دروس من قعـر الحياة!!!
الفهد الأعرج
والكهلٌ النـَّمـِرْ
أ.د. يحيى الرخاوى
الطبعة الأولى
2018
الإهــداء
إليهما: هذا الابن الجميل والجد الرائع
عم: عبد الغفار “الكهل”
والابن: ياسر”الفهد”
المقدمة
المقدمة
مقدمة:
جمعت هاتين الصورتين مع بعضهما البعض لأقدم لقطتين من عمق مجتمعنا الحقيقى فى دفاعه النابض بكل ما هو حياة، وفى فشله المزعج بكل ما هو مؤلم، وقد وجدت فيهما معالم الفقر، والتحدى، والعمل، والصبر، والهجوم، والدفاع بشكل أعتقد أنه لا يخطر على بال أى من الممارسين النفسيين وهم جلوس على مكاتبهم، أو فى استرخاء فوق المقعد الكبير خلف أريكة التحليل النفسى.
لعل الذى يربط بين الحالتين هو:
(1) جاهزية زخم الطاقة التى تتوجه للحفاظ على الحياة برغم العجز الحركى فى الحالة الأولى (ياسين) وبرغم تقدم السن فى الثانية (عم عبد الغفار).
(2) التمادى فى الحفاظ على العلاقات الحيوية النشطة من خلال تنشيط “المخ القتالى” المتحفز، وهو هو طور “الكر الفرى” النابض فى دوراته الطبيعية والمتمادية.
(3) القدرة على احتواء الألم بكل أمانة وصبر وإصرار برغم تصاعد الصعوبات المتتالية
(4) نوع الذكاء وحضور الانتباه فى الحالتين وما يتصف به من مبادرة، ويقظة وانتباه برغم فارق السن، قبل وأثناء المرض، وبالرغم من الفروق الفردية التشخيصية.
(5) اختلاف الظروف الأسرية ومصادر الدعم والإحاطة والحب وأثر ذلك فى تحريك زخم الطاقة فى عراك الكر والفر إلى ما بعده (حتى لو فشل مؤقتاً).
(6) مواجهة صعوبات الحياة بقدر ما يمكن من إقدام واقتحام وتحدى، برغم محنة المرض دون التسليم بالهزيمة.
(7) احترام الجوع العاطفى برغم ندره إروائه بالطريقة التسكينية والصفقاتية.
(8) المشاركة فى طبيعة تحريك وتداخل مستويات الوعى دعما للفروض التى تربط بين الحلم والإبداع والجنون.
وبعد:
تعلمت من الخبرة الطويلة فى مثل هذه المحاولات أن ما أصاب الطب النفسى هو هو ما أصاب مجتمعاتنا عامة نتيجة للشعور بالنقص، واستسهال النسخ أو التقريب بالترجمة، ومنْ ثَمَّ الاكتفاء بوضع هوامش متواضعة على متنٍ مقول بالتشكيك أصلا، سواء كان هذا المتن هو “الديمقراطية المستوردة”، أم “حقوق الإنسان سابقة التجهيز”، أم “الطب النفسى السلطوى السائد”.. إلخ.
لعل من أهم ما تركه فرويد هو عرض حالاته الخمس([1]) تفصيلا، أهم من تنظيره الصحيح أحيانا عن اللاشعور والتحليل النفسى، أهم بشكل خاص من موضع فخزه الأول: كتاب “تفسير الأحلام”([2]).
أما كارل ياسبرز وكتابه الأم “النفسمراضية العامة”([3]) Gernral Psychopathology الذى كان ومازال المرجع الأهم لهذا العلم، فقد أوضح فيه أن المادة الإكلينيكية للحالات الماثلة فى الممارسة هى البداية والنهاية طول الوقت.
حالتا هذا العمل هى من قاع مجتمعنا الخاص جداً والأصيل تماماً، وهى تقع فى عمق طبقاته الأدنى وسط تلاحم أمواجها بكل زخم طاقاته، ولا أتصور أنه يمكن للطبيب (والمعالج) النفسى، أن يمارس مهنته بأمانة وكفاءة دون أن يتعرف على ناسه بكل طبقاتهم، ولعله يجد بعض ذلك فى هذه المحاولة.
الحالة الأولى: لشاب رائع فتى كهربائى مكافح، ولد وهو يحمل تاريخا من التحدى، والطاقة الزاخرة، والمرض والإبداع، أصيب فى طفولته الباكرة بشلل الأطفال الذى أعجزه عن السير الطبيعى تقريبا، فواصل حياته يعرج أو يقفز على مقعدته، لكنه واصلها، ونجح وأحب، وخاف من الحب، ومرض، وتعرَّى، وقاوم، واستمر، ولم ينهزم تماما.
ولعل تقديم حالته بهذه المباشرة يتيح الفرصة لمن يشاء ويسمح أن يتابع ويواكب تداخل مستويات الوعى وحركية العلاقة بين الحلم والهلاوس والضلالات واحتمال الإبداع، مع الانتباه (ولو من الملحق) إلى العلاقة بين تطور المرض وحركية التشكيل النمائى لمخطط الجسم وصورة الجسم، ومخطط النفس وصورة النفس.([4]) برغم التعثر والتوقف.
الحالة الثانية: هى لكهل جاوز الثمانين أمضى حياته فوق عربته “الكارو” ومع حماره المنهك فى شوارع القاهرة يصارع أمواج السيارات والبشر والرزق والتحديات، وحين أنـْـهـِـكَ قالها: “آه” بنبل وعـِـزّة ومـَـرَض، وظل محتفظاً بقدراته المعرفية ودرايته الحاضرة طول الوقت.
فضـّـلتُ فى كلتا الحالتين أن أقلل قدر الإمكان من الشرح والتعقيب، وأن أترك النص والحوار يواصلان الرسالة ما أمكن ذلك، وباللغة التى دار(ت) بها الحوار(ات) غالبا.
طبعا، وكما هو منهجنا، لن نتطرق إلى التشخيص بوجه خاص، كما لن نتوقف عند تسمية الاعراض كما اعتاد القارىء، آمـِلاً أن يكون فى حضور المتن وخاصة الحوارات المسجلة: ما يكفى لتوصيل الرسالة.
[1] – خمس حالات فى التحليل النفسى: سيغموند فرويد، ترجمة صلاح مخيمر، عبده ميخائيل رزق، مراجعة مصطفى زيور، مكتبة الأنجلو المصرية، 2007
[2] – تفسير الأحلام، سيغموند فرويد، ترجمة مصطفى صفوان، مراجعة د. مصطفى زيور، دار المعارف، 2003، وقد صدرت الطبعة الأولى من هذا الكتاب، سنة 1899
[3] – كارل ياسبرز، الإمراضية العامة فى المرض النفسى General Psychopathology ، سنة 1923 وقد ظل هو المرجع الأساسى فى الإمراضية الوصفية ولم يترجم للإنجليزية إلا سنة 1962
[4] – Body schema & Body Image – Self schema & Self Image
الحالة الأولى: الفهد الأعرج
الحالة الأولى: الفهد الأعرج
الحالة الأولى
الفهد الأعرج ([1])
تعريف، وفروض، وبداية المناقشة
تقديم الزميل الطبيب: الدكتورعدلى: 26-2-2009
المريض هو ياسين سيد ابراهيم([2])، 33 سنة، أعزب، يعمل كهربائيا، يمتلك محلا صغيرا لممارسة مهنته مستقلا ولا يستعين بعمال أو مساعدين، هو الوحيد الذى يقرأ ويكتب فى أسرته، دخـْـلُ الأسرة مجتمعة([3]) معقول، من عمل أفرادها، يسكن ياسين فى حى شعبى جنوب القاهرة، وأسرته بها أمراض نفسية (عقلية، متواترة) من أول أخته الأكبر منه (46) سنة والتى تعانى من ضلالات وهلاوس من مدة طويلة ولم تعالج أصلا، حتى أخوه الأصغر منه “شاهين” الذى أصيب بذهان جسيم وعولج بالأدوية والجلسات وتحسن جدا، وكان ياسين هو الذى يصحبه إلى العلاج بقصر العينى مسئولا عنه وراعيا له، على مستوى العيادة الخارجية ثم دخل شاهين القسم الداخلى وتحسن جدا، وعاد إلى عمله.
والد ياسين،(65 سنة) مصاب أيضا باضطراب وجدانى جسيم معاود (متكرر)، يتراوح بين الاضطراب الوجدانى المختلط، والاكتئاب الذهانى، وهو بالمعاش وكان سائقا، وهو شخص منعزل، جاف، عصبى، شكاك، يقول عنه ياسين:
“أبويا عِنَدى.. لو فيه مشكلة يزوّدها.. مش يحلها، يتهيأ لى التعب اللى فينا ده كله منه هو،.. لأنه ما فيش عنده تفاهم، مش كريم،.. يقلق جامد من أى حاجه، .. عصبى أوى، وما يثقـْـشـِـى فى حد بسهولة”.
وكانت علاقته بأم ياسين سيئة، يصفها ياسين
“معامله وحشه جداً وهى كانت طيبه ومستحملاه”
توفت أم ياسين قبل ثلاثة أشهر عن سن 50 سنه، ست بيت، لا تقرأ أو تكتب، يقول عنها ياسين:
أطيب من والدى بكتير.. أنا ماعرفتش الوِحْده إلا لما ماتت، الناس كلها بتحبها أوى، هى اللى كانت مصبرانا على والدنا.
ياسين فتح محله الخاص به ويكسب من حرفته بشكل مستور على حد قوله.
أصيب ياسين فى السنة الأولى من طفولته بشلل أطفال، ترك ضمورا واضحا فى ساقه اليمنى، واستعمل جهازا يساعده على السير أحيانا، فنشأ وهو يعرج بشكل جسيم، “بالجهاز” وبدونه، لكن لم يَعُقْهُ ذلك عن دراسته التى توقفت بعد السنة الثالثة الابتدائية، ولم يعجزه الشلل عن عمله أيضا، وظل يعرج بوضوح شديد حتى الآن، وأحيانا يزحف على مقعدته.
خطب ياسين جارته الجميلة طيبة عمرها 17 سنة وكان يزورها أسبوعيا، يقول عنها:
” كانت حلوة .. كانت بتحبنى أوى، حسيت إنها صغيرة ودماغها على قدها .. خُفت لما أنا يبقى عندى 50 سنة وتبقى هى 35 سنة تبقى لسه فى عزها وتبص لبرّه .. زعلت أوى لما سبتها”.
