولا تشتتت فكره (كما هو الحال فى حالات الفصام المشابهة) ولو أنه بدأ مع زملائه فى تعاطى بعض المخدرات (الحشيش) كتأكيد لحريتهم. مما عرضهم ذات مرة للتهديد بالضبط أثناء شرائه، وإن لم يصل الحال بهذا الشاب إلى درجة الاعتماد أو الإدمان. ولم يصلح مع هذا الشاب وسائل النصح المختلفة ولم ينتظم فى العلاج.
(ثالثا) : الشخصيات غير الناضجة
Immature personality
(الرمز 1/2)
وتتميز هذه الشخصيات بأنها لم يكتمل نضجها الإنفعالي، وفى نفس الوقت هى لم تلجأ لتعويض ذلك إلى نمط مختل، ولا إلا نزعات محددة (مثلما هو الحال فى النوعين السابقين) وإنما ظل عدم النضج هو الميزة الأساسية فى هذه الشخصيات، وبالتالى فهى تتصف بالميل للتصرفات الطفلية، والافتقار إلى المسئولية، والميل إلى الإعتماد والاستهواء، وعدم التوازن والاستقرار.
ومن أمثلة هذا النوع من ا لشخصيات:
1- الشخصية السلبية الاعتمادية Passive-dependent Personality
وهذه الشخصية تتصف بالافتقار إلى الثقة بالنفس، وتغمرها مشاعر بالعجز وعدم القدرة على اتخاذ القرارات، وهو دائم الاعتماد على الآخرين ويحتاج إلى التطمين والتشجيع باستمرار.
مثال: ع.ع.“ موظف فى الدرجة الرابعة .. متزوج وله ثلاثة أبناء وبنت جاءت زوجته تشكو من أعراض اكتئاب عصابى. . تتمثل فى أعراض جسميه أساسا، وأثناء الفحص ومن فرط لهفة الزوج عليها، ورفضه لأى ضعف فيها حاول الطبيب أن يكتشف طبيعة شخصيته فإذا بالزوجة تنفجر بالشكوى منه بطريقة تفريغية محتجة .. بصراحة أنا بيتهيألى إن كان اللى عندى ده منه، مش حاسة إن معايا راجل استند عليه، ما يعرفش يعمل حاجة لنفسه، أنا اللى أقرر كل حاجة واشترى كل حاجة من أول خزين السمنة لحد باغة القميص بتاعته.
وقد انزعج فى بداية الأمر من هذا الهجوم المفاجئ ولكنه تقبله بعد قليل … وبدأت أعراض الزوجة تخف حين أفهمت الصعوبة القديمة فى شخصيته وأن العلاج العائلى سيتناول إعانتهما معا حتى يتقدم فى النضج رويدا رويدا .. رغم تأخر سنه.. لصالحهما معا وصالح الأولاد..
وقد تبين أثناء العلاج كيف أن هذه الاعتمادية كانت تخفى ميولا عدوانية تجاه شريكته تظهر بشكل غير مباشر فى تحميلها مسئولية كطفل من أطفالها.
2- الشخصية الهستيرية Hysterical Personality : (الرمز 11/12)
وتتميز هذه الشخصية بأنها غير ناضجة أيضا، وتظهر علامات عدم النضج فى ضحالة الاستجابة العاطفية وعدم الاستقرار الانفعالى والميل إلى التهويل والمبالغة، والميل إلى جذب الانتباه ولفت الأنظار، ولك هذه النزعات هى من صفات تأخر النضج أكثر منها نمط ثابت أو نزعة خاصة، وبالتالى فإنها قد تقل تدريجيا مع التقدم فى العمر.
مثال: إ. س. جـ..“ سيدة فى الثامنة والعشرين من عمرها شديدة العناية بمظهرها مفرطة فى زينتها جاءت تشكو من أعراض سطحية لم يمكن تجميعها فى نمط مرض عصابى خاص، وكانت تميل إلى المبالغة فى وصف أعراضها دون أن يبدو على وجهها الانفعال المناسب:
- الوجع فى جسمى كله حايموتنى. . وبادوخ لما حد يزعلنى .. وكل ده عشان طلب صغير طلبته منه (زوجها) ولا هو سائل. وكان زوجها رجلا صبورا رزينا أخذ يشرح وجهة نظرة وضيق ذات يده ولكنها لم تنتبه إلى أزمته ذلك وكانت مصرة على تحقيق مطالبها .. مش شغلى هو أنا مش زى غيرى .. يعنى يعجبك الى جرى لى من تحت راس حساباتك.
3– الشخصية العاجزة Inadequate Personality: (الرمز 11/22)
وهذه الشخصية تتصف بأنها تفشل فى أن تحقق التقدم المناسب فى الحالات العاطفية ومجالات الوطنية والمجالات الاجتماعية بالرغم من الامكانيات المتاحة فى الدراسة والعمل – مثلا – وبالرغم من أن قدرات صاحبها لاتبرر هذا العجز والتوفيق.
ويتصف صاحب هذه الشخصية بأنه طيب القلب، سهل المعاشرة ولكنه ليس له عمق أو طموح كما لا يتصف بالتلقائية أو المبادأة.. كما أنه لا يتمتع بقوة عقلية أو جسمية مناسبة .. إذا أنه يميل إلى الدعة وعدم المحاولة، وحين تتاح له الفرصة لعمل للحصول على جزاء سخى لا يظهر المثابرة الكافية للوصول إلى هذا الهدف، وبالرغم من كل ذلك فإنه تحت ضغط معين يحصل نتائج حسنة وأحيانا باهرة.
مثال: ع. غ “ طبيب عمره اثنين وثلاثون عاما أرسل إلى بعثة للدراسات العليا (دبلوم ..) وكان طيب القلب شديد التواضع .. يعطى كل أشيائه ومحاضراته لزملائه، لا يهتم كثيرا بالحصول على الدبلوم فعلا حتى أنه ترك امتحانين ودخل الثالث فلما رسب لم يدخل ثانية وكان من بين ما يقوله .. أنا ما عنديش طموح وأحسن حاجة إنى احترم قدراتى وأعيش على قدى وأنا مبسوط.. بس هو الموقف سخيف ووضعى فى المصلحة مش تمام .. إنما دا بيتحل بالزمن .. وكان بعض زملائه يقولون عنه أنه طيب والآخرون كروديه وحين كان يناقش فى أن قدراته العقلية لا بأس بها بدليل أنه دخل كلية الطب وتخرج منها، كان يقول .. زمان الواحد كان مزنوق فكان بيطلع اللى عنده غصب عنه، إنما دلوقتى .. الحمد لله !!
وهكذا نرى أن عدم النضج هنا عليه من أن النتائج التى يحصل عليها مثل هذا النوع من الأفراد هى نتائج لضغوط الظروف خارجيا وليست لإثارة الدوافع الداخلية لمواصلة مسيرة النمو.. وبمجرد أن تتوقف هذه الضغوط الخارجية، يختفى الحماس وتظهر علامات العجز والهمود فى صورة الطيبة الخادعة.
4– الشخصية المذبذبة عاطفيا Emotionally Unstable Personality: (الرمز 11/32)
وتتصف هذه الشخصية بسرعة الاستثارة العاطفية (وليس العدوانية كما فى حالة الشخصية الانفجارية) نتيجة لأى توتر أو ظغط، وعند طغيان هذه العواطف الفجة يختل حكم صاحبها على الأمور بشكل لا يعتمد عليه. وصاحب هذه الشخصية شخص سريع التقلب يتراوح مزاجه بين نوبات سريعة من الضيق والتعاسة والانسحاب تختفى بسرعة ليحل محلها أحيانا نوبات من التوتر والخوف والنزق.
مثال س. م.“ فتاة فى التاسعة عشرة من عمرها طالبة فى السنة الأولى فى دراستها الجامعية تقول أمها ..، إنها طول عمرها كده ما حدش يعرف يكلمها، ماشيين على هواها .. لأمش يعنى مشيها بطال بس هوائية يعنى. . مزاجها هو اللى يتحكم فى كل حاجة زى دلوعة حبة ودى غلطة أبوها بصراحة.. كانت هىاللى على الحجر واللى يكلمها تقفل الأودة وتتلوى. . وساعة لما تزهق تهب فى البنت الشغالة كإنها جارية شارياها ولما راحت الجامعة المشاكل ذادت مع زملائها وما حدش عاد يستحملها زى ما كنا بنستحملها فى البيت.
أسباب اضطربات الشخصية:
تعتبر اضطربات الشخصية- بصفة عامة – نتاج غير سوى لعملية النمو النفسى للإنسان، بحيث أن أغلبها يمكن اعتباره مظهرا لإعاقة النضج
(وخاصة المجموعة الثالثة أى: الشخصيات غير الناضجة) أو مظهرا لإضطراب النضج حتى يبعد جادة السواء فى شك نمط شاذ أو سمات متطرفة. (المجموعة الأولى الثانية).
وبالتالى فيمكن البحث عن أسباب هذه الإعاقة فى النضج أو الشذوذ أو التطرف فى جذورها الوراثية على حد سواء.
1- الوراثة: لوحظ فى عائلات اضطراب الشخصية كثرة هذا النوع من الاضطراب، وقد لوحظ أن اضطرابات الشخصية فى العائلة ليست بالضرورة من نفس النوع (وإن كان هذا هو الغالب فى كثير من الإحوال).
ولكن أنواعا أخرى قد تكون موجودة بشكل ملحوظ فى العائلة، كما لوحظ أيضا أن عددا لا بأس به من الأقارب يكون مصابا بأنواع مختلفة من الذهانات (مثل ذهان الهوس والإكتئاب فى أقارب الشخصية النوابية، وذهان الفصام فى أقارب الشخصية الشيزويدية والشخصية المضادة للمجتمع .. إلخ.
كما لوحظ أن أقارب الشخصية الإنفجارية قد يوجد عند بعض أفراد عائلاتهم مرض الصرع بأنواعه المختلفة.
2– البيئة وطرق التربية: لوحظ أن الإفراط فى التدليل خاصة، وكذلك الإفتقار إلى القيم الخلقية التى تربط العائلة، والتذبذب الشديد بين القسوة والتدليل، وعدم وجود القدوة الحسنة كل هذه العوامل تؤثر فى مسيرة النمو وبالتالى ينتج عنها اضطراب الشخصية.
3– الأسباب العضوية: تبين لبعض الباحثين أن عدم نضج السلوك يساير عدم نضج المخ وبالتالى فى رسام المخ الكهربائى فى بعض حالات اضطراب الشخصية [وخاصة فى نوع الشخصية المضادة للمجتمع (السيكوباتى المتعدي) – والشخصية الإنفجارية] علامات شبه صرعية، كما أن كثيرا من الأنواع الأخرى يظهر فيها انحراف عن السواء بشكل أو بآخر.
علاقة اضطرابات الشخصية بأنواع مختلفة من السلوك:
1– العلاقة بالذهان: ذهب بعض الباحثين إلى أن اضطرابات الشخصية بصفة عامة هى النتاج المرضى لصورة مجهضة أو مبتورة لذهان طفلى لم يدركه الأهل فى حينة، وقد رجع هذا الفرض إلى بعض أنواع الذهان التى تحدث فى سن المراهقة (الفصام بوجه خاص) إذا لم تسمتر فى سيرها الذهانى فإنها تترك أثارا فى الشخصية تماثل اضطرابات الشخصية تماما.
2– العلاقة بالإبداع الفنى: لاحظ بعض الباحثين أن بعض المصابين باضطرابات الشخصية لهم ميول فنية وقدرات إبداعية خاصة، حتى ذهب البعض إلى تحديد نوع منها اسماه السيكوباتى الخلاق وهم يعنون به أن هناك بعض المشهورين أو الفنانين المبدعين أو العظاماء يتصفون بسوء التكيف الإجتماعى والفردية والتقلب الإنفعالى حتى أن بعض المشتغلين بالعلوم النفسية اتجهوا إلى وصف سلوكهم بالسيكوباتية إلا أن آخرين قد انكروا ذلك بشدة وزعموا أن المثابرة – وهى لازمة لتحقيق أى إبداع – تتنافى تماما مع صفات السلوك السيكوباتى.
والحقيقة أننا نستطيع أن نرى النزعة السيكوباتية فى أولئك المبدعين الذين لا يتطلب عملهم مثابرة طويلة الأجل.. كالشعراء والفنانين، أو فى أولئك الذين اتصفوا بالفردية والبرود حتى أصبح تحقيق أهدافهم من صفات الذاتية المطلقة فهم لا يعبأون بالقيم الخلقية ولا بالإضرار بالآخرين أو محقهم
فى سبيل الوصول إلى أهدافهم الشخصية ومن ثم فهم يبحثون عن لذتهم الخاصة دون النظر إلى ما يعود على الآخرين من مضار مهما كانت جسيمة. لذلك فإننا نرى أنه ينبغى لكى نصف أحد هؤلاء بالسيكوباتية أن ندرس حياته وإنتاجه بصورة مفصلة ولا نعتمد على النظرة السطحية.
والحالة التى نرى أنها تمثل هذا النوع من السيكوباتين أصدق تمثيل هى حالة الشاعر ع… وإن خالطها بعض أعراض الإكتئاب إلا أن صفات السلوك السيكوباتى تصبغ كل تصرفاتها…
حالة: الشاعر ع..“ لم يستطع أن يؤجل شيئا فى حياته أبدا فلم يستطع الانتظار حتى يتم تعليمه العالى بل فضل المكسب السريع – فى المدارس الأهلية – على تفاهته – عن الإنتظام فى سلك التعليم حتى نهايته ولم يستقر فى وظيفة ما. فإذا تقدم لشغل إحداها وطلب منه ما يطلب عادة فى مثل هذه الظروف وهو المؤهل ثار ولعن حظه ولعن الناس.
قالوا المؤهل … قلت الجوع والعطل .. يأمة عز فيها الندب والرجل
ولم يحترم قيمة أية خلقية فى حياته بل كان يجاهر بالفحشاء وربما فخر بها.
أنا ، وإبليس للدنيا عمى هو خاف وأنا أبدو جليا
وفى إدمانه للخمر والمخدرات كان مثالا نموذجيا للسيكوباتى إذا فدين يلجأ اليهما استسهالا للذة.
هات المدام فدين الله تيسير (!) فأسعد الناس مخمور ومخدور
فإذا سأل الناس منحة أو عطية فمنعوها عنه أو تأخروا فى إجابته هاج وماج واتهمهم بالندالة والخسة واصطبغ سلوكه بالعدوانية فى صورة هجاء، مقدع من أبسطه.
ايه يا عبد الخنا ما أنذلك عدالى النخاس تعرف منزلك
وهكذا استمر حياته عبدا للذاته. ولم ينفع معه أى ردع أو علاج فقد دخل السجن كما دخل سمتشفى الزمراض العقلية (الخانكة) ولم يتحسن الا لفترات يسيرة، وقد عرف عنه الشذوذ الجنسى وفشل فى حياته الزوجية – التى لم تستمر سوى شهورا قلائل – فشلا ذريعا…
ولكن كان مع ذلك أو بالرغم من ذلك شاعرا مجيدا خلاقا سلس اللفظ رصين الكلم واسع الخيال…”
3- علاقة اضطرابات الشخصية بالإنحراف الجنسى:
اختلف الباحثون فى تحديد مكان اضطراب السلوك الجنسى اذا أنه لا يندرج تحت العصاب أو الذهان مباشرة، ومال الأغلب إلى اعتباره انحراف فى الطباع حتى وصفه الدليل المصرى مع اضطرابات الشخصية والطباع (رمز 3/13).
والانحراف الجنسى لفظ يطلق على السلوك الجنسى الذى يحيد عن ما هو مألوف وطبيعى فى العلاقة الجنسية (الأمر الذى يصعب تعريفه بصفة مؤكدة) وللتسهيل أطلق هذا التعبير على أى سلوك يحصل به الشخص على لذة جنسية من مصدر خلاف الجماع بين رجل وامرأة بالطريقة الطبيعية (القضيب فى المهبل)، فإذا تحققت اللذة مثلا بين رجل ورجل سمى الجنسية المثلية Homosexuality ، وإذا تحققت بطريقة مختلفة غير الجماع فهى أيضا نتيجة سلوك جنسى شاذ مثل الاستعراض والتعرى Exhibition ، واذا كان المثير غريبا (وجزئيا) مثل جزء من ملابس المرأة سميت هذه الظاهرة الفيتشية Fetishism وهكذا.
العــلاج:
يعتبر علاج حالات اضطرابات الشخصية من أصعب ما يواجه الطبيب النفسى وذلك للأسباب التالية:
1- أن المريض لا يحضر عادة للعلاج إلا إذا تصادم مع المجتمع أو فى الأقل حين يضيق بهذه النزعات والأنماط المعجزة له عن استمرار الحياة والتكيف ..، وفى كلا الحالتين فإن المريض لايهدف أن يتخلص من الصعوبة الطارئة… وهذا فى ذاته ليس علاجا لا ضطرابات الشخصية ولكن لمضاعفاتها.
2- إن أى محاولة لتغيير هذه الأنماط التى ثبت (أو الانحرافات التى تعود عليها) تهد باختلال التوزان النفسى- ولو أنه توازن سيئ إلا أنه توازن بشكل ما – وبالتالى فإن المريض يرغب عن ذلك ويقاومه ولا يرضى أن يتعرض له بأى حال من الأحوال.
3- إن بعض أفراد الأسرة – رغم معاناتهم الشديدة – وقد استبت علاقتهم بالمريض على أساس توازن معين من ضمن مقوماته هذا النمط الشاذ يعارضون لا شعوريا محاولة أى تغيير لهذا السلوك (لذلك لابد من النظر إلى ديناميات الأسرة جميعها .. حتى لا تهدد الأسرة باختلال التوازن .. وهذا قد يفسر التلكؤ اللاشعورى فى الموافقة من جانب الأسرة على العلاج رغم معاناتها من آثار السلوك الشاذ.
وبالرغم من الصعوبات السابقة، فإن المريض وأهله قد يضطرون إلى المغامرة بالعلاج حين يزيد المضاعفات والمصادمات لدرجة العجز والتعويق، وهنا تصبح الخطوط العامة للعلاج على الوجه التالى:
1- العلاج السلوكى: الذى يهدف إلى تغيير عادات المريض بالارتباط الشرطى واستعمال مبادئ الثواب والعقاب والتقبل والنفور لتأكيد السلوك الحسن والتخلص من السلوك المرضى.
2– العلاج الاجتماعى: بالنظر إلى ظروف البيئة، ومحاولة تخفيف الضغوط مرحليا وتغير نوع العلاقات القائمة لمساعدة المريض على التكيف بطريقة أفضل.
3- العلاج النفسى العميق: وقد يلجأ إلى هذا النوع فى حالات خاصة ونادرة وفى ظروف محكمة جدا حيث يغامر المعالج بالقضاء على النمط السلوكى مرة واحدة (باستعامل مبادئ العلاج السلوكي) فى نفس الوقت الذى يكون فيها قد كون علاقة عميقة (فى العادة غير لفظية فى هذه الأحوال) فإذا اختل التوازن فإن المريض لا يتأثر نتيجة لوجود هذه العلاقة العلاجية المطمئنة، كما أن المريض قد ينكص إلى مرحلة سابقة (وقد تشبه فى بعض تفاصيلها الذهان) ثم يعيد بناء الشخصية من ضلال تأهيل طويل المدى وتكوين عادات صحية وإعادة النمو فى جو أفضل.
4- العلاج العضوى:
(أ( يتجه استعمال العقاقير فى هذه الأحوال إلى التخلص من الأعراض الطارئة مثل التوتر أو الاكتئاب العابر الناتج عن المصادمة بالمجتمع مثلا وذلك باستعمال المهدئات ومضادات الاكتئاب (مع الحذر من الإدمان الذى تميل إليه هذه الفئة من المرض).
(ب) فى الحالات التى تظهر فيها علامات شبه صرعية فى رسام المخ، أو تاريخ صرعى فى العائلة، قد تصلح مضادات الصرع فى مساعدة هذه الحلات، وخاصة إذا كان السلوك الشاذ يأتى فى نوبات (مثل الشخصية الانفجايرة أو الشخصية المضادة للمجتمع.
(ج) فى حالات العلاج المكثف، نلجأ إلى المهدئات العظيمة المضادة للذهان ونحن على أبواب عدم التوزان الناتج من تحطيم عادات السلوك المرضية، وذلك حماية للمريض من الانهيار الذهانى. ..
(د) الجلسات الكهربائية لا تفيد إلا فى بعض الحالت التى تظهر أعراض مصاحبة مثل الاكتئاب، أو فى حالات التهديد بالتناثر فى العلاج المكثف الذى سبق الإشارة إليه.
الموجـَـز
اضطرابات الشخصية والطباع
تعبتر اضطرابات الشخصية والطباع نوع من الاضطرابات ليس له بداية محددو، ويرجع تاريخه إلى عهد الطفولة، وليس عصابا حيث لا تظهر أعراض محددة وإنما أنماط سلوكية شاذة، وليس ذهانا حيث لا يظهر اضطراب شديد بالعلاقة بالواقع أو نكوص ضلاضلات أو هلاوس.
تقسيم اضطرابات الشخصية:
نظرا لأننا أوردنا فى هذا الفصل تعريفات أنواع الشخصية مختصرة فلن نوجزها هنا ويمكن الرجوع إليها فى الأصل وإنما سنكتفى. برسم شجرة التقسيم على الوجه التالى:
أسباب اضطربات الشخصية:
1- الوراثة: لوحظ أن عائلات هؤلاء فيها كثير من حالات اضطرابات الشخصية والذهان.
2– البيئة وطرق التربية: لوحظ أن فرط التدليل، والتذبذب بين القسوة والتدليل، والافتقار إلى القيم الأخلاقية وانعدام المثل الأعلى تساعد جميعا فى إحداث اضطربات الشخصية.
3- الأسباب العضوية: لوحظ وجود بعض التغيرات غير الطبيعية وشبه الصرعية فى بعض حالات اضطرابات الشخصية وخاصة الشخصية المضادة للمجتمع والشخصية الانفجارية.
علاقات اضطربات الشخصية بأنواع مختلفة من السلوك:
1- العلاقة بالذهان: ذهب البعض إلى اضطراب الشخصية مكافئ للذهان، وأنه نتاج عن ذهان مبكر.
2– العلاقة بالإبداع الفنى: لاحظ بعض الفنانين العظماء يتصفون ببعض السمات المذكورة فى اضطرابات الشخصية إلا أن العلاقة بين هذه الصفات والإبداع ليست علاقة سببية ولا هى متواترة.
3- العلاقة بالانحراف الجنسى: اعتبرت الانحرافات الجنسية نوع من الطباع.
العــلاج:
رغم أن العلاج صعب للغاية حيث لا يتعاون المريض فى العلاج، ويقاومه لأنه هو وجوده ذاته فإن العلاج السلوكى والعلاج الاجتماعى يساعد كثيرا فى تغيير العادات إذا أتيحت الفرصة لذلك، كما أن العلاج المكثف قد يفيد فى حالات نادرة.
ويمكن إعطاء العقاقير المهدئة لإزالة الأعراض، وإعطاء المضادات للذهان فى حالات التهديد بالتناثر، وكذلك الجلسات الكهربائية إذا لزم الأمر.
الفصل السابع
أمراض الهوس والاكتئاب
تعبتر هذه المجموعة من الأمراض من الاضطرابات النفسية والعقلية كثيرة التواتر، وقد كان الشائع فيما مضى (وهذا ما اتبعناه فى الطبعة الأولي) أن يطلق على هذه المجموعة لفظ جنون الهوس والاكتئاب أو الجنون الدورى رجوعا إلى الأصل الفرنسى Folia Cartularies إلا أنه ثبت عبر السنين، وخاصة فى الآونة الأخيرة (بعد اكتشاف العقاقير المضادة للاكتئاب) أن اعتبار كل هذه المجموعة من الأمراض جنونا – أى ذهانا – أمر مبالغ فيه ومعطل للفهم السليم لطبيعة هذا المرض..، ولذلك فقد اخترنا هذا العنوان تمشيا مع التقسيم المصرى والاتجاه العالمى المعاصر حاليا.
وتتصف هذه المجموعة بأنها أساسا اضطرابات فى العاطفة وأن سائر الأعراض الأخرى التى تظهر فى هذا المرض يمكن أن نرجعها إلى هذا الاضطراب الأساسي، كما أن اضطراب الفكر أوالسلوك الحركى يسايران أيضا هذا الاضطراب العاطفى الأسرى.
وعلى كل حال فإن من طبيعة المجموعة أن تشفى وأن يدخل المريض فى إقامة تطول أو تقصر ثم تعاود ثانية فيما بعد إحدى صور هذا المرض أى فى صور الاكتئاب أو الهوس.
كما أن من طبيعته ألا يترك أثرا يذكر فى تكوين الشخصية بعد الإفاقة (بعكس الفصام).
وبديهى أن هناك تناقضا ظاهريا فى وجهى هذا المرض، ولكنهما يتفقان فى عدة أمور:
1- فهما يحدثان عادة لنفس الشخص بنفس الأستعداد ولكن فى أطوار متناوبة.
2- وكلاهما يرجع إلى اضطراب أساسى فى العاطفة.
3- كما تلاحظ أن أى طور منهما يسبقه أو يلحقه معالم الطور الآخر (مثلا: قبيل الهوس وبعده تظهر علامات الاكتئاب .. وإن كان العكس أكثر ندوة)
4- بشكل موجز جدا يعتبر الهوس – ديناميا – انكار (لا شعوري) للاكتئاب حين نعجز عن احتماله.. كما يعتبر الاكتئاب ضبطا للنكوص الهوسى يدل على تماسك الشخصية ضد النكوص ولو باللجوء إلى الاكتئاب الذى يمثل مرحلة أحدث تطورا.
من كل ذلك نجد أنهما مجموعة واحدة فعلا.
واذا أردنا تبسيط الأمور رمزا، فلنا أن نتصور أنه فى طور الهوس تكون العواطف شديدة وسريعة فتدفع الحركة والأكفار معها بنفس السرعة وفى طور الاكتئآب تبطء سرعة حركة العاطفة وتبطئ معها الإفكار والحركة.
الصفات العامة لهذه المجموعة وأسبابها:
(أولا): الأسباب:
1- الوراثة: تلعب دورا هاما فى 60 إلى 70% من الحالات، بل أن البعض ذهب إلى أكثر من هذه النسبة فى بعض العائلات.
2- الجنس: هذا المرض يغلب حدوثه عند النساء حتى اعتبرت وراثته من النوع المرتبط بالجنس Sex-linked
3- العنصر: هناك بعض العناصر التى وجد فيها هذا المرض بشكل أكثر تواترا، مثل اليهود والاسكتلندبين.
وقد لاحظنا هنا من خلال الخبرة الإكلينيكية بأن النوبيين المصريين، وإخواننا اليمنيين يكثر فيهم هذا المرض عن سائر الذهانات، وإن كانت هذه الملاحظة تحتاج إلى دراسة ميدانية مباشرة قبل تعميمها.
4- الشخصية قبل المرض: تتصف شخصية المرض بأنها فى الأغلب من النوع الانبساطى الاجتماعى الذى يميل إلى السرور، وربما حدة المزاج أحيانا، كما قد تتصف بأنها نوابية تترواح بين الاكتئاب والمرح.. وربما تناسب هذا التغير الانفعالى مع فصول السنة.
5- الغدد الصماء: قد تلعب الغدد الصماء دورا هاما فى أسباب المرض، فنرى مثلا أن المرض أكثر حدوثا فى فترات التغير التكوينى وتغير نسب الهرمونات كفترة النفاس، وقبيل الحيض. كما نجد أن الهوس قد يصاحب التسمم الدرقى Thyrotoxiconis أو يعقب استئصال الغدة الدرقية.
(ثانيا): التناوب:
1- قد يأتى هذا المرض متكررا ولكنه من نوع واحد ويسمى النوع ذو الطور الواحد، إما هوسا فى كل نوبة وإما اكتئابا فى كل نوبة، والأخير أكثر تواترا من الأول.
2- قد يأتى هذا المرض بالتبادل المنتظم أى: نوبة هوس يعقبها إفاقة نوبة اكتئاب يعقبها إفاقة ثم نوبة هوس وهكذا وقد يكون التبادل غير منتظم أصلا أى تتكرر النوبات من نوع واحد يتخللها أحيانا وبغير انتظام النوع الآخر.
وقد يتصف المرض بأنه فى كل نوبة يخرج من وجه إلى الوجه الآخر باستمرار ثم بعد ذلك الإفاقة ويسمى النوع الدورى، وإن كان الاتجاه
حديثا (الدليل المصرى) إلى إدماج هذه الأنواع الثلاث تحت اسم واحدهو النوع الدورى.
3- قد يأتى المرض بصورة مستمرة بحيث يخرج المريض من طور الاكتئاب إلى الهوس إلى الاكتئاب إلى الهوس باستمرار دون فترات إفاقة، وهذا نادر نوعا.
(ثالثا): المظاهر الإكلينيكية لطورى المرض:
1- طور الاكتئاب:
يتصف طور الاكتئاب بثلاث أعراض رئيسية (ترجع كل منهما إلى وظيفة من وظائف النفس الثلاث) وهى تمسى ثالوث الاكتئاب:
(أ) مزاج مكتئب (منقبض حزين)
(ب) بطء الحركة.. وتأخر فى الاستجابة وكسل وهمود.
(جـ) صعوبة فى التفكير وبطء فيه أيضا.
وهناك أعراض ثانوية بالإضافة إلى هذا الثالوث مثل توهم المرض، ووجود ضلالات اتهام النفس والاضطهاد، كما قد يصاحبها هلوسة وعدم استقرار وميل للانتحار.
2- طور الهوس:
يتصف طور الهوس بثالوث أيضا يسمى ثالوث الهوس وهو.
(أ) مزاج مرح: حيث يبدو على المريض السرور بل ويشعه على من حوله وقد تشتد حدة المزاج فيخالطه الغضب أو الخوف أو الشك.
(ب) زيادة فى النشاط الحركى: فيكون المريض مليئا بالحيوية، موفور النشاط، لا يكاد ينتهى من عمل حتى يبدأ فى غيره حتى دون أن ينتهى من الأول، وقد يصل النشاط إلى درجة العدوان والتحطيم.
(ج) طيران الأفكار: حيث يبدأ بظهور اللغو فى الكلام وذكر التفاصيل ثم تصل إلى طيران فعلى للأفكار حيث ينتقل المريض من فكرة إلى فكرة بسرعة ودون داع، ويكون تحت رحمة أى مؤثر داخلى أو خارجى.
وهناك أعراض ثانوية قد تكمل الصورة مثل القلق والشك واضطراب الوعى أحيانا، كما قد تظهر الهلاوس والضلالات فى الحالات الحادة والشديدة.
(رابعا) دورة المرض ودرجاته: فى صورتها النموذجية (نظريا). حتى نتصور اكتمال دورة المرض سوف نحاول أن نأخذ دورة كاملة مستعدين الإسم القديم جنون الهوس والاكتئاب (شكل) حتى نتعرف على درجات كل نوبة وعلاقتها ببعضها وبالمستوى العادى لمسار الدورة الكاملة، ورغم ندرة هذه الدورة الكاملة بهذا التدرج إلا أن وصفها بهذه الصورة يوضح علاقة الأطوار ببعضها من ناحية وتداخل الدرجات فى بعضها من ناحية ثانية.
(1) يبين الشكل أن جنون الهوس الاكتئاب مرض واحد وأن أنواعه ليست سوى درجات من نفس المرض. فالهوس الخفيف هو أول أنواع الهوس وأخفها كما هو مبين بالشكل، فإذا زادات درجته وارتفعت حدة التفاعل أصبح هوسا حادا، فإذا بلغ أشد حالاته أصبح هوسا هذيانيا.. ثم يبدأ المريض فى التحسن حتى يصل إلى المستوى العادى لسريان العاطفة وكميتها ومجرى التفكير وسرعته وكذلك المستوى العادى للنشاط الحركى – ومتى ما نقص عن المستوى العادى دخل فى طور الاكتئاب ثم ينتقل من الاكتئاب البسيط إلى الحاد إلى الهذيانى. .. ثم يعود إلى التحسن.
(2) ولكنه لا يشترط أن يمر فى كل طور بهذه المراحل بهذا الترتيب، ولكن قد يمر المريض بالأطوار الأولى فائة قد لا تتعدى الساعات أو الأيام حتى لا يلاحظها الفاحص إذا يحضر المريض لأول وهلة بحالة هوس حاد أو هذيانى دون أن يمر بطور الهوس الخفيف. وكذلك يمكن أن يبدأ باكتئاب حاد أو ذهولى دونأن يمر بطور الاكتئاب البسيط.
(3) لا يشترط أن يخرج المريض من طور الهوس إلى الاكتئاب مباشرة أو العكس، بل إن ما يحدث عادة هو تنوع التبادل والتعاقب.
(4) قد يستغرق الطور الواحد (الهوس أو الاكتئاب) حتى ينتهى حوالى ستة أشهر ويستغرق الدورة الكاملة حوالى سنة.
(5) يمر المريض فى طريقه إلى الشفاء بنفس الأطوار التى مر بها أثناء تطور المرض حتى اكتماله، ولكنه قد يمر بها بسرعة فائقة فلا يلاحظ إلا الشفاء التام وكأنه حدث فجأة.
(6) ينتهى طور المريض تلقائيا… فكل ما يفعله العلاج هو أنه ينقص مدة الطور من ستة أشهر (مثلا) إلى ستة أسابيع أو أقل كما أنه يجنب المريض المضاعفات.
درجات المرض:
إن وصفنا هنا لدرجات المرض فى طوريه: الاكتئاب والهوس، يحاول أن يورى بعض مظاهره الإكلينيكية ولكنه لا يصف بالضرورة تدرج مراحل المرض الحتمية، بمعنى أنه ليس لزاما أن يسبق الدرجة الشديدة العنيفة درجة أخف أو أدنى، كما أنه ليس متوقعا أن تتطور الدرجة الأدنى إلى درجة أشد وأقسى. .
كما أن تصنيف هذه الدرجات لا تقابل بالضرورة أيضا أنواع المرض المختلفة كما سيأتى ذكرها..
(أولا): درجات طور الهوس:
(1) الهوس الخفيف Hypomania:
تتميز هذه الدرجة بأنها تحوى صفات المرض العامة (النوابية، واضطراب الانفعالات أساسا، والإفاقة ترك أثر دائم يذكر فى الشخصية) أما علاماتها الإكلنينكية فهى:
1- وجود ثالوث الهوس بدرجة طفيفة لا تصل إلى شدة ذهانية Paychotic Intensity ولذلك فأحيانا تسمى هذه الدرجة :الهوس غير الذهانى Non Paychotic Maina تمييزا لها عن الذهان من ناحية، وعن العصاب من ناحية أخرى [وهذا التعبير – غير الذهانى Non Psychotic نشأ ليصف مجموعة من الأعراض ليست عصابية فى طبيعتها (بمعنى أنها لم تنشأ نتيجة لفرط استخدام الميكانزمات لضبط القلق الناشئ عن صعوبة التكيف) وليست ذهانية فى حدتها (بمعنى أنها لم تصل إلى درجة من الشدة تشوه بها الواقع تماما أو تنفصل عنه أو تخل بتكوين أساسيات الشخصية)، وذلك بالرغم من ظهورها نتيجة لإثارة تلقائية لتكوين الشخصية العميق المقبل للجزء الأقدم من المخ فإن حدتها لم تصل إلى شدة ذهانية بعد].
2- يستطيع المريض أن يتحقق من وضعه وعلاقته مع البيئة.
3- قلما يظهر المريض سلوكا شاذا لدرجة تتعارض مع المجتمع
4- يبدو المريض مملوءا بالحيوية والنشاط، لا يكاد يستقر فى مكان.
5- يميل إلى التعدى فتكثر مشاجراته بعض الشئ ويحب السيطرة على من حوله ولا يطيق النقد.
6- يرسم المريض كثيرا من الخطط والأفكار، ويؤكد أنها فى سبيلها إلى حيز التنفيذ، ولكنه عادة لاينفذها بشكل جاد وهو يبدأ أغلب المشاريع دفعة واحدة، ولكنه لايصل بأيها إلى غايته.
7- لا يتقيد المريض – أحيانا – بالقواعد الخلقية، مما قد يوقعه تحت طاءلة القانون.
8- تظل ذاكرة المريض سليمة، وقد تزداد حدة.
وفيما يلى وصف حالة تدل على خصائص هذا النوع:
حالة: ع… “ عامل فنى (براد آلات دقيقة) عمره 27 سنة متزوج منذ شهور وليس له أولاد. جاء يشكو من أرق شديد استمر مدة أسبوع … إنما مش هاممنى، أنا بس قلت يمكن الحالة تتطور.. أصل مفيش فى الدنيا مستحيل، أنا تعلمت البرادة بإيدى الشمال وتحديت وطلعت الأول فى اختبار القبول … وماعدش يهمنى، لما حد يبص لى فى الأتوبيس أبص له وأضحك يضطر يضحك وأقفش معاه أقوم ما اصعبش عليه عشان دراعى المقطوع، أنا بكتب انجليزى وعربى بإيدى الشمال مع إنى مش أشول، أصل الإنسان لو عرف نفسه مافيش فى الدنيا حاجة تعاسه، صحيح فيها صعوبات إنما دى من قلة التصرف أهو أنا مسافر اليمن بكره.. واتحدى، بس خايف لاحسن الحالة تزيد على أقوم أدخل المستشفى، وهيه لما تزيد ما عرفش اتلم على نفسى واتلفت على كل اللى حوالى ويمكن أضرب أى حد يكلمني….
وبدراسة تاريخه المرضى: تبين أنه هذه الحالة متكررة (ثلاث مرات فى خمس سنوات) وأنه أحيانا يلجأ إلى العلاج قبل أن تشتد. وأحيانا أخرى تتطور حتى تصل إلى درجة الهياجة فيدخل المستشفى. وقد ترسبت ثانى مرة بعد أن أصيب فى الحرب واضطروا إلى بتر ذراعه اليمنى. هذا، وقد فسر عدم إكمال دراسته رغم ذكائه البادى: … كنت غاوى صنعة، وكنت غاوى اللعب. وكنت غاوى ضرب الانجليز(!)
وكان تاريخه العاطفى والجنسى حافلا.. أجاب عندما سئل عن خبراته قائلا .. عاديك … ما تعدش .. وفى الآخر اتجوزت عن حب. وما همنيش حكاية أيدى… وكانت شخصيته قبل المرض موفورة الحيوية زائدة النشاط يزاول أكثر من عمل فى وقت واحد.
وهكذا نرى كيف يكون طيران الأفكار فى حديثه…. يسيرا فى المرض وكيف يتصف الهوس الخفيف بالمرح الزائد رغم الأرق المضنى، كما يتصف بالشعور بالقوة والسيطرة حتى على قوى الطبيعة، ثم كيف تطور فى النوبات السابقة إلى هوس حاد أدى إلى دخوله المستشفي.
وقد عولج المريض بالعقاقير المهدئة فأحبطت النوبة ولم تتطور إلى أنواع أشد من الهوس الخفيف.
(ب) الهوس الحاد Acute mania:
لا يوجد حد فاصل بين الهوس الخفيف والهوس الحاد فهما متداخلان.. إلا أن الهوس الحاد يتميز بشدة الثالوث الهوسى بوجه خاص كما يظهر فى الصورة الإكلينيكية على الوجه التالى:
1- إما أن يشتد المرح بشكل يجعله أقرب إلى السخرية الهجومية ويفقد الجانب المشع منه، وإما أن ينقلب إلى عدوان وغضب مع فرط فى الحساسية يتناوب مع هذا المرح القاسى.
2- يشتد انتباه المريض للمؤثرات الداخلية والخارجية على حد سواء ولا يستمر فى اتجاه معين بل ينتقل من مؤثر لآخر.
3- تضطرب علاقته بالبيئة، فتراه لايراعى الآداب العامة، ويتصرف بشكل فاضح، ويقول ويفعل ما ينافى الأخلاق والتقاليد المرعية.
4- أن الهلاوس أكثر حدوثا هنا عن الهوس الخفيف.. ولكنها مؤقتةومتميزة عادة وتتفق مع الاضطراب الانفعالى الأساسي.
5- أن الضلالات – إذا حدثت – تكون متجهة إلى الشعور باعظمة، والقدرة الفائقة واحتواء العالم.. مما يساير الاضطراب الانفعالى أيضا.
6- أن الأفكار تتطاير (طيران الأفكار) حتى تبلغ من سرعتها عدم ترابط ظاهرى فى حين أنها درجة شديدة من الطيران.
7- أن إدراك المريض للبيئة من حيث معرفة الزمان والمكان والأشخاص – أحدها أو جميعها – قد يختل.
8- أن بصيرته تضطرب، بل إن كثيرا من هؤلاء المرضى يقول
حين سؤاله عما إذا كان مريضا من عدمه، يقول أنه الآن (بعد ظهور الأعراض) قد شفى، وأنه كان مريضا قبل ذلك (يشير إلى أنه لما كان طبيعيا عاديا كان هذا من وجهة نظره الحالية هوالمرض بذاته (!!).
حالة: السيد ب ..“ طالب فى كلية … عمره 27 سنة .. لم يتزوج، جاء قسرا مع أخيه وكان متخوفا جدا من الطبيب ومن الفحص، وكان يتلفت حوله فى رعب ظاهر.. يقول أخوه (جندى بالبوليس) .. … امبارح كنا بنسمع الراديو فلقيناه ابتدأ يضحك .. عرفنا أن الحالة رجعت .. وما نامش، قلت له النهاردة يالله نروح المستشفى رفض ييجى .. فجبينها بالعافية، الحالة دى حصلت له من سنتين ونصف، قعد يغنى أغانى عبد الحليم حافظ ويجرى من هنا وهنا وخد كهرباء وخف، والمرة التانية من قيمة سنة بعد ما دخل الجيش مجند حصلت له تانى .. وما اعرفش عملوا له إيه هناك … هو طالب ممتاز طول عمره الأول وبيدرس دراسات عليا ونيشط ولافيش بعد كده .. ولما سئل المريض عن شكواه قال .. ولا حاجة – مبسوط من الدنيا وعايش فى الخيال، والحالة حلوة قوى، ومافيش أحسن من الصراحة .. ولازم أوصل وأبقى زى ما أنا عاوز. وأنت عاوز منى إيه. أنت مالك بيه.. ولما أعطى اختبارا للذكاء مزق ورقة الإجابة ولكنه اعتذر فورا وقام مندفعا من حجرة الكشف. وبدراسة تاريخه لم نتبين أى سبب ظاهر مسئول عن حالة الهياج المتكررة.. وقد عولج بالصدمات الكهربائية والمهدئات وتحسن تماما فى خلال أسبوع واحد من العلاج.
وهكذا نرى كيف يفقد مريض الهوس الحاد بصيرته نهائيا، وكيف يصاحب شعوره بالفرح خوف ورعب، ثم كيف أن طيران الأفكار يكون أشد من الهوس الخفيف. ورغم شدة أعراضه فهو يستجيب للعلاج المناسب بسرعة ونجاح.
(ج) الهوس الهذيانى Delirious Mania:
تعتبر هذه المرحلة أشد المراحل جميعا من حيث الأعراض.. هذا وقد تتطور حالة المريض من مستوى الهوس الخفيف إلى الحاد إلى أن يصل إلى الهذيانى حيث تكون الخصائص فى أشد صورها (شكل 7)، ولكن قد يبدأ المرض فى صورة شديدة مباشرة، فيحضر المريض أول ما يحضر فى حالة هذيان تام دون سابق إنذار، ويكون وعيه مختلطا من شدة فورة عواطفه.. ويتميز المريض فى هذه الحالة بما يلي:
1- يتهيج بشكل شديد، فلا يستقر على حال وقد يحاول تحطيم الأشياء أو الاعتداء على غيره، وقد يمزق ملابسه أو يتعرى تماما.
2- لا يتعرف على الزمان أو المكان أو الأشخاص بتاتا.
3- يصاب بهلاوس سمعية وبصرية .. وقد يصاب بهلاوس أخرى متنوعة غير مستقرة.
4- تظهر الضلالات..، كما يزداد شك المريض فيمن حوله.
5- يتصرف المريض بغير تحرج، فيأتى أعمالا منافية لكل الآداب ومنافية للمألوف يأتيها ببساطة وتبجح وإصرار.
6- يفقد المريض بصيرته نهائيا.
ولن نورد لهذا المرض مثالا خاصا لأن محتواه وصورته الإلكينيكية فى النشاط الحركى والهذيان أكثر منها فى محتوى الشكوى والكلام.
ثانيا: درجات الاكتئاب
(أ) الاكتئاب البسيط: (غير الذهانى) Simple Depression (Non psychotic):
تتميز هذه الدرجة من الاكتئاب بما يلى:
1- نجد أن ثالوث الاكتئاب موجود ولكنه لا يصل إلى شدة ذهانية.
2- لا يوجد سبب ظاهر لهذا الحزن والهمود، كما لا يسبقه بوجه خاص قلق تكيفي.
3- يتكلم المريض بصوت منخفض ولا يهتم بمن حوله ولا يتتبع الأمور بشغف واهتمام.
4- تقل شهية المريض للطعام، ويقل نومه، وعادة ما يستيقظ فى ساعة مبكرة من الصباح فى أسوأ حالاته.
5- يشكو المريض من العجز عن التركيز والاستيعاب، وقد يلاحظ أن المريض يستطيع القراءة ولكنه يجد صعوبة فى الكتابة.
6- قد تصاحبه بعض أعراض جسمية مثل الصداع وعسر الهضم والإمساك والإنهاك.
ونود أن نشير هنا أيضا إلى هذا النوع من الاكتئاب هو اكتئاب داخلى يتصف بصفات هذا المرض الشائعة (التناوب، واضطراب الانفعال الأساسى، والعودة إلى الحالة الطبيعية بعد زوال النوبة دون ترك آثار) فهو ليس اكتئابا عصابيا (بمعنى أنه وسيلة دفاعية ضد القلق فى محاولة التكيف) كما أنه يتحدد داخليا بإثارة تلقائية ودورية، كما أنه ليس اكتئابا
تفاعليا فلا يوجد سبب مناسب فى الخارج، وبالرغم من هذا وذاك فإنه ليس اكتئابا ذهانيا بعد.
وفيما يلى وصف حالة اكتئاب بسيط:
حالة السيد (ع…) طالب بكلية الزراعة عمره 24 سنة من البحرين ويقيم فى القاهرة لم يتزوج، وهو طالب بكلية الزراعة جاء يشكو من انصرافه عن العمل وانشغاله بأفكار سوداء وفقد الثقة، ومن نص شكواه …زى ما تقول مش قادر اتصرف فى حاجة وما عنديش ثقة فى نفسى – فيه حاجات صغيرة مقدرش أعملها: كتابة جواب مثلا .. زى ما يكون فيه شلل فى مخي.. دايما عندى إمساك باستمرار واضطراب هضمى، ودلوقت أصبحت آكل بدون مزاج ما بحسش بطعم الأكل وبسؤال أخيه عن حالته قال .. هوه اتغير كثير – مش ده أخويا اللى كان يجرى ويصاحب ومايسبيش حاجة إلا لما يعملها. ده بيقول إنه شاعر زى ما يكون ارتكب خطأ فى حق زملائه.. إنما ده مش صحيح يا دكتور وهو من سنتين انت جت له حالة أخف.
وبدراسة تاريخه المرضى وجد أنه انفصل عن والده منذ ستة عشر عاما وذلك للدراسة بين الكويت والقاهرة، وأنه لا يزوره إلا كل عدة سنوات وأنه بذلك مفتقر إلى الجو الأسرى منذ زمن بعيد (إلا من شقيقه الذى يقيم معه) من أجل الدراسة، وكانت شخصيته قبل المرض من النوع الانبساطى ولم نجد سببا للمرض.
وقد أعطى المريض عقاقير مضادة للاكتئاب ولم يستجب سريعا وإن توقفت الأعراض عن التطور، ولما أعطى أربع صدمات كهربائية ثم استمر على العقاقير تحسن تماما وعاوده مرحه وانطلاقه وإقباله على الحياة.
(ب) الاكتئاب الحاد Acute Depression: تتميز هذ الدرجة من الاكتئاب بالتالى:
1- يظهر ثالوث الاكتئاب بشكل واضح.
2- يصبح المريض منعزلا لا يختلط بغيره.
3- يكاد المريض ألا يتكلم، إطلاقا، فإذا تكلم فإن إستجابته تكون متأخرة وبطيئة.
5- يصعب عليه معرفة الزمان والمكان بشكل ملحوظ ويميل أغلبها إلى الهمود.
6- قد يصاحب كل ذلك هلاوس وضلالات تدور حول الشعور بالذنب واتهام النفس.
7- قد تكون له بداية حادة بلا مبرر ظاهر فى العادة، ويصاحبها شعور وخبرة بتغير الذات Depersonliation expertience وتغير العالم من حوله Derealisotion expertience (وهى مشاعر وخبرات أكثر منها أفكار واعتقادات مثلما هو الحال فى الوساوس والضلالات التى تحمل نفس الإسم).
8- كثيرا ما يصاحب ذلك هلاوس وضلالات تدور حول الشعور بالذنب واتهام النفس.
9- قد تسيطر على المريض أفكار انتحارية وقد تصل إلى حيز التنفيذ ومما يساعد على ذلك أن البطء الحركى يكون متوسط الدرجة فيمكن للمريض من تنفيذ هدفه، فهذا النوع هو أخطر الأنواع جميعا بالنسبة لاحتمال الانتحار، لأنه إذا زاد البطء الحركى إلى درجة أكبر (كما هو الحال فى الدرجة التالية أى فى الاكتئاب الذهولي) فإن المريض سيعجز عن تنفيذ الانتحار رغم شدة تسلط الفكرة عليه.
10- نرى من كل ماسبق أن الاكتئاب فى هذه الدرجة (وبالتالى ما يليها) قد وصل إلى شدة ذهانية.
وفيما يلى وصف حالة تصور ما هية الاكتئاب الحاد.
حالة السيد ع..“ موظف فنى عمره 28 سنة لم يتزوج (رغم إنه عقد قرانه)، جاء يشكو من ضيق شديد وخوف واضطراب وأعراض جسمية، وكان من شكواه – بنص كلامه – .. عندى خوف، من بكره، عندى عدم مبالاة تجاه الشغل.. فيه حاجات بتقاوم كل تصرف طبيعى عندي… مش عايزانى أضحك ولا أعيش زى الناس.. ما عنديش نشاط، حاسس إنى خرقة باليه، ما استلطفش أقعد مع حد..، وكان يشكو كذلك من أعراض جسمية : ألم فى البطن .. وألم فى الصدر .. ضيق تنفس .. توتر فى الأعصاب – حاسس إن فيه حاجة شدانى ومن أعراض الضيق ..عندى رغبة للصوات باكبتها .. بأعيط باستمرار وأصحى بدرى مش طايق نفسي.. وبأفكر فى الإنتحار لأنى حاسس إنى مش حاخف.. أى مرض إما عندى وإما حيجينى…
وبدراسة تاريخه الأسرى: وجد أنه ملئ بالحالات المشابهة والأشد حدة فكان ابن خالته فى مستشفى الأمراض العقلية من عشر سنين، كما أصبيت أخته وأخويه بحالات مماثلة. وإن كان الخوف يغلب عليها، ولكنهم شفوا جميعا إلا أخته التى بقى عندها بعض أعراض أهمها فقدان الثقة فى النفس.
وكان تاريخه المرضى السابق يشير إلى حالة مخاوف حادة (خوف من الموت) أصابته بعد استئصال اللوزتين، كما أصيب بحالة اكتئاب بسيط بعد دوسنطاريا حادة.
أما شخيته قبل المرض فكانت من النوع النوابى وإن غلب عليها الانبساط والانطلاق والحيوية.
وقد ذهب إلى عديد من الأطباء وتناول كثير من العقاقير ولكن حالته لم تكن تسمح له بالاستمروار فى أيها. ولم يكن يصاحبه أحد عند الطبيب ليساعده فى تحمل المسئؤلية وأخذ العلاج بإنتظام وذلك لأنه كان يخجل من حالته.
وقد عولج بأربع صدمات كهربائية تحت تخدير عام (وذلك للتغلب على خوفه) وتحسن جدا، فانقطع عن العلاج فعاودته الحالة بعد أسبوعين، فجاء بعدها يطلب بشدة أن يكمل العلاج فأخذ أربعة صدمات أخرى وشفى تماما لمدة عام ونصف حتى المتابعة الأخيرة.
وهكذا نرى أعراض الاكتئاب الحاد وقد اختلطت ببعض المخاوف – بل والوساوس-، وكذا اصطحبتها الأعراض الجسمية المرضية الشديدة. وكيف أن كل هذه الأعراض زالت تماما بزوال الاكتذاب فهو يقول بعد العلاج … مش معقول!! .. مش حاسس بأى حاجة من بتاع زمان .. أنا حاسس إنى أتولدت من جديد
(جـ) الاكتئاب الذهولى Depressive Stupor:
وهذا هو أقصى درجات طور الاكتئاب، وإذا وصل إليه المريض، فإنه قد يصعب تشخيص الاكتئاب ذاته إلا بالتاريخ الطولى وسابق أحواله ثم بتتبعه أثناء شفائه وحكايته عن هذه الخبرة الآسية، وقد نقص تواتر هذا النوع بعد التدخل السريع والمباشر لعلاج حالات الاكتئاب قبل أن تصل إلى هذه الدرجة.. التى تتميز بالأعراض التالية:
1- يبلغ الهمود فى التفكير والحركة والكلام درجة تصل بالمريض إلى حد البكم حتى لا يستطيع أن يتكلم أبدا، ولا يقوم بأى نشاط، ولا يتعاون مع أحد، بل إنه قد لا يتبول ولا يتبرز – أو حتى يبصق أو يبلع لعابه فيملأ اللعاب فمه، كما تصاب العضلات بالارتخاء.
2- يبدو المريض للناظر وكأنه لا يحس بأى عاطفة أو شعور (حتى الاكتئاب) فى حين أنه يكون فى أشد حالات القنوط والكدر، وقد يحى بعد شفائه عن مشاعره تلك وكيف كان حزينا حزنا أسودا لا يستطيع حتى التعبير عنه. ولذلك قيل أن الاكتئاب إذا اشتد أصبح شيئا كاللامبالاة، وقد يحى المريض أحيانا كيف اعتقد وهو فى تلك الحالة أنه مات. (ضلال انعدامي).
3- يضطرب الوعى بشكل واضح .. فلا يتعرف المريض على البيئة إطلاقا وقد يبدو وكأنه فى غيبوبة.
4- تتأثر حالة المريض البدنية فنراه ضعيفا هزيلا، قد تغطى لسانه طبقة قدرة، وازرقت أطرافه وأصبح لون جلده ترابيا لا تبدو فيه حياة.
5- قد تطرأ عليه أفكار انتحارية إلا أنه يعجز عن تنفيذها، ذلك لأن بطؤه الحركى يحول دون ذلك، لذلك يخشى عليه من تنفيذها أثناء تقدمه نحو الشفاء، لأنه قد يتحسن حركيا قبل أن يتحسن انفعاليا مما يسمح بتنفيذ أفكاره التحطيمية بشكل يقضى على حياته فعلا كما سيرد فى الحالة.
وفيما يلى وصف حالة تبين ذلك:
حالة: السيد م ..“ أخصائى اجتماعى فى أحد المصانع عمره 38 سنة أحضره أهله محمولا فى حالة رثة وقد أطلق لحيته وسال لعابه، وحكى أحدهم أنه أخذ ينزوى ويبكى منذ أربعة أيام على أثر ترك زوجته للمنزل ثم لم يعد يكلم أحدا ولا يأكل ولا يشرب ولا يحلق شعره أو ذقنه.. إلخ وبمحاولة سؤاله عن شكواه طأطأ رأسه ولم يرد إطلاقا… ثم انهارت الدموع من عينيه دون كلمة وكان أقاربه يشكون من أن مركزه كأخصائى معرض للخطر لذلك، ورفضوا رفضا باتا أى محاولة لإدخاله المستشفى وتعهدوا برعايته حرصا على مستقبله.
وبتقصى تاريخه المرضى: وجد أنه كافح طويلا – ماديا وأدبيا حتى وصل حديثا إلى هذا المركز الذى يشغله بعد أن كان موظفا كتابيا، أنه تزوج من شهور قلائل ثم حدث خلاف زوجى حاد انتهى بأن تركت زوجته المنزل فكان هذا هو السبب المرسب الذى بدأت بعده الحالة. ولما رفض أهله إدخاله المستشفى بدأ علاجه بالصدمات الكهربائية فتحسنت حالته بعد مرتين وجاء حليقا وقد غير ملابسه وأخذ يشكو … متضايق جدا يا دكتور وما كنتش دارى بنفسى .. كمنت حاسس إنى زى الميت، وياريتنى عملتها.. وقد حاولنا إقناعه بدخول المستشفى ثانية فرفض أهله كذلك. والظاهر إنهم اطمأنوا إلى تحسنه الظاهرى فخدعوا فيها رغم التأكيدات باستمرار ملاحظته..، وكان أن أنهى حياته بعد ذلك بأيام قلائل بالانتحار.
وهكذا ننتهى من وصف درجات الهوس ودرجات الاكتئاب كما تظهر فى الصور الاكلينكية المختلفة ونود أن نشير هنا إلى عدة نقاط تتعلق بهذه الدرجات وارتباطها بالنظام التشخيص الذى سيأتى ذكره بعد وبالتناوب الذى سبق ذكره فيما يلي:
1- ليس ضروريا ولا هو مألوف أن ينتقل المر ض بالتدريج من درجة إلى درجة على التتالى عند بدئه، فقد يبدأ المريض الهوسى بالهوس الهذيانى مباشرة، أو يبدأ بالدرجة مباشرة.
2- ليس ضروريا أن ينتقل المرض فيرحلة الشفاء إلى الدرجات الأقل بلى قد تنتهى النوبة ويعود المريض فورا إلى سابق أحواله.
3- هذه الدرجات- رغم أهميتها كصورة اكلينيكية- ليس تشخيصا قائماً بذاته بل تنويع للتشخيص المناسب كما سيرد ذكره تحت عنوان مشاكل تشخيصية.
4- هذه الدرجات جميعا هى الصورة النموذجية والأصلية للجنون الدورى، أو الاضطراب الداخلى الذى تحدده أساسا عوامل ورائية وتكوينية وتثيره إلى درجة بدنية غير مباشرة، فهى لا تشمل
أنواع الهوس والاكتئاب الأخرى غير النموذجية وغير المختلطة التى سيرد ذكرها.
وحتى نكمل وصف الصور الاكلينكية فلابد أن نتطرق أولا إلى حالات الهوس الأخرى وحالات الاكتئاب “الأخرى” ونخص بالذكر هنا بعض الأمثلة الشائعة فى كل نوع على حدة ثم نذكر بعض الأنواع المختلفة والخاصة.
أولا: حالات الهوس الأخرى
المثال: الهوس المزمن Chronic Mania:
يتصف هذا النوع بأن أعراض الهوس قد استقرت حتى أصبحت ظاهرة مزمنة لسنوات طويلة لا تنتهى، وقد أصبحت بالتالى أقل حدة وثراء حيث يقل فيه النشاط الحركى وإن ظل الكلام ثرثرة تكاد لا تنقطع، ولا يعود المريض إلى حالته الطبيعية أبدا، وتميل بعض حركات المريض إلى الأسلوب ككما تظهر الضلالات ضحلة وعابرة ونادرا ما توجد هلاوس، ويظهر هذا المرض عادة بعد سن الأربعين.
و لنا أن نتوقف قليلا لنتساءل: أين النوابية فى هذا المرض؟ وأين المرح؟ وأين الرجوع إلى الحالة الطبيعية بعد الإفاقة؟ كل هذا قد يؤدى إلى التساؤل عما إذا كانت هذه الحالة غير النموذجية ليست هوسا بقدر ما هى خليط من الهوس والفصام الكامن، أو أنها تأخذ هذه الصورة نتيجة لتأثير السن أو نتيجة لعوامل شخصية أخرى تؤثر على أعراض الهوس.
وعموما فإن هذا النوع لا يستجيب للعلاجات العادية مما يجعل شكنا فى محله أكثر فأكثر.
حالة: ع. ل.“ رجل فى الثانية والخمسين من عمره، ضج منه سكان حى مصر الجديدة حيث يسمعونه يوميا قبيل الفجر من كل يوم يتكلم بصوب عال وبلا انقطاع وهو يسير فى خطى سريعة عدة ساعات بين البيوت، وأحيانا يتبين السامع فى حديثه ألفاظادينية، وكثيرا مالا يستطيع أن يلاحقه، وهو يشير بيديه بين الفينة والفينة إشارة متظمة (كادت توحى عند الفحص أنه يطرد الوسواس أو الشيطان)، ثم هو يلحق صلاة الفجر فى الجامع جماعة، وقد تفوته نتيجة لإفراطه فى الكلام، وأثناء الصلاة يسمع صوته العالى كل المصلين حتى فى الطقوس العامة وقد نبهه إلى ذلك الإمام أكثر من مرة (وقد لاحظ الإمام أنه يصلى أحيانا بلا وضوء. وحين سئل عن ذلك قال إنه متعجل).
وهذا الحديث كله كان من وصف أخيه الذى أحضره للاستشاره أما هو فلم يكف عن الهمهمة والكلام حتى أثناء سرد أخيه للأحداث وكان يتدخل أحيانا لتعديل بعض التفاصيل.
وقد تبين أنه لا يعمل من ثلاث سنوات بعد أن سوى معاشه،وأنه لا يثور.. وقد يجتمع حوله بعض أفراد العائلة تبركا ولكنه أيضا لا يكف عن الكلام، فكان كلامه لا يتميز عن الهوسى العادى لا أنه يفتقد إلى حماسه وتصميمه.
.. أنا صحيح ما بابطلش كلام إنما داسر الهداية، لأنى باذكر ربنا كتير وبانهى الناس عن الشرور وساعات بيفهمونى وساعات ما يفهمونيش والسكة من بيتنا للجامع كلها ناس طيبين واللى اشتكونى هما الكسالى والكفره وسبح اسم ربك الأعلى بس هو يقبلنا.
ولم نستطع أن نوقف سيل كلامه حتى خرج وهو يكرر الإشارة الأسلوبية بشكل ملحوظ بعكس المعروف فى حالات الهوس النموذجية.
وهكذا نجد هذا النوع وقد افتقر إلى دفء الهوس (إن صح التعبير أيضا وهو تعبير يشير إلى خاصية اكلينيكية خاصة تتولد من الخبرةالاكلينيكية عير السنين ونحن نفترحه مقابل الشعور الذى وصفه رومك Rumke لتشخيص الفصام وهو الإحساس الفصامى (عند الفاحص).
ثانيا: حالات الاكتئاب الأخرى
ويمكن هنا أن نورد مثالين شائعين.
1- أولا: الاكتئاب المزمن المتراكم القلق.
2- ثانيا: اكتئاب سن اليأس.
1- الاكتئاب المزمن المتراكم القلق
Chronic Cumulative Agitated Depression
وهذا النوع من الاكتئاب لا يمكن إدراجه تحت أى نوع الاكتئاب سبق وصفه (مثل الاكتئاب العصابى أو التفعالى أو البسيط أو الدورى أو المتناوب .. إلخ)، وتبدأ الحالة عادة فى منتصف العمر دون سبب ظاهر (أو بعد سبب مرسب بسيط) وتأخذ مسارا مزمنا حتى يصل الاكتئاب إلى شدة ذهانية بمعنى الانسحاب من الواقع وتشويهه والشعور بالعجز المثبط مع الميل إلى الزيادة أحيانا فى النشاط الحركى غير الهادف تفريجا عن تراكم الضيق والتوتر، كما يصاحبه أفكار توهم المرض Hypochondria وتراوده أحيانا أفكار انتحارية، على أن اضطرابات الإدراك مثل خبرة تغير الذات أو تغير العالم أو الهلوسة لا تظهر فى هذا النوع إلا نادرا كما أن تاريخ العائلة يكون خاليا فى العادة من تاريخ إيجابى بالنسبة لأمراض الهوس والإكتئاب الدورية.
وهكذا نرى أن هذه الحالة تختلف تماما عن الاكتئاب الدروى ذى البداية الحادة والنهاية التلقائية المتميز بالعودة إلى الحالة الطبيعية والحزن العميق الغالب.. أما هنا فنجد أنه اكتئاب فعلا ولكنه يفتقد إلى عمق الحزن ويستبدله بتوتر الضيق (ويعبر بالزهق أكثر من تعبيرهم عنه بالهم أو الغم) كما أن الأعراض الجسمية وتوهم المرض توحى بدرجة من اللزوجة المنفردة تجعل التعاطف معه أقل من الحال فى الاكتئاب الدورى ، وكأن هذا النوع يقابل بشكل ما . . الهوس المزمن .
ويمكن اعتبار الأعراض مختلطة حيث يجتمع الاكتئاب مع زيادة النشاط الحركى فى حين أن الشائع فى ثالوث الاكتئاب هو هبوط الحركة كذلك . . .
وهذا النوع لا يستجيب بسهولة لكل أنواع العلاج المعروفة .
حالة : م . س “ مدرس فى إحدى المدارس الفنية، مطلق، عاد من بلد عربى أن قطع إعارته رغم المكسب المادى الأكيد . . . ما أقدرتش أستنى قاعد لوحدى رايح جى مافيش حاجة نافعة معايا آجى أنام أصحى آجى أصحى أنام وشكشكة فى جسمى وخايف على قلبى أحسن يجرى لى حاجة فى الغربة، قالو لى دا مرض الحنين للوطن . . ضغطت على نفسى شهر اثنين وستة، والآخر ماطقتش خدت بعضى وتنى جىّ..”
”بس ماتصدقش يا دكتور إن ده بسبب السفر، أنا قبل ما أسافر كنت برضه زهقان كده ومش على بعضى من غير سبب وبيتهيأ لى الطلاق كان بسبب الحكاية دى وأنا عمرى ما كنت كده بس ما تفهمش المصيبة دى قعدت تتدحلب لى شوية شوية لحد ما كبست على نفسى خالص . . . مش طايق صراحة . . ومش عايز أعيش بس خايف من ربنا، وإيدى وظهرى وعينى وصدرى وكلى بينقح ولا جلسات كهرباء حتى، خدت ثلاث جلسات الحالة أتنيلت أكتر، وجسمى كله تعب . . .”
وقد استمرت هذه الحالة لا تستجيب للعلاجات العضوية ولا تصبر على العلاجات النفسية أو التردد المنتظم على مواعيد جلسات العلاج المحددة، كثر غيابه دون اعتذار من المدرسة وكانت هذه الحالة موجودة منذ أربع سنوات لا تنقطع .