ويقول عن سبب فسخه الخطوبة بعد ثلاثة أشهر:
“كنت بوصّلها البيت مرة، وبعدها سمعتها بتضحك بصوت عالى مع شاب، رحت قلت خلاص مش نافعة، وسيبتها، .. خطبت بسرعة بعد ما سبتها بشهر”.
خطبْة ياسين الثانية كانت غريبة غير متوقعة: فتاة أكبر منه سنا 38 سنة، تحمل بكالوريوسا (وهو خرج من الابتدائى، يقرا ويكتب بالكاد)، يقول عنها.
“… كانت منقبة ومش حلوة .. ماكنتش حاببها كنت عاوز اتجوز بس .. مش عارف اذا كانت بتحبنى ولا لأ، ما فيش كام جمعة وسبتها، مازعلتش لما سبتها زى الأولانية”.
وعموما: كان ياسين عدوانى، قوى، جاهز، متحفز، وقد تصادم مع القانون، يصف إحدى مشاجراته، بقوله:
” …. السنه اللى فاتت ضربت راجل كان بيعاكس مرات “شاهين”([4])، .. ضربته بالمفك فى رقبته .. إصابة بسيطة .. بس كان لازم أوقفه عند حده لأن شاهين كان كلمه بالذوق ومانفعش، اتعمل محضر، وبعدين بعدها عملنا صلح فى المحكمة”
يقول شاهين (الأخ) عن ياسين واصفا شخصيته قبل المرض:
” ياسين اجتماعى، بَس مش بيتطمن للناس بسرعة، مش نـُزَهى مش مدردح، واخد كل حاجة على أعصابه، تقريبا كان هو أكتر واحد عاقل فى البيت كله “
أما شكوى ياسين عند حضوره العيادة الخارجية (قصر العينى) فكانت كالتالى:
“…. حاسس بصداع ودوخه..، لما بيجولى باقعد أخرف فى الكلام، ساعات أشوف راجل لابس أبيض فى أبيض، يجيلى وأنا داخل فى النوم.. الوحده مضايقانى.. كل زمايلى إتجوزوا وأنا لوحدى..ساعات أشوف واحد راجل تانى يقعد يضحك.. أشوفه لثوانى وأبقى عايز أزقه بعيد.. وساعات أسمع صوت يقول “أنا مظلوم”، “برضه وأنا نايم.. باحلم أحلام وحشه..، أنا باتمنى من ربنا إنه ياخدنى.”
أما وصف الأخ شاهين لحالة ياسين وقت الكشف الأول فكانت كالآتى:
ياسين بقى له شهرين بيشتكى من دوخه وصداع..، مش مركـّـز فى حاجه، على طول مخنوق ومش عايز يتكلم مع حد.. قاعد فى نفسه يجى له شغل وهو يأجله.. نومه قليل، وأكلته قليله، مرة جيبناه من الشارع الساعة أربعة الصبح وهو بالبيجاما، كان طلع بيوت الناس وقعد يرن أجراس الأبواب، ومرة ثانية راح بيت الناس اللى كانوا طلـّـعوا عليه كلام، وقعد يزعق، وده كان برضه فى نص الليل ولما نقول له بعد كده على اللى عمله، يقول لأ ما حصلشى، ناسى.
بعض معالم الفروض والتشكيل
بعد مناقشة الزميل مقدم الحالة، وبعد مقابلة ياسين مرة ثم مرات كل أسبوع خلال ثلاثة أسابيع متتالية، رسمنا بعض معالم ما يمكن عرضه هنا من فروض وتشكيل، على الوجه التالى:
- ياسين ولد فى أسرة مستهدفة (وراثيا، بيلوجيا،) تحمل طاقة، لحركية مفرطة ([5])، تمثل الخلفية القادرة على التفكيك فالتفسخ (أو إعادة التشكيل إن سمحت الظروف)
- بدأت صعوبة ياسين مع تكوينه لمخطط ([6]) Body schema جسده، ومن ثم صورة جسده،Body image المندمجة فى صورة ذاته Self image مع مخطط ذاته Self schema، ويبدو أن ذلك جرى (ويجرى) بصعوبة مفرطة، نتيجة وجود الشلل الجسيم فى ساقه اليمنى، إثر إصابته بشلل الأطفال (أنظر الملحق)
- لم يحظ ياسين بالقبول أو الاعتراف من أبيه، وربما حصل على شىء “مثل الموافقة” العابرة على “وجودٍ هامشى” من خلال “شفقة فوقية” (مهينة غالبا) من أغلب مّنْ حوله.
- أما أمه فقد احتوته ورعته وخافت عليه، بما يشمل ذلك من اعتراف ضمنى محدود، فكادت تصبح المصدر الوحيد للاعتراف بوجوده، وربما “شوفانه”، دون السماح له بالفطام فالانفصال، حتى ماتت.
- نجح ياسين فى قبول التحدى، لأكثر من ثلاثين عاما فلم يسمح لبرنامج فرط الحركية التركيبية الموروث أن ينقض عليه فى صورة مرض نفسى (عقلى) معوّق منذ حداثته، كما لم يسمح للإعاقة الجسدية (شلل ساقه) أن تحول دون نجاحه فى عمله، فاستطاع أن يستقل ويحقق نجاحا متوسطا، وكان يعوض عجزه وضمور ساقه بقوة نصفه الأعلى (عضلات ذراعيه) فأصبح جاهزا للقتال بالانقضاض قفزا كالفهد يدافع عن نفسه، بل يهجم لينتقم ممن يهينه، أو ممن يتصور أنه يهينه، بل كان ينبرى للهجوم مثلما حدث عند ما استشعر احتمال إهانة زوجة أخيه الاصغر (شاهين).
- لم يحتمل ياسين أن تحبه خطيبته الأولى الصغيرة الجميلة، فتركها بعد بضعة شهور!!!.
- صفقة خطوبته الثانية غير المتكافئة مع حاملة البكالوريوس المنتقبة، كانت أعجز من أن تستمر أسابيع، ففسخها دون تردد، وأجهضت بسرعة.
- ماتت أمه (قبل أن تلده من رحمها النفسى)، فتوقف، ومـَــرِضَ، وتفسخ إلا قليلا.
رؤوس مواضيع
نأمل أن يتيح لنا عرض حالة ياسين وكيف نوقشت، أن نفتح ملفات علمية مهنية ومعرفية عديدة، من أهمها:
(1) مناقشة موقع “التشخيص” وترتيبه فى صياغة الحالة.
(2) علاقة “مخطط وصورة الجسد” “بمخطط وصورة الذات“.
(3) الخوف من الحب مع الجوع إليه، والهرب منه وجاهزية وغلبة “الطور البارنوى”.
(4) اختلاط وتداخل مستويات الوعى، ما بين النوم والوسن والتخيل والذهان.
(5) التعويض بمعاودة تنشيط المخ القتالى مع ترجيح ذراع الكرّ أكثر من الفر.
(6) الانتقال من هذه الآلية إلى “الهجوم على مصدر الحب، وليس فقط مصدر التهديد”.
النقاش المبدئى مع مـُـقـُـدم الحالة
(بعد انتهاء د. عدلى من تقديم ورقة المشاهدة التى أعدها كاملة قبل لقاء المناقشة):
د.يحيى: طيب متشكر جدا، قدمت لنا الحالة دى ليه بقى؟ إيه الهدف يعنى؟ ايه المشكله اللى خلتك توريها لنا النهارده؟
د.عدلى: عندى مشاكل اولا فى التشخيص.
د.يحيى: لزومه ايه التشخيص بذمتك تديله أولوية فى الحالة دى بالشكل ده يا شيخ؟! إنشالله ما اتشخص.
د.عدلى: حاجه بتساعدنى فى اختيار العلاج، مش حاجه أساسية يعنى.
د.يحيى: إمال بتقوله فى الأول ليه ما دام مش حاجة أساسية، يعنى بالذمة إنت ما تعرفشى تعالجه بعد كل اللى قلته ده من غير تشخيص؟
د.عدلى: آهى معلومة برضه أنا محتاجها.
د.يحيى: يعنى فى حالة زى دى حا تفرق بالذمة؟! ما هو كله حاياخد نيورلبتات Neueroleptics، ويمكن تضيف مضاد اكتئاب Antidepressant، وشوية من اللى بتسموه عقاقير”ضبط المزاج” Mood Stabilizer، مش كله بياخد كله برضه؟ واذا ما اتحسنشى نديله كهربا، مش هى دى القاعدة ؟ الله يسامحك، ويسامحهم، وحتى موت امه ما هو ممكن يعمل جميع الأمراض اللى فى ذهنك، أنا باسألك يا ابنى إيه اللى فى الحالة دى مش مألوف لك، سواء بالنسبة للحالات اللى شفتها، أو بالنسبة للى قريته أو سمعته.
د.عدلى: لما باقول لحضرتك “التشخيص” مش بس قصدى التشخيص اللى هو الـيافطة والتقسيم، قصدى التشخيص اللى من خلاله بافهم العيان اكتر.
د.يحيى: بذمتك هوا التشخيص اللى بيخليك تفهم العيان، ولا “الصياغة” اللى بانبحْ حسى عشان أشرحها لكم ليل مع نهار؟
د.عدلى: لأ ما هو انا يعنى ……(يصمت).
د.يحيى: التشخيص ده حاجة كده زى رقم المنزل مثلا، أما الصياغة فهى “البيت نفسه“:، كام أوضه، ومين اللى ساكن فيه، وبيعملوا إيه، ورايحين جايين ازاى، وعلاقتهم إيه ببعض، ….
د.عدلى: انا كان قصدى كده.
د.يحيى: هوا احنا حا نقعد ساعتين تلاته عشان نقول ده مرض اسمه كذا، ويمكن يكون كيت، ونتخانق على الاسم ونروّح، قال إيه عـِـلـْـم، بقى، ده اسمه كلام؟ إحنا دكاترة وظيفتنا نعالج مش نعلق يـُـفـَـط،
د.عدلى: الظاهر ان استخدامى للفظ “تشخيص” ماكانش مظبوط، انا قصدى كده اللى حضرتك بتقوله ده.
د.يحيى: لأ !!، ما هو ما ينفعشى تقول حاجة وبعدين تقول قصدى حاجة تانية.
د.عدلى: انا قصدى الحاجة اللى تهدينى للعلاج.
د.يحيى: إيه الحاجة اللى شاغلاك فى المنطقة دى بالذات، فى منطقة البحث عن سكة العلاج؟
د.عدلى: اللى شاغلنى، فيه حاجات مش فاهمها.