وفى ذات يوم وهو يزور أخته التى تسكن فى الدور الثانى وكان يجلس فى الشرفة، وقع من الشرفة وكسرت عظام فخذيه . . وحين نقل إلى المستشفى لم يذكر أنه أنتحر أو حاول ذلك وإن كان قد قال أنه ظل يذهب فى الشرفة ذهابا وإيابا ثم لم يدر إلا وهو فى الشارع .
وقد تضاعف الكسر بعد أيام بلا سبب ظاهر، وتلوث الجرح وقضى نحبه بعدها بأيام قلائل .
وهكذا نرى كيف تراكم الضيق سنة بعد سنة وكيف صاحبة قلق حركى عنيف انتهى به إلى انتحار مدبر، وكيف أنه لم يستجب لكل العلاجات التى مر بها ولم يستمر عليها .
2- إكتئاب سن اليأس
Evolutional Depression
وهذا النوع من الاكتئاب يظهر فى سن اليأس (وهو سن لا تحدده الظروف البيولوجية فقط مثل انقطاع الطمث عن المرأة، ولكن تحدده أيضا ظروف اجتماعية (مثل الاحالة على المعاش أو قربة) ونفسية وتاريخية كذلك.
وهذا النوع يعتبر أيضا من الحالات التى تختلط فيها بعض مظاهر الهوس مع الاكتئاب، كما أن له ميزات خاصة به يمكن أن تميزه عن سائر أنواع الاكتئاب الأخرى.
وهنا اختلاف شديد حول تشخيص هذا النوع من المرض:
التساؤل الأول هو: هل يشخص بميزاته الخاصة دون النظر إلى حدوث نوبات سابقة أم لا . . ؟ إذ أن هناك اتجاه يرى أنه ينبغى قصر هذا التشخيص على الحالات التى تحدث لأول مرة فى سن اليأس دون أن يسبقها
أى نوبة اكتئابية أو هوسية أخرى ، وفى رأينا أنه لوتباعدت النوبات تماما . . ووجدت المميزات الخاصة بهذا النوع بذاته والتى تختلف تماما عن النوبة (أو النوبات السابقة فإنه قد يحق لنا تشخيص هذا النوع .
والتساؤل الثانى هو: إذا لحق النوبة الأولى بعد شفائها نوبات أخرى مشابهة ولها نفس المميزات الخاصة بهذا النوع، هل نتراجع عن التشخيص ونطلق عليه اكتئاب دورى نوابى ونكتفى بذلك ؟
والجواب عندنا أنه طالما وجدت هذه المميزات الخاصة فيمكن أن يتكرر هذا النوع من الاكتئاب بعد النوبة الأولى دون حاجة إلى تغيير التشخيص .
والتساؤل الثالث هو: هل هناك مرحلة معينة من السن تعتبر ضرورة لتشخيص هذا المرض ؟
وفى رأينا أننا بطبعية اسم المرض ينبغى أن يحدث ما بين الخامسة والأربعين (بعد انقطاع الطمث عند النساء) إلى الخامسة والستين، ولو كان فى ذلك بعض التراجع إلى وسط العمر قليلا والامتداد إلى سن الشيخوخة بضعة سنوات فان الأهم – للمرة الثالثة – هى المميزات الخاصة لهذا المرض .
وبالتالى فلابد أن ندرس هذا النوع ذاته دون الإلتزام المتعصب لأن يكون السن والحدوث لأول مرة هما هاديا التشخيص الاساسيان .
أسباب المرض:
1- تلعب الوراثة دورا هاما فى حدوث المرض وقد لوحظ وجود تاريخ إيجابى فى العائلة لمرض الفصام بوجه خاص ( رغم أن المرض هو اكتئاب أساسا) (!!!)
2- الشخصية قبل المرض: تتصف الشخصية قبل المرض بأنها شيزويديه أو وسواسية ويتميز صاحبها بيقظة الضمير والحساسية الشديدة ويكون تاريخه عادة ملئ بالعمل والإنتاج والمثابرة .
3- قد نجد فى تاريخ المرض – وخاصة فى فترة المراهقة – إشارة إلى أزمات نفسية عابرة قد نأخذ شكل أزمات المراهقة أو الاشكال المجهضة (التى لم تكتمل) لنوبات فصام مبتدئ عابر استطاع المريض بالعلاج أو بدونه (وعادة بدونه) أن يمر منها بسلام ويستغرق فى العمل والمثابرة منذ ذلك الحين حتى تبدأ قواه تخونه فى هذه السن المتأخرة . . سواء بالتغير الفسيولوجى أو بالمواجهة الاجتماعية .
4- يقال أنه يكثر فى النساء عنه فى الرجال، وربما ذلك لإنفراد النساء بظاهر بيولوجية مزعجة وهى انقطاع الطمث .
المميزات الخاصة لهذا المرض:
بالإضافة إلى ما سبق الإشارة إليه من أنه يحدث فى سن متأخرة وأن للاسرة تاريخ فصامى وأن الشخصية قبل شيزويدية أو وسواسية وأن أزمة المراهقة لدية لم تمر بسلام (إلا سلام ظاهر) فإن هذا المرض يتصف أيضا بما يلى :
1- يبدأ عادة – تدريجيا دون مفاجآت عنيفة أو مصاحبات تغير حاد فى الإدراك مثل خبرة تغير الشخص أو تغير العالم من حوله وإن كان يحدث أحيانا.
2- يغلب على الإكتئاب مظاهر اليأس .. وإعادة تقيم الحياة السابقة بأنها كانت هباء .. وإعلان فساد العالم .. والشعور المؤلم والقاسى بالوحدة .. والخوف من الهجر والترك ونكران الجميل .
3- يصاحب ذلك قلق وعدم استقرار حركى ..
4- قد يظهر المريض خوفه وتوجسه من المؤثرات (والحركات) التى تدور حوله .
5- قد توجد ضلالات اتهام الذات جسمية كثيرة مثل الضغط حول الرأس، والدوار والعرق الغزير والخفقان .
وفيما يلى وصف لحالة تمثل هذا النوع من اكتئاب سن اليأس:
حالة: سيد م “ موظف على وشك الإحالة على المعاش عمره 59 عاما ويقيم فى القاهرة ويشغل منصبا علميا كبيرا وهو متزوج وله ثلاثة أولاد وبنت جاء يشكو من فقد الشهية وعدم الاستقرار وشدة الصداع والخوف من الأرق: … مش عارف مالى ، أنا كنت أصلى الفجر فى مكتبى إنما دلوقتى حاسس إنى …ماليش لازمة، مع إن الشغل زى ما هوه والناس بيحترمونى زى زمان إنما حاسس إن ده مش المكان بتاعى حاجة تصبيره كده والسلام وبلغ من عدم استقراره واضطراب تفكيره وسوء تأويله أه سافر إلى الاسكندرية للتصييف … فوصلته رسالة محولة من ابنه فى اليمن … فصمم على أن يغادر الاسكندرية إلى القاهرة ويقطع اجازته حتى لا يساء الظن به ويقال أنه يتمتع بالأجازات والرفاهية بينما أبنه يلاقى الصعاب دفاعا عن الوطن . . ؟ وتقول زوجته هو طول عمره جد كده ويعرف ربنا .. إنما ما يتحملش مسئوليات البيت أبدا ولا يحبش التجديد ولا الاغتراب . . تجيله سفرية بره يأجلها بالطول ولا بالعرض .. وضيع فرص كتير على نفسه بالشكل ده والظاهر إنه خايف من الفضا بعد ما يقعد فى البيت .. فما يشغل مخه بأى حاجة حتى بالأفكار السوداء.
وبدراسة تاريخه: تبين أنه أصيب وهو فى سن السابعة عشر باضطراب نفسى منعه من الحصول على مجموع عال فى التوجيهية رغم أنه كان قبل ذلك أول دفعته دائما فتغير منذ ذلك الحين تاريخه الدراسى .. ولكنه واصله حتى حصل على أعلى الدرجات من الداخل والخارج .
وقد أعطى علاجا بالعقاقير وعلاجا نفسيا واجتماعيا فتحسنت حالته كثيرا، ولكن الحالة عاودته بمجرد انتهاء السنة التى مدوها … فزيدت العقاقير وتضاعفت الرعاية حتى مر بهده الفترة الحرجة واستقر على الوضع الجديد وعاد إلى حالته الطبيعية تماما، وعادت ثقته بنفسه واطمئنانه على أولاده بل وأمله فى المستقبل…
مشاكل تشخيصية:
رغم أن أمراض الهوس والاكتئاب (وبخاصة الصورة الاكتئابية منها) شديدة الشيوع إلا أنها تمثل مشكلة تشخيصية قائمة بذاتها من حيث التصنيف فيما بينها للأسباب التالية:
1- وجود أنواع كثيرة على درجات التدرج النفسى والعقلى من
أول الاكتئاب العصابى والتفاعلى حتى الاكتئاب الذهانى، مارين بالاكتئاب البسيط غير الذهاني.
2- وجود درجات مختلفة بالنسبة لكل طور على حدة (راجع درجات طور الهوس ودرجات طور الاكتئاب).
3- وجود أشكال مختلفة للتناوب بين الهوس والاكتئاب.
4- وجود حالات كثيرة غير نموذجية ومختلطة ومزمنة.
5- ظهور المرض فى مختف الأعمار، وارتباط بعض أنواعه بسن معين (راجع اكتئاب سن اليأس).
6- وجود ظاهرة الاكتئاب بشكل متواتر كظاهرة طبيعية فى الحالة اليومية..
فإذا رجعنا إلى الدليل المصرى وجدنا أنه قد تعرض لبعض هذه المشاكل التشخيصية وتجنب البعض الآخر، فإذا أردنا تصنيف الاكتئاب والهوس حسب هذا الدليل لترميزه والتحدث بالغة السائدة فإن علينا أن نضيف بعد كل تصنيف (أو رمزه) بعض الصفات الموضحة للدرجة أو الحدة بحيث يصبح الأمر أكثر فهما ووضوحا حيث أن التصنيف فى الدليل يضع أهمية خاصة للتناوب أكثر من الدرجة أو الحدة..
وعلى ذلك فيمكن أن تدرج أنواع الهوس والاكتئآب حسب هذا الدليل المتفق عليه على الوجه التالى (وكل الوصف قد سبق ذكره فى هذا الفصل أو الفصول السابقة:
1- الاكتئاب العصابى: حيث يكون الاكتئاب دفاعا ضد القلق فى محاولة التكيف مع الضغوط الخارجية والداخلية [الرمز 4/10].
2- الاكتئاب التفاعلى والموقفى: فرذا كان ذو حدة وطبيعة عصابية وضع [تحت الرمز 7/10] أما إذا بلغت شدته درجة ذهانية ومال إلى الإدمان وضع تحت الرمز صفر 3/9] أى أدرج تحت الذهانات الوظيفية الأخرى المرتبطة بموقف معين والمحملة بأعراض الاكتئاب المعجزة والمشوهة للواقع. [وكذلك الهوس التفاعلى ولو أن هذا التشخيص نادر أو منعدم لطبيعة ندرة المؤثر القادر على إثارة الهوس بدرجة تناسب تشخيصه تفاعليا إلا فى حالات الهوس الخفيف أحيانا].
3- إذا كان المريض يعانى من تناوب من نوع الطور الواحد.. وكان هذا الطور اكتئابا باستمرار دون وجود أى نوبة هوسية كان رمزه صفر 6/صفر]
تذكر درجة الاكتئاب مثلا: أمراض الهوس والاكتئاب: أنواع الاكتئاب: الاكتئاب الحاد.
4- إذا كان الاكتئاب متناوبا مع نوبات الهوس، وضع مع النوع الدورى وكان رمزه [صفر/3].
وهنا يذكر الطور الحالى ودرجته أيضا: مثال: أمراض الهوس والاكتئاب: النوع الدورى: النوبة الهوسية: هوس حاد.
5- إذا كان الاكتئاب مختلطا مع أعراض الهوس فى نفس النوبة دون إمكان إدراجه تحت نوع خاص يصفه وضع رمزه [صفر/3].
6- اكتئاب سن اليأس (وقد نوقشت مشاكل تشخيصه تفصيلا) ورمزه [صفر4/6].
7- الاكتئاب المزمن المتراكم القلق (وسبق شرحه تفصيلا) يوضع تحت الرمز [صفر5/6].
8- حالات الهوس المتكررة فى نوع من التناوب ذو طور واحد وهوالهوس (دون ظهور أية اكتئاب) تدرجة تحت الرمز [ صفر1/6].
9- حالات الهوس المتناوبة مع الاكتئاب سبق ذكر رمزها فى بند (4) ورمزها كما ذكرنا [صفر2/6].
10- حالات الهوس الأخرى مثل الهوس المزمن تدرج تحت رمزه [صفر 6/6].
11- إيه حالة بعد ذلك تظهر دون أن تقع تحت أى من الرموز السابقة يمكن أن تدرج تحت الرمز المفتوح لأى احتمالات أخرى [صفر9/6].
ومازال الرأى مختلفا حول الاكتئاب التخفى Masked depression ومكافئات الاكتئاب Depressive Equivalent من أمثال الوسواس الدورى والكاتوتونيا الدورية، والذهان الدوري.. وهل توضع مع مجموعة أمراض الهوس والاكتئاب أم تصنف فى مكان آخر، ولن نتطرق إلى مناقشة هذه المشكلة تفصيلا إذ أن هذا خارج عن مجال وحجم هذا العمل.
العـلاج:
يتوقف العلاج – بداهة على نوع المرض ودرجته، وسوف نورد هنا الخطوط العريضة للعلاج فحسب:
أولا: العلاج العضوى:
1- العقاقير: ظهرت فى السنواب الأخيرة عقاقير متنوعة سميت مضادات الاكتئاب وقسمت تقسيمات مختلفة حسب التركيب الكيمائى ودرجة فاعليتها.. ففى الحالات البسيطة والعصابية تعطى مضادت الاكتئاب
من نوع مثبط أحادى الأمين (مثل البارنات أو الماربلان) وفى الحالات الشديدة والذهانية نعطى المجموعة ذات الثلاث دوائر Tricycles مثل التوفرانيل والتريبتيزول.
أما فى حالات الهوس فإن المهدئات العظيمة من فصيلة الفينوثيازين والهالوبيريدول قد صلح تماما، وقد ظهرت أخيرا أملاح الليثم التى تعتبر علاجا خاص وناجحا لطور الهوس، ويقال إنها علاج لنوبات الاكتئاب على المدى الطويل.
كما يمكن استعمال عقاقير أخرى لعلاج الأعراض المصاحبة مثل القلق أو فقد الشهية.
2- الصدمات الكهربائية: وهذه من أنجح العلاجات حتى الآن فى حالات الاكتئاب خاصة. وهى تستعمل الآن بطريقة سليمة على ناحية منالمخ فلا تحدث نسيانا … وهى نافعة فى كل حالات الاكتئاب الدورى تقريبا حتى البسيط منها إذا عجزت العقاقير، ولكنها لا تصلح فى حالات الاكتئاب العصابى والاكتئآب المزمن المتراكم القلق.. كما أن توقيتها مهم للغاية فهى تصلح فى أول ظهور المرض وقرب نهايته بدرجة أكبر مها فى قمة حدة المرض. هذا وقد تصلح الصدمات قرب نهاية دور الهوس بعد ضبطه بالعقاقير وقبل دخوله مرحة الاكتئاب قبل الشفاء.
3- علاج الانسولين المعدل: قد يصلح فى حالات الاكتئاب البسيط وخاصة هذا أو ذاك الهزال وفقد الشهية.
4- العلاج النفسى: قد يصلح العلاج التدعيمى والتفريغى فى حالات الاكتئاب البسيط وقد يغير العلاج النفسى المكثف والعلاج الجمعى بين النوبات لإحداث تغيير جذرى فى الشخصية يسمح بالتعبير عن هذه الطاقة الداخلية بطريقة منتظمة ومستمرة وبناءه بدال من ظهورها فى نوبات مرضية كلما فاضت عن درجة استيعاب النشاط الخارجى لها..
5- العلاج الاجتماعى: ويصلح فى حالات الاكتئاب التفاعلى بإصلاح ظروف البيئة بحيث تصبح أقل ضغطا على المريض فى أول الأمر وحتى يتم تعليمه لنوع أفضل من التفاعل يجابه به مشاكل حياته.
المـوجـز
أمراض الهوس والاكتئاب
هذه المجموعة من الأمراض تمثل اضطرابا أساسيا فى العاطفة يتبعه اضطراب فى التفكير والسلوك الحركي: سرعة (هوس) أو إبطاء (اكتئاب وهى تشمل طورين اكلينيكيين يتناوبان بإنتظام أو بغير إنتظام، وأحيانا لا يظهر طوال حياة المريض إلا طور واحد.
الصفات العامة لهذه المجموعة:
أولا: الأسباب:
1- الوراثة: تلعب الوراثة دورا هاما فى هذا المرض (تاريخ إيحابى فى أكثر من 70% من الحالات)
2- الجنس: يغلب حدوث هذا المرض – فى بعض الأحوال عند السيدات.
3- العنصر: قد يكثر هذا المرض فى بعض العناصر مثل اليهود والاسكتلنديين وأهل النوبة.
4- الشخصية قبل المرض: قد تتصف بالنوابية فى حالة النوع الدورى وبالشيزويديه أو الوسواسية فى أنواع أخرى مثل اكتئاب سن اليأس .
5- الغدد الصماء: قد تلعب دورا هاما إذ قد يظهر المرض عند التحولات البيولوجية (سن اليأس).
المظاهر الاكلينيكية:
1- طور الاكتئاب: ثالوث الاكتئآب:
(أ) مزاج مكتئب، وقد يتبادل مع القلق أو الخوف.
(ب) بطء فى الحركة.
(ج) صعوبة وبطء فى التفكير.
2- طور الهوس:
(أ) مزاج مرح: وقد يتبادل مع الغضب أو الخوف.
(ب) زيادة فى النشاط الحركي.
(ج) طيران الأفكار.
درجات المرض:
أولا: درجات طور الهوس:
1- الهوس الخفيف:
(أ) يوجد ثالوث الهوس بدرجة طفيفة.
(ب) يستطيع المريض أن يحافظ على علاقته بالبيئة.
(ج) لا يظهر سولكا شاذا ولا يعتدي.
(د) يرسم خططا كثيرة ولا ينفذها.
(هـ) تظل ذاكراته سليمة وقد تزداد حدة.
2- الهوس الحاد:
(أ) يشتد ثالوث الهوس ويحل محل المرح غضب وميل إلى الشك.
(ب) تضطرب العلاقة بالبيئة ويصل الهياج إلى العدوان والتحطيم.
(ج) يشتد انتباه المريض ويتوزغ ويتنقل بسرعة حتى لا يستطيع التركيز على أى شئ.
(د) تزيد سرعة طيران الأفكار حتى تبدو غير مرتبطة.
(هـ) تظهر الهلاوس والضلالات ولكنها مؤقتة ومتغيرة ومرتبطة بالاضطراب الإنفعالى الأساسي.
(و) قد يضطرب إدراك المريض بالنسبة للزمان والمكان والأشخاص.
(ز) تختل بصيرته تماما وأحيانا يعتبر نفسه قد شفى (من الحياة العادية).
3- الهوس الهذياني:
(أ) يتهيج المريض بشكل مرعب.
(ب) لا يتعرف المريض على الزمان والمكان والأشخاص أصلا.
(ج) يصاب بهلاوس متنوعة، وكذلك الضلالات.
(د) يزداد شكه فيمن حوله وخوفه ويختفى المرح تماما.
(هـ) يفقد بصيرته نهائيا ويتصرف بغير تحرج إطلاقا.
ثانيا: درجات طور الاكتئاب:
1- الاكتئاب البسيط:
(أ) ثالوث الاكتئاب موجود ولكنه لايصل إلى شدة ذهانية.
(ب) لايوجد سبب ظاهر لهذا المرض.
(ج) يفقد المريض شهيته ويقل نومه ويستيقظ مبكرا.
(د) يعجز عن التركيز والاستيعاب.
(هـ) قد يصاحب كل ذلك أعراض جسمية مثل الصداع والإمساك.
2- الاكتئاب الحاد:
(أ) يشتد ثالوث الاكتئاب.
(ب) يصبح المريض منعزلا ويقل كلامه.
(ج) تزداد الشكاوى المرضية ويغلبه اليأس.
(قد يصاحب ذلك هلاوس وضلالات الشعور بالذنب.
(هـ) قد تكون بدايته حادة يصاحبها خبرة الشعور بتغيير الذات.Deperesonalistion
(و) قد تسيطر على المريض أفكار انتحارية.
3- الاكتئاب الذهولى:
(يبلغ الهمود درجة تقرب من الغيبوبة.
(ب) يختفى الاكتئاب الظاهرى ويبدو وكأن المريض لا يحس بأى شعور رغم أنه فى عمق حزنه.
تتأثر حالة المريض البدنية فيهزل، وتزرق أطرافه ويصبح لونه ترابيا.
(د) قد تطرأ عليه أفكار انتحارية ولكنه لا يستطيع تنفيذها.
بعض الحالات غير النموذجية:
أولا: الهوس المزمن: هنا طور الهوس، وتقل حدة الأعراض، ولا يرجع المريض أبدا إلى حالته الطبيعية، وهو يحدث حول سن الأربعين، ويغلب على المريض الأسلوبية، ويفقد دفءالهوس ويحصل محله درجة من الإلحاح والإزعاج.
ويرجع بعض هذا التحوير فى شكل الهوس إلى اختلاطه بذهان فصامى كامن أو لحكم السن، ولكن الشخصية تتغير بشكل ملحوظ.
ثانيا: الاكتئاب المزمن المتراكم القلق: وهو الشكل لامقابل للهوس المزمن، وهو يبدأ تدريجيا فى منتصف العمر ولا يصاحبه اضطربات فى الإدراك مثل خبرة تغير الذات كما لا يصاحبه هلوسات ولا توجد فى عائلة المريض تاريخ إيجابى لمرض الهوس والاكتئاب الدوري، ويصحب الاكتئاب حالة من القلق الحركى والأوهام المرضية، واضطربات وظائف الجسم ويصعب علاجه (وذلك مثل الهوس المزمن تماما).
ثالثا: اكتئاب سن اليأس: وهو الاكتئاب الذى يحدث لأول مرة – عادة – فى سن اليأس (حول انقطاع الطمث عند النساء وحول التقاعد عند الرجال)، وهو يحدث أكثر فى النساء، وفى الشخصيات الشيزويدية والوسواسية التى تتصف بالمثابرة فى العمل الجدية فى الحياة، وقد تجد تاريخيا
إيجابيا فى العائلة لمرض الفصام كما قد نجد تاريخا شخصيا لأزمة مراهقة عند المريض لم تمر بسلام ويتميز هذا المرض بما يلى:
(أ) البداية التدريجية.
(ب) اليأس والشعور بالوحدة والقلق الحركي.
(ج) التوجس ولاشك.
(د) قد توجد ضلالات اتهام الذات أو الضلالات الانعدامية.
العلاج:
يتوقف العلاج على نوع المرض ودرجته.
أولا: العلاج العضوي:
1- العقاقير:
(أ) مضادات الاكتئاب فى حالات الاكتئاب.
(ب) عقاقير مساعدة للأعراض المصاحبة.
(د) يقال إن أملاح الليثيام تمنع عودة الأمراض.
2- الصدمات الكهربائية:
(أ) تفيد تماما فى حالات الاكتئاب الدورى أحيانا وفى اكتئاب اليأس.
(ب) تفيد أكثر فى وقت أول المرض وقرب نهايته.
(ج) قد تفيد حالات الهوس بعد ضبطها بالعاقير.
(د) لا تفيد فى حالات الهوس المزمن والاكتئآب المزمن المتراكم.
3- علاج الأنسولين المعدل: فى حالات الاكتئآب البسيط المصاحب بالهزل.
4- العلاج النفسي:
(أ) يصلح النوع التعدعيمى أثناء شدة المرض.
(ب) يصلح النوع المكثف والعالج الجمعى الطويل للوقاية من عودة النوبات.
5- العلاج الاجتماعي: لتخفيف ضغوط البيئة أثناء حدة المرض حتى يتم تغيير الشخصية لمواجهة الأمر الواقع بطريقة أنجح.
الفصل الثامن
الفصام
(الشيزوفرينيا، ورمزه فى الدليل المصرى صفر 7)
مرض الفصام (أو أمراض الفصام) هو مشكلة المشاكل فى الأمراض النفسية فهو من ناحية.. أخطر الأمراض وأكثرها تهديدا بالتدهور والاضمحلال، ومن ناحية أخرى أكثرها غموضا وتداخلا مع سائر الأمراض، ومن ناحية ثالثة يحوى أنواعا متباينة حتى ليكاد بعضها يبدو وكأنها عكس الآخر، وأخيرا فإن استجابته للعلاج تختلف من نوع إلى آخر.. بحيث يصعب التنبؤ متى يتوقف سير المرض ومتى يتدهور المريض.. وقد لجأ الدليل المصرى إلى تحديد طبيعة هذا المرض بالإشارة إلى أنه يثير مظهرين مرضين:
أولهما: أنه يشير إلى تطور عملية ذهانية تسبب تخلخل الشخصية وتفككها.
وثانيها: أنه يشير إلى نتاج هذه العملية فى صورة اختلال الشخصية… وما أصابها من عجز ونقصان وتدهور فى النهاية.
وبالتالى فإن اختلاف مظاهر أنواع الفصام يرجع إلى تداخل هذين البعدين بعضهما مع بعض.
ويمكن شرح مرض الفصام وصفيا بالقول بأنه مرض عقلى يتميز بأعراض متنوعة أهمها الميل إلى الإنسحاب من الواقع والجنوح إلى التدهور التام للشخصية فى ناهية الأمر، وهو يظهر فى مجال العاطفة فى صورة ثنائية الوجدان أو تناقض الشعور والوجدان، وسرعة تذبذب العواطف، ولا توافق العواطف مع الفكر أو ا لسلوك العملي، وأخيرا فقد الشعور واللامبالاة.
أما فى مجال السلوك العملى والإرادة فإنه يظهر فى شكل سلوك حركى شاذ وميل إلى الخلف، وأحيانا ذهول تام.
وفى مجال التفكير والإدراك فإنه يظهر أساسا فى شكل سوء تأويل المدركات والعجز عن التجريد، وتفكك الأفكار، وتكاثفها، وقد توجد هلاوس وضلالات غير منظمة فى العادة.
وهكذا نجد أن شمول هذا التعريف الوصفى وغموضه فى نفس الوقت يجعلنا أمام مشكلة تصنيفية صعبة بالمقارنة بمرض الهوس والاكتئاب أو البارانويا حيث يوجد اضطراب أساسى (فى الانفعال أو محتوى الفكر بالتوالي) نرجع إليه سائر الأعراض. ولفظ فصام هو اللفظ الذى فضلنا استعماله عن تعبير، انفصام الشخصية حتى لا يحدث خلط بين هذا المرض وبين ازدواج الشخصية الذى هو مرض هستيرى انشقاقى أساسا..
(ويمكن استعمال لفظ شيزوفرينيا متبعين نفس قاعدة الاحتفاظ بالتعريب دون الترجمة إذا كان الأصل لاتينيا) والفصام يشير إلى تفكك مكونات النفس عن بعضها وتشمل ثلاثة أبعاد:
1- تفكك مستويات النفس عن بعضها: (بما تشير إليه من مستويات الأنا وحالات الأنا أو نوعيات الوجود أو مستوياته إلخ) ذلك بمعنى أن المستوى الأقدم – مثلا – ينفصل عن المستوى الأحداث ويعمل الأثنان فى نفس الوقت وفى نفس محيط الوعي; فى تنافس وتضاد أحيانا فيختلط الأمر وتظهر الأعراض، من نتاج هذا التنافس والتضاد والصدام.
2- تفكك الوظائف النفسية عن بعضها: فإذا تذكرنا أن وظائف الشخصية هى التفكير والعاطفة والعمل فإن التفكك هنا يعنى أن كلا منها يسير فى واد، فالتفكير فى واد، والعاطفة فى واد.. والعمل قد يوافق أحدهما ويخالف الآخر أو لا يوافقهما إطلاقاً، أو بمعنى آخر لو شبهنا الشخصية بساعة لها ثلاث تروس (شكل 1) لأمكن أن نتخيل كل منهما يسير كيفما اتفق دون اعتبار لزميله (شكل9).
ومعنى هذا أن الساعة تصبح فاسدة وعاجزة عن تأدية وظيفتها، وهذا هو ما يفعله الفصام فى الشخصية تماما حين يستتب أمره.
3- تفكك داخل الوظائف ذاتها: بمعنى أن التفكير ذاته – مثلا – بعد أن يكون متسلسلا ذا فكرة رائدة وهدف واضح يتفكك ويفقد هذه الفكرة المركزية Central Idea وتصبح الأفكار غير مترابطة، ومتداخلة، وعشوائية وغير هادفة كما أن العاطفة تتفكك فى داخلها بمعنى أنها قد تحلل إلى أصولها فيختلط الغضب بالخوف بالفرح الطفلى فى آن واحد أو بالتبادل السريع بينها. كما أن العمل تتفكك وحداته، فيصبح غيرمتصل ولا هادف وتصبح الحركات مكررة أو مبتورة.
وبديهى أن هذه الدرجات من التفكك يلحق بعضا; فالدرجة الأولى نراها فى بداية العملية الفصامية والدرجة النهائية نراها عند استتباب المرض.
الأسباب
(أ) الوراثة:
1- لوحظ حوالى 50% من عائلات الفصامين عندهم تاريخ إيجابى للمرض العقلي.
2- لوحظ أن التوائم المتماثلة تصاب بنسبة 60 إلى 80% بالفصام إذا أصيب أحدهما به.. حتى لو نشأوا بعيدا عن بعضهم.
3- لوحظ أن أشقاء الفصاميين يصابون بالفصام بنسبة حوالى 14% وأن الأخوة غير الأشقاء بنسبة 7% وأن أطفال الفصاميين يصابون بنسبة حوالى 16%، ماذا قارنا هذه النسبة بنسبة تواتر الفصام فى عامة الناس وهى 1% تقريبا تبينا كيف أن هذا المرض له أسباب وراثية واضحة.
4- اختلف العلماء فى نوعية الوراثية ما بين مورث متنح، أو متعدد والمهم هنا هو الإشارة إلى أن هذا المرض شائع (حيث يعتبر المرض شائعا إذا زادات نسبته فى الناس عن 1 فى 10.0000) وفى نفس الوقت هو خبيث تطوريا (لأن مدى عمر من يصاب به أقل من العمر العادى كما أن خصوبته وقدرته على الإنجاب أقل من الشخص العادى).
وهذا التآلف مستحيل نظريا بمعنى أنه لو صدقنا أن هناك مرض شائع وخبيث فى نفس الوقت لقضى على البشرية وانقرض الإنسان.
ولقد قدم فرض يقضى بأن الفصامى لايرث المرض وإنما يرث الاستعداد له وتحدث المرض إذا صادف هذا الاستعداد مرسبات تربوية أو بيئية وهذا الافتراض يعتبر الفصام أحد التفاعلات المرضية Reaction لصعوبات الحياة وهناك تفسير آخر وهو أن الموروث هو خاصية تطورية مفيدة (مثل الطاقة الخلاقة أو مقاومة الأمراض والصعوبات) وأن الفصام ما هو إلا الطفرة السيئة لهذا المورث الجيد، بمعنى أن التطور الذى تم نتيجة لهذا الاستعداد الموروث حدث فى اتجاه سلبى هو المرض وليس فى اتجاه إيجابى ناحية الإبتكار والإبداع.
وقد استدل أصحاب هذا الرأى على ذلك بأن أقارب الفصاميين الذين لا يصابون بالفصام تكون لهم ميزات جسمية وعقلية عن الشخص العادى لهذا فإن الفرض يفتح أبوابا آملة لتطور الإنسان حيث تصبح مهمة التربية هى توجيه هذه الطاقة إلى التفوق والإبداع. بدلا من توجيهها سلبيا إلى المرض.
وتصبح الوراثة ليست سبة دامغة وإنما هى إمكانية علينا مسئولية توجيهها.. وتحتم هذه النظرة المتفائلة إلى طبيعة المرض وإمكانيات المريض مزيدا من العناية بالمرضى وأقاربهم على أمل الحصول منهم على قدراتهم الابتكارية فى خدمة المجتمع.
(ب) السن:
يبدأ المرض عادة فى سن المراهقة والشباب، فلقد لوحظ أن ثلثى الحالات تحدث بين سن 30،15 كما أن أكثر سن يحدث فيه المرض هو حول 25 سنة، ولكن بعض أنواع الفصام (مثل بعض حالات الفصام التصلبى – الكاتاتونى – أو الضلالي) تحدث فى سن متأخرة نوعا.
(ج) التكوين الجسمى والشخصية:
لوحظ أن الفصام تحدث فيمن يتصفون بالنحافة أو التكوين الجسمى غير المنتظم، كما لوحظ أنه يحدث للأشخاص ذوى الشخصية الفصامية الاتجاه الشيزويديين وخاصة الذين يتصفون بالمثالية والإصرار على تحقيق المطلق دون سعى يومى واقعى إليه.. أو حتى إلى مادونه.. على أن التكوين الجسمى قد يتغير فى الحالات المتدهورة من الفصام،إذ قد يصبح النحيف بدينا ذا تكوين غير منتظم وهذا فى ذاته علامة سيئة لو حدثت فإنها تدل على سرعة التدهور.
(د) التغيرات الجسمية (الكيميائية.. والهرمونية… والتركبية):
وقد لاحظ كثير من الباحثين أن هناك اضطرابات فى أجهزة الجسم المختلفة تصحب مرض الفصام ومن ذلك:
(1) اضطرابات الغدد الصماء: فالفصام يحدث نادرا قبل البلوغ، وقد يكون العامل المرسب فيه هو النفاس أو انقطاع الطمث مؤقتاً كما أن مرضى الفصام يفتقرون عادة إلى إكتمال النضج الجنسى ولذلك، فقد تظهر صفات الرجولة فى الإناث. والأنوثة فى الرجال.. ويكون هذا دليلا على مصير سئ للمريض وهناك ملاحظة أخرى بالنسبة لقشرة الغدة الكظرية (فوق الكلوية) وهى أنها تكون أضعف من المستوى الطبيعى فى استجابتها للضغوط وذلك لأن إفرازاتها فى هذه الحالة تكون أقل من المعدل الطبيعي.
وقد وجد الباحثون فى علم الأمراض بعض التغيرات الميكروسكوبية فى خلايا الخصيتين والمبيضين وكذا الغدة النخامية ونخاع الغدة فوق الكلوية ولكن الربط بين هذه التغيرات وبين مرض الفصام كان – ومازال – موضع شك من كثير من الباحثين.
(2) اضطرابات فى التمثيل الغذائى: عزى بعض الباحثين قتامة لون بشرة الفصامى إلى اضطرابات فى التمثيل الغذائي، وقد وجد أن متوسط مقاييس الفصامى تكون دون الطبيعى من حيث وزن الجسم. وسريان الدم وسرعة النبض وضغط الدم الإنقباضي. واستهلاك الأكسجين وحركة الأمعاء، وسرعة التمثيل القاعدي. كما لوحظ أن استجابة المريض للمثيرات أقل من غيره ومن أمثلة المثيرات. الأدرينالين والانسولين ولثيروكسين وغيرها.
كما وجد أن قيم مستويات التمثيل الغذائى فى الدم (مثل الجلوكوز. والمواد المنروجينية غير البروتينية والكرياتين وثانى أكسيد الكروبون) غير مستقرة.
وقد وصف بعضهم اضطرابات دورية فى المواد النيتروجينية غير البروتينية وتتبعها بإنتظام فوجدها تساير أطوار الفصامى التصلبى.
وأخيرا فهناك من يعتقد أن اضطراب التمثيل الغذائى فى الفصام يتمثل فى إفراز مادة سامة مثل الهستامين أو مادة متوسطة منتثيل الأدرينالين هى الأدرينو كروم أو مشتقاته، وآخرون يعتقدون أن اضطراب الكاتيكولامينات، أو إنزيمات الأمينات، أو السيروتونين وبصفة عامة الموصلات العصبية.. يعتقدون أنها تتغير بشكل معين وأن هذا هو السبب فى حدوث الفصام.
ولابد أن نقف هنا وقفة قبل أن يضطرنا غموض مسببات الفصام وطبيعته إلى التسليم لأول ظاهرة كيميائية أو عضوية على أنها السبب وإلا فإننا نكون قد جاوزنا العلم خوفا من تحمل الغموض،وسعيا إلى التحديد المتعجل فنسير على غير هدي، ونورد فى هذا الصدد عدة ملاحظات هامة.
(1) إن وجود هذه المواد زيادة أو نقصا هى ظواهر جزئية وأن علاقتها بوظيفة المخ من ناحية وبسائر المواد التى لم تختبر من ناحية أخرى لابد أن تؤخذ فى الإعتبار،وهى غير معروفة حتى الآن.
(ب) أن كثيرا من نتائج الأبحاث الكيميائية التى نتحمس لها سرعان ما تظهر نتائج الأبحاث اللاحقة مضادة لها.. وهذا لا يمنع أن نأخذ الحقائق الحالية ولكن علينا أن نتواضع ازاءها، ونعتبرها ظاهرة محدودة أو مجرد فرض حتى يتم التيقن منها.
(جـ) أن العلاقة السببية بين هذه المواد المكتشفة وظهور مرض الفصام غير واضحة، بمعنى أنه لايوجد دليل يؤكد أيهما النتيجة وأيهما السبب.. ولقد يثبت (وهذا محتمل جدا) أن الفصام هو سبب ظهور هذه المواد وليس العكس أى أن هذه المواد لا تحدث الفصام. وأنما تتنج عنه!!
(د) أن الأبحاث المعملية.. (على غير الأحياء.. وعلى الحيوانات) لا يمكن تعميمها بسهولة على الإنسان.
(هـ) أن الحماس لهذه الحقائق الجزئية قد يكون مهربا من مواجهة الفصام كمشكلة وجود وظاهرة نفسية تدهورية قد نتعلم من التعمق فيها ما يساعد مسيرة الإنسان بصفة عامة مريضا وسليما.
وعلى ذلك فإننا ينبغى ألا نهمل هذه الحقائق وعلينا أيضا.. أن نأخذها بحجمها الحقيقى ونضعها فى الإطار الشامل للأسباب والنتائج لهذه المشكلة الخطيرة.
(هـ) الجهاز العصبى المركزى: حاول بعض المشتغلين بطب الجهاز العصبى أن يفسرو مرض الفصام بما يصيب الجهاز العصبى المركزى من تغيرات فرأى بعضهم أن اضطراب الغدد الصماء وكذا اضطراب النوم والأعراض التصلبية تشير جميعا إلى تغير فى وظيفة المخ الأوسط Diencephalon. ووصف آخرون تغيرات مجهرية فى خلايا القشرة المخية Cerebral Cortex وقد ذهب بعضهم – بعد دراسة مكان تأثير العقاقير التى تحدث تسمم.
شبيها بالفصام والمسماة: محدثات الذهان Psychotogenic drugs ثم دراسة تأثير العقاقير التى تحبط مفعول محدثات الذهان وهى العقاقير المهدئة العظيمة Major Tranquilizers ذهب هؤلاء إلى أن مصدر الهلاوس والضلالات يوجد فى المنطقة الحاجزية Septal area ومجاوراتها.
على أن كل ذلك – مع الأسف – لم يثبت صحته بصورة نهائية حتى الآن ومازال فى مرحلة الفرض الذى يلزم تحقيقه.
وقد ذهب البعض إلى القول بأنه كما يؤثر اضطراب النفس على أى جهاز من أجهزة الجسم بما يسمى الأمراض السيكوسوماتية، فإن اضطراب النفس يؤثر على المخ بنفس الطريقة، وذلك فى المراحل المتأخرة لمرض الفصام، وقد وصفت تغيرات شديدة فى تنظيم خلايا المخ وتدهورها فى هذه الحالات المتأخرة وقيل أنها نتيجة لاضطراب عمل مستويات المخ وعدم تآلفها طوال سنوات طويلة.
وهنا يلزم ثانية مراجعة أيهما السبب وأيهما النتيجة.
(و) الأسباب النفسية:
1 – ويرى بعض الباحثين أن الفصام ليس سوى تجمع عادات سيئة نتيجة للتفاعل الخاطئ مع البيئة فتصبح هذه العادة من صفات الإنسان الثابتة فإذا زاد الضغط الخارجى اشتدت عادات الهروب وظهر المرض، ومن أمثلة هذه العادات الخاطئة: العجز عن تقبل الواقع، والإنطواء، والمثالية النظرية، والإستغراق فى أحلام اليقظة.. الخ.
2 – وقد أرجع آخرون الفصام إلى أن النضج توقف بشكل عنيف عند المراحل الأولى من الحياة (الشهور الأولي) فتجمد الوجود عند الذاتية المطلقة (النرجسية الأولي، أو الموقف الشيزويدى البارنوي) وأن الأم لم تحط الطفل إذ ذاك بقدر من الحنان والتفاعل يسمح بتكوين علاقة مطمئنة مع الآخرين وبالتالى فإن الضغوط اللاحقة فى سن المراهقة أو بعدها قد تدفع بالمريض إلى الانسحاب إلى هذا الموقف الأولى المتجمد، بطبيعته الإنعزالية التى تلغى وجود الآخرين، ومن ثم تظهر الأعراض نتيجة لفشل العلاقة بالواقع واضطراب الوظائف العقلية الحديثة (مثل التفكير المنطقي) تحت وطأة انسحاب الطاقة بالنكوص إلى هذا المستوى الأقدام.
3 – ذهب مؤلفا هذا الكتاب فى عمل سابق A.B.C. of Psychiatry إلى أن الإضطراب الأساسى فى الفصام معان عامة فإن المريض يستعملها بلاجدوى الاجتماعية، لأنها لاتوصل ما يريده إلى الآخرين كما أنه يسمع.. (ولا ينصت) لكلام الآخرين، وبالتالى فإن وسائل الاتصال الحقيقية بينه وبين الآخرين تتقطع. فيتزايد انطواؤه النفسي، وتضمر عواطفه الحقيقية، وينهار تحت ضغوط البيئة المختلفة وينسحب بالتالي.
4 – ذهب آخرون (أرتين) إلى أن اختفاء المنطقى العام وإحلال المنطق البدائى والانفعالى والذاتى محله، مع وجود تخيلات حول الذات الداخلية المشوهة الخائفة.. كل هذا هو المسبب الحقيقى للانسحاب من الواقع وبالتالى إلى التفكك المتناثر.. ومن ثم ظهور الأعراض..
وبديهى أن حجم هذا الكتاب لايتسع إلى مزيد من التفاصيل وإنما نريد أن نشير إلى أن كل هذه النظريات لاتتعارض حتما وإنما تكمل بعضها بعضا، حتى أن النظريات النفسية تكمل أيضا النظريات العضوية بلا تعارض حاد إلا فى الظاهر وفىترتيب السبب والنتيجة.
ونستطيع أن نؤجز ذلك فيما يلى:
فالفصام، هو نتيجة لإستعداد وراثي، قد توجهه التربية والبيئة إلى مسار تطورى حسن، وقد تسهم فى تجميد نمو صاحب هذا الإستعداد عند مرحلة بدائية من الوجود، وبتزايد العجز عن التواصل والدفء العاطفى والتفاعل الاجتماعى النشط يزيد عبء الواقع عليه. وقد تفقد اللغة وظيفتها الاجتماعية، وبظهور سبب مرسب، أو نتيجة لتراكم الإنهاك من الاحتكاك بالواقع تنسحب الطاقة (اللبيدو أو القوة النفسية أو الطاقة الفسيولوجية الخ) الى مستوى بدائى من الوجود، ويعجز المريض عن الاستمرار.. فتتفكك مستوياته ووظائفه ومقومات هذه الوظائف ويظهر المرض، وقد يصاحب ذلك كله تغيرات كيميائية مختلفة قد تكون هى المسبب الحقيقى لكل هذا الموقف السلوكى كما قد تكون أحد النتائج الكيميائية الحيوية له.
الأسباب المرسبة:
قد يظهر مرض الفصام دون سبب مرسب أصلا وقد يترسب نتيجة لأسباب عضوية متنوعة مثل اصابات الرأس والحمى والإرهاق، أو لأسباب نفسية مثل الحرمان والإحباط، ولكننا نحب أن نشير هنا آلى أن السبب المرسب يكون فى العادة شيئا يتعلق بإهانة الذات، أوالتهديد بالترك، أو التعرض لإختبار فى الحياة (يتعلق بالدراسة أو العمل مثلا) يكون المريض قد وضعه مكافئا لوجوده.. فالطالب مثلا الذى يعتبر نجاحه فى الثانوية العامة مسألة حياة أوموت قد يشعر أنه اذا تهدد هذا النجاح.. فإن ‘وجوده’ شخصيا يتهدد.. وقد ينسحب منه – اذا كان مهيئا وراثيا وتربويا لذلك – ومن الواقع جميعه ومن ذاته فيصاب بالفصام.
الأعراض:
يصعب دراسة الأعراض فى الفصام وتقسيمها من حيث:
1 – الأعراض الخاصة الدالة والأعراض المصاحبة.
2 – أو من حيث الأعراض الأساسية والأعراض الثانوية.
3 – أو من حيث الأعراض فى المرتبة الأولي.. ثم ما يليها.
وهكذا..، وقد اختلف الباحثون حول هذا الترتيب.
وقد أجرى بحث مصرى عام 1976 ليقارن بين ترتيب أهمية أعراض الفصام بين الأطباء النفسيين فى الولايات المتحدة الأمريكية وانجلترا ومصر[1]ويبين أن هناك اختلافا بدرجات متفاوته فى تقدير أهمية الأعراض فى مختلف البيئات وبين مختلف الأطباء.
وكل ذلك يشير الى صعوبة تصنيف الأعراض وترتيبها. وسوف نبدأ بسردها حسب الوظائف النفسية التى تصاب بصورة أكثر وضوحا وأكثر شيوعا.
أولا: اضطرابات التفكير:
قد يضطرب التفكير من حيث ترابطه بصفة عامة، ومظاهر اضطراب الترابط. قد يطلق عليها اضطراب شكل الفكر Formal though disorder وأن كنا نفضل تعبير اضطراب ‘عمليات الفكر’ Thought process disorder لأن المسألة ليست شكلا، وانما اضطراب الشكل هو أساسا اضطراب فى التسلسل وفقد الفكرة المركزية.. والعجز عن تكوين فكرة الوصول إلى الهدف المراد بها نتيجة إما للتفكك أو التكثيف أو انفصال المعنى عن الرمز. ويظهر هذا كله فى الأعراض التالية:
1- الغموض: يبدو تفكير المريض غامضا مشوشا ولا حدود له ولا تماسك بين مكوناته وتغلب على إجابات المريض الألفاظ التقريبية يجوز… يعنى… يمكن… الخ وقد يظهر المريض لأول وهلة أنه عميق التفكير يغرى الغامض من تفكيره السامع بالاهتمام.. حتى لينتظر أن يكون وراء ذلك الغموض نظرة الضحالة والسطحية وراء هذا الغموض…أو كما يقول بلويلر أنه يبدو كالباب المغلق الذى ليس وراءه شيء.
2- قد تختفى الألفاظ الرابطة بين الجمل وبعضها مثل اختفاء حروف العطف والجر…
3- تتفكك الأفكار حتى تصل إلى اللاترابط Incoherence فتصبح الجمل متقطعة لا رابط بينها.
4- يزيد اللاترابط احيانا حتى يصل الكلام إلى ما يشبه السلاطة وتسمى سلطة كلام word Salad.
5- قد يلجأ المريض إلى نوع من الترابط لا يعتمد على المعانى وإنما على رنين الألفاظ ويسمى ترابط الرنين clang Association مما يزيد المعانى تباعدا وتنافرا.
6- قد يكتشف فى كلام المريض (ترجمة لفكره) ظاهرة التكثيف condensation حيث تعنى الجملة معنيين أو أكثر فى نفس الوقت، وهذا العرض لا يظهر على السطح وإنما يستدل عليه بعد تعمق ومساءلة ومراجعة.
7- من خلال فقد الترابط والتكثيف وتناثر الكلام قد يبدو كل هذا مضحكاً وكأن المريض يميل إلى المزاح والقفشات السطحية بلا عمق ولا خفة ظل (قارن الهوس).
8- يظهر التفكير العيانى بشكل ملحوظ بديلا عن التفكير التجريدى وهنا يأخذ المريض معانى الألفاظ بحرفيتها لا بما تشير إليها ضمن السياق ويظهر هذا جليا فى اخبار الأمثلة العامية مثل أن يرد المريض على معنى مثل ضربوا الأعور على عينه قال خسرانه خسرانه… يقول إن واحد أعور ضربوه على عينه فعلا..فقال إن عينه لا ترى فهى خسرانه دون الإشارة إلى ما وراء المثل من معنى تجريدى.. ولا قدرة له على أن يستعمله فى موضعه.
9- إن اضطراب مجرى التفكير هو جزء لا يتجزأ من اضطراب عملية التفكير فى الفصام حيث يظهر ذلك فى أعراض:
(أ) العرقلة Blocking: وهى تعنى توقف الفكر فجأة لفترة قصيرة ثم استمراره بعد ذلك فى موضوع آخر، إلا أنه فى بداية المرض قد يشكو المريض من توقف فكره بالرغم عنه.. ويعود لنفس الموضوع الأصلى بصعوبه وترجع هذه الظاهرة لتصادم أكثر من فكره تتكون فى نفس الوقت حتى تعوق إحداها خروج الأخرى.. ثم تنتصر إحداهما بعد فترة.
10- يعتبر عرض ضغط الأفكار Present of thoughts نتيجة لنفس الظاهرة فى العرض السابق، وهو تنافس أفكار كثيرة للظهور فى نفس الوقت ولكن بدرجة أكبر، إلا أن المريض هنا يشكو منها مباشرة مثل قوله… مخى حاينفجر من كثرة الأفكار اللى مش قادر ألا حقها… ولا حتى أعبر عنها.
11- قد يعتبر عرض فقر الأفكار Poverty of thoughts هو إعلان عن أنهاك عملية التفكير وعجزها تماما، أو قد يكون التعبير الممكن لدى المريض الدال على ارتطام الأفكار فى نفس الوقت لدرجة أنها تكاد تختفى من وعى المريض وبالتالى من التعبير عنها… ولا يبقى فى وعى المريض إلا الفقر فى الأفكار والشعور بفراغ المخ.
12- يلجأ المريض إلى الترميز Symbolization بشكل بالغ الخصوصية، وحين تضطرب عملية التفكير ويدخل فيها هذه اللغة الخاصة يبتعد المريض أكثر عن التواصل مع الناس.
كل ما سبق إنما بطرق مباشر أو غير مباشر إلى اضطراب عملية التفكير ذاتها، على أن هناك اضطرابات أخرى فى نوعية التفكير تظهر عند المريض الفصامى مثل:
13- قد يتصف التفكير بخضوعه للعواطف خضوعا تاما حتى يصبح ولا أثر للمنطق فيه، وبالتالى لا يمكن ضبطه أو التحكم فى اتجاهاته لارتباطه بحالة المريض العاطفية، كما أن هذا النوع يتصف أيضا بأنه ذاتى تماما Autistic لا يخضع إلا لرغبات المريض اللاشعورية ولا يدور إلا حول ذاته.
14- وقد يكون التفكير أثريا Archaic فيغرق المريض فى أفكار قديمة ويعتقد فى أوهام سحرية ويستعمل منطقا بدائيا ويتبع قواعد أولية طفلية أو قديمة تطوريا.
أما اضطرابات محتوى التفكير فى الفصام فإنه يتصف بالتالى:
15- يتصف محتوى تفكير الفصامى بأنه مليء بالرغبات الخاصة، والخيالات الذاتية حسب اضطراب النوعية التى سبق ذكرها.
16- قد يحوى التفكير ضلالات (هذاءات) متنوعة تكون فى العادة غير منظمة ولا مسلسة.
17- فى أوائل المرض، وفى الفصام البارنوى بوجه خاص قد يصاب المريض فجأة بما يسمى الضلالات الأولية Primary delusions التى تنشأ بلا سابق إنذار ودون اضطراب فى الإدراك، وهى ضلالات تحمل معها الانفعال الخاص وقوة الإقناع اللازمين لثباتها وهى تفترق عن الضلالات الثانوية التى تأتى تفسيرا لعرض آخر أو لضلالات أولية.
أما بالنسبة لامتلاك الأفكار Possession of Thought والتحكم فيها فإن المريض الفصامى قد يعانى من الظواهر الآتية:
18- قد يصاحب ذلك كله فى بعض الحالات وساوس شاذة قد يدرك المريض خطأها ولكنه لا يقاومها ولا يتأثر بوجودها ولا يتوتر إزاء محاولة برفضها..(قارن الفروق مع الوسواس القهرى).
19- ظاهرة انتزاع الأفكار وهى أن يشعر المريض بالأفكار تنتزع من رأسه دون إرادة منه.
20- إن أفكارا ليست أفكاره تقحم فى رأسه إقحاما.
21- أو أن أفكاره تذاع على الملأ أو من خلال وسائل الإعلام كالإذاعة والتليفزيون والقمر الصناعى… الخ.
وهذه الاضطرابات الثلاث لا ترجع إلى اضطراب عملية التفكير ذاتها (شكل الفكر) وإنما إلى بداية فقد أبعاد الذات التى سيرد ذكرها فيما بعد.
وهكذا نجد اضطراب التفكير فى الفصامى هو أكثر وأظهر الاضرابات وإن لم يكن هو أول أو أسبق الاضطرابات حدوثا.
ثانيا: اضطراب الإدراك:
1- يحدث فى الفصام المبتدى خبرات تغير الذات… والجسم، وتغير الكون، وهى خبرة أكثر منها وساوس أو ضلالات فى هذه المرحلة وهى تدل أساسا على اضطراب فى إدراك الذات Perception of The self وصورة الجسم Body imageوكذلك اضطراب فى إدراك العالم الخارجى ، ويصاحبها انفعالات مرعبة حتى أرجعها البعض إلى اضطراب انفعالى أساسا وهى تدل على أن الجزء النشط والمسيطر فى المخ، والذى تعود على استقبال المؤثرات وإدراكها لم يعد هو وحده الذى يعمل أساسا بل تداخلت أجزاء جديدة (نتيجة لإعادة النشاط فى الأجزاء القديمة فى المخ) فى العمل فأضافت أبعادا جديدة على الإدراك.. فتغيرت نوعيته غير أن هذا العرض يحدث فى بداية الذهان بصفة عامة، وخاصة فى الذهان الدورى من النوع الاكتئابى. والذى يفصل بين هذا وذاك هو السن (فى الفصام يحدث مبكرا وفى الاكتئاب متأخرا نوعا) والتاريخ الأسرى الذى يساعد فى إعطاء دلالة للخبرة حسب نوع المرض الغالب فى الأسرة، وفى الأعراض المصاحبة، وأخيرا حسب تطور سير المرض كما سيرد ذكره.
2- تحدث فى الفصام هلوسات وصورة وأخيلة على درجات مختلفة:
أ- فقد يشكو المريض فى بداية الأمر من أنه يسمع أفكاره Audible thoughts ولكنه يقول أنها داخل رأسه وأنها أفكاره هو.
(ب) وقد يشكو من أنه يخيل إليه أن أحد يكلمه داخل رأسه ويقال أن هذه أقل درجة من الهلوسات المسقطة والمغتربة Projected & Alienated وهنا ينبغى أن نشير إلى أن كلمة يخيل إلى لا تنفى أصالة التجربة المرضية وجديتها كما هو شائع وإنما تشير أكثر فأكثر إلى وعى المريض بما يجرى وإدراكه – بعض الشيء – لطبيعته فى أول المرض ولا يعنى إطلاقا خبرة كاذبة.
3- ثم قد يشكو من أنه قد سمع صدى أفكاره Ecto de la pensée
4- وهو قد يشكو أيضا من أنه يسمع أصوات اثنين يتحدثان عنه ويتناقشان فى شأنهVoices arguing.
5- ثم يشكو من صوت أو أصوات تعلق على أفعاله أولا بأول Voices Commenting
6- ثم قد يشكو من أنه يسمع (أو يرى أو يشم.. الخ) هلوسات بعيدة عنه لا يعرف مصدرها.
وكل ذلك قد يحدث ووعى المريض رائق واضح، وهو أقرب إلى الهدوء، مما يجعلنا نسمى هذه الهلوسات هلوسات باردة تمييزا لها عن الهلوسات الساخنة التى تصاحب حالات الهياج واضطراب الوعى.
6- اضطراب أبعاد الذات: يمكن أن يعتبر جزءا من اضطراب الإرادة والتحكم بين الذات وبين العالم، وإن كان فى كل الأحوال ظاهرة قائمة بذاتها يشعر فيها المريض أن ذاته لم تعد محدودة بجسمه وأنه لم يعد هناك فواصل تفصله عما حوله من ناس وأشياء، وهذه الظاهرة تدل على انهيار الانا والرجعة إلى حال بدائية من الوجود، وإداركها ليس اضطرابا إذا فى الإدراك بل هو إدراك لحدث غريب شاذ حدث فعلا فى تركيب الشخصية وحدودها.. ونتيجة له يمكن تفسير كثير من الأعراض السابقة مثل اقحام الأفكار وانتزاعها بل وأهم من ذلك قراءتها وإذاعتها وهذه الأعراض الثلاثة تدل على ضعف حدود الذات واستقلالها وضعف تحكمها فى ذاتها (وهو خطوة قبل فقد الأبعاد تماما).. وكأن هذا الضعف جعلها قابلة للاختراق والتصنت.
كما أن هذه الظاهرة نفسها مسئولة عن بعض الأعراض اللاحقة التى تتصل بفقد الإرادة مثل: الفعل المفروض على الشخص، والانفعال المقحم مما سيرد ذكره فيما يلى:
ثالثا: اضطراب الإرادة:
1- يظهر اضطراب الارادة – كما أشرنا – مع ظاهرة فقد أبعاد الذات وهذا تلازم دال ومباشر.
2- كثير من الأعراض الدالة على السلبية التى ذكرت قبلا تدل على فقد الارادة ضمنا مثل إقحام الافكار، إذاعتها بلا ارادة من المريض، والأصوات الامرة التى تناقش أمره دون أى تدخل منه والتى تعقب عل يفعله وتوجهه.. الخ.
3- يشكو المريض من أن افعالا ارادية تفرض عليه دون ارادة منه وتسمى الافعال المفروضة Made Volitional acts.
4- قد يشكو المريض من أن عواطف تقحم على وجدانه دون أن يريدها أو يستطيع مقاومتها وتسمى العواطف المقحمة Made affects.
5- قد يظهر ضعف الارادة فى شكل التردد الفظيع حتى بين مد اليد للسلام أو العدول عن ذلك فتقف اليد فى وضع وسط فى نصف الطريق لا تمتد الى السلام ولا ترجع عنه بل تهتز أماما وخلفا.. وتسمى اليد المترددة.
وهذا التردد نفسه الدال على فقد الإرادة يعجز المريض عن اتخاذ أى قرار حاسم فى أبسط الأمور.
6- وقد يظهر ضعف الإرادة فى العجز عندما يقدم المريض لينفذ آراؤه أو حتى ليتخذ قرار أصلا.. لا سيما وأن اراؤه مثالية فى الأغلب ويحتاج تنفيذها إلى ارادة حديدية، ويبدو التناقض واضحا بين مثاليته وعجزه.
7- قد يبدو فقد الارادة فى القابلية للاستهواء فى اشكال الطاعة الآلية الوضعية التصلبية الشمعية حيث يتشكل جسم المريض – دون مقاومة منه كما يشكله الفاحص وكأنه تمثال من شمع Flexibilities Cerea.
8- تريد الكلام (كالصدى) واعادة الحركة “المصاداه المحاركة” هو أيضا دليل على فقد الإرادة.
9- قد يبدو ضعف الارادة فى صورة عكسية مثل الخلف Negativism حيث يأتى المريض بعكس ما يطلب منه تماما، وهذا استهواء سلبى ورغم أنه يبدو عنادا وكأنه اعتداد بالذات الا أنه فقد للارادة فى جوهره.
أما المقاومة فهى أن يمتنع المريض عن المطلوب دون أن يأتى بعكسه وهذه درجة ما من الخلف.. ودالة أيضا على المطلق ومن ثم ضعف الارادة.
10- قد يظهر ضعف الإرادة فى صورة العزوف عن العمل والانتاج والتحصيل الدراسى رغم الحديث عن النية فى ذلك جميعه.
رابعا: اضطراب السلوك الحركى:
السلوك الحركى تعبير عن مظاهر عقلية أخرى، لذلك فإن اضطرابه قد يكون مظهرا لما ذكرنا من اضطرابات سابقة أو ما سنذكر من اضطرابات لاحقة مثل ما يلى:
1- قد يأتى المريض سلوكا غير متناسق وشاذ وأحيانا متعارض مع بعضه البعض، مما يدل على أنه تحت سيطرة أكثر من دافع أو أكثر من مركز نشط فى المخ فى نفس الوقت.
2- قد يظهر كثير من مظاهر ضعف الإرادة فى السلوك الحركى مثل الطاعة الالية، والوضعية التصلبية الشمعية، وتردد الكلام كالصدى والخلف والمقاومة… وتردد الحركة كالصدى… إلخ.
3- قد يبدو على فعل المريض التكرارية، والأسلوبية، والتثابر.
4- قد يظهر المريض حركة خاصة مثل الدوران فى مكان محدود بلا توقف طول الوقت دون أن يجهد، ويظل ينظر إلى مواقع قدميه ليس إلا.
5- قد يظهر المريض بيديه وجسمه حركات دالة على اضطراب محتوى فكره وشذوذه بصفه خاصة.
6- قد تتجزأ حركات المريض. أو تبدو فيها العرقلة مثله عرقلة الفكر سواء بسواء.
7- يمكن اعتبار الانزواء الاجتماعى لدرجة التحوصل – مجازا – من مظاهر هبوط المستوى الحركى الاقتحامى.
خامسا: اضطراب العاطفة:
يعتبر اضطراب الوجدان والعاطفة فى الفصام اضطرابا أساسيا من حيث أن انسحاب العاطفة من العالم الخارجى هى الأساسى الدينامى لاضطراب الفصام بصفه عامة، فإن كانت اضطرابات الفكر أكثر وأظهر فإن اضطراب العاطفة أسبق وأخطر سيكوباثولوجيا. وعلى كل حال فإن الاضطراب الفكرى هو الاضطراب السلوكى الاساسى فى الفصام. حتى لا يمكن أن نتعبر الفصام فصاما دونه بينما الاضطراب الوجدانى السلوكى قد يحدث فى الفصام وفى غيره كما سيتضح من دراسه هذا الكتاب وذلك أيضا من الناحية السلوكية الظاهرة، وإذا أردنا أن نوجز ماذا يحدث فى العواطف بصفه عامة، فإننا نستطيع القول أن المريض يصبح بلا عواطف ذات فاعلية فإن وجدت العواطف فهى إما بدائية أو متذبذبة أو متناقضة أو ذاتية.. فلا جدوى منها – إن وجدت – فى الكيف الإجتماعى ولا فى التواصل مع الناس.
وأهم الأعراض فى المجال الوجدانى العاطفى هى:
1- تبلد الشعور واللامبالاة: وفى الواقع أن المريض لا يبدى عواطف ظاهرة، وكأنه لا يبالى ، ولكن العواطف تكون قد انسحبت إلى الجزء الأعمق من الشخصية.. فهى تختفى إلى الداخل ولكنها لا تنمحى.. (ويظهر ذلك أثناء العلاج العميق والمكثف للفصام).
2- تذبذب العاطفة: إذ تنتقل من النقيض إلى النقيض.. وبالتالى فإن عدم استمرارها هذا يجعلها غير ذات أبعاد صالحة لعمل علاقة مع اخرين ويفشل وظيفتها للتكيف. وهذا ما أشرنا إليه.
3- تباين العواطف: فهى لا تتفق مع محتوى التفكير اساسا، ولا تتفق كذلك مع طبيعة الموقف أو مجرى السلوك.. ولهذا فهى بغير فائدة.. ولا معنى..
4- تناقض العواطف (أو ثنائية الوجدان) فتوجد العاطفة ونقيضها فى نفس الوقت إزاء نفس الشخص مما يجعل الناتج من تصادمها عدما..
5- ظهور عواطف بدائية مثل الغضب والهلع (من العالم الخارجى خاصة وأحيانا عواطف تتعلق بالشبق النكوصى..
تعقيب
بعد أن عرضنا الأعراض التى تظهر من خلال اضطراب الوظائف المختلفة نرى أنه يمكن إعادة ترتيبها بحسب مستويات التفكك السالف ذكرها:
فالمستوى الأول من الانفصام أو التفكك (تفكك المستويات) يفسر أعراضا كثيرة منها فقد إبعاد الذات، وخبرة تغير إدراك العالم الخارجى ، وانزاع الأفكار وإقحامها وإذاعتها والأصوات التى تتناقش فى أمر المريض أو تعقيب على فكره، وسماعه أصواتا غريبة عنه والأفعال المفروضة عليه، وكذلك العواطف المفحمة فى وجدانه، والتردد وثنائية الوجدان وتذبذبه من النقيض إلى النقيض.. كل ذلك إنما يفسره أن النفس لم تعد تعمل ككل بل انفصمت عراها وأصبح هناك أكثر من كيان يعمل فى نفس الوقت (يمكن أن يسمى هذا التعدد فى الكيانات حالات الانا، أو مستويات المخ.. حسب مختلف المدارس) وبالتالى فكل هذه الأعراض إنما يفسرها أن كيانا بعمل مع كيان اخر دون تنسيق (أو بمعنى اخر أن مستوى يعمل فى نشاط دون مراعاة لنشاط المستوى الآخر).
أما المستوى الثانى: من التفكك (تفكك الوظائف النفسية بعضها عن بعض) فيفسر أعراض أخرى كثيرة منها تباين العواطف، والتباعد بين أحلام اليقظة (التفكير) والفعل الارادى ، والتناقض بين السلوك الحركى أو الانزواء الاجتماعى وبين الانفعال الضاحك المسترخى (ظاهريا).
أما المستوى الثالث: من التفكك.. وهو مقومات كل وظيفة على حدة فى داخل أجزائها ومكوناتها.. فهو يفسر أعراضا كثيرة مثل اضطرابات الفكر المتعلقة بتفكك عملية التفكير ذاتها (كالغموض واللاترابط، وسلطة الكلام والتكثيف والتفكير العيانى، وعرقلة التفكير، وضغط الأفكار وفقرها) وتذبذب العواطف، وشذوذ السلوك الحركى وتجزئته وعرقلته.