د.يحيى: زى إيه؟
د.عدلى: حاقول لحضرتك بس شوية معلومات يعنى كتبتها بس بطريقه مختصره، ياسين قبل وفاة والدته، وقبل المرض على طول حصل حاجه فى الشارع بتاعهم:
“باختصار واحد راح طلّع فِتْنَه عليه ان هو عايز يتجوز واحده، وراح قال لأهل البنت دى فأهل البنت زى اتقال يعنى انهم رفضوه، وراحت طالعه السمعه عليه فى الشارع ان هو اترفض من غير ما يكون هو اتقدم أساسا”
د.يحيى: الكلام ده مكتوب هنا فى ورقة المشاهدة اللى انت قدمتها لنا؟
د.عدلى: أنا كتبتها فى ورقة لوحدها، قلت أحكيها لحضرتك عشان ماعرفتش أحكيها ازاى، ولا أحطها فين فى ورقة المشاهدة.
د.يحيى: بالذمة ده اسمه كلام، حادثة فى غاية الدلالة فى حالة زى دى، تدكّنها فى ورقة برّانية بالشكل ده، وتقول لى مش عارف إيه؟
د.عدلى: أحطها فين طيب؟
د.يحيى: باقول لك يا إبنى، أنا قلت لك دى حادثة فى غاية الأهمية فى الحالة دى بالذات، حتى لو ما كانتشى حصلت خالص، وهوه بيألفها ضمن المرض بتاعه، تبقى برضه فى غاية الدلالة، وإذا كانت حصلت بعد حكاية فسخ الخطوبتين الواحدة ورا التانية، تبقى دلالتها أكتر، لأنها حاتبقى جارحه وجارحه قوى، يا أخى حرام عليك تظلم نفسك كده، إنتَ عارف معلومة، والمعلومة دى ماشيه فى السياق، تقوم تدكّنها وتحطها فى جيبك؟ وتقول لى “أحطها فين؟! حطها يا أخى فى أى حته!! يعنى أنهو الأهم إنه بيسمع الصوت بيقول له ما اعرفشى إيه، ولا إنه بيعيش تجربة إنه اترفض، وإنه مش متعاز، وهو لا اتقدم للناس دول ولا حاجة، مع إنه هو اللى فركش خطوبتينه الواحدة ورا التانية ياشيخ، فلما ييجى يطلـّـعوا عليه إشاعة إنه اترفض، يبقى الحكاية عايزة وقفة.
الجدع ده مع إنه هو اللى رفض خطيبته دى ودى، أنا رأيى إنه مرعوب من الرفض، هو رَفـَـضـَـهـْـم غالبا قبل ما يترفض، حسب رعبه من الرفض على خلفية عدم الاعتراف أو الشفقة، اللى بهدله هو رفض البنت الأولانية لما حبـِّـته بحق وحقيقى، أول ما وصل له حبها حط ديله فى اسنانه وبرطع، ما هو الحب بيخلى الرعب من الرفض أصعب، خاف إنه يتجرح أكتر بعد ما يصدق إنها بتحبه، أما البنت التانية بتاعة البكالوريوس المنقبة دى، أنا مش فاهمها بصراحة، باين انها استسهلت ولاّ خافت من العنوسة، وغالبا هيا مابتعرفش تحب من أصله، لا هو حبـَّـها وعازها، ولا هى حبته، راح خالع هـُـوَّا بدرى….
د.عدلى: كنت عايز اكمّل لحضرتك.
د.يحيى: تكمل ايه؟ معلومة تانية برضه مخبيها فى جيبك.
د.عدلى: لأ.
د.يحيى: طيب، فيه إيه؟
د.عدلى: الأصوات اللى بتيجي، والضلالات اللى بتخليه يتصرف كده، ساعات بتبقى موجهه ناحية المشاكل اللى عنده بطريقه معينة، مثلا يطلع من بيته، يروح لأهل البنت اللى كانوا طلّعوا عليه كلام إنه اتقدم لها واترفض، ويقعد يزعق عندهم وحاجات كده، ولما أهله يروحوا يجيبوه من البيت يلاقوه زى ما يكون مش مصحصح قوى، يسألوه، يقول إنه ناسى، وإنه ما عملشى كده.
د.يحيى: على فكره العيانين الطيبين دول لازم نقراهم باحترام، يعنى هو مش ضرورى يكون مش عارف هوا عمل إيه زى ما بيقول لهم، لأه، يكفى انه يقولك أنا ناسي، وده صحيح، أو نص نص، بس كله هادف، يعنى النسيان هنا يبقوم بالواجب سواء شعوريا أو لا شعوريا، ما هو التصرف اللى عمله باندفاع كده بيثبـّت الإشاعة إنه اتقدّم واترفض، وهوا كل همه إنه يثبت لنفسه قبل الناس إنه لا اتقدم، ولا اترفض، يبقى هو بيثبت بالتصرف ده عكس اللى هو نفسه يعلنه، فلازم ينسى اللى بيحصل كده، التصرف اللى زى ده اسمه “هُجاج” Fugue، النوبة لما بتيجى إذا كان مش عارف أصلها وفصلها تبقى انشقاق Dissociation، إذا كان عارف قوى يبقى بيستعبط ، إذا كان عارف نص نص والنسيان بيكمل الحكاية يبقى، اندفاع جاهز للمحو Undoing، يعنى دور اللعب اللاشعورى يمكن ييجى “بعد الفعل”، عكس الانشقاق الكامل اللى اللاشعور هوا اللاعب الأساسى من الأول للآخر. واخد بالك؟
د.عدلى: .. .. أنا ساعات برضه المريض ده بيدينى منظر اللى بيلعب بىّ، وساعات بياخد شكل كده مش قادر اقول عليه بيدعى، لأه، حاجة زى استسهال كده أوتطنيشه.
د.يحيى: قوم إيه بقى؟!!!! لما يكون ساعات كده وساعات كده، قوم إيه بقي؟ نشك فيه ونتهمه زى ما نكون بنتصيد له وقعات، ولاّ نبحث ده ونبحث ده ونربط بينهم ونقول ليه بيعمل كده ساعات وكده ساعات؟ اللى وصل لى منك لحد دلوقتى إنه بيزودها حبيتن أحيانا.
د.عدلى: أحيانا قليلة جدا، ويمكن أنا اللى بيتهيألى.
د.يحيى: طيب، أنا قلت لك لازم يكون هدف أى فحص واضح، والهدف دايما لازم يكون هو العلاج مش التشخيص، إذا كان التشخيص حا يخدم العلاج، يبقى على العين والراس، بس يتحط فى مكانه، ما علينا: طيب أما اقولك بقى الاحتمالات اللى وصلتنى من هذا “الشيت”([7]) الجيد، قصدى نحاول نحدد المشاكل والأبعاد عشان نشوف حانفكر ازاى:
- نمره واحد: مشكلة “الرفض”، وبالتحديد “الخوف من الرفض”.
- فيه قبلها طبعا مشكلة تكوين الذات وتكوين صورة الذات Self Image مش بس الصوره، لأ و”مخطط” الذاتSelf Schema ، الحكاية دى مش واضحة عندكم قوى، الكلام كتير عن صورة الذات، إنما ما فيش ربط للأسف بينها وبين مخطط الذات، وبرضه ما فيش ربط بين الاتنين وبين صورة الجسم Body Image ومخطط الجسم Body Schema، الكلام ده أنا شرحته بالتفصيل فى كتابى عن “الأعراض”، أنا آسف هو ما اتنشرشى لسه إلا حلقات فى موقعى، ومش حاقدر أتكلم فيه بالتفصيل دلوقتى([8])
………..
خلينا فى الموضوع ده على قد حالة ياسين،
نرجع تانى ندوّر: هو التشويه ده اللى حصل لياسين جوه ولا بره، ما هو العرج الظاهر ده بيخلى الطفل يا عينى ما يتشافشى فيه إلا الإعاقة نفسها، يعنى مرّات رجله المدلدلة جنبه تحل محل كيانه كله، تبقى المصيبة مصيبتين، إن رجله اتشافت بصعبانية مش باحترام، وإنها حلت محله، يعنى كيانه الحقيقى ما اتشافشى أصلا، ساعات بدال ما يندهوله بـ “ياسين” يقولوا “الواد لْـَعـْـرج” أو حتى “تعالى ياعْرج، روح يا عْرج!!” ده غير الإهمال اللى حواليه والإنكار والغفلة
نرجع الناحية التانية نشوف إيه إللى حصل من ناحية امه، زى ما يكون موقفها كان بيقول:
“ما دام يا ضناى مش قادر تمشى خليك بلبط جوايا وان شالله ما حدّ كـِـبـِـر”،
يعنى عيلة زى دى ملانة باللى فيها، اللى ظهر زى ما قلت على أشكال أمراض نفسية وانحرافات مختلفة، تنتظر منها إيه بالنسبة لواحد زى ياسين ده؟! الأب تعبان وبيتعالج، والأخ الأصغر لما مرِض ياسين هوه اللى بيرعاه، والأخت الكبيرة ضاربة خالص، مين حا يدّى مين إيه يا شيخ؟ أنا متصور إن ياسين ده ما تشافشى فى وسط الهيصة دى من أصله، هوه مين حايشوف مين، أيوه مش بس ما اعـْتـُرِفـْشِ بيه، وطبعا ما شافوهوش، طب حتى لو حد لمحه، حايديله إيه غير الشفقة والصدقات وهو معاق وبيعرج.
الأم بصراحة باين عليها كانت طيبه خالص، بس الطيبة الناعمة قوى دى مش كفاية ، طبعا، والرسايل اللى وصلت منها كتر خيرها على قدها، كانت زى ما تكون بتقول له:
“إنت مش قادر أنا حاشيلك فى بطنى”،
أصل الرسالة الموضوعية اللى ممكن توصل لعيـّـل زى كده حا تكون إيه لو استبعدنا الشفقة والتفويت والكلام ده، أظن إنها رسالة صعبة خالص، أنا متصور إن لو فيه أم واعية تقدر توّصل لابنها فى الظروف دى جملة مفيدة (من غير ما تقولها طبعا) ، جملة بتقول:
“..إنت موجود بعجزك وانا امك، وحافضل جنبك لحد ما تعدى بالسلامة واحدة واحدة، إنت غلبان قوى وكل حاجة، بس محترم فى محاولاتك، وحقك فى الحياة مش أقل من غيرك،
وكلام من ده، طبعا ده مش موجود، ولا هوَّا يتقال بالكلام
أنا مش عايز أبالغ، إنما أنا متصور أمهات أميات ما بيفكوش الخط ممكن يعملوها بطيبة ماحصلتشى، الأم مش لازم تعرف سيكوباثولوجى عشان تقوم بالدور ده، إذا ده ما حصلشى، وطبعا هوه ما حصلشى عند ياسين، فتلاقى علاقاته كلها اتشكلت من خلال الأبعاد دى، زى ما يكون بيقول:
هوا فيه حد شايفنى؟ ما هو أنا مش رجلى ….