أما بقية الأعراض: فقد تكون مظهرا لسلوك بدائى ظهر من خلال إثارة النشاط القديم (الأثرى أو الطفلى) مثل الأفكار الأثرية والتفكير العيانى.
وقد تكون هناك محاولات للجوء إلى دفاعات مختلفة كالإزاحة والإسقاط (فتظهر الهلاوس والضلالات مثلا) لجمع شمل هذا التفكك والتناثر بدفاعات قد تزيد من الأعراض ظاهريا ولكنها محاولات إسعافية لمنع التناثر الكامل هذا ولابد من أن نشير هنا إلى ميل المريض إلى النكوص، وإنه إذا نجح فى ذلك، وسمح له المجتمع به وحماه وأعانه فإن كثيرا من الأعراض تختفى تماما ولا تظهر إلا تحت ضغوط الحياة الناضجة المستقلة الواقعية، وهذا مما يحير بعض الفاحصين، لأنه حتى اللامبالاة والتناثر تختفى مؤقتا إذا مارس بعض المرضى طفولتهم فى حماية خاصة… وهذا ما يسمى أحيانا التحسن الظاهرى بالنكوص.
وأخيرا: فإنه ينبغى الإشارة إلى القول الشائع بأنه فى مرضى الفصام لا تتغير وظائف الوعى، والذكاء، والذاكرة إلا أن هذا موضوع يحتاج إلى نقاش.
1- الوعى: يظل الوعى سليما من حيث وضوحه، إلا أن المريض قد يبدو غير منتبه رغم تسجيله لكل ما يحدث من حوله وتسمى هذه الخاصة أنه محتفظ بدرجة من الانتباه السلبى ولكن بالتعمق فى دراسة الوعى نجد أنه يتغير نوعيا إلا أن حجم هذا الكتاب لا يتسع لشرح هذا التغير النوعى الذى قد تكون مظاهره حالة كالحلم قد تصيب الفصامى فى بعض اطوار تتطور المرض.
2- الذكاء: لا يتأثر الذكاء فعلا رغم الاعتقاد التاريخى بأن الفصام هو عته مبكر، وبالرغم من أن التفكير التجريدى (وهو من مقومات الذكاء) يضمحل إلا أن القدرات اللفظية تظل ثابتة: وحتى هذا الاضمحلال الظاهرى يعتبر مؤقتا لو أتيحت له فرصة الشفاء إلا أنه فى نهاية اطوار المرض ومع التغيرات العضوية فى الجهاز العصبى يضحمل الذكاء فعلا.
3- الذاكرة: تظل ذاكرة المريض سليمة رغم أنه يبدو عاجزا عن التسجيل، إلا بعد الافاقة قد يحكى كل تفاصيل ما حدث بلا نسيان لأى لفته أو همسه.. مما يدل على أن عمل المخ بالنسبة لوظيفة الذاكرة يستمر رغم ظاهر تعطله.
أنواع الفصام
سوف نلجأ فى دراسة أنواع الفصام إلى محاولة تتبع العملية الفصامية منذ بدايتها، وبالتالى فسنتدرج بالأنواع – على قدر المستطاع – من الحالات المبتدئة حتى لتكاد تكون مجرد إنذارات محذرة، إلى الحالات المتدهورة تماما…..، وإن كان هذا المسار صعب فى تمييز مراحله بالنسبة لسرعة تطور بعض الحالات.
1- الفصام المبدئى (ورمزه فى الدليل المصرى صفر 7 / 1) ويتميز هذا النوع ببداية مفاجئة حيث يحدث صدع فى نمط الحياة المستقر المنتظم السائد حتى سن المراهقة أو بداية اليفوع، ويلعن هذا الصدع بظهور تحور فى الادراك الذى يتبعه تغير مفاجيء فى مفاهيم المريض حول نفسه وحول جسده وحول العالم من حوله، ويصحب ذلك رعب غير مفهوم الأسباب وأحلام مزعجة وربكة وأرق وقد يصحبه تذبذب فى العواطف وإنتقالها من الاكتئاب إلى المرح دون مبرر ظاهر، ويتفاعل المريض لأحدث عابرة تفاعلا مبالغا فيه ومصحوبا أحيانا بسوء التأوليل، كما يعانى المريض بشكل خاص من أعراض تغير إدراك الذات وإدراك العالم من حوله، ويلاحظ المريض أنه قد تغير كما يلاحظ من حوله من معارف وأصدقاء أنه قد تغير عن ذى قبل وإن كانوا لا يستطيعون تحديد ماهية التغيير بشكل تنظيم الشخصية على وضع فصامى مزمن واضح.
ويلاحظ فى تاريخ هذه الحالات أنها قد عانت فى طفولتها من صعوبات فى التكيف الاجتماعى وفشل فى إقامة علاقات متكافئة (غير اعتمادية)
كما أنه إذا وجد تاريخ فصامى فى العائلة فإن هذا التشخيص. يكون أرجح.
وفى أغلب الأحوال يبدأ هذا النوع بداية نشطة مثلما ذكرنا، إلا أنه فى بعض الحالات يبدأ هذا النوع قرب سن العشرين بتغير طفيف تدريجى متصاعد، يتصف فيه المريض بتزايد الانزواء والشك والمخاوف حتى أن البعض اقترح أن يكون هذا النوع له اسم خاص مثل الفصام المبتدى المتدرج insidious Incipient Schizophrenia (بالمقارنة بالنوع الأصلى الذى يمكن أن يسمى الفصام المبتدئى النشط) Acute Incipient Schizophrenia وعادة ما ينتهى هذا النوع إلى الفصام البسيط.
على أن هذا النوع يمثل اشكالا تشخصيا وعلاجيا حادا فى ممارسة الطب النفسى للأسباب التالية:
1- رغم أن هذا النوع يدرج تحت تشخيص الفصام إلا إنه لا يحوى أعراض الفصام الصريحة السابق ذكرها.
2- أن تتبع هذه الحالات لا ينتهى عادة إلى الفصام الصريح لأسباب عديدة منها التدخل العلاجى المبكر المكثف والسريع أو لتغيير الظروف بشكل يؤدى الى الشفاء.
3- أن نفس الأعراض إذا ظهرت فى سن متأخرة نوعا فإنها عادة ما تعلن بداية اكتئاب دورى من نوع الهوس والاكتئاب (طور الاكتئاب).
4- أن أعراضا مشابهة قد تصاحب أزمات المراهقة، وبصفة عامة أزمات النضج، وإرهاصات الإبداع الفنى وأن ما يحكم على كل من هذه التنويعات هو مسار الأزمة ونهايتها، فإن كانت النتيجة إلى وجود أفضل عدت أزمة نمو وتطور وإن تركت آثارا وندوبا دائمة فى الشخصية فإنها قد تنتهى إلى اضطراب فى الشخصية أو فصام صريح.
5- أن بعض اضطرابات الشخصية مثل الشخصية غير الناضجة قد تظهر أعراضا مشابهة إلا أنها تبدأ من سن مبكرة تماما، ولا يسبق ظهور الاعراض استقرار أو انتظام.
6- أن بعض انواع الفصام المشابهة قد تختلط بهذا التشخيص مثل الفصام الكامن latent schizophrenia وهو يعنى توقع حدوث الفصام من خلال مظاهر غير فصامية وغير نموذجية…. ويستنتج وجوده من هذه اللانموذجية Atypicality ومن التاريخ العائلى الإيجابى مثلا….
ومثل الفصام شبه العصابى Pseudoneurotic Schizophrenia الذى لا يعنى مجرد تواجد أعراض فصامية مع أعراض عصابية ولكنها تعنى شذوذ الأعراض العصابية عن المعتاد، كما يصاحب هذه الأعراض صعوبة فى عمل علاقة مع المريض وكذلك يؤكد هذا الشك عدم استجابة المريض لعلاجات العصاب المعروفة…. وبالتدقيق قد تظهر درجة من اضطراب عملية التفكير من النوع الفصامى… وهذا النوع لا يعلن بداية العملية الفصامية بداية صريحة مثل العصابية المبتديء بل هو يعلن اقتراب العملية ومحاولة ضبطها بالدفاعات العصابية دون جدوى ، ولنا أن نتوقع إذا ظهر الفصام المبتديء النشط فى حالة فصام كامن أو فصام شبه عصابى… وبعد كل هذه التحفظات والاعتراضات فهل يحق لنا أن نسمى مجموعة هذه الأعراض بالفصام…..؟ ويختلف الباحثون فى ذلك…
على أننا نود أن نشير إلى أن إدراج زملة الأعراض هذه التى أسميناها الفصام المبتديء تحت تصنيف الفصام لها فائدة أكيدة وهى: التدخل المباشر والسريع للحيلولة دون تطور هذه الأعراض إلى الفصام الصريح باعتبار أن هذا المصير هو أخطر ما يمكن أن تتطور إليه ولتأكيد الدور الإيجابى والوقائى للطبيب النفسى.
حالة أ. ش. ” شاب فى العشرين من عمره فى الثانوية العامة للسنة الثالثة، لم يدخل الامتحان فى العامين الماضيين وجاء هذا العام يطلب النصيحة مع والدته، وقد دل تاريخه الشخصى أنه من أنبغ أقرانه، فقد حصل فى قبول الإعدادى على 98.5% وفى الإعدادية على 96% وكان أول فصله وكان فى فصول المتفوقين فى السنة الأولى والثانية الثانوية، وقد أمضى إجازة صيف السنة الثانية فى انشغال شديد على السنة القادمة وبعد بداية الدراسة بأسبوعين تشاجر مع زميل له بشأن أيهما يجلس فى المقعد الأمامى وقد نصر زملاءه زميله عليه، فنزل فى الفسحة.. وأسند ظهره إلى الحائط وحيدا وزملاؤه يتحدثون سويا.. ويجرون ويلعبون.. والحياة تصخب وأثناء ارتكانه للحائط وتطلعه لهذا الجرى والحياة تصخب من حوله يقول:
… حسيت إن فيه حاجة طارت من مخى زى ما يكون فضى مرة واحدة وكنت حاقع على ظهرى لولا كنت ساند على الحيطة، ومن يومها وأنا مش على بعضى ، حسيت إنى اتغيرت تماما، التغيير كان فى الأول جامد، كنت زى ما يكون نفسى اتغيرت عن نفسيتى ، زى ما أكون مش متعود على نفسى ، حتى الشوارع وأنا مروح زى ما أكون كنت بامشى فيها لأول مرة، ورجعت أشوف ماما وبابا بقيت أقول هو أنا شفتهم قبل كده ؟ بقيت أغمض عينى وأفتحهم عشان أتأكد إنهم هما.. وقعدت مخضوض كده كام أسبوع.. وطبعا طعم كل حاجة اتغير ما عنتش أحس بالعواطف ولا حب ماما لى مع إنها زادت فى العناية بى وقعدت أسأل هوا انا كنت بافرح زمان وبازعل زى الناس، ولا دا كان إيه، ما عنتش باهتم، وبعدين المذاكرة وقفت خالص، قعدت شهرين أذاكر بالعافية اللى كنت اعمله فى ساعة فى ساعة أعمله فى ست ساعات، وبعدين مافيش خالص لما قرب الامتحان، ومن يومها ،وأنا فى النازل زى ما يكون حاجة راحت منى ، قعدت مدرووش حبه وبعدين الحكاية هديت بس خلاص اللى كان كان ..”
وهكذا نرى البداية الفجائية النموذجية للمرض ويغلب عليها الربكة وتغير إدراك الذات والعالم من حوله، ثم التوقف الدراسى وتغير المشاعر، ثم الآثار الدائمة لهذه الخبرة، وكل ذلك حدث لشاب متوفق مستقر منتظم، والذى رسبه حادث رمزى قد يشير إلى أن زميله انتصر عليه بمساعدة آخرين (المجتمع) فى الحصول على المقعد الأمامى وبالتالى فإنه استغله وكأن كيانه التفوق قد اهتز (وهو مكافيء لحياته وأن وحدته ومذاكرته لم تنفعه بدون ناس).
2-الفصام الانفعالى: (ورمزه فى الدليل المصرى صفر 7 / 2) ويتميز هذا النوع بوجود مزيج من أعراض الفصام وأعراض الهوس أو الاكتئاب الصريحة والمستمرة إلى درجة ما، بمعنى أنه لا يعنى مجرد تذبذب العواطف بين فترات الهوس والاكتئاب وإنما وجود هذه الأعراض كجزء لا يتجزأ من زملة الأعراض.
هذا، وقد يوجد تاريخ عائلى إيجابى لكل من الفصام وأمراض الهوس والاكتئاب.
ويمكن تقسيم هذا النوع إلى ثلاثة أقسام حسب الأعراض الغالبة:
(أ) الفصام الانفعالى الاكتئابى.
(ب) الفصام الانفعالى الهوسى.
(ج) الفصام الانفعالى المختلط.
حالة: إ. م “على طالبة فى السنة الأولى بإحدى كليات الجامعة عمرها 21 سنة تأخرت سنة واحدة فى الثانوية العامة لسبب غير واضح جاءت تشكو من أنها ….. متضايقة ومش عايزه أروح الكلية.. لأن فيه حاجة حصلت فى مخى.. زى ما يكون الأفكار اتلخبطت على بعضها، زى ما يكون مخى ساح وأصل… الواحد يعنى.. ما عدتش العيشة نافعة… وأجهشت فى بكاء حاد…
وكان من بين شكوى أمها أنها قبل أسابيع أخذت تنطوى على نفسها وتشترى كتبا غريبة عن التصوف والجنس فى نفس الوقت، وأنها خافت أن تصبح مثل أبنة عمتها فاحضرتها مبكرا بعد أن لاحظت أنها تضحك فى المرآة ضحكة غريبة..
وبالفحص تبين أن: أعراض اضطراب الفكر شديدة فكانت تخرج من موضوع إلى موضوع بعد صمت ذاهل أحيانا.. وكان شعورها بعدم الجدوى ، وأحيانا بالذنب يهييء لها أفكارا انتحارية حادة.
وهكذا نجد الخليط بين الأعراض الفصامية والاكتئابية بشكل ظاهر وأن الاكتئاب مستمر وليس متذبذا رغم وجود الأعراض الفصامية الصريحة..
3- الفصام البارنوي[2] (الفصام الضلالى): (ورمزه فى الدليل المصرى صفر 7 / 3).
ويتميز هذا النوع بوجود ضلالات بشكل ظاهر يصاحبها عادة هلاوس.. مع الأعراض الفصامية الناتجة من اضطراب عملية التفكير ذاتها وانسحاب العواطف، وقد تكون الضلالات من أى نوع إلا أنه كثيرا ما يغلب عليها ضلالات الاضطهاد أو العظمة، وقد يصاحبها ميل مرضى إلى فرط التدين، وقد يتخذ المريض موقف العدوان وتتفق أغلب تصرفاته مع محتويات ضلالاته، ولا تتدهور شخصية المريض بشكل واضح مثلما يحدث فى الفصام الهيبفرينى مثلا.. وينبغى التأكد هنا بأن مجرد وجود الضلالات والهلاوس لا تكفى لتشخيص الفصام من هذا النوع ولا بد من وجود مظاهر اضطراب عملية التفكير (شكل الفكر) ومظاهر فصامية أخرى مثل تباين العواطف..، وقد يبدأ هذا النوع بظهور ضلالات أولية (راجع أعراض الفصام) ثم يتطور المرض حثيثا بلا رجعة، وقد تكون شخصية المريض قبل المرض من النوع النوابى(وليس الشيزويدى بوجه خاص كما هو الحال فى سائر أنواع الفصام، كما قد يكون تكونيه الجسمى من النوع البدين، وزغم تماسك الضلالات نسبيا فإنه بالفحص العميق يبدو عدم تماسكها.
حالة: السيد ع…. ” جندى بوليس عمره 35 سنة جاء عن طريق البوليس، لا يشكو من شيء…، وقال مرافقه أنه يقول كلاما غريبا ويستعلى على رؤسائه وينظر نظرات عظمة وتكبر ورفض المريض الكلام مدة طويلة.. ثم طلب مقابلة شخصية على انفراد.. ولما تم له ما أراد أخرج نوته من جيبه مكونه من ثمانين صفحة بها دستور مرتب… ونظام دولة متكامل وقد بدأها بأنه حاكم العالمين رسول الله.. وأنه قسم العالم إلى القطاع الجنوبى العربى ويحكمه جمال عبد الناصر ومركزه القاهرة والقطاع الشمالى العربى ويحكمه فاروق فؤاد ومركزه روما… وكل من القطاعين يأتمران بأمره مع المؤمنين وضد الكفار. ثم أصدر بعد ذلك قوانين ومذكرات تفسيرية متتالية وكان يوجهها… إلى المراقبة العامة الاسلامية بأنحاء العالم… ولم يختلف هذا النداء فى كل قوانينه.. ووضع بعد ذلك قائمة بأسماء حكام العالم وأصدر أمره … إلى الجنود عامة بأنه إذا شطبت على اسم من هذه الأسماء فإنه يشطب بأمرى من الدنيا.. .
وهكذا نرى أنه بالتسليم بالفكرة الأولى تتسلسل الأفكار مرتبة ولكنها ليست منطقية، وبتتبع الدستور نجد أنه مشوش ومضطرب رغم تناسقة الظاهرى.. وبإختبار تفكيره ذاته وجد أنه غامض ومفكك وأن كلامه غير مرتبط كما أن عواطفه لم تتفق مع هذه الأفكار أو حتى مع ما يحكى من أفكار عادية.
4- الفصام المزمن غير المتميز: (ورمزه الدليل المصرى صفر 7 / 7 ).
وهذا النوع هو مرحلة وسطى بين الفصام البارنوى الذى سبق شرحه للتو، والفصام الهيبفرينى الذى سيرد ذكره، وكنا نود أن نذكره بعد ذكر الفصام الهيبفرينى إلا أن تسلسل التدرج أوجب وضعه فى موضعه، وهنا نجد خليطا من الضلالات والهلاوس وهى من ناحية أقل فى تماسكها وانتظامها وشحنتها الانفعالية من الفصام البارنوى…… ولكنها أكثر تماسكا مما يوجد فى الفصام الهيبفرينى (الخامل) إن وجد.. وهذا النوع يدل على أن عملية الفصام رغم إزمانها لم تستقر على تميز نوعى محدد، وكأن كل أعراض الأنواع الأخرى تتواجد بعضها مع البعض بنسب متقاربة، وهو نوع شائع وخاصة بعد العلاجات الحديثة التى تمنع التدهور الهيبفرينى بشكل أو باخر وسوف نورد هنا حالة بدأت فى التفكك السريع نسبيا فتخطت مرحلة الفصام المبتديء ولم تتميز إلى الفصام البارنوى، كما لم يصل تفككها إلى الفصام الهيبفرينى بعد.
حالة: السيد..ت “ عمره 25 سنة يعمل مخرجا فى مسرح للعرائس جاء يشكو من أعراض متنوعة، وكان ينتقل من شكوى إلى شكوى بسرعة وبساطة ثم يسكت دون سبب ظاهر.. وكان من شكواه بنص كلامه.. ياريت الناس تلبس نظارات عشان ما شوفشى عينهم مش قادر أواجههم.. ضحكتى صفرا…. تطفش الناس منى مش حاسس بيها.. منطوى على نفسى ما أحبش حد يقاطعنى فى الكلام ثم يقوم ما عنتش قادر أعرف شكلى.. يعنى مش قادر أتعرف على نفسى الكلام بتاعى زى ما يكون فيه موجتين موجة بتكلم سيادتك وموجة فى حته تانية.. زى توأمين.. دفنت أخويا ومانزلتش دمعه من عينى.
أول ما ابتدأ المرض من ست شهور كنت باعيط والدى دخل هبدنى قلم ومن يومها ما عنتش باعيط تانى وبعدين الصفارة اللى فى ودانى.. أما أكون قاعد لوحدى عايز أشوف والدتى أقدر أشوفها وأعيش معاها دقيقة… دقيقتين زى ما أنا عايز، وبعدين الضحكة الصفراء اللى بحاول أجامل بيها الناس، والمزاح اللى فى ذهنى ومش قادر أطلعه.. أجيب نهاية الكلام قبل بدايته… أبص لصورتى تلتميت مرة فى المراية عشان أحفظها.. مش عارف أحفظ شكلى إيه… وهكذا يغلب على هذه الحالة أعراض الانشقاق والتباين وعدم الترابط… كما يظهر فيها الضحك الفاتر، وكذا ظاهرة فقدان ابعاد النفس، ومع ذلك فهى حالة مبكرة نوعا.. وللمريض فى أعراضه بصيرة، فهو يصفها بدقة وصدق حتى كأنه يشرح الأعراض النموذجية وتصنيف انقسام شخصيته وتنافر وظائفها بكل وضوح.
ولنا أن نقارن هذه الحالة حيث بصيرة المريض فيها حادة رغم أنه ذهانى بحالة فصام هيبفرينى (خامل) مفكك تماما، أو بحالة فصام بارنوى (ضلالى) تغلب عليه الضلالات والهلاوس أساسا.
5- الفصام الهيبفرينى[3] (الفصام الخامل) (ورمزه فى الدليل المصرى صفحة 7 / 5).
ويبدأ هذا النوع تدريجا فى العادة وفى الأغلب فى سن المراهقة (أصل التسمية) ولكنه قد يترتب عن تطور أى نوع من الأنواع السابقة (وأحيانا بعض الأنواع اللاحقة) حيث يعتبر نوعا متدهورا من تفكك الشخصية.
ويتصف هذا النوع بسطحية العواطف ولا توافقها حيث تظهر بوجه خاص فى الابتسام الأصفر بدون داع ولا معنى، ثم اضطراب عملية التفكير (ومن ثم شكل الفكر) بكل ما سبق ذكره فى أعراض الفصام، ويلجأ المريض إلى نكوص سلوكى سخيف كما يغلب على تحركاته التكرار والأسلوبية وقد يشكو من أعراض جسمية أقرب إلى ضلالات توهم المرض والضلالات والهلاوس فإنها عادة مؤقتة وليست منتظمة ومسلسلة.
وقد يبدو المريض الهيبفرينى نشطا إلا أن نشاطة دائرى مغلق بمعنى أنه غير نباء ولا هادف.. وربما كان لمجرد تفريغ الطاقة الحائرة من تنازع أجزاء الشخصية.
وتكون علاقة هذا المريض بالواقع ضعيفة أو معدومة.. وبإختصار فإن كل أعراض التفكك تقريبا (وخاصة المستوى الثانى والثالث) تظهر واضحة فى هذا النوع من الفصام..
حالة: عينة من كتابة حالة فصام هيبفرينى تظهر مدى عدم الترابط..
وهى حالة ف..” تلميذة أنهت مرحلة الإعدادى بتفوق ظاتهر حتى نالت جائزة فى عيد العلم وفجأة وهى ف يالسنة الثانية الثانوية توقفت عن الاستذكار ورفضت الذهاب إلى المدرسة وأخذت تتكلم كلاما غير مفهوم، ثم اشترت عددا من الكراسات وأخذت تكتب فيها مقالات تريد أن تعبر بها عن شيء، وكان من ضمن عناوين مقالاتها الغذاء.. من المسئول الأمة العربية المستقبلية… ثم لا تورد تحت هذه العناوين ما يشير إلى ما تريد قوله.. ونورد هنا عينة تدل على مدى التشوية الفكرى الذى أصيبت به.. ولاحظ مثلا جملتها أظن الإثنين أربعة.. ولا أظن الأربعة إثنين ثم طريقة كتابتها نفسها وهى الطالبة المتفوقة دائما.
6- الفصام الكاتاتونى (الفصام التصلبى)[4] (ورمزه فى الدليل المصرى صفر 7 / 4).
وفى هذا النوع تكون الأعراض الغالبة هى أعراض فقد الإرادة (راجع الأعراض) واضطراب السلوك الحركى ، وهذا النوع لا يمكن وضعه فى مكانه المناسب تحديدا على سلم العملية الفصامية، فإن البعض يعتبره نوعا متاخرا (شديد التدهور)باعتبار الناتج من نوبة المرض فيه إذ ينتج ندوبا فى الشخصية وهبوط مستواها التكيفى ورنينها العاطفى .. مع درجة من التفكك وقد يصاحب هذا النوع بوجه خاص اضطرابات جسمية مميزة مثل اللون الباهت للجلد وزرقة الأطراف ووفرة اللعاب وإنخفاض الدم وضحالة التنفس (إلا فى حالات الهياج فإن الضغط قد يرتفع وقد يضطرب التنفس) ويتصف هذا النوع بأنه يأتى فى نوبات مختلفة حتى يمكن تمييز نوعين منه:
(1) الفصام الكتاتونى الهياجى (ورمزه صفر 7 / 4 صفر ).
وهو يتصف بزيادة فى النشاط الحركى لدرجة العنف والتحطيم، ويمكن تمييز الهياج هنا عنه فى حالات الهياج فى الهوس بأن سلوك المريض يبدو مندفعا من داخله بغض النظر عما حوله، ولذلك فإن تصرفاته العنيفة لا يمكن التنبؤ بها وتبدو بلا معنى وبلا أهداف، كما أن العواطف المصاحبة لا يمكن أن كلامه غير مترابط وغير منطقى. فى حين أن الهياج الهوس يكون مثارا من الخارج وذا معنى يبدو فيه الرفض مثلا وقد يتحول مسار الهياج من مؤثر خارجى إلى آخر حسب ظروف البيئة.
(ب) الفصام الكتاتونى الإنسحابى (الذهولى) (ورمزه صفر 7 / 4).
ويتصف هذا النوع بالهبوط الحركى الذى قد يصل إلى الذهول، كما يصاحبه البكم والخلف والانثنائية الشمعية.
على أن هذا النوع من الفصام يثير مشاكل تشخيصية عديدة وذلك كما يلى:
1- أن حدوثه فى نوبات يشير إلى كونه نوعا حادا، فى حين أن الفصام مرض مزمن بطبيعته، وذلك فإن المعول الأساسى فى تشخيصه أحيانا يكون ما يتركه من آثار مزمنة فى الشخصية الأمر الذى يمكن استنتاجه من شذوذ النوبة الحادة وطبيعتها.
2- أنه قد يحدث دوريا (مما يقاربه من حالات الهوس والاكتئاب) ولكننا ينبغى أن ننتبه أنه إذا زالت النوبة دون أثر فى الشخصية تماما فإن الكاتاتونيا الحميدة Periodic catatonia والأولى بوجه خاص قد تندرج تحت أمراض الهوس والاكتئاب أخرى (الرمز فى الدليل المصرى صفر 6 / 9).
3- أن مجرد وجود أعراض كاتاتونية فى الفصام (مثل الطاعة الآلية أو الانثنائية الشمعية) فى أى نوع آخر لا يكفى بالضرورة لتخشيص هذا النوع من الفصام.
4- أن وجود مظاهر الاضطرابات الجسمية هنا بشكل ظاهر قد يقربنا من احتمال وجود اضطراب عضوى خاص فى هذا المرض بالذات.
وفيما يلى وصف حالة هياج فصامى من النوع التصلبى:
حالة: السيد أ….“ عمره 27 عاما يعمل قهوجى على الرصيف جاء فى حالة هياج شديد فى صحبة البوليس، ولم يدل بأى شكوى.. وقد قالت زوجته … مخه طار يابيه نازل فينا ضرب وتكسير… وبيقول أنا أسمى محمد وأنتى مسيحية ما تحليليش.. لما أقوله أنت فلان يقول أنتى ما بتعرفيش حاجة… وقد كان هياجه من نوع خاص وكأنه يشير إلى شيء ما أو يدفع عن نفسه شرا وكان يتصف بالخلف الشديد فيفعل عكس ما يلقى عليه من أوامر على طول الخط، كما كان أحيانا يكرر نفس الحركة – ولو أنها حركة هو جاء من الصعب تمييز مغزاها أثناء هياجه.. وقد أدخل المستشفى وأعطى العلاج المكثف من الصدمات الكهربائية فتحسن هياجه نوعا ولكن اضطراب أفكاره و أهمها ضلالات تغير الشخص وتغير الكون ظلت كما هى.
7- نوبة الفصام الحاد غير المتميز (الرمز فى الدليل المصرى صفر 7 / صفر).
يمثل هذا التشخيص أيضا مشكلة ضخمة فى تصنيف الفصام فكما ذكرنا بالنسبة للفصام الكتاتونى فإن الفصام مرض مزمن بطبيعته فكيف يكون هناك فصام حاد ؟ ويذهب البعض إلى عدم تشخيص هذا النوع أصلا والإنتظار بعد إنتهاء النوبة الحادة فإذا تركت أثرا تفكيكيا وندبا دائما فى الشخصية فإننا نسميه فصاما حادا (بأثر رجعى).
ولكن آخرين ذهبوا إلى الرأى أنه أثناء النوبة الذهانية الحادة قد نتبين أعراضا فصامية صريحة بحيث يمكن التنئو بأنها لو لم تعالج فورا بتكثيف خاص فإنها لا بد تاركه آثارا تفككية وندوبا فى الشخصية، وعلى هذا الافتراض فإن كل من التقسيم العالمى والامريكى والمصرى قد أقر بوجود هذا النوع الخاص.. ويتصف هذا النوع ببداية حادة يظهر فيها أعراض الفصام الصريحة مباشرة (التفككك بكل درجاته وخاصة الثانية والثالثة) ويصاحب ذلك درجة من الخلط والربكة وفورة إنفعالية، ويبدو المريض أحيانا توكأنه فى حالة كالحلم كما قد يصاحبة هياج أو اكتئاب أو مخاوف حادة ومذبذبة وقد يتلفت المريض حوله ويشكو من أن الناس تشير عليه.. ويرجح هذا التشخيص بوجه خاص وجود شخصية شيزويدية قبل المرض وتاريخ عائلى إيجابى لحالات فصام متدهور.
وقد تمضى هذه النوبة دون آثار شديدة خلال أسابيع، إلا أنه لاعتبارها نوبة فصامية يشترط البعض أن تترك تغيرا حاسما فى الشخصية. ولكنه فى حالات أخرى قد تستمر العملية الفصامية فى التقدم الحثيث بعد انتهاء النوبة الحادة حتى يأخذ الفصام صورة من صور الفصام المزمن.
على أننا ينبغى ألا نطلق هذا التشخيص (الفصام الحاد غير المتميز) على النوبات التى تحدث على فترات فى الأنواع التى تميزت فعلا. فإنما تسمى هذه الأخيرة أزمة حادة فى النوع الخاص بها مثلا:
أزمة حادة فوق فصام هيبفرينى Acute crisis on top of Hebephrenic Schizophrenia
حالة: م. م..” (طالب فى السنة الثانية الثانوية عمره 16 سنة، وقد كان طالبا ممتازا لم تقل تقديراته عن 90 % فى السنوات السابقة، وقد كان أخوه مصابا بانفصام منذ سنوات كما دخل ابن عمه مستشفى الأمراض العقلية وخرج بعد ثلاثة شهور ولم يكمل تعليمه، وقد بدأ المريض منذ شهرين فى الانزواء وسؤال أخيه عن أعراض مرضه السابق وما تبقى منها، ثم أحس بعد هذا السؤال بالتغير التدريجى واحتمال أن يصاب بمثل هذه الأعراض.. كما أحس بعدم القدرة على الاستيعاب والخلط فى الأفكار أنا كنت أحس إن أفكارى ملخبطة…. أى كلام وذات يوم – بعد هذا التدرج – حضر الامتحان فلم يكتب حرفا وترك الورقة خالية بدون مبرر ظاهر ولم يستطع أن يفسر ذلك فيما بعد وخاصة وأنه كان مستعدا مثل كل عام.. ثم دخل بعد ذلك فى حالة من الذهول.. وحضر ذكر رقم ما (7) قال هو: واحد وواحد وواحد وواحد… ولم يتوقف وحين كان يترك وحده حتى دون رقيب كان يهمهم بكلمات غير مفهومة، وأثناء النقاش كان يرد على إجابات أخرى أو يستمر فى الإجابة السابقة دون أن يدرك أن سؤالا جديدا قد طرح عليه وكان يبتسم وحده بلا سبب، وإذا ترك فى حجرة مظلمة فإنه يظل فيها صامتا ساعات وساعات.
وقد تبين فى تاريخه الطولى: أنه أصيب بعدة نوبات تجوال فى العام السابق مما جعل الشك يدور حول احتمال كون هذه النوبة نوبة هستيرية.. إلا أن التفكير العيانى الواضح والتفكك مع وجود شخصية شيزويدية سابقة ممتازة فى التحصيل الدراسى ووجود تاريخ أسرى إيجابى جدا للفصام جعلنا نرجح فى النهاية أنها نوبة فصام حاد غير متميز.. وقد أعطى فورا جرعة كبيرة من عقاقير الفينوثيازين ثم جلسة كهربائية واحدة مع وجود علاقة عاطفية وثيقة حيث استطاع الطبيب المعالج أن يشعره بالتقبل والحماية والحزم منذ، كل ذلك جعل النوبة تزول خلال أيام.. إلا أنه لم يرجع أبدا إلى مستواه التحصيلى كما كان من قبل ولا إلى تفاعلة العاطفى المميز لما قبل هذه النوبة.
وهكذا نجد صعوبة التشخيص فى مثل الحالات وتداخلها ليس فقط مع الأنواع الأخرى من الذهان، ولكن أيضا مع حالات الهستيريا الانشقاقية.. ولذلك وجب التنوية إلى ان الشخصية قبل المرض والتاريخ العائلى عاملان مساعدان فى التشخيص فى الحالات الحادة بشكل خاص.