هو حد عايزْنـِى أنا؟
هو اللى عايزْنـِى ده حا يفضل معايا ولا حايسيبنى، أول ما افشل فى أى منافسه مع اللى رجليهم سُلام،
المصيبة زادت وفاضت.
المشكلة هنا هى مشكلة شوفان واعتراف واحترام وقبول حقيقى، ياسين عمره ما نجح إنه يحلها، هو قعد مـِـمـَـشـِّـى حاله بالنجاح، بالعافية، والقوة والفتونة والرزق والستر تمام التمام، لحد ما جه يخش امتحان علاقة حقيقية وكانت بتلوح إنها حاتكون علاقة طيبة ، هُبْ الدنيا اتقلبت عاليها فى واطيها، وده اللى حصل فى الخطوبة المرة ورا التانية، وكان الحل هو السيبان سريع سريع، تيجي البنت الأولانية تقول له أنا بحبك، وهى حلوة وعايزاه، والظاهر حبـّته بصحيح وهو كمان، يقول “لأ يا عم ، إيش ضمّنى”، ويروح باصص لقدام خمستاشر سنة، ويقول لك دى حاتبقى عمرها كذا، وانا كذا، وحاتسيبنى وتبص لواحد فى سنها، واهى ضحكت بـِـحـِـسّ عالى قدام الجدع الشاب ده، وسلامو عليكم، مش ده اللى حصل يا بنى! الخطيبة التانية السيبان كان أسهل، لأنها لا حبته ، ولا هو حبها، وهو زى ما يكون اكتشف إنها عايزه تستعمله مش أكتر، قال لك يا واد خدها من قصيرها باين الحكاية ما تستاهلشى، شوف قد إيه مآسى “التـَّـرْك” – مع إنه كان من ناحيته هوَّا- نط له من بدرى ازاى.
كل ده يا ابنى مش قصص مسلسلات، ده حاصل على خلفية بيولوجية مهمة جدا ظهرت فى أشكال مختلفة فى عيلته زى ما انت قلت لنا، وهما بصراحة كانوا جدعان حـَـكـُـولـَـكْ على كل حاجة، والحكاية مش قاصرة على الأمراض اللى ظهرت فى العيلة، دى عيلة زى دى، السليم فيها بتبقى شخصيته وتأثيرها من أصعب ما يمكن سواء تأثيرها المباشر أو غير المباشر
ثم إنها عيلة مستورة ماديا زى ما بتقول، وبتقول إن كل أفرادها بيتعشوا مع بعض كل ليلة، يعنى حاجة شعبية طيبة، بيقولوا عليها فى بلاد برّه: “احتفالية اجتماعية”، ومع ذلك ما حدش شاف حد كفاية، وبالذات ياسين، مش ملاحظ إن ولا واحد فيهم كمـّـل تعليمه، برضه حاجة عايزة بحث
د.عدلى: آه، هو الوحيد اللى فى إخواته بيفك الخط،
د. يحيى: طيب نشوف العيان بقى وربنا يستر.
المقابلة مع المريض
د. يحيى: أهلاً إزيك يا ياسين
ياسين: الله يسلمك
د.يحيى: صباح الخير، أنا مابسمعش عشان سِنـِّى، ولابس سماعه زى ما أنت شايف وحاجات كده، حاتحترم ده ولا لأه
ياسين: أيوه
د.يحيى: تتكلم بحس عالى شوية، صباح الخير
ياسين: صباح النور
د.يحيى: إنت عرفت اسمى منين
ياسين: أيوه، الدكتور عدلى قال لى إنك حاتقابلنى
د.يحيى: قالك حاتقابلنى ليه؟
ياسين: مش عارف
د.يحيى: طيب أنا شايفك عمال تبص للكاميرا وده حقك فلازم أشرح لك: أنا دكتور كبير شوية، خـُـوجـَـه، يعنى مدرس، ودول زملاتى واولادى وبناتى، وبعد ما سمعنا حكايتك من الدكتور عدلى، بنقابلك بناخذ وندى مع بعض عشان نعرف حالتك أحسن، وفى نفس الوقت بـِـنـْـسـَـجـِّل كل ده مش علشان التلفزيون بتاع البيوت، لأه علشان إذا حبينا نرجع لحاجه اختلفنا عليها، أو حاجة عايزين نتأكد منها علميـًّا، نقوم نرجع لها، وده غالبا بيصب فى مصلحة علاجك إنت واللى زيك، يعنى كشف، وعلم ، وتعليم، فابـِـنـْـصور ولازم ناخد إذنك، واضح؟
ياسين: واضح
د.يحيى: أنا باخد إذنك فى حاجتين: إن إحنا نتكلم قدَّام الناس دول اللى انت ما تعرفهمش كلهم، وإن إحنا نصور للعلم والتعليم، واللى عايز تقفّل عليه، وما نتكلمش فيه، تشاورْ لى، راح”أسكتْ” على طول واتنقل لحاجة ثانية، الأمر متروك لك، إحنا حانعمل اللى انت عايزه زى ما انت عايز، موافق؟
ياسين: ماشى
د.يحيى: طيب الدكتور عدلى حكى لنا اللى إنت حكيته له، وفيه حاجات كويسه جداً مشرِّفه لك، يعنى كفاحك وتاريخك وأظن أخوك قال جمله جميله جداً إنك إنت “أجدع واحد فى إخواتك” حاجه زى كده، هوه قال إيه يا عدلى بالظبط
د.عدلى: قال أكتر واحد عاقل فينا
د.يحيى: آه “أكتر واحد عاقل” جملة محترمة وصح، فلما بيبقى أكتر واحد عاقل فى إخواته بينكسر أو يتوجع زى ما حصل لك كده، الناس كلها بتتعاطف معاه مش كده.
ياسين: أيوه
د.يحيى: وبرضه الدكتور عدلى لما حكى لنا شفنا وحدتك وآلامك، يعنى بتقول مثلاَ لما الست الوالده ربنا إفتكرها واسترد وديعته، بتقول “أول مرة أحس إنى أنا وحيد”، أو حاجه زى كده ممكن توصف لنا الموقف ده، (المريض تغرورق عيناه، الدكتور يحيى يكمل: ) أنا آسف، أنا فعلا آسف، بس انت جدع، ماتحملش هـَمّ، عاوز تدمّع دمّع، ماتحملش هـَمّ: أنا أبوك يابنى
ياسين: ( تنزل الدموع)
د.يحيى: أنا مش عاوز أقلّب عليك المواجع يا ياسين يا ابنى على الصبح يافتاح ياعليم، أنا باتكلم بس على الموقف عشان أقرّب منك، يمكن تشعر إنك مش لوحدك بعد وفاة المرحومة
ياسين: أيوه
د.يحيى: الدكتور عدلى قال لنا على حنـّيتها وعلى قربك منها وعلى إنها عوضتك، ويمكن عوضتكوا كلكوا، قسوة أبوك ،…، معلشى
ياسين: هو الأب أساساً عصبى
د.يحيى: هو الدكتور عدلى قال لنا على كل ده برضه
ياسين: أيوه
د.يحيى: أنا باتكلم على كلامك اللى لمسنى قوى لما قلت ” أول مرة أحس إنى أنا وحيد”
ياسين: صح أنا والدتى لما كنت باخلّص شغل ولا كان فيه أى مشكله كنت باحكى لها، يعنى بعد ما أقفل الورشة كنت باحكيلها على اللى عندى ( يبكى بصوت منخفض، ينشج)
د.يحيى: وكانت بتسمع، بتعرف تسمعك كويس؟
ياسين: وكانت تسمع آه
د.يحيى: وكانت بتـُشورْ عليك ، ولا بتسمع بس
ياسين: لأه تسمع وتقولى فوّت، ومش عارف إيه
د.يحيى: فوّت!
ياسين: لما كنت باخلص شغل كانت هى إيه القلب الحنيـّن
د.يحيى: طيب، ربنا يصبرك، ياللا بقى عشان نكمل، أنا آسف، لأن فيه حاجات زى كده معلشى يا ياسين يابنى حانقولها، ويمكن توجع برضه ، فامعلشى سامحنى علشان بالشكل ده يمكن نتعرف أكتر، أنا أعرفك، وانت تعرفنى، نعمل حاجة تخفف عنّك.
ياسين: ماشى
المشاركة هنا هى أقرب إلى المواجدة Empathy وليست الشفقة Sympothy مما يسهل التعرف المتبادل “أنا أعرفك وأنت تعرفنى” ومن ثم المشاركة: “نعمل حاجة”.
د.يحيى: هما منطقتين اللى شاغـِلنـِّـى جامد
ياسين: ماشى عادى
د.يحيى: الأولانية: لما حاولت تلعب مع العيال الكورة فى الشارع وإنت عندك 5 أو 6 أو 7 سنين والمنطقة التانيه البـِـنيّة اللى انت شكّيت إنها كلمت جارهم ديه، قصدى الخطيبه الأولانيه، فالمنطقتين دول بيوجعوا أوى بصراحة
ياسين: أنا أساساً…. (يسكت فجأة ولا يكمل)
د.يحيى: لأه، واحدة واحدة، ولا يهمك، أنا مش مستعجل حانمسك مين فيهم الأول؟
ياسين: البنت
د.يحيى: ليه ما نمسكش الكورة والعيال مش ديه كانت قبل دى، كنت أصغر.
ياسين: آه
د.يحيى: آه إيه؟
ياسين: ماشى بس أنا حاكيلك حاجه حاجه
د.يحيى: طيب ما الحاجه الأولانيه أولانيه والتانيه تانيه
ياسين: حكاية الكورة ديه لما كنت باحط فى دماغى إنى أنا أجرى زى العيال كنت أحب أجرى زيهم وألعب كورة كده،…ساعتها على طول تانى يوم أحلم بحلم إنى أنا باطير
د.يحيى: إنك إيه؟.. بتطير ؟
ياسين: آه، يعنى أمسك حاجه كده، اعملها كده وكده، (يشير بيديه وكأنه يمسك بعجلة قيادة) أحس إنى أنا بطير، وباجرى
د.يحيى: ياخبر!!، ربنا يخليك ياابنى
ياسين: آه
د.يحيى: فاكر الحلم بالوضوح ده ياحبيبى !
ياسين: وافرح
د.يحيى: وتفرح ؟
ياسين: وأفرح واحس إن أنا باقوم من النوم باحس إنى أنا مفيش حاجه
د.يحيى: كان عندك كام سنة
ياسين: يعنى وأنا فى سنة خامسة أو ساته
د.يحيى: ياااااه يعنى حداشر أو اتناشر سنة
ياسين: آه ولحد وقتنا هذا، يعنى من قيمة سنتين كنت باحلم الحلم ده يعنى كنت باحلم إنى عاوز أجرى ألعب كورة
د.يحيى: يا خبر! لحد دلوقتى ؟ طيب، واحدة واحدة، حانمسك مين فيهم الأول ؟
ياسين: البنت.
د.يحيى: ليه مانمسكش الكورة والعيال الأول، مش دى كانت قبل دى، زى ما قلنا ما هو الحكاية باينّـها من ساعة ما كنت صغيـّـر، مش كده؟.
ياسين: آه.
د.يحيى: آه إيه؟.
ياسين: ماشى، بس أنا حاكيلك حاجة حاجة.
د.يحيى: طيب ما الحاجة الأوّلانية أوّلانية، والتانية تانية
تفضيل ياسين أن يبدأ بالحكى عن فسخ الخطبة قد يدل على أن خبرة الإعاقة طفلا هى أقل قسوة وإيلاما، ففى الخبرة التالية هو الذى فسخ الخطبة، أما الخبرة الأولى كما سنرى، فهم (أقرانه أو الناس) هم الذين أزاحوه جانبا، أو أشفقوا عليه “من فوق”، وقد يشير ذلك إلى أن القسوة من الداخل قد تكون أهم (عكس الشائع).
ياسين: حكاية الكورة ديه لما كنت باحط فى دماغى إنى أنا أجرى زى العيال كنت أحب أجرى زيهم وألعب كورة وكده،… ساعتها على طول تانى يوم أحلم بحلم إنى أنا بطير زى ما قلت لك
د.يحيى: إنك بتطير؟!
بالرغم مما يبدو أن هذا الحلم هو من النوع التعويضى المباشر، أو “تحقيق الرغبة” إلا أن جرعة التشكيل فيه لها دلالة خاصة، وبالرغم من أن قبل هذا الحلم قد يتشكل بسرعة فائقة فى ثانية أو جزء منها أو بضع ثوان قبيل وأثناء، لكنه يـُـحكى على أنه قد حدث فى زمن ممتد.([9])
ياسين: (يكمل) آه يعنى أمسك حاجة كده، اعملها كده وكده، (يشير بيديه وكأنه يقود) أحس إنى أنا بطير، وباجرى
د.يحيى: ياخبر!!، وبعدين؟
ياسين: آه
د.يحيى: إزاى إنت فاكر الحلم بالوضوح ده ياحبيبى!
ياسين: وافرحْ
د.يحيى: وتفرحْ!؟
ياسين: وأفرح واحس إن وانا باقوم من النوم باحس إنى أنا مافياش حاجة.
د.يحيى: كان عندك كام سنة؟ انت قلت، بس أنا عايز أتأكد
ياسين: يعنى وأنا فى سنة خامسة أو ساتّه
يبدو أن الحلم التعويضى، والتصحيحى، له فائدة نافعة ولو بعض الوقت، وهو هنا لا يكتفى بتجاوز الإعاقة بالجرى، بل بالطيران (مع التذكرة بأن الطيران قد يستغنى عن حركة الأطراف جميعا)، هذا بالإضافة إلى الأثر التعويضى الواضح الممتد إلى ما بعد الحلم حتى “الفرحة”.
د.يحيى: يعنى عشرة احداشر سنة؟
ياسين: آه ولحد وقتنا هذا، يعنى من قيمة سنتين كنت باحلم الحلم ده، يعنى كنت باحلم إنى عاوز أجرى ألعب كورة
نلاحظ أن الحلم تغير برغم أن أصل موضوع الإحباط المثير واحد “لعب الكرة”. حين كان طفلا كان يحلم فى نفس الليلة تقريبا حين يعجز أن يلعب أو يرفض، كان يحلم بأحلام الطيران، لكن يبدو أنه فى سن 31 (منذ سنتين) فقط قد عاودته الرغبة البسيطة الأولى للانطلاق فى الحلم، بمجرد الرغبة فى اللعب، لكنه هنا سمح لنفسه بالعوزان: يحلم بأنه “عاوز العب كورة”، بديلا عن تحقيق الطيران فعلا، وكأن رغبته فى أن يلعب كرة مثله مثل أقرانه كُبتت ولم تمت حتى ظهرت بعد ربع قرنٍ فى الحلم كمجرد الرغبة فى ذلك ولن أتطرق إلى المغزى المحتمل للفرق، هناك فرق!! بين حلمه أنه “يلعب كورة”، ثم أنه “يطير” ثم أنه “عاوز يلعب كورة؟!
د.يحيى: تصور يا ياسين يا ابنى إن ساعات النفساويين يشوفوا فى أحلام الطيران دى كلام أباحه، الظاهر ماخدوش بالهم إن فيه ناس بيلعبوا كورة ورجليهم واجعاهم
ياسين: … بس إيه، فى نفس الوقت بيصعب عليا وأنا بازُكّ، يعنى إيه مابرضاش ألعب كورة علشان إيه .. مافيش حد يضحك عليا.
د. يحيى: ده فى الحلم ولاّ فى العلم
ياسين: فى الاثنين
د.يحيى: ما بترضاش، بس بتبقى عايز، مش كده؟ طب ده فى سن عشر سنين وانت فى سنة خامسة تقريبا، طيب، طب والعيال لما كانوا بيلعبوا، وكنت انت تتفرج عليهم من بعيد….؟؟؟
ياسين: أنا كان صحابى بيلعبوا كورة فى الوقت ده، فى أى وقت كنت باحب أجرى زييهم فين وفين لما يشركونى معاهم
د.يحيى: يشركوك إيه، كنت بتقف جون مثلاً.
أعتقد أن هذا السؤال من الطبيب – أنا– هو سؤال سخيف هنا، والأرجح أننى تصورت أن حارس المرمى يتحرك أقل، ناسيا أنه يحتاج لحركة ولمرونة واندفاعت أدق توقيتا وأسرع مبادرة، ويبدو أن هذا الخطأ فى التقدير ورد أيضا لأقران ياسين حين سمحوا له أن يشاركهم بأن يقف حارس مرمى فقاسى أكثر، كما جاء فى جوابه.
ياسين: كنت اقف جون وكنت ماباعرفش أدافع بالكورة كنت باحطّ فى نفسى، وتانى يوم كنت باحلم إنى باجرى وأقوم من النوم على أساس إن مفيش حاجة.
وظيفة الحلم هنا تكررت ليس فقط من حيث التعويض ولكن بالإنكار أيضا: “إن مافيش حاجة”(لاحظ أنه لم يذكر “الفرحة” هذه المرة)
د.يحيى: طيب، كل ده بس بالنسبة للكورة ولعب الكورة؟
ياسين: مش شرط الكورة يعنى، واحد ضايقنى وعارف نقطة ضعفى إيه إنى أنا مش حاعرف أجرى
د.يحيى: آه
ياسين: ماشى، بس لو أنا مسكته وانا واقف حاعـَـفْرتـُه
د.يحيى: (يشير إلى عضلات ساعديه) باين كده، قدّها وقدود
ياسين: حافشّ غِـلّى فيه، آه، ماهو أصله عارف نقطة ضعفى وبيضايقنى وبيجرى، فالحتة دي بتحزّ فيّـا أوى
د.يحيى: أنا باحاول أتصور موقفك، وبصراحة باحترم قدرتك على المواجهة
ياسين: إنت فاهم كلامى؟
د.يحيى: آه فاهم، وحاسس كمان
ياسين: أيوه
د.يحيى: … حاجة صعبة يا ياسين يابنى، تقوم إنت تعمل إيه بقى لما يحصل كده لما حد منهم يغيظك ويضايقك ويجرى، علشان عارف إنك إنت مش حاتحصله، تقوم إنت تعمل إيه بقى؟
ياسين: باستنّاه، بادّيله إنى أنا مافيش حاجه من ناحيتى خالص
د.يحيى: هل بتروح لاغى الغضب بقى ولا بتأجل الغضب راخرَ
ياسين: يعنى ….، لمّا ما اقدرشى، أقوم ساعتها انسى وانبسط وخلاص، وأبتدى أعامله بحنـّيه، بس لو مسكته ماسيبهوش، يعنى مرة كان فيه واحد قبل كده إيه، قال لى “يا اعرج” وعرف نقطة ضعفى وجرى، أنا سيبته يجرى مطرح مايجرى، بس حسيت إن هو إيه ييجى فى حته معينة وحايمشى عادى، وفعلاً مشى ببطء، بعد كده رحت مسكته إديته قلمين، نسيتُه نفْسُه
د.يحيى: والله قدّها وقدود، كان عندك كام سنة ساعتها، ومسكته فين؟
ياسين: كان برضه فى سنة ساتّه أو فى سنة خامسة، جه كان ماشى فى ممر كده فى شارعنا
د.يحيى: وكان جسمك مليان وشديد كده ساعتها أوى زى دلوقتى
ياسين: لأه
د.يحيى: إمال ازاى قدرت عليه؟
ياسين: غـِلّ بقى، أنا فيا نوع من الغل شوية
د.يحيى: عندك حق
ياسين: لما بيكون فيه حد بيضايقنى ماباعرفش أمسكه ولاّ ماعرفش أجيبه، باحطّ فى نفسى
د.يحيى: عندك حق، بس إنت قلت حاجه كده قبل ده، قبل حكاية إنك مسكت الواد ده وإديته قلمين نسيته نفسه
ياسين: بقى يشوفنى يخاف منى
د.يحيى: إنت قلت إنك إنت لما ما تقدرش تعمل كده تريح بقى وتنبسط وخلاص، أنا فاكر حاجة كده
ياسين: ما هو مش كله بقى يعنى
د.يحيى: إنت قلت ألفاظ معينة مهمة بس أنا مش حافظها دلوقتى، أظن قلت: إنك بتنسى وتريّح لما تلاقى نفسك مش قادر
ياسين: آه، بس أحط فى دماغى
د.يحيى: جوه جوه ؟
ياسين: آه
د.يحيى: تروح نايم وحلمان بالطيران برضه؟ ولاّ الطيران بس فى الكورة ؟
ياسين: لأه باحط فى دماغى ما أحلمش بيه، ومرة كنت قبل كده كنت لابس جزمه طبية
د.يحيى: برضه فى سنة 5 ابتدائى؟
ياسين: لأه فى سنة أولى إعدادى مدرسة أبو بكر الصديق
د.يحيى: ماشى
ياسين: فيه واد كان بيعايب عليا، وأنا كنت لابس الجهاز وكان يقعد يناقر فيّا، ويعايب عليّا، قلت سيبه، فى يوم من الأيام حاجيبه، مرة ماشى شفته، اتداريت وخليته ماشى بالعجلة رحت مكعبله، وإصطدته بقى فى حته مقطوعه كلها زراعة اللى جنب مساكن الجامعة، ماسيبتهوش، وافتريت فيه.