8- الفصام البسيط:(رمزه صفر 7 / 6)
ينبغى أن نشير إلى أن هذا الاسم (البسيط اسم مضلل منذ البداية حيث أن هذا النوع من الفصام خطير للغاية ومزمن وخفى المعالم حتى يصعب تشخيصه مبكرا أو علاجه علاجا نشطا فعالا فى الوقت المناسب، ولكنا احتفظنا بالاسم لأسباب تاريخية، فهو بسيط من حيث أنه لا يحمل أعراضا إيجابية كثيرة، هذا هو كل ما فى الأمر ويتميز هذا النوع من الفصام ببداية تدريجية وتقدم بطيء ولكنه مستمر، ويظهر فى التدهور التدريجى للاهتمامات الخارجية العامية، وفقد الطموح.. وتقطع العلاقات الخارجية.. ثم يظهر جليا عدم المبالاة التى تصل أحيانا إلى تبلد الشعور.. ويستمر التدهور ويرضى المريض بالأقل والأقل من المراكز والعلاقات دون سعى حثيث إلى تغيير أى من ذلك، ويمكن تمييز هذا النوع من الشخصية الشيزويدية التى تشترك معه فى بعض هذه الصفات بوجود بداية محددة للتدهور بشكل أو باخر مهما كانت بسيطة أو تدريجية فى الفصام البسيط وكذلك باستمرار هذا التدهور فى حين لا توجد هذه البداية فى الشخصية الفصامية.
وبالاضافة إلى كل ما سبق من انسحاب عام ولا مبالاة فإن تفكير هذا المريض يبدو ضحلا وغامضا ويكثر من التبرير المرضى ، كما يكثر من الشكاوى المرضية الجسمية، أما عن الهلاوس والضلالات فقد تظهر مؤقتة وضحلة، إلا أنه تحت ضغوط بيئية أو علاجية خاصة قد يثبت أن كل هذه المظاهر السلبية قد تخفى وراءها جهازا ضلاليا عميقا لا يبدو على السطح فى الأحوال العادية.
وقد أوردنا هذا النوع فى نهاية القائمة لعدم قدرتنا على تحديد موقفه على المتدرج الفصامى حيث أنه – كما بينا – دائم التدرج إلى التدهور.. قليل الأعراض الظاهرة والإيجابية.. فى نفس الوقت.
حالة: السيد م…“ عمره 27 سنة طالب بالثانوية الأزهرية ويقيم فى طنطا وهو من إحدى القرى المجاورة جاء يشكو من آلام عامة غير محددة، عدم القدرة على التركيز وعدم القدرة على الاستيعاب أو الاستذكار، وعدم القدرة على دخول الامتحان، أرق يتناوب مع إفراط فى النوم ويقول أول ما حسيت إنى عيان من كام سنة كنت دخلت الامتحان وسقطت ولقيت دماغى فاضية وبعدين لقيت زى حاجة شاذة فى دماغى كده زى ما أكون مش قادر أفكر ما عرفش أذاكر… ما عرفش أحصل حاجة ثم يقول، عايز جو هادى ولو أقعد لوحدى طول النهار ما يجراش حاجة.. والحكاية دى عمالة تزداد.. وأخذت صدمات فى طنطا ولارجا كتيل مفيش فايدة وقد عمل له اختبار ذكاء وتبين أنه فوق المتوسط مما لا يفسر تخلفه الدراسى وعدم استطاعته التحصيل بأى درجة مفيدة، وبالفحص تبين أنه لا يستطع البت فى أى أمر يخصه وبلغ تردده واختلا فكره أنه مهما سئل عن أهم الأمور يجيب ما عرفشى.. مش قادر أحكم… بيتهيألى.. وكان متبلد الشعور حتى أطلق عليه المرضى فى القسم ثقيل الظل ولم يظهر عليه أى عرض آخر كالضلالات والهلاوس.. وقد أدخل القسم وأعطى علاج غيبوبة الإنسولين وتحسن قليلا ولكنه بعد خروجه عاد إلى أول عهده وتتبعنا حالته أربعه سنوات فازداد عزوفا عن الناس وزاد تبلد عواطفه.. وضعف إرادته فلم يحاو ل الالتحاق بعمل ما، ورغم ضعف مستوى أسرته الاقتصادى.
وهكذا نرى كيف تكون الأعراض بسيطة فى الظاهر قاصرة على تبلد الشعور وفقدان الإرادة ولكن الحالة تتطور تدريجيا.. فلا يفيدها العلاج كثيرا إذ أنها عادة ما تسأل النصيحة فى وقت متأخر نوعا.. ثم نرى كيف تستمر الحالة سنين طويلة دون أن يبدو فيها أعراض صارخة أو منذرة مما يصعب معه الحكم على طبيعة المرض وخطورته.
9- الفصام المتبقى: (ورمزه فى الدليل المصرى صفر 7 / 8).
ويطلق هذا التعبير على طائفة من الفصامين الذين مروا بنوبة فصامية حادة.. أو طور نشط من التطور الفصامى ، ثم استطاعوا أن يتكيفوا لمرضهم رغم بقاء بعض أعراض الفصام مهما كانت طفيفة، وبالمقارنة بالطور النشط فإن الأعراض تصبح خامدة ومكررة وغير معوقة بنفس الدرجة من الحدة، إذ يتعود المريض عليها وتصبح جزءا من سلوكه.. وتتبقى درجة من ضحالة الشعور كقاعدة فى أغلب الاحوال.
ومن وجهة نظر المريض ومن حوله نجد أنه قد تأقلم للحالة المرضية بنجاح نسبى، وبالتالى فإن هذا النوع يشبه إلى حد ما اضطرابات الشخصية ولكنه يتميز عنه بوجود نوبة فصامية نشطة أو حادة واضحة فى تاريخ المريض.
حالة: م. ل. ن.“ مهندس متزوج وله ولد وبنت أصابته نوبة فصامية فى سن السابعة والعشرين واستمرت ستة شهور دخل أثناءها مستشفى للأمراض النفسية وعولج واختفت الهلاوس والضلالات المفككة واستطاع أن يستجيب لنظام المستشفى إلى حد ما.. ولكنه حين خرج لم يستطع أن يعاود حياته الزوجية كما كانت، واشتكى من بعض صعوبات فى حياته الجنسية وبعد أربعة شهور طلق زوجته وتنازل عن حضانة طفليه مدى الحياة، ثم سعى إلى تغيير عمله من عمل تنفيذى إلى عمل مكتبى روتينى، وقطع صلاته بأصدقائه وباع كتب مكتبه إلا أنه ظل يذهب بانتظام إلى عمله وقال عنه أصدقاؤه إنه لم يعد يتجاوب لأى ممن حوله ولا يهمه فرح أو حزن، ولا يشغله إلا ملء ثلاجته بمأكولات تكفيه أسبوعا على الأقل.. وقد قرر أهله أنه شفى.. وإن كانوا لاحظوا أنه قد انتظم على الشراب يوميا بكيمات محدودة يقول إنها تساعده على النوم، وكان يتحفظ فى معاملاته مع زملائه ويغلق مكتبه بمفتاح وقفل خارجى معا دون أن يذكر سبب ذلك. وهكذا نرى هذه الأعراض الإيجابية ولم يتبق سوى صفات سمات تبدو وكأنها جزء من شخصيته الجديدة.. إلا أن الواضح هنا أنها كانت مختلفة تماما عن شخصيته قبل المرض.
أنواع متفرقة أخرى:
بالرغم من هذا العدد الذى ذكرناه من أنواع الفصام فأنه لا يمكن أن يغطى كل تصنيفات هذا المرض الخطير والصعب معا.. فما زال هناك أنواع أخرى تخرج عن نطاق هذا العمل مثل الفصام الحالم Oneroid Schizophrenia حيث يكون المريض فى حالة أشبه بالحلم معظم الوقت، وتبدو له الهلاوس وكأنه فى تمثيلية درامية. وفصام الطفولة Childhood Schizophrenia الذى يحدث قبل سن المراهقة، وفصام ضعاف العقول Prof Schizophrenia.. وغيرها مما تدرج جميعها تحت العنوان فصام: أنواع أخرى(تذكر) (ورمزه صفر 7 / 9).
مشاكل تشخيصية أخرى
بالرغم مما حاولنا الإفاضة فيه من أعراض وتنويعات، إلا أن تشخيص الفصام مازال مشكلا وما زالت هناك أسئلة كثيرة تنتظر الإجابة وهى قيد البحث ومنها:
1- ما هو تأثير العلاجات الحديثة – الكيمائية خاصة فى مسار المرض.. وتنوع أعراضه وتغيير مصيره لما هو معلوم عنها من فاعلية فاقت الوسائل التقليدية بشكل كبير مما يترك انعاكسا على المجالات المهيئة التى سبق ذكرها.
2-إذا نجح العلاج فى إيقاف سير المرض فصامى الشكل وربما فى منع أغلب مضاعافته أو كلها.. فهل يحق لنا أن نشخص مثل هذه الحالة تحت هذه الظروف بالفصام رغم عدم حدوث أى آثار تدهورية على الشخصية ؟
3- إذا أعقب المرض بكل أعراضه الصريحه تغير فى شخصيته المريض بشكل أكثر تكيفا مع المجتمع، الأمر الذى يحدونا إلى تصور أن شخصية المريض قد تطورت إلى مزيد من النمو بعد المرض (وهذا ثابت علميا فى بعض الحالات) فهل يحق لنا أن نسمى المرض الذى أصاب هذا المريض مرضا فصاميا ؟
4- إذا استطاع فاحص مغامر ذو خبرة خاصة أن يوجد علاقة عميقة مع المريض ساعدت على اختفاء الأعراض وإعادة التماسك والتواصل لفترة الفحص. ثم تناثر المريض بعد ذلك، فهل يقلل هذا من احتمال تشخيص الفصام ؟
5- إذا اختفت الأعراض تماما أو كادت (حتى التلبد أو التفكك، وذلك بالسماح بالنكوص – أثناء العلاج مثلا – والابتعاد عن المسئولية، أو إذا اتيح للمريض النكوص نتيجة لظروف بيئية واقية من الناحية المادية والعاطفية الأمر الذى ساعد على اختفاء الأعراض،.. فهل يظل تشخيص الفصام محتملا لمجرد أن الأعراض أختفت رغم وجود النكوص والاعتمادية.
كل هذه المشاكل وغيرها مازالت قيد البحث، وهى تدل على مدى تنوع هذا المرض وصعوبة تشخيصه كحدث مستعرض… خاصة وإنه عملية شبه مستمرة: تدهورا وتماسكا مرحليا، ثم تحسنا ظاهريا ثم تدهورا وهكذا.
التنبئو، وتطور المرض:
يمكن التنبو بما سيؤول إليه المريض بالإلتفات إلى علاقات معينة تساعد فى ذلك نستطيع أن نوجزها فى الجدول التالى:
العلامات | تنبؤ حسن | تنبؤ سئ |
بدء المرض نوع البدء الشخصية قبل المرض الذكاء العامل المرسب الاستجابة العاطفة الورواثة النوع العلاج التاريخ العائلى | فى سن متأخرة بداية فجائية متماسكة فوق المتوسط موجود الاحتفاظ بها مدة طويلة وجود أقارب مصابين بمرضالهوس والاكتئاب (1) الصور المحورة غير النموذجية (2) الصور الحادة نسبيا والنشطة العلاج وشامل وتأهيلى أفراد اصيبوا وتحسنوا | فى سن مبكرة (قبل العشرين)بداية تدريجية شبه فصامية دون المتوسط غير موجد اختفاؤها من أول المرض وجود أقارب مصابين بفصام مزمن متدهور (1) الصور النموذجية (2) الصور المزمنة والخاملة متأخر ومتردد بلا تأهيل أفراد اصيبوا وتدهوروا |
ولكننا نحب أن نشير أنه لا يمكن الجزم بصورة مطلقة بما يمكن أن يحدث لأى مريض مهما أظهر من علامات حسنة أو سيئة فإن هذه القواعد تصدق على أغلبية المرضى ولكنها لا تصدق عليهم كلهم فى ذلك لأن الاختلافات الفردية قاعدة أصيلة.
العلاج:
وكما أن الفصام هو محور المرض النفسى والعقلى عامة فإن علاجه هو قضية من أهم القضايا فى الأمراض النفسية كافة، وقد اختلفت الآراء حوله اختلافا شديدا، ونجح أغلبها – بحق – إلى التركيز على العلاج العضوى أساسا: إما لترجيح السبب العضوى فى إحداثه، وما لإدراك خطورته، ثم التعجل فى محاولة إيقاف مساره قبل التفكك الكامل والتناثر والتدهور، وسوف نورد هنا نبذة عن أنواع العلاج المختلفة.
أولا: العلاج الكيميائى: ويتمثل حاليا فى إعطاء عقاقير خاصة تعمل أساسا على المستويات الأقدم من المخ (وربما كان فى ذلك ما يفسر نجاحها اذ أن الفصام فى رأينا – فسيولوجيا – هو نشاط مستقل للجزء الأقدم من المخ ينافس النشاط الأحدث) والعقاقير المستخدمة من أنواع مختلفة أهمها فصيلة الفينوثيازين، وتختلف فى عمقها وفاعليتها من عقار لآخر، وقد لوحظ أن هذه العقاقير لها مفعول ناجح كلما كان الفصام نشطا والأعراض إيجابية، ولذلك فهى أنجح ما تكون فى الحالات الحادة والحالات المتخمة بالأعراض الإيجابية التى تدل على أن ديناميكة المرض لم تستقر بعد، أما فى الحالات المزمنة التى وصلت إلى درجة من الاستقرار وأصبح السلوك الفصامى عادة أو جزءا لا يتجزأ من الشخصية، فإن مفعولها يكون أقل ما لم يستثار النشاط الفصامى بخطة محكمة لجر المريض للاحتكاك بالواقع وتنظيم تأهيله بجرعات متزايدة من العمل والتفاعل مع الآخرين وهنا قد يبدأ فى المقاومة أو تبدأ الأعراض فى النشاط حيث تصلح هذه العقاقير ثانية وبشكل فعال تماما.
وتختلف جرعات هذه العقاقير اختلافا شديدا فقد يبدأ عقار مثل اللارجا كتيل (كلوربرومازين) من 75 مجم يوميا إلى1000 مجم وعقار مثل الستيلازين من 15 مجم (فى تجربة أجراها أحدنا تحت النشر) ويظل المريض رغم تزايد الجرعة فى كثير من الأحوال رائحا غاديا على قدميه… بعد أن يتأقلم على العقاقير ولا ينتابه حتى نوبات هبوط الضغط الوضعى حين يقف من حالة الجلوس.
وقد ينتج عن هذه العقاقير اكتئاب حقيقى مما ينبغى الحذر معه، إلا أن هذا علامة طيبة فى تقدم المريض نحو الشفاء (كما أظهرت النتائج فى بحث أجراه المؤلفان عن عقار البرفينازين ابننثاث طويل المدى) فظهور الاكتئاب تطور إيجابى لا يدل على يمضاعفات كيميائية (حسب تفسير المؤلفين فى البحث المشار اليه) بقدر ما يدل على تحرك الطاقة من مستوى أقدم إلى مستوى أحدث وعلى الاقتراب من الواقع وإدراك صعوبته ومرارته ومن ثم يحدث الاكتئاب ويكون هذا أنسب الأوقات لإعطاء بضعه جلسات كهربية وخاصة إذا كان برنامج التأهيل مستمرا ومنتظما.
2– علاج الصدمات الكهربائية: ويستعمل هذا العلاج عادة مع العلاج الأول، ويستحن أن يتأخر عنه قليلا حتى فى الحالات الحادة ونتائجة تكون أصلح ما تكون فى هذه الحاله والمصحوبة باضطراب فى العاطفة البارانوى المصحوب بفيض عاطفى حار مع الضلالات، وكذلك أثناء خطة العلاج الطويلة بالعقاقير والتأهيل معا وذلك مع ظهور الاكتئاب وأثناء استعادة العلاقة بالواقع..
3- علاج غيبوبة الأنسولين: وهو علاج ناجح – أخذ سمعه طيبه إلا أن ما يستلزمه من وقت وجهد وما يصاحبه من مخاطر جعلت العلاجات الأخرى الأحدث تغنى عنه.
4- العلاج بالعمل: وهو صنفان فى حالات الفصام فإما أن يكون الهدف منه هو استعادة المريض فاعليته وعدم تركه لخيالاته وسلبياته واستعادة ثقته بأنه قادر على شئ ذى فائدة وأن يرى نتاج عمله فيتحمس للرجوع للواقع..
وإما أن يكون جزءا لا يتجزأ من علاج الوسط والعلاج السلوكى يتعرف فيه المريض على جسده، ويكسر خموله وعاداته السلبية واختفائه فى قالب ثابت من الوجود.
5- العلاج النفسى: ولا بد أن نبدأ هنا بالقول أن الرعب من العلاج النفسى (وخاصة التحليلى) للفصامين، وقد قل كثيرا نتيجة لوفرة استعمال العلاج الكيميائى حيث نشجع المعالج أن يتفاعل مع المريض وهو ضامن أن بيده أسلحة يتدخل بها وقتما يشاء ليتمكن من السيطرة على الموقف باستمرار.
والعلاج النفسى المكثف Intensive Psychotherapy قد ثبت فاعليته لو أتيحت له الفرصة كاملة إلا أنه يحتاج لوقت وجهد بلا حدود، وفيه يقوم الطبيب باختراق حاجز العزلة عند المريض ومحاولة فهم لغته الخاصة والقيام بدور المترجم له أو الجسر الذى يعبر عليه إلى دنيا الواقع، وهذا النوع – بداهة – ليس بديلا عن العلاجات العضوية الأخرى ولكنه متمم لها.
ومن أنواع العلاج النفسى التى ساعدت كثيرا من المرضى الفصاميين العلاج الجمعى وخاصة نوع الجلسات والتحليل التفاعلاتى دون الإغراق فى التفسير والتأويل وهو يساعد على إعادة احتمال التواصل مع الآخرين والتقمص، واكتساب مهارات اجتماعية جديدة، وتجميع أجزاء الشخصية فى جو علاجى خاص ومدروس وموجه.
وهذا النوع من العلاج يكون أنجح وأجدى فى حالات الفصام المبتدئ حيث يعتبر العلاج المفضل الذى لا يكتفى بإزالة الأعراض بل إنه يحول هذه الأزمة المرضية إلى فرصة إيجابية لاستكمال نمو الشخصية.
6- علاج الوسط: ويقصد به تهيئة مجتمع صغير (مستشفى مثلا) له فلسفة فى الحياة وأهداف مشتركة وموقف محدد يشترك فيه المرضى وجميع الأفراد المعالجين، ويستعمل فيه سائر أنواع العلاج السابقة، بحيث يتيح للمريض فرصة المشاركة فى جو خاص يتيح له أجازة مدروسة من عالم الواقع الذى لم يتحمله، ولكنه فى نفس الوقت يحافظ فيه على درجة خاصة من العلاقات والنشاط يستعيد من خلالها قدرته على العودة إلى الواقع تدريجيا بطريقة أكثر قدرة وأوفر نشاطا.
7- العلاج الجراحى: وهو العلاج الذى يهدف إلى قطع بعض الدوائر العصبية التى تساهم فى توصيل وإثارة الانفعالات المرضية، ولا يستعمل إلا فى الحالات المزمنة التى فشلت فى الاستجابة لأى من العلاجات الأخرى.
الموجز
الفصام
يمكن تعريف الفصام بأنه مرض عقلى يتميز بأعراض متنوعة ناتجة من تفكك الشخصية ومحاولات تماسكها بدفاعات مرضية مختلفة ويجنح فى النهاية إلى تدهور الشخصية والانسحاب من الواقع وتظهر فيه أعراض الاضطراب
فى كافة وظائف الشخصية، ففى مجال العاطفة تظهر ثنائية الوجدان والتذبذب واللامبالاة واللاتوافق وفى مجال السلوك العملى والإرادة تظهر علامات فقد الارادة والتصلب وأحيانا الذهول التام وفى مجالات الإدراك والتفكير تظهر علامات تغير الذات والعجز عن التجريد وتفكك الأفكار وتكاثفها وقد توجد هلاوس وضلالات غير منتظمة فى العادة.
الأسباب:
1- الوراثة: لوحظ أن حوالى 60% إلى 70% من عائلات الفصاميين لها تاريخ إيجابى للمرض العقلى , كما أن التوائم المتماثلة يبلغ إصابتهما معا 70% من الحالات.. وهذا دليل أهمية عامل الوراثة فى الاستعداد للفصام وليس فى حدوثه.
2- السن: يبدأ فى سن المراهقة عادة ولكنه يحدث بتواتر متوسط حتى الثلاثين ويقل بعد ذلك.
3- التكوين الجسمى: يحدث أكثر عند الأشخاص ذوى التكوين النحيف والعضلى.
4- التغييرات الجسمية: لوحظت عدة تغيرات كيميائية وهرمونية مختلفة إلا أنها غير ثابتة ولا دائمة ولا يمكن معرفة إن كانت سببا أو نتيجة.
5- الجهاز العصبى المركزى: يظهر فيه تغيرات تشريحية فى الحالات المتدهورة المزمنة تماما وقد يكون هذا نتيجة لاختلال عمل مستويات المخ معا.
6- الأسباب النفسية:
- أرجع البعض ظهور مرض الفصام إلى تراكم عادات الانزواء والعجز عن التعامل مع الواقع.
- وأرجعه المؤلفان إلى عجز اللغة عن أداء وظيفتها الاجتماعية.
- وعزاه فريق ثالث إلى تجمد النضج عند مرحلة بذاتها ثم الرجوع إليه نكوصا تحت ضغط الواقع.
- وذهب فريق رابع إلى أنه نتيجة لاختفاء المنطق وحلول منطق أثرى خاص محله.
7- الأسباب المرسبة: مثل إصابات الرأس والحمى والإرهاق والحرمان والإحباط، وعادة يكون السبب ذو طابع يتعلق بقيمه الذات وكيانها.
الأعراض: جدول يبين الأعراض فى مختلف الوظائف العصبية.
اضطراب التفكير | اضطراب الإدراك | اضطراب الإرادة | اضطراب السلوك الحركى | اضطراب العاطفة |
الغموض – اختفاء حروف العطف والجر -اللاترابط- سلطة الكلام ترابط الرنين – التكثيف – المزاح اللاترابطى – التفكير العيانى - العرقلة -ضغط الأفكار – فقر الأفكار – تفكير ذاتى – تفكير أثرى – محتويات خيالية – ضلالات غير منتظمة – وساوس شاذة - ضلالات أولية – انتزاع الأفكار - إقحام الأفكار – إذاعة الأفكار | خبرة تغير الذات -خبرة تغير الكون – هلوسات بصرية وصور خيالية – صدى الفكر أصوات منافسة -أصوات معقبة-اضطراب أبعاد الذات | فقد أبعاد الذات – إقحام الأفكار وانتزاعهاوإذاعتها، أفعال مفروضة، عواطف مقحمة، تردد وعجزعن اتخاذ أى رأى ,انثنائية شمعية، طاعة آلية، خلف، مقاومة عجز عن العمل والإنتاج | سلوك غير متناسق وشاذ الطاعة الآلية -الانثنائية الشمعية، صدى الحركة التكرارية والأسلوبية، والتثابر | تبلد الشعور اللامبالاة تذبذب العاطفة ,تناقض العواطف , تباين العواطف ,ظهور العواطف، البدائية والفجة |
أنواع الفصام:
1- الفصام المبتدئ: (الرمز صفر 7 / 1). يتمز ببداية مفاجئة يصاحبها عادة شعور بتغير الذات والكون، ويختل بعدها السلوك عن ذى قبل حيث كان منتظما مستقرا ثابتا، ولا يرجع المريض إلى سابق عهده وتزداد حساسية وسوء تأويله، وتتذبذب عواطفه وقد تتطور الحالة بعد زمن إلى فصام صريح.
2- الفصام الانفعالى: (الرمز صفر 7 / 2). ويتميز هذا النوع بوجود مزيج من أعراض الفصام وأعراض الهوس أو الاكتئاب الصريحة والمستمرة إلى درجة ما، كجزء لا يتجزأ من زملة الأعراض وينقسم إلى:
(1) الفصام الانفعالى الاكتئابى.
(2) الفصام الانفعالى الهوسى.
(3) الفصام الانفعالى المختلط.
3– الفصام البارانوى: (الرمز: صفر 7 / 3). ويتميز هذا النوع بوجود ضلالات وهلاوس مع أعراض الفصام التفككية وانسحاب العواطف جزئيا، على مجرد وجود الضلالات أو الهلاوس ليست كافية لتشخيص هذا النوع يتميز عن حالات الضلال بوجود اضطراب فى عملية التفكير (شكل التفكير) يمثل اضطرابا واضحا نسبيا.
4- الفصام المزمن غير المتميز: (الرمز: صفر 7 / 7). وهو نوع يشمل كافة أعراض الأنواع الأخرى تقريبا بلا ترجيح إحداها على الأخرى فهو وسط بين الفصام البارنوى والهيبفرينى إذ هو أكثر فى الأعراض السلبية (التفكك والتشوش والانسحاب) من البارانوى وأقل فى الأعراض الإيجابية من الهيبفرينى (الضلالات والهلاوس والشك).
5- الفصام الهيبفرينى (الرمز: صفر 7 / 5)
ويتصف هذا النوع بسطحية العواطف ولا توافقها ثم اضطراب عملية التفكير بكل مظاهر التفكك والتناثر، ووجود ضلالات عابرة وغير منظمة وقد يبتسم المريض ابتسامة بلهاء لامعنى لها، أو يقوم بنشاط زائد (دائرى) غير مثمر.
6- الفصام الكاتاتونى (الرمز: صفر 7 / 4)
وهو يتصف بأنه يحدث فى نوبات هياجية أو انسحابية ولذلك فهو إما:
(ا) الفصام الكاتاتونى الهياجى: الذى يتصف بزيادة النشاط الحركى لدرجة الغضب والتحطيم، ويبدو سلوك المريض مندفعا محددا من داخل صراعاته وليس موجها أو محورا بالبيئة من حوله.
(ب) الفصام الكاتاتونى الانسحابى:
ويتصف هذا النوع بالهبوط الحركى الذى يصل إلى الذهول كما يصاحبه البكم والخلف والانثنائية الشمعية.
7- نوبة الفصام الحاد غير المتميز (الرمز: صفر 7 /صفر)
يتصف هذا النوع ببداية حادة تظهر فيها أعراض الفصام الصريحة مباشرة (التفكك بكل درجاته) ويصاحب ذلك درجة من الخلط، والربكة، وفورة انفعالية، ويبدو المريض وكأنه فى حالة حلم.. وتتذبذب عواطفه، وقد تزول هذه النوبة لتترك بعدها ندب فى الشخصية واضمحلال فى التفاعل العاطفى , أو قد تتطور الحالة إلى نوع صريح مزمن، أو قد تزول تماما وفى الحالة الأخيرة فإنه ينبغى مراجعة التشخيص بعناية لأن البعض يصر – بحق – أنه لتشخيص الفصام لا بد ألا يعود المريض لحالته الأولى.
8- الفصام البسيط (الرمز: صفر 7 / 6)
وهو نوع خطير برغم الاسم، وهو ذو بداية تدريجية، وتقدم بطئ مستمر نحو التدهور، ويتميز بالانسحاب التدريجى من الواقع والتبلد العاطفى المتزايد، والأوهام المرضية وتبريرات العجز الخاوية وأحيانا تظهر ضلالات مؤقتة وهلاوس سطحية عابرة.
9- الفصام المتبقى: (الرمز: صفر 7 / 8)
ويطلق هذا التعبير على طائفة من الفصاميين مروا بنوبة فصامية حادة أو طور نشط، ثم استطاعوا أن يتكيفوا لمرضهم رغم بقاء بعض الأعراض التى تصبح حينذاك هامدة ومكررة وغير معوقة إذ يتعود المريض عليها ويشبه هذا النوع اضطراب الشخصية، إلا أنه يتميز عنه بوجود تاريخ سابق للنوبة الفصامية.
التنبئو بسير المرض:
كلما كانت بداية المرض فى سن متأخرة، وحادة نوعا ومع سبب مرسب واضح، وكلما كانت الشخصية قبل المرض متماسكة، وكان المريض محتفظا باستجابته العاطفية لدرجة ما، وكان المرض غير نموذجى وكان للمريض أقارب مصابون بمرض الهوس والاكتئاب وكان العلاج مبكرا وحاسما كلما كان ذلك التنبئو حسنا بسير المرض – والعكس صحيح.
العلاج:
1- العلاج الكيميائى: بالعقاقير المهدئة العظيمة مثل فصيلة الفينوثيازين، هى أصلح ما تكون فى الحلات النشطة والحلات المزمنة التى تتحرك أعراضها تحت ضغط العلاج بالعمل والتأهيل.
2- علاج الصدمات الكهربائية: وهى تصلح فى الحالات الحادة – مع العقاقير – والحالات المصاحبة بالاكتئاب خاصة، وحالة الذهول الكاتاتونى ولا تصلح فى الحالات المزمنة، كما أن لها استعمال انتقائى أثناء مخطط طويل للعلاج التأهيلى وبالعقاقير.
3- العلاج بالعمل: وهو إما لتحريك المريض وملء فراغه وجذبه بعيدا عن سلبياته وخيالاته، وإما أنه جزء لا يتجزأ من علاج الوسط والعلاج السلوكى… وعادة ما يؤدى الغرضين معا.
4- العلاج النفسى: ولا نعنى به التحليل النفسى التقليدى الذى قد يضر ولكنا نعنى العلاج المكثف حيث يقوم المعالج بدور المترجم بين المريض وعالم الواقع وكذلك دور الجسر الذى يسير عليه المريض إلى الواقع، وهو يحتاج إلى جهد وصبر بلا حدود، وقد شجع عليه القدرة على استعمال العقاقير بمهارة.
5- علاج الوسط: ونعنى به تهيئة مجتمع صغير من المعالجين والمرضى يعطى فرصة للمريض للبعد عن الواقع وكأنه فى أجازة موافق عليها.. ثم يعلمه العودة عليه أقدر وأصبر وهو ليس بديلا عن كل العلاجات السابقة ولكنه الوعاء الذى يعطى معنى وفاعلية لكل العلاجات السابقة.
6- العلاج الجراحى: وهو العلاج الذى يهدف إلى قطع بعض دوائر الانفعال المرضية وهو لا يستعمل إلا إذا عجزت تماما كل أنواع العلاجات الأخرى.
7- العلاج بالأنسولين: وهو علاج ناجح إلا أنه طويل وخطير نوعا، وقد أغنت عنه العلاجات العضوية الحديثة.
[1][1] – أجرى هذا البحث بتوصية الجمعية المصرية للطب النفسى وأجراه الدكتور رفعت محفو تحت إشرا الأستاذ الدكتور محمود سامى عبد الجواد ويمكن الرجوع إليه منشوراً بالجمعية.
[2][2] – وقد فصلنا استعمال هذا السم فى هذه الطبعة حتى نتبع القاعدة التى التزمنا بها وإن كنا احتفظنا بلفظ الضلال للتعبير عن الهذاءDelusion لأقترب اللفظين من نفس الرنين ولصلاحية استعمال اللفظ بكفاءة منذ الطبعة الأولى وحتى الآن.
[3][3] – فضلنا استعمال هذا التعريف سيرا على نفس القاعدة التى سبق ذكرها وكنا قد استعملنا لفظ الفصام الخامل فى الطبعة السابقة باعتبار غلبة الأعراض السلبية كما استعمل آخرون لفظ الفصام الطفلى الفج إشارة إلى أصل كلمة Hebe التى ترجع إلى ابنة الآلهة زيوس حاملة الكأس لأوليمبوس (د. وليم الخولى الموسوعة).
[4][4] – نفس الاتجاه إلى التعريب طالما الإسم ذو أصل لاتينى.
الفصل التاسع
حالات البارانويا
PARANOID ZIARES
(ورمزها فى الدليل المصرى: صفر 8)
تشمل هذه الحالات – كما جاء فى الدليل المصرى – مجموعة من الذهانات التى تتصف بوجود ضلالات منظمة (منظومة ضلالية) تشكل الاضطراب الأساسى فى الشخصية، وقد يصاحبها أو يحل محلها هلوسات وأخيلة متنوعة . . , وبالتالى فإن اضطرابات العاطفة والسلوك والتفكير فى هذه الحالات يمكن إرجاعها إلى (وتفسيرها بـ) هذا الخلل الأساسى . . , وهذا هو يميز هذه المجموعة عن أمراض الهوس والاكتئاب من ناحية حيث أن الخلل فى هذه الأخيرة هو اضطراب العاطفة أساسا ويتبع ذلك الاضطراب الأساسى سائر الأعراض الأخرى , التى تعتمد عليه وتأخذ منه ملامحه . كما يميزها عن الفصام على الجانب الآخر صور التفكك المختلفة التى تؤثر فى عملية التفكير وشكل الفكر وتناسق الشخصية بصفة عامة فى الفصام، كما أنا نلاحظ أنه فى الفصام تنسحب العواطف وتظهر الضلالات والهلاوس – إن وجدت – فى شكل غير منتظم أو مسلسل محكم .
أما فى حالات البارانويا فإن الشخصية لا تميل إلى التناثر أصلا، ولا تنتهى إلى التدهور .