د.يحيى: كان عنده كام سنة ؟
ياسين: كان من دورى، كان ساعتها فى أولى إعدادى أخذنا سنة 6 وطلعنا أولى إعدادى
د.يحيى: هو زودها فى قولة “يا أعرج” دى، دا قليل الأدب؟
ياسين: لأ، هو مش قليل الأدب
د.يحيى: يعنى إيه “يا اعرج” دي، هو إنت اللى عرّجت نفسك
ياسين: لأه مش أنا، ربنا سبحانه وتعالى، بس إيه ممكن يجمعنا كلنا سُلام
د.يحيى: تصور الدكاترة دول يمكن مش فاهمين الحكايه دى، إزاى يجمعنا كلنا سُلام ؟
ياسين: يعنى مثلاً ممكن ربنا سبحانه وتعالى يجمعنا سُلام
د.يحيى: يجمعنا سُلام ولا يجعلنا سُلام؟
ياسين: يجعلنا سُلام
د.يحيى: أنا آسف، عشان ودانى، يجعلنا سُلام، إمال إيه اللى حصل؟
ياسين: آه علشان الواحد يشوف الحلو والوحش
د.يحيى: بس انتَ واد جدع، طول عمرك جدع، سيبك انتَ
ياسين: الله يخليك
د.يحيى: إمال إيه بقى اللى جرى، خِبتْ كده ليه
ياسين: مش عارف، أنا خيبت لما أمى اتوفت، ماباقيتش مجمّع أى حاجه خالص لدرجة إنى ممكن أقول كلام وحش على نفسى، والناس تعلق عليّا .
تعبير “خِبْت ليه” يعلن موقف الطبيب من اعتبار اختيار “الحل المرضى” هزيمة بشكلٍ ما، حتى لو كان هو الممكن فى لحظة معينة، أما اعتراف ياسين بهذه السهولة بأنها فعلاً خيبة فهو من ناحية تأكيد لفرض “اختيار المرض”، ومن ناحية أخرى شجاعة من المريض، ودرجة جيدة من البصيرة التى قد تعينه فى العلاج، ثم إن ربط ذلك بوفاة الوالدة يؤكد ما ذهبنا إليه سابقا:
د.يحيى: يبقى كده بقى علاقتك بربنا مهزوزه شوية، لامؤاخذه يعنى، ماتزعلش منى
ياسين: لأه مافيش حاجه
د.يحيى: قصدى يعنى بالنسبة لوفاة المرحومة: يعنى ربنا موجود واسترد وديعته، مش نسلـّـم أحسن
ياسين: حضرتك عاوز تقول إيه ؟
د.يحيى: عاوز اقول إن بالنسبة للمرحومة الوالدة الاعمار بيد الله
ياسين: آه،… بس يعنى إيه استرد وديعته ؟
د.يحيى: يعنى إحنا ودايع، هو اللى جابنا وهو اللى يأخذنا، مش إحنا ملكُه برضه، وقت لما يقرر ياخذنا ياخدنا، حانقول له بتعمل كده ليه ؟
ياسين: لأه
د.يحيى: طيب يا اخى إمال إيه ؟
ياسين: اصل والدتى كانت حنونه مش قادر اقولك قد إيه…….(حكى حكاية طويلة نسبيا كيف أنه حين نـَـزَفَ دما فى مستشفى الصدر، وضعت أمه يدها على صدره فتوقف الدم)
د.يحيى: والنبى الله يخليك أنا خايف أكمل معاك يا ياسين تتألم أكتر من كده
ياسين: عادى
د.يحيى: إحنا اتكلمنا فى الكورة والعيال، والتفويت، والصعبانية، والانتقام والحاجات دى مش كده، دى المنطقة الأولانية، وقلت لك إنها مؤلمة، وفعلا طلعت مؤلمة، المنطقه التانية بقى اللى هى يمكن مؤلمة يمكن أكتر، هى اللى كنت حاتبتدى انت بيها، حكاية البنت الحلوه الصغيرة اللى انت كنت خاطبها وبعدين سبتها، وهى اتجوزت بعد شهرين مـِنْ لمـّا سيبتها
ياسين: بنت مين ؟
د.يحيى: الخطيبة الأولانية
ياسين: آه، دى إتجوزت خلاص
د.يحيى: هى اتجوزت الواد اللى كانت بتكلمه قدام الدكان، ولا اتجوزت واحد تانى
ياسين: دكان إيه ؟
د.يحيى: إستنى بس، إنت قعدت خاطبها كام سنة
ياسين: مش كام سنة، مفيش أشهر
د.يحيى: كام شهر؟
ياسين: يعنى بتاع ثلاث شهور ولا شهرين، حاجه كده
د.يحيى: هوا صحيح انت سيبتهاعلشان فرق السن
ياسين: أيوه، علشان فرق السن
د.يحيى: إنت مصدق نفسك؟
ياسين: أنا ماعرفتش فرق السن إلا بعد ماسيبتها، وندمت
يبدو هنا أنه فضّل عدم إعادة حكى الموقف المثير للغيرة، وربما يدل ذلك على أن الألم، المتسبب فى “فسخ الخطوبة” مازال قائما (ولو لا شعوريا).
د.يحيى: ماعرفتش فرق السن إلا بعد ماسيبتها!! يبقى سيبتها علشان سبب تانى
ياسين: هو حكاية السن ماكنتش السبب قوى يعنى
د.يحيى: إمال سيبتها ليه؟ علشان كلمت الواد ده وضحكت معاه
ياسين: كانت رايحة تشترى حاجه من البقال وبعدين سمعت انا صوت عالى، بابص على الصوت العالى لاقيتها هى
د.يحيى: ما هى لازم تكلمه بصوت عالى يا أخى، إمال يعنى حاتوشوشه ؟ الله!!
ياسين: لأه، دى كانت بتضحك وهى بتكلمه
د.يحيى: يعنى انت كنت عايزها تعيط ؟
ياسين: لا الضحك كان عالى
د.يحيى: إزاى يعنى؟
ياسين: الساعه تسعة بالليل واحده تضحك بصوت عالى، واحدة بتضحك مع البقال وتلتفت على مين اللى بيضحك بصوت عالى، تلاقيها خطيبتك!!
د.يحيى: يمكن بتضحك بصوت عالى علشان يديها شوية زتون زياده
ياسين: لأه لأه معنديش أنا كده
د.يحيى: يا راجل.. أنا باهـزّر!! البنت دى كانت بتحبك، وانت اللى قايل كده بعضمة لسانك
ياسين: هى كانت بتحبنى آه، بس أنا لما لقيت الوضع كده صرفت نظر
د.يحيى: اقول لك على حاجة يا ياسين وصلتنى من كلامك كده وماتزعلش
ياسين: آه
د.يحيى: هى كانت بتحبك أكتر ما كنت انت بتحبها
ياسين: هى فعلاً كانت بتحبنى أكتر
د.يحيى: عرفت منين؟ إنت عرفت منين؟
ياسين: هى اللى كانت بتقول لى
د.يحيى: ومن غير قوالة، طيب بتكذّبها ليه؟ هى حاتكذب عليك ليه؟ إوعى تكون فاكر إنها كانت بتحبك صُعبانية، أنا حاسس إنه كان حب بحق وحقيقى
ياسين: ما أنا بقول لك كانت بتحبنى
د.يحيى: أنا قلت لك يا ياسين يا ابنى حانقول كلام يمكن يوجع
ياسين: حصل
د.يحيى: يا ياسين يابنى، إنت كده غلطان يا ياسين، الحب من النوع ده نادر، دا نعمة ربنا
ياسين: نعمة ربنا !!! خلاص ما دام إنت شايف كده، بس أهو ده اللى حصل
د.يحيى: يا راجل انت غـلـّبت الشك على النعمة، حرام عليك فى حق نفسك، معلشى حصل خير، بس نتعلم، ده قسمه ونصيب
ياسين: آه قسمة ونصيب
د.يحيى: بس نتعلم وتفتكر إنها كانت بتحبك، وتدعيلها
ياسين: هى كانت بتقول إنها كانت بتحبنى آه
د.يحيى: إيه اللى “بتقول” !! هى كانت بتحبك فعلا، هى حاتكذب ليه يعنى!؟
ياسين: ماشى، مش حاتكذب، بس ما هو كل واحد راح لحاله
د.يحيى: إنت عارف إنت سيبتها ليه؟ حاقولك كلمة صعبة بس هى علم بقى، ما انا دكتور وبتجيلى أفكار عشان نفهم سوا، يمكن صح
ياسين: آه
د.يحيى: إنت سبتها علشان كانت بتحبك، خفت من الحب ده
ياسين: لأه
اعتراف المريض حتى الآن (أثناء المقابلة) بصدق حب هذه الخطيبة الصغيرة (17 سنة) لم يهتز أبدا، لا بفسخ الخطوبة، ولا بزواجها بسرعة هكذا، وربما كان هذا ما دعانا إلى ترجيح فرض أنه تركها خوفا من الحب والاقتراب، جنبا إلى جنب مع إثارة الغيرة والشعور بالنقص والرعب من المنافسة، لكن رفضه – الآن- هذا التفسير الأصعب هو متوقع طبعاً.
د.يحيى: ما أنا عارف إنه “لأه”، عارف إنك حاتقول لأه، بس فوِّتها، فوت لى شويه، بس خلى بالك أنا مابافوِّتلكش، والله واخد كل كلمة جد، تاخد انت برضه كلامى، يمكن صح، هوه ينفع إن واحد يسيب حد علشان الحد ده بيحبه؟، مش ملاحظ إن الكلام ده كلام زى ما يكون بالشقلوب؟
ياسين: أنا قلت لحضرتك أنا لما شفتها بتتكلم مع البقال صرفت نظر
د.يحيى: واحده بتحبك، وطيّبه، وصغيرة، وحلوة، وعاوزاك، الدنيا اتهدّت لما كلمت البقال؟
ياسين: الساعه تسعة بالليل وتضحك ؟!