هذا، ولا تمثل الضلالات والهلاوس هنا مجرد خطأ فى الحكم على الأمور، أو خطأ فى الادراك ولكن تمثل عادة – بين الفكر والانفعال فى صورة معاناة فكرية – انفعالية Idioo affective phenomenon حيث تستقر فى مركزها المنظومة الضلالية بما يصاحبها من قوة إقناعية، وبما تثيره من تفاعلات وجدانية مكملة لها ومنبثقة منها .
وعندما تكون هذه الحالات حادة فإن الخبرة الضلالية تمر مرورا عابرا رغم قوتها، أما فى الحالات المزمنة فإن الضلالات تستقر غائرة فى شخصية المريض . .
وقد اختلفت المدارس بشأن هذه المجموعة من الحالات، فنحن إذ نجد المدرسة الأنجلوساكسونية تعطيها أهمية متواضعة وأحيانا ما تنكر وجودها أصلا (وهذا هو الاتجاه الذى ذهبنا إليه فى الطبعة الأولى من هذا الكتاب) نجد أن المدارس الاوربية[1] تعطيها أهمية خاصة وتغرق فى دراستها وتحليلها وتصنيفها، وتسمى جزءا كبيرا منها فى المدرسة الفرنسية . الحالات الضلالية (أو الهلوسة المزمنة) .
ولن نستطرد هنا فى التطرق إلى نقط الخلاف وأسبابه – فهى أكبر من نطاق هذا العمل وإنما نحن نشير إلى أن الدليل المصرى بالنسبة لهذا التشخيص بالذات قد أخذ الكثير عن المدرسة الأوربية بالرغم من الالتزام الشائع فيه نحو المدرسة الانجلوساكسونية والتقسيم العالمى . .
كما قام أحدنا[2] بالإشراف على بحث مصرى لدراسة تواتر هذه الحالات فى المجتمع المصرى وتصنيفها ومعرفة طبيعتها، ورغم أن هذا البحث لم ينشر بعد فإن النتائج المبدئية تشير حتى الآن إلى تواتر هذا المرض بمعدل يقارب حوالى نصف حالات الفصام المترددة على عيادة القصر العينى, الأمر الذى يستحق به فعلا أن يستقل كتشخيص قائم بذاته .
الأسباب:
1- الوراثة: (أ) لوحظ أن وجود اضطرابات عقلية بصفة عامة فى هذه الحالات متواتر، وكذلك وجود حالات إدمان وإفراط فى التدين .
(ب) لوحظ أن اضطرابات الشخصية فى حالات عائلات البارانويا تمثل عددا لا بأس به من أقارب المرضى وخاصة الوالدين . . (ولن نشير إلى النسب المحددة حيث أن البحث لم يناقش بعد) .
2- البيئة والجو الأسرى: لوحظ أن حالات البارانويا تنشأ فى بيئة – الأسرة والمجتمع – تتصف بالانعزالية والقيم الخاصة، والشك فى العلاقات بين الناس، ويغلب الشعور بعدم الأمان سواء بشكله الظاهر أو الخفى على طبيعة الوجود القائم فى أغلب الأفراد المحيطين، مما يجعل شخصية المريض مهيأة – تحت تأثير أدنى إثارة – لبناء منظومة ضلالية محكمة فى هذا الجو الحذر المترقب .
3- الشخصية قبل المرض والتاريخ الطولى: قد يتصف المريض قبل المرض بشخصية بارنوية، إلا أنه فى كثير من الحالات قد تبدأ حالات البارانويا عقب خبرة كيانية خاصة existential experience تعرض الفرد لاهتزاز عميق فى قيمه وتشبه أحيانا بعض أعراض الذهان المبتور، ثم تتغير بعد ذلك المعتقدات تدريجيا . . حتى تظهر حالة الضلال بحجمها المرضى فى الظروف المناسبة لظهورها .
4- الأسباب العضوية: لم تدرس الأسباب العضوية المساهمة فى حدوث حالات البارانويا دراسة مستفيضة مثلما هو الحال فى الفصام، ولا نستطيع أن نعمم نتائج دراسات فصام البارنويا مثلا على حالات البارانويا للاختلاف الذى سبق الإشارة إليه، إلا أن بعض الملاحظات تنبه لطبيعة الإختلال العضوى الذى يمكن أن يصاحب هذه الحالات – سبا أو نتيجة – ومثال ذلك أن هناك عقاقير خاصة تثير أعراضا تشبه حالات البارنويا تماما مثل عقار الأمفتيامين والمسكالين والمهلوسات بصفة عامة، كما أن التسمم الأمفيتامينى مثلا يشبه حالات البارنويا الحادة وتحت الحادة . . وأحيانا ما تستمر الحالة إلى الإزمان حتى بعد الانقطاع عن تعاطى العقار .
وقد تنشأ حالة البارنويا نتيجة لتعويض عن نقص عضوى ظاهر وحقيقى مثل بقايا شلل الأطفال الطفيف أو الصمم الجزئى , وهنا ملاحظة جديرة بالتأمل وهو أن النقص الجزئى أكثر إثارة لحالات البارانويا من النقص الكلى فى وظيفة عضوية معينة . . ذلك لأن النقص الجزئى يستجلب محاولة إخفائه وتعويضه . . ويصاحبه الشعور الداخلى بالتركيز عليه وعلى الذات وكذا سوء تأويل مواقف الناس منه .
5- الأسباب المرسبة: وقد تكون أسبابا عضوية مثل تعاطى عقار معين (الحشيش مثلا) أو أسبابا نفسية مثل الاحباط فى الحب خاصة أو الفشل فى المنافسة . . . الخ
الأعراض والصور الإكلينيكية:
سبق أن ذكرنا فى المقدمة أن الاختلال الأساسى هو وجود منظومة بارنوية شاذة ينبنى عليها سائر الأعراض، وذلك بمصاحبات الهلاوس والأخيلة أو التبادل معها . . ولذلك فأننا نفضل أن يكون الحديث عن الأعراض بعد ذلك من خلال تصنيف الأنواع المختلفة .
1- نوبة البارانويا الحادة وتحت الحادة: (ورمزها صفر 8 / صفر)
تتميز هذه الحالات بالبداية المفاجئة عادة سواء بسبب ظاهر أو بدون سبب واضح، وهى تشمل اضطراب نواحى الشخصية بشكل شامل تقريبا و تغلب على الأعراض ضلالات الإشارة والاضطهاد بشكل خاص، كما أن الهلوسات واضطراب السلوك المصاحب تساير نوع الضلال الموجود، وأثناء النوبة التى قد تستغرق أياما أو اسابيع أو قد تطول بضعة شهور، نجد أن الاعتقادات لا يمكن تصحيحها بالحجة أو البرهان، ولكن بعد اختفاء النوبة قد يبدى المريض بصيرة فيما كان (بأثر رجعى).
حالة: السيد س . . .” عمره 40 سنة لم يتزوج ويعمل بوظيفة كتابية فى بنك . . . . جاء يشكو من أن شخصا أطلق عليه إشاعة فى دمنهور . . بعد ما عرض على إنى اتجوز بنته، وكانت ظروفى ما تسمحش، قال إنى ماليش فى الناحية الجنسية . . . , ومن يومها الناس بتبصلى وبيتكلموا على وحاسس إن فيه مؤامرة عشان رفدى . . ووصل به الحال بعد ذلك أنه كان جالسا فى قهوة فشعر بنظرات الناس متجهة إلى مكان حساس بجسمه . . فظن أنهم ينكرون رجولته . . فقام فجأة وكاد أن يتعرى جزئيا . . ليثبت لهم رجولته: ويعمم الأمر ويفسر عدم زواجه بأن هذه الإشاعة، وراءه فى كل مكان .
وبدارسة تاريخه: وجد أنه ساكن فى فندق فى القاهرة منذ أسابيع مع أن عمله بالأقليم ويقول . . . اللى مخلينى أسكن فى مصر إن الإشاعة دى ورايا فى البلد . . ما اقدرش أقعد على قهوة أو أقول لحد صباح الخير .
وتبين من تاريخه الوظيفى: أنه غير وظيفته عدة مرات، حتى التحق من خمس سنين بوظيفته الحالية، وكان فى علاقاته العاطفية والجنسية شكاكا مما حال دون زواجه حتى هذه السن وكان يشير إلى نوع غريب من علاقته بالذكور . . . ولو واحد راجل بص لى شويه أحس انكماش شديد فى عضوى .
وقد استجاب هذا المريض للعلاج بسرعة وعاد إلى حالته قبل المرض دون أثار صريحه أو خطيرة .
2- حالات البارنويا الضلالية المزمنة: (ورمزها صفر 8 / 1).
وتتميز هذه الحالات بوجود ضلالات مزمنة من النوع الاضطهادى , أو ضلالات العظمة أو الغيرة أو ضلالات الهيام العاطفى . . . الخ وقد تبدأ هذه الحالات بادراك ضلالى Delusional Perception حيث يستقبل المريض إداركا خاصا يسئParanoid System بما ينبنى عليها حتى تزمن (وقد كان الظن السابق أن هذا الإدراك الضلالى هو أساسا من خصائص الفصام الأولية) وقد يمثل سوء التأويل مشاعر جسدية، أو حلم، أو خبرة حدسية، أو احداث بيئية خاصة أو عامة، وبإزمان هذه الاضطرابات بعضها أو جميعها تصبح جزءا لا يتجزأ من الشخصية وتصبغ الوجود الشخصى كله بصبغتها .
وقد يكون الجهاز الضلالى مترتبا على معلومة صحيحة أو خبرة واقعية إلا أن تسلسلة فى اتجاه خيالى خاطئ يجعله مرضيا معوقا:
حالة: م.ع. ن.” شاب فى السادسة والعشرين من عمره, كان ترتبيه الثانى فى امتحان الثانوية العامة منذ بضعه سنوات . . ثم دخل كلية الهندسة واستطاع أن يصل إلى تفسير جديد يرجح اختراع معدن نادر من مخلفات معادن رخصيه، وقد كان تفسيره لهذا الاحتمال واقعيا ومسلسلا إلا أن الافتراضات كانت أكبر من احتمال الحقائق العلمية المتاحة، وقد استقبل أساتذته هذا الاختراع بتقدير طيب من حيث الفكرة وإن كانوا قد رفضوا تفاصيله . . وطالبوه بمزيد من الصبر دون التخلى عن محاولة البحث عن جديد طالما أنه متفوق فى دروسه . . إلا الطالب بدأ بعد ذلك فى تفسير احاسيسه الجسمية تفسيرات كيميائية خاصة، حتى وصل إلى تشخيص خاص وهو أنه عنده شيخوخة مبكرة وظل يتبع هذا الفرض ويثبته بتاريخ عائلى وبحقائق كيميائية صحيحة تتعلق بتمثيل المواد الدهنية وترسيبها وإحداثها لتصلب الشرايين، واستمر هذا الاعتقاد عنده لمدة سنتين منظما مرتبا ثم قال انه عالج نفسه منه بفيتامين هـ . . وشفى , وأن هذه أول حالة فى العالم من نوعها، وانتقل بعد ذلك بهدوء إلى أنه الآن مصاب بزيادة فى نشاط الجهاز العصبى الباراسيمبثاوى , وأن كل مظاهر اضطراب جسمه وتوقفه الدراسى وزيادة عرقه ناتجة من هذا الاضطراب بوجه خاص، وكان من نص كلامه . . . أنا عندى زيادة فى إفراز الأسيتيل كولين ولازم آخذ أرتان إذا كنتوا عايزين تخففونى . . والعرق ونبضات القلب كلها دليل على كده . . أنت عارف أن الغدد العرقية طبعا رغم أنها سمبثاوية إلا أن نهاياتها كولينرجيك . . تلاقيك نسيت وأنت دكتور، أصلى أنا أذكى منك . شوف أنت طالع كام فى الثانوية العامة وأنا طالع كام وتلاقيك مش عارف إسم الأرتان الكيماوى . . أنا مش حقول لك . . إلخ وكان يحفظ كل الأسماء الكيميائية للعقاقير المضادة لنشاط الجهاز العصبى الباراسبمثاوى ويعرف مراكز عملها وطبيعتها .
وكان والده يصدقه فى كل هذه المعتقدات مرحلة بعد مرحلة، ويعلن ذلك حينا ويخفيه أحيانا .
ورغم كل هذا فإنه ظل محتفظا بعلاقاته الاجتماعية وتفاعله العاطفى مع الآخرين الذين كانوا فى العادة دائمى الإعجاب بتسلسل أفكاره وبهذا القدر الهائل من المعلومات الطبيعية والكيميائية الصحيحة – بغض النظر عن كيفية ترتيبها أو سوء تأويلها أو موقع الاستشهاد بها .
أما توقفه الدراسى فلم نستطع أن نفسره بضعف الإرادة أساسا، فقد كان تاريخيا لاحق لهذه الضلالات وكان تفسيره دائما بأنه نتيجة لهذا الاضطراب العضوى , فهو غير قادر على بذل الجهد المناسب فى الدراسة وخاصة أن هذه النظريات العلمية التى تفسر حالته تستغرق كل جهد عقلى له . وقد عولج بشتى أنواع العقاقير (المهدئات العظيمة) والجلسات ودخل عدة مستشفيات ولم تتحسن حالته إطلاقا، وحين بدأ وضع خطة تأهيل محكمة، وخطة سلوكية لرفض هذه الضلالات وإحباطها تعاون فى بداية الأمر متحديا أن يغير أحدهم فكره وكان مطمئنا طول الوقت اطمئنانا يقينيا بأن هذا مستحيل أصلا، وفى الوقت الذى بدأ يتغير فيه قليلا ويستمع إلى الرأى الآخر بإنصاف نسبى . . بدأ يتزايد القلق عنده رغم محاولاته لإخفائه . . . ثم استأذن لأجازة مؤقتة واعدا أنه يعد العدة لاستكمال دراسته (بغض النظر عن وجود هذا الاضطراب العضوى الذى هو متأكد من حقيقة وجوده، ولكنه اختفى ولم يعد أبدا . . . وساهم فى الوعد الكاذب هذا تردد والده . . واعتقاده بصحه أفكار ابنه مائة فى المائة .
وهكذا نجد كيف أن هذه الحالة قد بدأت بمحاولة خلق حقيقى تقبلها أولوا الرأى بقبول حسن، إلا أنها انحرفت إلى ضلالات ثابتة وإن تغير محتواها على مرحلتين، ثم نلاحظ أن عملية التفكير ذاتها لم تتفكك أبدا وقدرته على التجريد ظلت سليمة تماما طول الوقت كما ظلت عواطفه حارة وغنية، كما نلاحظ كيف أن تصديق والده له جعله يتثبت أكثر على أوهامه ولا يستجيب لأى علاجات عضوية وأخيرا فعلينا أن نلاحظ أنه فى اللحظة التى كاد الجهاز الضلالى يهتز، انسحب المريض (بموافقة والده) خوفا على تماسك شخصيته (وان كان تماسكا مرضيا) كما سيرد ذكره فى العلاج .
3- حالات البارانويا الهلوسية المزمنة: (ورمزها صفر 8 / 2)
وتتصف هذه الحالة بوجود اضطراب فى المجال النفسجسمى Psychosensory يمثل الخلل الأساسى فى هذا المرض، فإذا وجدت ضلالات فإننا قد نستطيع أن نرجعها إلى هذا الاضطراب وقد تأتى الهلوسات من أى مصدر من الحواس الخمس، مثل أن يشم المريض روائح كريهة أو يرى مناظر بشعة أو أن يعيش أى هلوسات أخرى , وقد يسمع صوته، أو “صوتا داخليا” inner voice يهدد أو يعلق أو يؤيد أفعاله وسلوكه بصفة عامة، كما لابد أن نشير أن الاضطراب النفسجسمى لا يمثل نواة الضلالات فحسب, بل إنه يستمر يشغل حيزا موازيا للضلالات فى الصورة الاكلينيكية .
الحالة: ى . ق. ع ..” سيدة مطلقة عمرها 40 سنة وليس لها أولاد تعيش وحدها معظم الوقت وتنتقل أحيانا إلى أختها بضعة أيام فى الشهر، وتعمل فى حياكة الملابس بصفة غير منتظمة فى منزلها وتربى عدة قطط لديها، وقد أحضرتها أختها لأنها لاحظت عليها أنها تكلم قططها وكأنها ترد عليها، وبسؤالها حاولت أن تخفى حقيقة ما عندها بأن تقول أنها تتونس ليس إلا ولكنها بعد أن أطمأنت ذكرت أنها تعيش منذ سنوات – حتى قبل طلاقها – تسمع صوتا واضحا يوجهها ويرشدها إلى ما ينبغى ومالاينبغى . . وأحيانا يرضى عنها تماما وأحيانا أخرى يتشاجر معها وهو الذى تسبب فى طلاقها من زوجها الذى أصبحت لا تطيق الرائحة السامة التى بدأت تفرز منه أثناء الجماع بعد أن نهرها هذا الصوت عن الحياة معه . . , أما حكاية القطط هذه فقد ذكرت أنها كانت تخفى بها حقيقة الصوت حتى لا يتدخل أحد فى شئونها، وقد قالت أنه أحيانا ما يخفى بعض الوقت وخاصة عندما تزور أختها . . وهى تعذره إذ ذاك وتكاد ترتاح لذلك خشية أن يسمعه أحد غيرها هناك . . إلا أنها لا تحتمل أن يغيب أكثر من بضعة أيام، أحيانا بضعة ساعات وإذا زاد الأمر عن توقعها كادت تفقد اتزانها . . رغم أنه يخيفها ويزعجها، وكان من نص كلامها باخاف منه ساعات . . خصوصا لما أكون رايحه المطبخ والدنيا ضالمه ومش واخده فى بالى . . ولما تحكم رأيه إنى ماولعش النور وأنتى ماشية على نور السهراية . . لدرجة إنى مابقتش أقوم بالليل حتى لو مت من العطش .
ولم توافق على العلاج أصلا لأنها لا تعتبر ما عندها مرضا, وقد ذهبت تفكر فى الأمر حين شرح الطبيب احتمال تطور الحالة إلى ما هو أشد أو إلى ما يعوق حياتها العملية وأكل عيشها . . ولكنها لم تعد أبدا . .
وهكذا نرى إزمان الهلوسات ووظيفتها فى تماسك الشخصية وملء فراغ الوحدة . . ولكنها هى أيضا السبب فى فرض الوحدة بالطلاق، ومرة أخرى هنا أيضا نشير إلى أن الانعزال (وهو يشبه أحد صفات الفصام الرئيسية) جاء هنا نتيجة للاضطراب النفسى , ولم يبدأ هو أولا ثم ظهرت الهلوسات لتملأ الفراغ . . , ومع ذلك فإن نظرة أعمق لهذه الحالة نجد أن العجز العاطفى عن التواصل مع الزوج كان وراء ظهور الأصوات والأمر بالترك، والرائحة الكريهة ثم الطلاق . . إذا فهى مستويات تغذى بعضها بعضا وتكاد تصل إلى نفس النتيجة لولا أن الشخصية ظلت شديدة التماسك وظل التفكير واضحا مسلسلا بفضل هذا الجهاز الهلوسى الناجح .
4- حالات البارانويا التخيلية المزمنة (ورمزها صفر 8 / 3 ).
تتصف هذه الحالات بوجود تخيلات مرضية تسير جنبا إلى جنب مع الحياة الطبيعية، وهى ظاهرة تتصل بشكل ما بظاهر الانشقاق (ولذلك فإن بعض المدارس وخاصة الأنجلو ساكونية تعتبرها تنويعة من الهستيريا الانشقاقية، وهذه الخيالية التى يعيشها المريض لاتحل محل الحياة العادية ولكنها تكملها بشكل أو بآخر، ولا تظهر التخيلات بنفسه فى بعض الأحيان، ولا تصل التخيلات فى العادة إلى درجة الإدراك الحسى بل تظل فى شكل صور خيالية وليست هلوسات، والتفرقة بينهما صعبة وإن كانت ضرورية (كما ثبت أيضا من بحث اشرف عليه المؤلفان [3] لدراسة الهلوسات) .
والجدول التالى يبين الفروق بين الصور الخيالية والهلوسات:
الهلوسات الحسية |
الصور الخيالية |
1- تكون فى كثير من الأحيان مزعجة ونشطة تثير تفاعلا حذرا ورافضا فى المريض… وإن كانت أحيانا تبدو مقبولة.2- تحدث عادة فى نفس إطار الوعى القائم دون تحوير أو اضطراب.3- تكون عادة مجسمة مثلها مثل الإدراك الحسى العادى (أقرب إلى المسرح).4- عادة ما تكون أحجام الهلوسات أقرب إلى الأحجام الطبيعية، ولا تتغير فى العادة.5- الألوان أقرب إلى الطبيعة غير مميزة ولا يحكى عنها تلقائيا وقد يرفض التمادى فى ذكر التفاصيل.6- توجد على مسافة موضوعية (نسبا) من المريض.. أى أنها تبدو قائمة بذاتها بعيدا عن كيان المريض وجسمه.7- لا تعتمد على إرادة المريض عادة. | 1- تكون فى أغلب الأحيان مقبولة ويغلب أن يتفاعل المريض لها بالترحيب.2- تحدث عادة فى حالة من الوعى محورة تحويرا جزئيا دون انشقاق كامل (كما فى الهستيريا).3- كثيرا ما تكون غير مجسمة وأقرب إلى الصور ذات البعدين (أقرب إلى السينما قديما).4- تكون أحجامها وأبعادها أحيانا متغيرة: أصغر أو أكبر من الحجم الطبيعى وتتغير حسب الظروف.5- قد تفتقر إلى التفاصيل الحسية كالألوان الطبيعية أو الأبعاد الدقيقة ولكن المريض قد يحكى عنها إذا طلب منه وكأنه يضيق بالناس لتوه… وليس استعادة للخبرة.6- توجد فى “مسافة ذاتية” أى أنها امتدادا مباشرا من خيال المريض وتتغير المسافة مع متطلبات الخيال (وهذه تفرقة صعبة أكلينيكيا لأنها بلغة فنومونولوجية أساسا).7- قد يستدعيها المريض أحيانا |
ومع كل هذا فلا بد أن نشير هنا إلى أن هذه الصور الخيالية مازالت تمثل إشكالا تشخيصياً، فهى فى موقف وسط بين الهلوسات من ناحية وبين صور الذاكرة والذكريات من ناحية أخرى كما أنها فى موقف وسط بين حدوثها فى وعى محور جزئيا لا هو بالوعى الواضح الثابت كالهلوسات ولا هو بالوعى البديل المختلف تماما كالانشقاق الهستيرى.
حالة: ع. م. م..” موظف أرشيف لم يتزوج وعمره 38 سنة، جاء يشكو من صداع فى الصباح وقال أنه لا يعتقد أن حالته نفسيه ولكنه جاء استجابة لتوصيل اخصائى الأنف والأذن وحين سئل عن سبب عدم زواجه حتى هذه السن تردد قليلا وقال أنه لا يحتاج إلى زواج، وأن النساء لا يؤتمن.. وقد تبين بعد فترة أنه كان قد خطب منذ زميلة له ثم جعلت تؤجل الرد اسبوعا بعد اسبوع لمدة ثلاث شهور . . وأخيرا لبست دبلة من خطيب آخر ولم ترد عليه بالرفض إلا بعد أن رأى الدبلة فى إصبعها . . وقد مضت عليه بعدها عدة ليالى دون نوم ثم حلم حلما يشير إلى أن الله سيعوضه عن ذلك كله لأنه حفظه من شيطانات الأنس، لم يزد على ذلك إلا أنه بعد عدة مقابلات بدأ يحكى عن أنه مخاوى . . وأن هذا هو التعويض الحقيقى . . وأن الناس لو عرفوا أن الزوجات من تحت الأرض أكثر جمالا وطاعة من بنات الأنس المقرفات لما تزوج أحد ويقول بالنص: . . . تعرف لو ربنا عرفك وعرف كل الناس فضل الزوجات من تحت الأرض، ماحدش حايتجوز ولا يخلف ويمكن البنى آدمين تخلص . . بس ربنا عايز يحافظ على الجنس البشرى لحكمة ما يعرفهاش حد وهكذا نرى أنه لم يحضر يشكو من هذه التخيلات بل من عرض جسمى آخر لم يجد المختص له سبباً عضويا كما نلاحظ تمسكه بالخيالات ووظيفتها التعويضية، إلا أنه لم يحكى عن أحاديث أصوات مثل الحالة السابقة وإن كان قد أشار إلى الجماع الجنسى الكامل ولكنه لا يحدث قبيل النوم . . وفى ضوء معتم .. . ثم يقوم ليستحم ويتطهر بحمد الله . .
5- حالات البارانويا فى سن اليأس: (ورمزها صفر 8 / 4 )
ويغلب على هذا النوع الذى يحدث فى سن اليأس (قارن اكتئاب سن اليأس) الضلالات أساسا، وتكون معبرة عن الخوف من الوحدة والاحساس باقتراب الترك أو الإهمال أو العجز أو الموت، ويصاحب هذه الضلالات فى العادة مسحة من الاكتئاب المترتب عليها .
حالة: السيدة ح . س. . . . فى الثامنة والأربعين من عمرها ناظرة مدرسة إعدادى أصييبت بهذه الحالة . . طبعا هو حايتجوز على , ما أنا عارفه الرجالة وخيانتهم ياكلونا لحمه ويرمونا عضمة . . ودا كله من أم البت الشغالة من يوم ما خدت هدومى القديمة وهى عملت عمل .. . وأنا مايهمنيش، بس المصيبة إنه حايتجوز البت المايصة مدرسة الرسم .
وتبين من تاريخها أن مدرسة الرسم هذه تعمل معها هى , وزوجها لم يرها إلا مرة واحدة منذ عدة سنوات وبالصدفة، والأغرب أنها كانت متزوجة وحين روجعت فى ذلك قالت .
ودا يمنع . . ماهى تسيب جوزها . .
وكانت تشكو من اضطرابات فى النوم وكثرة المشاجرات فى العمل . وعدم الصبر على انتظار الأتوبيسات مثل سابق عهدها .
6- حالات البارانويا المتأخرة (ورمزها صفر 8 / 5)
وهى تشبه الحالات السابقة مباشرة إلا أنها تحدث بعد سن الستين وكان اسمها القديم البارانوفرينيا المتأخرة وعادة ما يصاحبها إكتئاب، وإلى درجة أقل قد يصاحبها الفرح المرضى .
7- البارانويا الحقيقة (ورمزها صفر 8 / 6)
وقد كانت هذه الحالات هى التى تعرف بحالات البارانويا بصفة عامة وذلك قبل تفصيل وتصنيف الحالات كما سبق، وهى تمثل حالة نادرة جدا (على الأقل كمشكلة مرضية إكلينيكية) حيث أنها الدرجة القصوى من حالات البارانويا (الضلالية بالذات) وهنا تحل الضلالات المنظمة (وإلى حد أقل الهلاوس) محل الحياة العقلية السوية تماما – وقد تبدأ الحالة بسوء تأويل لحادث واقعى عابر ثم تتسلسل بعيدا عن الواقع حتى تلتهم كل أجزاء الشخصية السليمة ولا يتبقى حياتين متوازيتين حياة عادية , وحياة ضلالية ولكنها تصبغ الحياة العقلية كلها، وعادة ما يعتبر المريض نفسه موهوبا له قوى خارقة، وهو يبنى هذا الإعتقاد – رغم مبالغته فيه – على حقائق فعلية، لأنه يكون فى العادة بالغ الذكاء يملك قوة تأثيرية خاصة يقنع بها الاخرين، كما تتصف ذاكرته بالحدة المفرطة، كما أنه لايسأل أحدا النصح فى العادة وقد يتصف بأنه لا يستشير طبيبا أصلا حتى فى الأمراض الجسمية، لذلك فإننا لانقابل هذه الحالة فى العيادات أو المستشفيات بل هى تتواجد أكثر فى الحياة العامة، ولا يتصادف عرضها على طبيب إلا بالمصادفة أو إذا إصطدم إصطداما صريحا بالقانون والمجتمع، أو فى حالات نادرة إذا أصيب بإحباط شديد إلى درجة تكاد يظهر معها أعراض الإكتئاب ثم نكتشف وراءه كل هذه الحياة الضلالية عميقة الجذور . . .
وبديهى أن هذه الحالة قد تشبه الدرجة القصوى المضاعفة من اضطراب الشخصية النمطى من النوع البارنوى , إلا أن الأخيرة لا يحوى ضلالات أصلا ولايمكن تتبعه طوليا حتى نجد له بداية . . .
كما أن هذه الحالة لا تستجيب للعلاج ولاتقبله أصلا وبالتالى فهى لا تشفى . .
ونظرا لندرة الحالات النموذجية منها فسوف نستعير الحالة التى أوردناها فى كتابنا “ألف باء الأمراض النفسية باللغة الإنجليزية” [4]
حالة: . . مريض عمره خمس وخمسون عاما كان يتردد على عيادة الأمراض التناسلية (وهى ملاصقة جغرافيا لعيادة الأمراض النفسية فى مستشفى عام) لعلاجه من التهاب مزمن فى البروستاتا، وقد كان مطلقا ولايعمل، حيث استقال من وظيفة أستاذ بكلية الهندسة (فعلا) وقد استدرج لعيادة الأمراض النفسية، وكان يبدو رث الثياب بالنسبة لمركزه السابق ويعانى من حالة إقتصادية صعبة . . ومن بين كلامه: أنا أستاذ ودكتور فى كلية الهندسة وتركتها لأنهم لا يقدرون الكفاءات وأنا لو اتبعوا سياستى لتغير وجه التاريخ، لا تاريخ مصر وإنما تاريخ العالم، أنا لفيت العالم وعملت الحزب: وهو حزب الإخاء والإصلاح الإسلامى وحليت فيه كل المشاكل الدولية، والصواريخ والأقمار الصناعية أنا كتبت عنها من 25 سنة ولاحد سمعنى، لينين بالعقيدة حول العالم أنا بالعقيدة سأغير وجه التاريخ .
لأ . . أمراض نفسية إيه ؟ أنا أعالج أطباء الأمراض النفسية المجانين مش هم اللى يعالجونى .
ورغم أنه لم يحضر للاستشارة النفسية فإنه كان جاهزا بكتيبات ونشرات كان يقدمها ليثبت كلامه ونظامه ومنها هذا المنشور (ص 242 , 243).
مشاكل تشخيصية
لاشك أن هذه الحالات تمثل تحديا جديدا فى تشخيصات الأمراض النفسية وتقسيمها، ولا بد من النظر إلى طبيعة المشكلة وما حولها من اختلاف وتساؤلات حتى يمكن التقدم نحو مزيد من الوضوح والدقة، ومن ذلك:
1- أن الحد الفاصل بين ما هو ضلال، وما هو مفهوم Concept يوقع الكثيرين فى الخلط، لدرجة أن معتقدات بعض الناس، إذا تمادينا فى استعمال اللفظ دون شروط حادة، قد تقع تحت هذا المفهوم، وقد يكون الحكم بمعتقدات الأغلبية على الأقلية هو الذى يحدد الضلال من المفهوم دون النظر إلى الصدق الموضوعى , وفى هذا مافيه من مخاطر يتجنبها الطبيب النفسى أصلا بتجنب المبالغة فى استعمال هذا التشخيص .
2- أن الوظيفة النهائية لأغلب حالات الضلال هى البعد عن الواقع، وتشويهه . . والتحوصل على الذات، وهى نفس الوظيفة التى يؤديها الفصام (ولكن بأعراض تفككية صريحة) . وهذا مايدعو بعض المشتغلين بالطب النفسى إلى إدراجهما معا .
3- أن النوبات الحادة وتحت الحادة لا تمثل جزءا ثابتا لا يتجزأ من الشخصية، ولكنها عابرة وقابلة للعلاج، فى حين أن البارانويا الحقيقة غير قابلة للعلاج أصلا ومع ذلك فإنها جميعا تقع تحت تصنيف واحد.
4-أن الحد الفاصل بين الحالات البارنوية التخيلية المزمنة وحالات الهستيريا بين هذين التشخيصين . 5-أنه قد توجد حالات بارنوية ذات فائدة تماسكية للشخصية، وبرغم شذوذها، فإنها قد لا تعوق التكيف والإنتاج بشكل ما . . ولذلك فقد يكون تشخيصها دافعاً لعلاجها علاجا فيه مخاطرة . . مما قد يستتبع تفككا يضر بالمريض . . وبالتالى فإن بعض الأطباء يميلون إلى عدم تشخيص هذه الحالات أصلا كمرض يصلح للتصنيف الإكلينيكى .
وعلى ذلك فلابد أن نخلص إلى بعض التوصيات فى هذا الشأن:
1- أن هذا التشخيص يستحق الاستقلال عن الفصام لأنه حتى لو اتفق معه أحيانا فى أهدافه . إلا أنه يختلف عنه فى أعراضه: والتشخيص هو عملية مستعرضة، تعتمد على الأعراض ولا تعتمد على السيكوباثولوجى ولا على غائية المرض .
2- أن الحد الفاصل بين الاعتقاد المرضى (الضلال) والاعتقاد التماسكى (المفهوم) لا يكمن فى البعد أو القرب من الحقيقة الموضوعية المطلقة، بقدر ما يكمن فى نتاجه . فإذا كان النتاج هو التكيف والإنتاج والاستمرار فليس للطبيب أن يدرج أى اعتقاد خاص تحت تشخيص بذاته مهما بدا غريبا أو غير مألوف .
3- أن مزيدا من الأبحاث والتتبع وخاصة بعد استعمال العقاقير الحديثة لازمين لمعرفة طبيعة هذا المرض ومساره أكثر فأكثر.
العلاج:
يعتبر علاج حالات البارانويا مشكلة حقيقة – فيما عدا النوبات البارنوية الحادة وتحت الحادة – (ولذلك فقد سميت نوبات وليست حالات)
ولهذا نرى أن نفصلها عن بعضهما .
أولا: علاج النوبات الحادة وتحت الحادة:
1- العلاج بالمهدئات العظيمة (مثل عقاقير الفينوزثيازين) وهى ذات نفع لابأس به، لأن هذه النوبات إنما تدل على نشاط داخلى لأجزاء قديمة فى المخ، وهذه العقاقير إنما تعمل لتثبيط وتهدئة هذه الأجزاء القديمة بصفه خاصة .
2- الصدمات الكهربائية: وهى تفيد فى أغلب هذه الحالات وخاصة إذا أعطيت مبكرا وبالاشتراك مع المهدئات العظيمة، أو بعد إعطاء الأخيرة بكميات كافية ولو لوقت قصير.
3- العلاج النفسى بعد النوبة: وخاصة العلاج التدعيمى إذا كان الهدف هو تنمية وتنشيط الجانب السليم فقط، أو العلاج المكثف والجمعى لإعطاء الفرصة لاستيعاب هذا النشاط الداخلى الذى ظهر فى شكل مرضى أثناء النوبة، وبالتالى فإنه قد يفيد فى تغيير الشخصية وتطويرها بحيث يمكن القول أنها تكون أقدر على مواجهة أى احتمال نوبة قادمة، وخاصة إذا كانت النوبات متكررة (من النوع الذى أسماه ليونهارت الذهان شبه الدورى cycloid Psychosis).
ثانيا: علاج الحالات المزمنة: ويتمثل هذا العلاج فى مرحلتين:
المرحلة الأولى: وتبدأ بدراسة الأسباب التى دعت المريض إلى الاستشارة، والتى جعلت هذه المنظومة البارنوية تتصاعد فى حدتها حتى يتوقف التصالح النسبى بين أجزاء الشخصية . . وبالتالى عجز التوازن القائم بين المنظومة البارنوية والجهاز السليم الواقعى , ولم يعد التوافق قادرا على الاستمرار دون تداخل أو تصادم، وفى هذه المرحلة – إذا – يكون الهدف هو إعادة التصالح والتوازن والتوازى بين قسمى الشخصية، وذلك بمحاولة إيقاف نشاط المنظومة البارنوية على حساب الجزء الصحى , وكذلك الحد من التعبير عنها فى المستوى الشعورى بإغفال مناقشتها أو إثارتها أو استعمالها حتى تتنحى مرحليا، ويتم هذا بالعقاقير المهدئة العظيمة أساسا وأحيانا ببضعة صدمات كهربائية مع هذه المهدئات، ويصاحب ذلك سرعة البدء فى التأهيل، وعلاج الوسط، وسرعة العودة إلى استعمال لغة الواقع مع محاولة ترك المنظومة الضلالية جانباً ولو مرحليا .
المرحلة الثانية: وهى تختلف باختلاف نتائج المرحلة الأولى
1- فإذا فشلت المرحلة الأولى – بمعنى أن المنظومة البارنوية ظلت تفرض نفسها رغم العقاقير العظيمة والجلسات الكهربائية وإهمال مناقشتها واستعمالها، فإن المعالج هنا قد يضطر إلى مواجهتها بالرفض مستعملا مبادئ العلاج السلوكى من خلال علاقة علاجية بناءة، حيث يواجه السلوك البارنوى بالرفض حتى التحطيم للمنظومة ذاتها وتفكيكها فى الوقت الذى يتقبل فيه السلوك التكيفى ويربطه بالتقبل والتدعيم، وهنا قد ينتج اهتزاز فى تماسك الشخصية ككل بحيث تظهر أعراض تفككية أو نكوصية أو اكتئابية (وقد يحدث هذا تلقائيا أثناء المرحلة الأولى . . . الأمر الذى يعطى توقعا أفضل فى نتائج العلاج وخاصة من حيث التفاعل العاطفى . . وقد ثبت ذلك فى بحث أجراه أحدنا) [5] وبديهى أن هذه الخطوة إنما تتم فى رعاية خاصة مكثفة بحيث تعتبر هذه المرحلة فرصة لإعادة البناء بالتأهيل المنتظم والمبكر، وفى جو علاجى بديل عن جو التنشئة الأولى التى ألجأت المريض إلى المنظومة الضلالية، بذلك يعاد تنظيم الشخصية دون حاجة إلى هذه الضلالات (أو الهلاوس) . . وهذا كله يحتاج إلى وقت طويل وجهد مركز من فريق العلاج مجتمعا .
2- إذا ما نجحت المرحلة الأولى . . . فإن الدور المتبقى يكون باستمرار التأهيل والتدعيم الاجتماعى والنفسى بتنمية المكاسب التكيفية والانتاج المثمر . . والعلاج التدعيمى . . , على أن ذلك يتطلب أيضا متابعة طبيعة التكيف الجديد لأنه قد يكون تكيفا تحت ضغط شديد ينذر بعودة المنظومة الضلالية إلى الإغارة على الجانب السليم من الشخصية تحت ضغط لاحق . . وهنا قد يلجأ إلى العلاج المكثف النفسى الفردى والجمعى لتغيير الدفاعات التى يستعملها المريض ولاستمرار نمو الشخصية بطريقة أفضل .
الموجز
حالات البارانويا
تشمل هذه المجموعة مجموعة من الذهانات التى تأتى فى نوبة حادة أ و تحت الحادة ثم تزول، ويغلب عليها الضلالات أساسا وقد تصاحبها الهلاوس، كما تشمل مجموعة من الذهانات التى تكون الضلالات فيها أو الهلاوس أو التخيلات ممثلة لجزء لا يتجزأ من تركيب الشخصية لفترة طويلة، وهى تختلف عن الفصام فى أنها لا يصاحبها اضطرابات فى عملية التفكير ذاتها أو أعراض تفككية، كما تتميز عن الاكتئاب والهوس فى أنها لايمكن تفسيرها باضطراب أساسى فى الانفعال .
الأسباب:
1- الوراثة: لها أثر هام فى الاستعداد لهذا المرض، ويوجد فى العائلة عادة تاريخ إيجابى للمرض العقلى واضطرابات الشخصية .
2- البيئة والجو الأسرى: يتصفان عادة بعدم الأمان والميل إلى افتراض الشر والتشكك .
3- الشخصية قبل المرض: تميل إلى غلبة السمات البارنوية والخيالية .
4- الأسباب العضوية: هناك بعض عقاقير مثل الأمفتيامين تحدث أعراضا بارنوية مباشرة وقد تترك أثرا دائما حتى بعد الانقطاع عنها .
الأنواع:
1- نوبة البارانويا الحادة وتحت الحادة: (صفر 8 / صفر) وتتميز بالبداية المفاجئة عادة (بسبب أو بدون سبب) ويشمل الاضطراب كل نواحى الشخصية، وتظهر الضلالات (وخاصة الاضطهاد والإشارة) بشكل معوق وقد يصاحبها هلوسات، ولا يمكن تصحيحهما بالحجة والبرهان وإن كانا يستجيبان للعلاجات العضوية السريعة .
2- حالات البارانويا الضلالية المزمنة: (صفر 8 / 1)
وتتميز بوجود ضلالات مزمنة من النوع الاضطهادى أو ضلالات العظمة أو الإشارة أو الهيام العاطفى . . الخ وقد تبدأ بإدراك ضلالى أوسوء تأويل ثم تترتب عليها الضلالات مرتبة، تمثل جهازا (منظومة ضلالية) لا يتجزأ عن الشخصية وإن كان يسير جنبا لجنب بجوار الجزء السليم من الشخصية .
3- حالات البارانويا الهلوسية المزمنة (صفر 8 / 2)
وتتصف هذه الحالات بوجود اضطراب أساسى فى مجال الإدراك فى شكل هلاوس، فإذا وجدت ضلالات فإننا نستطيع أن نرجعها إلى هذا الاضطراب .
4- حالات البارانويا التخيلية المزمنة: (صفر 8 / 3)
وتتميز هذه الحالات بوجود تخيلات مرضية تسير جنبا إلى جنب مع الحياة الطبيعية، وهذه التخيلات تكون فى شكل صور خيالية وليست فى شكل هلوسات، وتتميز الصور الخيالية عن الهلوسات بأنها تكون فى أغلب الأحوال مقبولة من المريض، كما تحدث فى حالة من الوعى محورة تحويرا بسيطا، كما قد تختلف أحجامها أو تكون غير مجسمة، كما أنها تعتمد جزئيا بشكل ما على إرادة المريض ورغبته . .
5- حالات البارانويا فى سن اليأس: (صفر 8 / 4)
وتغلب على هذه الحالات الضلالات أساسا، ويصاحبها لدرجة أقل بعض الهلاوس، وهى تحدث فى سن اليأس، وقد يصاحبها مسحة من الاكتئاب .
6- حالات البارانويا المتأخرة: (صفر 8 / 5)
وهى تشبه الحالات السابقة إلا أنها تحدث بعد الستين .
7- البارانويا الحقيقية (صفر 8 / 6): وهى الدرجة القصوى من حالات البارانويا المزمنة حيث تحل الحياة الضلالية محل الحياة السليمة تماما, وهى نادرة للغاية، وتقابل فى الحياة العامة أكثر منها فى العيادات النفسية والمستشفيات، ويتصف صاحبها بالذكاء وقوة التأثير، وهى غير قابلة للعلاج بصفة عامة .
العلاج:
أولا: علاج النوبات الحادة وتحت الحادة: تستجيب هذه النوبات عادة لعلاج المهدئات العظيمة المصاحبة بالصدمات الكهربائية إذا لزم الأمر .
ثانيا: علاج الحالات المزمنة: وتتم على مرحلتين:
الأولى: وتتجه إلى إعادة التصالح بين قسمى الشخصية (المرضى والبارنوى) وذلك بتهدئة النشاط البارنوى بالمهدئات العظيمة وتنمية الجزء السليم بالتأهيل وعلاج الوسط والعلاج النفسى التدعيمى .
الثانية: وتلجأ إليها إذا فشلت المرحلة الأولى , أو ظهرت علامات وأعراض تنذر بأن مجرد التدعيم والتأهيل غير كافيين لإعادة المريض إلى التكيف والإنتاج، ونتجه هنا إلى مواجهة المنظومة البارنوية بالرفض والارتباط السلبى فى علاج الوسط مستغلين مبادئ السلوك، مع تنمية الجزء السليم من الشخصية فى نفس الوقت، وقد يصاب المريض أثناء المواجهة بأعراض الاكتئاب المؤقت أو التفكك . مما يتطلب تواجده فى بيئة محددة مضبوطة الأبعاد تحت ظروف محسوبة بدقة .
[1][1] – وهذا التعبير يطلق على القارة الأوربية دون الجزر البريطانية الشمالية ودون القسم الشرقى ويشير عادة إلى المدارس الألمانية والفرنسية معا، ويدرج تحت اسم Continental Schools. فى حين يطلق تعبير المدرسة الأنجلوسا كسونية على الاتجاهات فى انجلترا والولايات المتحدة معا
[2][2] – أ.د. عمر شاهين (بالاشتراك مع أ.د. محمود سامى).
[3][3] – واشترك فى الإشراف: د. عبد الرحمن فوزى ولم تنشر نتائجه بعد.
[4][4]- A.B.C. of Psychiatry.
[5][5] – أ.د. يحيى الرخاوى: بحث: دراسة التفكك شبه الفصامى أثناء علاج حالات البارانويا. بالاشتراك مع أ.د. محمود سامى وآخرين.
الفصل العاشر
النقص العقلى
ما هو الذكاء….؟
إن الحيرة التى نقع فيها ونحن نبحث عن تعريف للذكاء ليست جديدة ولا غريبة، فكثير من الألفاظ التى نستعملها ونفهم معناها ومضمونها لا نستطيع تحديد أبعادها أو مرماها بألفاظ محدودة أخرى، وليس هذا الأمر غريب عن اللغة، فاللفظ أساسا رمز مزيد يستدل به مفهوم تعارف عليه مجموعة من الناس، وهو بهذا لا يحتاج إلى مزيد من التعريف، وقد شاعت بعض الكلمات وكثر استعمالها حتى صارت معانيها من البديهيات وأصبح السؤال عن معانيها وكأنه غير ذى موضوع .
والمعاجم اللغوية – لاسيما العربية – مليئة بمثل هذا الهرب من التعريف، فنجد كثيرا من المعاجم يعرف الكلمة باستعمالها فى جملة مفيدة ولا يزيد.
فنجد الزمخشرى فى أساس البلاغة يقول فى مادة ذكى ذ ك ى: أذكيت النار وذكيتها وذكت وهكذا ارتبط الذكاء – لغة – بالتوقد والتوهج، فإذا بحثنا معنى الفطنة وجدناه يقرنها بالمعرفة والانتباه فيقول ف ط ن: مررت به فما فطن لى، أما الفيروزبادى فيقول عن الفطنة بالكسر الحذق (وهذا هو معنى الذكاء الذى يتداوله العامة بعد قلب الذال دالا فيقولون فلان حدق، ومنه الحداقة) ثم يقول الفيروزبادى والتفطين، التفهيم . . . ومن معانى الذكاء: السطوع والشدة والمعان، فالألمعى: الألمعى الذي يظن بك الظن كأن قد رأى وقد سمع
وقد حاولوا تعريف الذكاء بالمقارنة بينه وبين عكسه – وهو ضد البلادة فيقال . ذكو بعد بلادة .
وفى علم النفس اختلف على معنى الذكاء أيما اختلاف، ولو حاولنا حصر تفسير معنى الذكاء لما كدنا نستطيع: ومن ذلك أن الذكاء هو قدرة العقل على استنباط العلاقات أو هو القدرة على مواجهة المواقف الجديدة بنجاح – أو على تعلم ذلك عن طريق التكيف لاستجابات جديدة وهذان هما التعريفان اللذان أوردهما دريفر Drever أما بيرت Burt فقد عرفه بأنه القدرة المعرفية الفطرية العامة وعرفه وكلسر Wechsler بأنه القدرة الشاملة على العمل ببعد نظر واستنباط العلاقات والمعاملة الناجحة مع البيئة أما جرين Green فقد عرفه بأنه قدرة الفرد على التعلم ومدى مرونته , كما عرفه كذلك بأنه القدرة الفطرية لاكتساب مهارات في مجال التفكير التجريدى أما وودورث Wood worth فقد عرفه بأنه مقابلة المواقف الجديدة باستعمال خبراتنا السابقة، وأما هندرسن وجلسبى Henderson & Gelipsy (طبيبان نفسيان) فقد عرفاه بأنه القدرة على إستخلاص المحسوسات والمدركات وإتقان توفيقهما مما يؤدى إلى السلوك التكيفى , وأنه القدرة على الإستفادة من الخبرة السابقة والعمل ببعد نظر وتبصر .
وهكذا تعددت التعريفات واختلطت حتى قال وودورث أن الذكاء ليس شيئا يمتلك منه الفرد الكثير أو القليل وإنما هو طريقة السلوك وقد أورد وكلسر هذه المشكلة وتعجب لها حتى استشهد – ساخرا – بقول أحد علماء النفس حين سئل عن الذكاء أنه الشئ الذى يقاس باختبارات اذكاء الأمر الذى شكك أيزينك Eysenck فى طبيعته حين أجاب عن ما تقيسه إختبارات الذكاء بأنها: إنما تقيس نتائجها فحسب.
وهكذا نرى أن اللغة وأغلب التعاريف قد اهتمت بربط الذكاء بالمعرفة والاستفادة منها فى المواقف الجديدة وذلك بربطها بالخبرات السابقة .
لذلك رأينا أن يكون تعريف: الذكاء هو القدرة على التعلم، والاستفادة من الخبرات السابقة، وهو يشمل استنباط العلاقات وبعد النظر .
درجات نقص العقل
اتفق العلماء على تعريف نقص العقل بإنه حالة من توقف نضج العقل قبل سن الثامنة عشر، وينشأ من عوامل وراثية أو مكتسبة، وتكون الأخيرة إما نتيجة لمرض أو إصابة و قد حاول الباحثون منذ القدم تمييز درجات محدودة من ضعف العقل، وإن كنا نحب أن نؤكد ابتداء أنه لايوجد حد فاصل بين هذه التقسيمات مهما اتضحت معالمها وأنها إنما وضعت لتيسير الفهم وليس لمحاولة الفصل الحاد – وقد اتفق الباحثون على جعل درجات ضعف العقل درجات ثلاث رئيسية, , وتقع بينها وبين بعضها، وكذلك بينها وبين الذكاء العادى درجات انتقالية: ولكن الباحثين اختلفوا على تسميه هذه الدرجات، فقد أطلق الباحثون الإنجليز على المجموعة بصفة عامة لفظ النقص العقلى ش Mental Deficiency وسموا درجاته Feeble – Minded : I diot & lmbecil، أما فى الولايات المتحدة الامريكية فقد سمو المجموعة عامة باسم ضعف العقل Feeble – Mindedness وسموا الدرجات الثلاث Idiot, Imbecile & Moroon أما الباحثون العرب فقد احتاروا فى هذه التسمية كذلك أيما حيرة، حتى وقع أغلبهم فى تسميات بها شبهة الخليط بين نقص العقل منذ الولادة أو من سن مبكرة، وبين نقص العقل بعد نضجه وهو التدهور العقلى Mental Deterioration ويطلق عليه بالعربية عته , ففى القاموس المحيط (الفيروزبادى) عته: نقص عقله فهو معتوه , لكن العته يعنى بالإضافة إلى نقص العقل علامات مرضية أخرى تدل على ذهاب العقل مما يجعل اللفظ لائقا لهذه التسمية، فهو يعنى فى معجم آخر الجنون فيقول الزمخشرى فى الأساس فلان يتعته عليه . . أى يتجنن عليه لذلك رأينا أن نقصر لفظ عته على ما يعنيه لفظ Dementia بالإنجليزية .
ولهذا فقد استبعدنا لفظ “عته” من وصف أى درجة من درجات ضعف العقل من سن مبكرة – وبقيت لدينا ألفاظ “البله”، و “الأفن” و “الخرق” و “الحمق” و “الهوك”، وقد اتجه مختلف الباحثين إلى استعمال أى اثنتين من هذه الألفاظ بالإضافة إلى لفظ “عته” الذى قصدوا به أدنى درجات النقص العقلى… ذلك اللفظ الذى استبعدناه أصلا، ولكنا بعد استقصاء المعاجم وتحليل الألفاظ وموازنتها معنى ومبنى رأينا أن نطلق على أقل درجات ضعف العقل لفظ البله وهو يقابل لفظ IDIOTويعنى لغة (فيروزبادى) رجل أبله . . . أحمق لا تمييز له
أما الدرجة التالية والمقابلة للفظ Imbecil فقد اخترنا لفظ الأفن . . . . فالمأفون لغة هو . . . الضعيف العقل والرأى . وواضح أن ضعيف العقل أحسن درجة ممن لا تمييز له . أما ثالث الدرجات وأخفها وهو ما يقابل كلمة Feeble Minded عند الإنجليز ولفظ Moroon عند الأمريكيين فقد أخترنا له لفظ الحمق: وهو لغة يعنى: أحمق: قليل العقل .
وهكذا نرى أن اللغة العربية غنية بألفاظها بحيث يمكن انتقاء ما نشاء منها ليفى بالغرض . فإذا راجعت الألفاظ التى اخترناها وجدت أنها تبدأ بعدم التمييز ثم الضعف ثم القلة . وهى درجات متتالية بعضها تحت بعض . وقد استبعدنا لفظى أخرق، أهوك اللذان استعملهما بعض الباحثين بدل لفظ أحمق وذلك أولا: لترادف استعمال لفظ أخرق مع الحمق ولكنه يعنى أيضا ضد الرفق , أما لفظ أهوك الذى استعمله آخرون فقد وجدناه غريبا ولا حاجة لاستعماله . . فهو لغة الحمق ولكنه يعنى التهور أيضا .
وإنا إذ نعتذر عن هذه الإطالة اللغوية نقول أننا وجدنا أنفسنا مضطرين لها:
أولا: لمنع الخلط الذى وقع فيه أكثر الباحثين النفسيين العرب .
ثانيا: لإقرار مفهوم لغوى نأمل أن يجد حظه فى الانتشار والاستعمال السليم، ونخلص من كل هذا إلى البحث فى اللغة وأصولها يظهر من الغنى والدقة ما يسمح للدراسة السليمة بحل مشاكل المصطلحات الجديدة فى وضوح وجلاء
مدى انتشار نقص العقل فى المجتمع:
يعتبر العقل مشكلة اجتماعية كما هى مشكلة طبيه وتأهيلية، فناقص العقل يعجز عن التكيف الاجتماعى , وعن الاستقلال بحياته دون التعرض للأخطار والصعوبات لذلك . . . فهو يحتاج دائما إلى الرعاية والتوجيه، وتبلغ نسبة ناقصى العقول فى مجتمع ما ثمانية فى كل ألف، أى أنها تبلغ فى جمهورية مصر العربية حوالى ربع مليون نسمة .
الأسباب:
يشترك عاملى الوراثة والبيئة فى تكوين ناقصى العقل:
1- الوراثة: تختلف طريقة الوراثة فى هذا المرض حسب درجة نقص العقل ; فقد لوحظ أن الدرجات الدنيا تنتقل بصبعى منفرد Single Gene وأن والديهم يكونون فى مستوى ذكاء عادى ولكن الانتقال يحدث بتحويل الصبغيات بطفرةMutation أثناء انقسام الخلية .
أما الدرجات الأعلى فتنتقل بطريقة متعددة العوامل Multifactorial ويكون ذكاء أبويهم أقل من المتوسط . وهناك اعتقاد أن بعض أنواع نقص العقل الدنيا تنتقل بمورّث طاغ Dominant مثل مرض التليف المتدرن Tuberous Sclerosis فى حين تنتقل أنواع أخرى بمورث متنح Recessive Gene مرض عمى البله العائلى Amaurotic Family Idiocy
2- العوامل البيئية: قد توجد هذه العوامل فى أى مرحلة من مراحل النمو:
(أ) قبل الولادة، فقد تصاب الأم بالحمى مثل التيفود أو الحصبة الألمانية وقد تكون عرضة لعدم توافق نوع دمها مع زوجها وقد تتعرض للإصابات أو للأشعة السنية . . .
كل ذلك ما قد يؤدى إلى اضطراب نضج خلايا مخ الجنين فيؤدى بالتالى إلى نقص العقل .
(ب) أثناء الولادة: قد تكون الولادة المبكرة Premature labour والولادة العسرة والنزيف أثناء الولادة واختناق الوليد Asphixia Neonatorum مسؤلة عن احداث نقص العقل .
(ج) بعد الولادة: وتشمل الأسباب هنا الإصابات (لاسيما إصابات الرأس الشديدة فى سن مبكرة) والالتهابات (لاسيما الالتهابات المخية) والتشنجات (لاسيما النوبة العظيمة المتكررة للصرع) وسوء التغذية والافتقار إلى مثيرات الإحساس البيئيةSensory Deprivation . أو إلى الحواس الأساسية للنمو والبصر . . الخ
التغير العضوى:
نقابل أغلب التغييرات العضوية التى تصاحب نقص العقل فى الحالات الدنيا (أى البله والأفن) فقد لوحظ أن عدد الخلايا العصبية تصل إلى ثلاثة ملايين فحسب فى حين أنها تبلغ فى الإنسان العادى أربعة عشر مليونا, كما لوحظ أن حجم المخ ووزنة أصغر من الطبيعى وأن تعقد تلفيفات القشرة أبسط، هذا ويصاحب نقص العقل تشوهات فى الجمجمة فتبدو أصغر أو أكبر أو أقل انتظاما . كما يكون تكوين الأسنان ونظامها مضطربا، وكذلك الحال فى علامات الاضمحلال Stigmata of Degeneration فى سقف الفم والأذن والعين . . . والأطراف وغيرها .
أما عن التغير المجهرى Microscopical فقد وجد أن طبقات الخلايا المعقدة التركيب والمسماة الطبقات فوق المتحببة Supragranular layers ضامرة، فى حين أن الطبقات تحت المتحببة Infragrannlar لاتتأثر كثيرا حيث أنها مختصة بالوظائف البدائية، وقد لوحظ كذلك أن عدد خلايا المخ أقل وأن الخلايا العصبية غير تامة النضج أكثر من المعتاد، وأن نظام الأوعية الدموية وغناها أقل من الطبيعى .
التغير فى الوظائف النفسية:
تبين من دراسة الوظائف النفسية لناقص العقل ما يلى:
1- أنه لا يفتقر إلى غريزة المحافظة على الذات إلا فى حالات شديدة جدا من البله، فهو يصيح ويرضع ثدى أمة فى العادة .
2- أن الدرجات الدنيا تفتقر إلى غريزة الجنس فى حين أن الدرجات الأعلى تكون سليمة جنسيا بل ومعيلة .
3- يظل المريض محتفظا بانتباهه السلبى دون الإيجابى .
4- يصاب عادة بنوبات عدوانية إلا فى حالات البله .
5- تتصف الحالات الأعلى من البله بحب الاسنطلاع .
6- يتصف ناقص العقل عادة بالقابلية للاستهواء والتبعية، إن لوحظ فى النادر أن غريزة الذات قد تدفع الدرجات العليا إلى محاولة السيطرة والعناد .
7- يضطرب الكلام تماما: فيتأخر النطق ويشمل كل أنواع الخلل كالعقلة، والتهتهة، واللغة الطفلية، والمصاداة، والتحدث والتحدث بلغة خاصة .
8- قد يصاب بالعجز التام عن الحركة أو عدم التوازن أو المحاركة أو القلق الحركى .
الصور الإكلينيكية:
البله
Idiocy
هو أشد درجات النقص العقلى (أى أدنى درجات الذكاء) , وتبلغ نسبتهم فى مجتمع ما 0.03 % من التعداد العام، وهم يتصفون بأنهم لا يستطيعون تمييز الخطر العادى فى الحياة . وبالتالى لا يستطيعون تجنبه . ومن ذلك أنهم قد يضعون أيديهم فى النار دون مهابة . أو يسيرون أمام العربات المسرعة دون حساب: أو يعرضون أنفسهم للغرق بالاقتراب من المياه العميقة دون مبالاة، وهم لا يستطيعون تعلم القواعد الأساسية للنطق أو القيام بالأعمال البسيطة كارتداء الملابس دون مساعدة – والنوع الشديد منهم (البله التام) يفتقر أساسا إلى غريزة حفظ الذات، فهو إذ يعرض نفسه للخطر لا يكون ذلك عن عدم تمييز فحسب، وإنما يكون نتيجة لافتقاره إلى هذه الغريزة أصلا، وهذا النوع لا ينطق إلا ببضعة مقاطع أو همهمة من الأصوات وقد لا ينطق بتاتا – والأبلة عادة ما يتميز بنقص فى التكوين الخلقى أو اضطراب فى التكوين مما يصاحب ضعف العقل، ومثال ذلك الصرع وشلل بعض الأطراف والتشوة الخلقى للرأس واضطراب نمو الأسنان ونظامها وتشابك أصابع اليدين أو الرجلين أو زيادة عددها وغير ذلك من التشوهات الخلقية فى القلب والصدر والأحشاء . والأبلة معرض – بداهة – للإصابة بسائر الأمراض الجسمية مثل السل وربما كانت هذه الأمراض هى السبب فى وفاته فى سن مبكرة . فهو نادرا ما يصل إلى سن الخامسة عشر وإن كانت العناية الصحية قد زادت حديثا من متوسط عمره بشكل ملحوظ، ولا يتعدى العمر العقلى للأبلة سنتين.
الأفن
Imbecility
وهو الدرجة التالية للبله صعودا، وتبلغ نسبة المأفونين فى مجتمع ما أربعة أضعاف نسبة البلهاء، أى حوالى 0.12% من التعدا دالعام، ويتميز المأفون أنه يستطيع أن يتجنب الأخظار وأن يتكلم بصعوبة ولكنه لا يستطيع تعلم القراءة، والممتازون منهم يستطيعون القيام بعمل رتيب تافه، كما أنه يمكن تعليمهم مبادئ النظافة . قد يصاحب المرض تشوهات خلقية أو شلل أو صرع، ويتراوح العمر العقلى للمأفونين بين ثلاثة وسبعة أعوام .
الحمق
Feeble – Mindedness
الحمق هو أحسن أنواع نقص العقل الثلاث، ويبلغ عدد الحمقى فى مجتمع ما أربعة أضعاف المأفونون أى حوالى 0.05% من التعداد العام، ويمكن تعليم هذه الفئة عامة الأعمال الراتبة، فتقوم بها بدون إشراف مباشر . هذا ويفتقر الأحمق إلى التلقائية والانتباه الإيجابى . . تلك الصفات التى عادة ما يتصف بها الطفل الطبيعى – وهو يتعلم الكلام متأخرا، وقد يعانى صعوبات فى الكلام كالتعلثم والتهتهة والعقلة، ويتصف الحمقى بأنهم سهلوا الاستهواء، فينقادون للأكثر ذكاء وهم عرضة للاستغلال كأدوات في تنفيذ الجرائم . وعلى ذلك فإن القانون يعرف هذه الطائفة بأنهم غير القادرين على حماية أنفسهم أوتجنب المشاكل .
هذاوقد لوحظ أن بعض أفراد هذه الطائفة يظهر نبوغا خاصا من الذكاء فى ناحية معينة من القدرات الخاصة كالذاكرة الموسيقية أو القدرة الحسابية .
أنواع النقص العقلى من حيث أسبابها:
أولا: النقص العقلى الأولى:
وهو النقص الذى لا يوجد له سبب ظاهر فى البيئة وتختلف درجاته باختلاف أنواعه، وقد يصاحبه تغيرات عضوية مميزة فى المخ أو تغيرات أخرى فى سائر الأعضاء وأحيانا فى التمثيل الغذائى , وصفات خاصة من ناحية طرق الوراثة ومدى النقص العقلى الموجود مما جعل تصنيفه إلي أمراض محددة مثل مرض التليف التدرنى Tuberous . Sclecorosis ومرض عمى البله العائلى Amaurotic Family Idiocy .
ثانيا: النقص الثانوى:
وهو النقص الذى يحدث نتيجة لسبب ظاهر، ويمكن تصنيفه إلى ما يلى:
1- نقص العقل نتيجة للإصابات: ويمثل نسبة 5% من كل حالات نقص العقل، ويمكن أن يتضمن الإصابة أثناء ولادة عسرة أو مبكرة Premature أو عاجلة Precipitate , وقد تكون الإصابة كسر أو كدم أو تهتك فى المخ أو نزيف للجمجمة .
2- نقص العقل نتيجة للالتهابات . ويمثل نسبة 11% من كل حالات نقص العقل، وأهم أنواع الالتهابات المسئولة هى الالتهابات المخية والسحائية والزهرى , وقد يصحب هذه الالتهابات أعراض الاستسقاء .
3- نقص العقل نتيجة الضمور، ويمثل نسبة 3% من كل حالات نقص العقل، ويمكن أن يحدث نتيجة خلل فى تمثيل النحاس كما فى مرض ولسون Wilson’s Disease أو نتيجة للصرع .
4- نقص العقل نتيجة لنقص لوازم أخرى ضرورية لنمو العقل، وتكون هذه الضروريات عضوية مثل هورمون الثيروكسين الذى ينتج عن نقصه حالات الكثم، كما تكون هذه الضرورة نفسية اجتماعية نتيجة للعزلة وسوء التربية الذى يحدث فى بعض مؤسسات الأحداث مثلا حيث يعجز أغلب الأطفال عن الكلام نظرا لعزلتهم وافتقارهم إلي الفرص التى تسنح لهم بتعلمه .
وأحيانا ما يترتب نقص العقل على ذهان مبكر يخل تماما بانتظام وظيفة المخ .
علاقة هذا التقسيم بدليل التشخيصات المصرية:
فضلنا الاحتفاظ بتقسيم هذا الفصل مثلما كان فى الطبعة الأولى رغم
اختلافه عن الدليل المصرى (الذى أخذ عن الدليل العالمى IGB 8 هذا التقسيم بنص حروفه تقريبا) وذلك:
أولا: لأن اقترابنا من الموضوع هو أكلينيكى أساسا، ولم نجد فى التقسيم الجديد – المعتمد أساسا على معامل الذكاء – ما يتفق مع ترجيح كفة الحكم الإكلينيكى .
ثانيا: لأن هناك بضعة نقط اختلاف مع هذا التقسيم ومن ذلك:
1- ذكر التقسيم المصرى (وهو نفسه العالمى) فى تعريفه تأخر العقل Mental Retardation ورمز صفر 1 أنه خلل فى:
(أ) التعلم أو التكيف الاجتماعى .
(ب) النضج (الجسمى أو العاطفى).
أو (ج) الاثنين معا .
وبملاحظة استعماله حرف (أو) نجد أنه فتح بابا قد يجعل البعض يدرج بعض أنواع اضطرابات الشخصية أو نقص النمو الجسمى فيه .
ولكنه عاد فأصلح من هذا التعميم حين ذكر أن التشخيص ينبنى على:
1- معامل الذكاء الذى ينبغى أن يساعد فقط مع الحكم الاكلينيكى .
2- تقييم تاريخ النمو للمريض .</span%
اللهم بارك فى دكتور يحيي الرخاوى
تقبل الله، ولتمتد دعوتك لكل صديق مشارك
ونفس وماسواها قدأفلح من زكاها وقد خاب من دساها
ذَكاها = نمـَّاها:
“ربى كما خلقتنى”.