د.يحيى: الساعه تسعة بالليل، إيه يعنى ماهى بتضحك قدام الناس كلها، عايزها تعيط، مش أحسن ماتكون كذابه ومنافقه
اكتشفت أن وضع الفروض دون النظريات التفسيرية الصعبة هكذا مباشرة أمام كثير من المرضى هو أقرب السبل للتواصل، وعادة ما يقبلها المريض – ليس إيحاءاً – أكثر مما يفعل كثير من الأطباء والأهل.
ياسين: ماعنديش أنا كده
د.يحيى: طيب خليك فى اللى عندك
ياسين: لما ربنا يأذن
د.يحيى: حايأذن إزاى من غير ماتفتـَّح مخك وقلبك وتتعلم من اللى فات
ياسين: ما أنا اتعلمت
د.يحيى: إتعلمت إيه يا شيخ؟ دا الظاهر إنك اتعلمت إنك تشك أكتر وتسيب التانيه بعد إسبوعين مش ده اللى حصل؟
ياسين: التانية حاجة تانية، أنا سبتها من الأول، من غير حاجة،… قوام قوام.
د.يحيى: أديك استسهلت تسيب وتعيش ناشف لحد ماتنكسر، بعدين تجرى علينا، يا نقدر يا ما نقدرش، احنا حانجتهد سوا سوا، بس على الله ما تزرجنش وتقف وتوقفنا معاك
ياسين: ما هو كل حاجه بتاعة ربنا
د.يحيى: يا راجل حرام عليك كده تلزق فى ربنا الحاجات اللى ” مش هيا”، ربنا خلقنا علشان نعيش مع بعضينا ياشيخ
ربما بدا هذا التحدى والاثارة من الطبيب فيه بعض التنبيه القاسى، لكن لعل المقصود به هو تعميق جرعة الواقع جنبا إلى جنب مع الإشارة إلى المشاركة والمواكبة فى رأب الصدع للبدء من جديد، ثم إن اللجوء إلى التسليم بقضاء الله مع مواصلة الفعل هو من أهم ما يميز إيجابيات الدين الشعبى لدينا خاصة.
ياسين: ..أنا لما حاشوف بنات عشان اخطب تانى، حاشرّط ماتطلعش بره الشارع
د.يحيى: يابن الحلال خليها فى سرك، خلى الطريق مستور، ماتطلعش بره الشارع إيه وبتاع إيه، دى إهانة، ما انت عارف، مش التانية كانت منقبة، يا راجل خليها فى سرك
ياسين: يعنى
د.يحيى: المهم، أهى البنية الأولانية اتجوزت، والتانية انت فرقعتها قوام قوام، وادى احنا زى ما انت شايف، أنا عارف أنا عمال أقلـّب فى مواجع وخايف عليك، لكن قول لى، هو فيه حد حبك غيرها، بعد أمك طبعا؟
الخطيبة الثانية لم تمثل له موضوعاً أصلاً، والأرجح أن هناك ما يفسر قبولها به وهى تحمل “بكالوريوس” وهو لا يحمل الإعدادية، وهى منقبة وليست جميلة غالبا، ولم يصلنا بشكل مباشر مغزى قبولها هذا الفرق فى التعليم، وفى هذه الظروف، علما بأن كلاًّ من المقابلة والمشاهدة لم تتطرق إلى استقصاء أكثر من ظاهر هذا الحدث.
ياسين: لأه
د.يحيى: أنا مش قصدى ستات بس، أنا قصدى أى حد: ستات أو رجالة
ياسين: واحد صاحبى
د.يحيى: واحد صاحبك!، طيب، فين هو دلوقتى
ياسين: كان شغال فى دار للأيتام
د.يحيى: لسه صاحبك
ياسين: آه، ما هو إتجوز
د.يحيى: ولما إتجوز لسه بيحبك زى زمان؟ زى قبل ما يتجوز؟
ياسين: ده أصله مش صاحب، ده أخ
د.يحيى: ماشى بس برضه هوّا لسه بيحبك زى قبل ما يتجوز
ياسين: إحنا الإثنين يعنى، قصدى يعنى، بنستريح لبعض يعنى فى الأسرار
د.يحيى: بصراحة عندك حق، هو ده من علامات الحب والصحوبية برضه
ياسين: كل واحد عنده صاحب بيحكى له على سره
د.يحيى: صح، إيه السر بقى اللى ماقلتهوش للدكتور عدلى وقولته لصاحبك، أنا بيتهيألى فيه سر إنت ماقولتهوش للدكتور عدلى وقلته لصاحبك
ياسين: لأه
د.يحيى: ياراجل ؟!!
ياسين: سر إيه ؟
د.يحيى: والله ماعرف، أهوه كلام….
(فترة صمت)
مش عاوز تسالنى فى حاجه أنا يا ياسين، فى حالتك، أو فى غير حالتك إسألنى فى أى حاجة
ياسين: أنا مش عارف حالتى إيه الصراحة
التلويح بأن هناك ما لم يُقَل، دون الإلحاح فى البحث عنه، يوثق العلاقة مع الطبيب، لأنه يرجح احتمال قبول الأماكن المجهولة لكل من الطرفين، وهذا – فى رأيى – يتيح جرعة أصدق من السماح، وهى تصل للمريض عادة، وتـُـنـُـشـِّـط الحوار فى المعلوم، جنبا إلى جنب مع احترام المجهول حتى لو لم ينكشف، لكنه تتعتع.
د.يحيى: عندك حالة نفسية، حاتفرق إيه لما تعرف إسمها، المهم ربنا موجود، وانت واد جدع، واتكسرتْ، بس حاتقوم بالسلامة، بفضل ربنا والعلم وكفاحك طول عمرك، وبفضل الجدعنة اللى حانحاولها سوا سوا، يمكن تنفع؟
ياسين: هوا إيه اللى تنفع ؟
د.يحيى: اللى أنا قلته؟
ياسين: أنا بقولك يادكتور أنا عصبى لدرجة باقول حاجات وحشه على نفسى والناس علقت عليها من ساعة ما أمى اتوفت ، بقيت عامل زى التايه
د.يحيى: تايه؟ ولا يتيم؟ ولا وحيد؟ إنت بتقول شعرت بالوحده، هى الوحدة توهان
ياسين: هى وحده، وتوهان، فى نفس الوقت
د.يحيى: إوصف لنا التوهان شويه، الوحدة يمكن عارفينها شوية، إنما التوهان أشكال وألوان
ياسين: يعنى مابقتش مركِّز فى حاجه، بقيت أحس إنى أنا تايه توهان
د.يحيى: يعنى إيه توهان الكلمة دى كبيره شوية
ياسين: ماعرفشى، أهو توهان بقى..، مش مركـّز فى حاجة
عادة يحدث المرض الذى بهذه الجسامة والزخْم فى وعى مختلف نسبيا ونوعياً عن حالة الوعى العادى، والمريض قد يلحظ ذلك ويعلن عنه خاصة فى بداية المرض، وربما هذا هو ما جعل “ياسين” يشعر باختلاف نوعى هو الذى يسميه: “توهان” وهو أمر قد لا يرصده الفاحص، حيث لا يظهر على المريض فى صورة سلوك محدد، ربما يكون أقرب إلى ما يسمى “البداية الحلمية” Oneroid anset وهى التى تعنى أن المريض خاصة فى بداية العملية الذهانية والنقلة إلى وعى آخر أو التداخل مع وعى آخر هو ما يجعله يحكى عن ما يحدث بأنه يحدث فى وساد وعى مختلف عن ما اعتاده وأحيانا يصف أنه أقرب إلى الحلم، وأحيانا يشكو من “توهان” غامض…الخ.
د.يحيى: يعنى إيه يا ابنى
ياسين: ماعرفشى، قبل كده قمت من النوم وقمت طلعت فوق لجارى وقلت له عايز محمد، عايز ابراهيم، وما كانشى قصدى.
د.يحيى: محمد وإبراهيم دول مين؟ جيرانك؟
(صمت.. ثم:)
ياسين: أنا باتمنى من ربنا إنه هو يأخذنى
هذا الحدث يبدو أقرب إلى الانشقاق Dissociation الذى حدث سابقا ثم تكرر لاحقاً، وهو يشير إلى تغير الوعى بشكل جامع، وليس إلى إدراك حقيقة أنه فى وعى آخر أقرب إلى الحلم مثلما يحدث فى بدائة الذهان، ثم إن تحريك هذه الخبرة أثناء المقابلة لهذه الدرجة هو مثير للألم المسئول عن التفكيك بالمرض، لكن هذا النوع من المقابلة يسمح بالألم مع المشاركة والاحتواء فى نفس الوقت، الأمر الذى يحول دون الاسراع باستعمال الدفاعات، فيزيد الألم، ومن هنا قد نفهم رد ياسين بتمنى الموت فى مواجهة ألم لا يحتمل.
ياسين: أنا باتمنى من ربنا إنه هو ياخدنى
د.يحيى: لأه بلاش
ياسين: علشان أستريح
د.يحيى: لأه بلاش
ياسين: والله العظيم
د.يحيى: لأه بلاش، أديك طول ما انت عايش يابتستغفر، يا بتزوّد حسناتك، خليك قاعد لحد سبحانه وتعالى ما يعملها بمعرفته، وادى احنا مع بعض
ياسين: أنا زهقت من الدنيا خالص
د.يحيى: ما تقولشى الكلام ده، يا راجل، …. الكلام ده حرام
ياسين: والله العظيم
د.يحيى: (ينظر فى ورق المشاهده: “الشيت”):طيب نيجى بقى للأصوات اللى إبتديت بيها. إنت بتقول (يقرأ من الأوراق): “باشوف واحد راجل يقعد يضحك وباشوف راجل لابس أبيض فى أبيض ييجى وأنا داخل فى النوم وبعدين ساعات أشوف راجل تانى يقعد يضحك، برضه وانا داخل فى النوم، يعنى باشوفه فى ثوانى وبابقى عاوز أزقه”
مش انت اللى قايل الكلام ده للدكتور عدلى ؟
ياسين: آه
هذه الخبرة هى أقرب إلى ما يسمى “هلوسات الوَسـَـن”، قبيل النوم، أو ما بين اليقظة والنوم Hypnagogic Hallucination، وهى من الناحية التشخيصية أقل دلالة على شدة المرض نحو الذهان، وهى قد تحدث للأسوياء، لكنها من الناحية التركيبية فى مثل هذه الحالات تـُعـَد بنفس الأهمية النفسمراضية أو أكثر أحيانا مما يسمى الهلوسات الباردة Cold Hallucination أى الهلوسات التى تحدث دون أى تغير فى حالة الوعى، وهذه الهلوسات كما يحكيها ياسين، يكاد يؤلفها المريض تأليفا، وهو ما يقابل “فرض: “إبداع الحلم” من حيث أنه إبداع بين النوم واليقظة([10])، وحين تصبح هذه الهلوسات محددة واضحة مفصلة سهلة الحكى هكذا: “لابس أبيض فى أبيض …إلخ” الخ، تكون أقرب إلى التشكيل التخيـّـلى منها إلى الهلوسات الإدراكية الباردة وهذا التشكيل الخيالى يتواصل فى حكى حوارات متكاملة مصنوعة.
د.يحيى: انت بتشوفه فى ثوان زى مابتقول، بس بتحكى إنه بيقولك كلام واضح وبالتفصيل
ياسين (يكمل): آه هو بيقول أنا مظلوم، ويقول لى إصحى
د.يحيى: منين أنا مظلوم، ومنين يوجه كلامه لك: إصحى؟ هوّا اللى بيتكلم ولاّ انت؟
ياسين: اللى حصل
د.يحيى: يعنى بيصحيك عشان تنقذه مثلا من الظلم؟
ياسين: لأه بيقول مظلوم علىّ انا
د.يحيى: يعنى بيقول بلسانك أنا مظلوم، وهو صوت بتسمعه انت بنفسك؟
شخوص الحلم، وشخوص الهلوسة هى أنوات (ذوات) أخرى، وهذا يفسر تداخل الضمائر بين “أنا” مظلوم (ضمير المتكلم) وهو هو الذى يأمر مخاطباً “إصحى” يشير إلى ترجيح ذلك. (ضمير المخاطَـبْ)
ياسين: آه
د.يحيى: بتسمعه فى ودنك زى صوتى كده؟
ياسين: لأه فى الحلم
د.يحيى: يعنى ده حلم ولا علم ؟ ماتلخبطنيش، اللى مكتوب أهه (يقرأ):
“ساعات أشوف واحد راجل تانى يقعد يضحك اشوفه لثوانى وأبقى عاوز أزقه لبعيد“، “…وساعات اسمع صوت لسه مادخلناش فى الحلم يقول أنا مظلوم برضه”، “…..وساعات وأنا نايم باحلم أحلام وحشه أصحى وانا بتمنى إن ربنا يأخذنى”
يعنى دلوقتى فيه ثلاث حاجات: اصوات بتسمعها وإنت داخل فى النوم، وأصوات بتسمعها وماحددتش إمتى، وحلم بتطلع منه بتتمنى تموت
ياسين: أيوه
د.يحيى: عاوزين نميز بين ده، وده، وده بقى
ياسين: ده كله حلم
إقرار ياسين أن هذا حلم ليس دليلا فى ذاته على أنه كذلك، حيث أن المرضى بهذه الدرجة من “الدراية”([11]) قد يعتبرون تلقائيا التغيير النوعى فى الوعى هو نوع من الحلم، وحقيقة الأمر أنهم غالبا على حق حتى لو لم يسموه كذلك، وياسين هنا قد أبدى التلقائية والمبادرة فى عرض أحواله وشكاواه، لدرجة تجعلنا نحترم ألفاظه دون السجن فى مضمونها العام أو حتى ترجمتها إلى المصطلح العلمى عندنا، أو معناها فى المعاجم، أو عند غالبية الناس.
د.يحيى: يعنى الأصوات اللى بتسمعها دى، بتسمعها وإنت قاعد زى ما انت قاعد معايا كده ؟
ياسين: وأنا قاعد فى الغرفه
د.يحيى: يعنى قاعد على حيلك لسه مانمتش
ياسين: فَاِرد نفسى، متصلطح
د.يحيى: قبل ماتفرد نفسك عاوزين الأصوات اللى بتسمعها وإنت قاعد على حيلك قبل ماتفرد نفسك، فيه ولا مفيش؟ قاعد على حيلك زى ما إنت قاعد قدامى، بس لوحدك فى الغرفه، ولا إيه بالظبط
تحديد وضع الجسم يساعد أحيانا فى التفرقة، فالنوم على السرير “فارد نفسى” (كما يصف نومه “متصلطح”) يستجلب نوعا من الوعى بين النوم واليقظة يختلف كثيرا عن الوضع جالسا أو واقفا.
ياسين: أنا مرة مش عارف كنت نازل فين دكتور من الدكاترة هنا كان واخدنى ومش عارف رايح فين، حسيت إن فيه حاجه واقفه قدامى
د.يحيى: يعنى وانت ماشى كمان؟ وهنا فى القسم؟ طيب خلينا دلوقتى فى الأصوات وانت قاعد على حيلك، مش مفرود عالسرير
ياسين: كنت قاعد زى كده
د.يحيى: طيب أدى واحدة، والتانية كنت فارد جسمك على السرير وحاتنام
ياسين: آه
د.يحيى: والتالته وانت ماشى مع الدكتور زى ما قلت دلوقتى، والرابعة فى النوم وبتحلم، صح كده؟ ولا أنا غلطان ؟ ميز لنا بقى ده بيقول إيه، وده بيقول إيه، وده بيقول إيه، وده شكله إيه، وده شكله إيه، وده شكله إيه؟ مين فيهم اللى أبيض فى أبيض، والكلام ده.
اختلاف أقوال ياسين يؤكد صدقه وليس العكس، لكنه فى نفس الوقت يُظهر عجزه النسبى عن التحديد، استجابة لأسئلة الفاحص.
ياسين: واحد لابس أبيض
د.يحيى: إستنى بس، ده بقى وانت ممدد ولا إنت بتحلم؟
ياسين: وأنا ممدد
د.يحيى: لسه مادخلتش فى النوم
ياسين: فارد نفسى
د.يحيى: فارد جسمك
ياسين: وطافى النور
د.يحيى: وطافى النور؟ طب وعنيك مغمضه ولا مفتحه؟
ياسين: مفتحه
د.يحيى: طيب إزاى طافى النور وعرفت إنه أبيض فى أبيض طيب مايمكن بنفسجى
ياسين: حاجه طلعت كده قدامى، واحد أبيض، ماعْرفش أنا إيه ده
د.يحيى: ما يمكن حلم
ياسين: لأه ده وأنا فارد نفسى مش نايم
د.يحيى: وأنا إيش عرفنى، ما يمكن عينيك غفلت
التأكيد على فتح العينين لا يرجح كفة أنها خبرة “تزييف”، أو أنها صورimages غير هلوسية، المهم أنه يؤكد وجود تنشيط لأكثر من مستوى من الوعى “معا” أو”بالتبادل” السريع.
ياسين: بعدين قمت إتفزعت
د.يحيى: آه…!، قمت بقى من النوم، يبقى كان حلم، غير بتاع ابيض فى أبيض
ياسين: ما أنا باحكى لك أهه
د.يحيى: ما أنا سامع أهه
ياسين: ما ديه حاجه، وديه حاجة، هما ثلاث مرات حلمت بيهم، ومنهم واحدة وأنا فى القبر
د.يحيى: فين؟ بتقول فين؟!!
ياسين: فى القبر، التربه يعنى
د.يحيى: ده حلم برضه؟
من هنا نبدأ ملاحظة عامل آخر، يحول دون الفصل الحاد بين حالة “وعى النوم”، و”وعى اليقظة”، و”وعى الصحو“، إذْ يبدو هنا أن ياسين قد تنشطت حركية مستويات وعيه “معا” لدرجة يبدو أنه أصبح قادرا على تشكيلات دالة، وكأنه يقوم بتشكيل صور خبرته التى تعبر عن تنشيط هذه المستويات معا بما يحكيه هكذا إبداعا فى هذه المنطقة المتداخلة، وكل ذلك ربما تحرك بفقد أمه، هذا إلى جانب، جوعه العاطفى، وتنشيط ما ترسب لديه من صور الترهيب فى عذاب القبر وتصويرها بالتفصيل منذ الصغر عند هذه الطبقة بوجه خاص..إلخ
ياسين: آه
د.يحيى: هِهْ كمّل
ياسين: والتانيه شفت واحد لابس ابيض ووالدتى معاه لابسه أبيض
د.يحيى: بس انت ما كمـّـلتش لنا بقية حلم القبر
ياسين: طيب، القبر ده حلمت بيه يعنى ساعة لما أمى ماتت تخيلته
د.يحيى: تخيلته، ولا حلمت بيه، ولاّ شفته يا أخى؟ رسينا على بر اعمل معروف، وده بعد ما ماتت بكام ساعه ولا بكام يوم
ياسين: بشهر
د.يحيى: شهر بحاله
ياسين: بعديها بشهر
د.يحيى: هوه انت عييت بعد موتها بأد إيه؟
يبدو أن وحدات الزمن التى يتساءل عنها الطبيب ليست بالضرورة هى الوحدات التى يعنيها المريض.
ياسين: ما أنا والدتى من ساعة ما ماتت وأنا باخرّف
د.يحيى: كويس أنك بتسميه تخريف، بس هوّا مش قوى كده
ياسين: هوّا مش تخريف تخريف، بس برضه تخريف!!
د.يحيى: تصور يا ياسين يابنى أنا بحاول أشرح الحكاية دى للجماعة دول (يشير إلى الحضور) بس ما باعرفش انت بتقولها صح وتمام التمام
ياسين: مش فاهم، إزاى يعنى؟
د.يحيى: انت بتقول هوّا مش تخريف تخريف بس برضه تخريف
ياسين: أنا قلت كده ؟
د.يحيى: أيوه، إمال انا، الله ينور عليك، لكن خلينا فى الكلام العادى بقى
ياسين: عادى إزاى؟
هذا التعبير هو من أهم ما يدل على صدق خبرة المريض وهو يواصل متابعة حركية تطور مرضه، وفى نفس الوقت يمارس نقدها بحذر، وهنا وجب التنبيه الا يــُعتبر مثل هذا التعبير اضطرابا فى التفكير، أو خلطا فى الكلام.
د.يحيى: يا جدع إنت العيا اللى هو العيا حصل بعد ما ماتت بأد إيه؟
ياسين: بشهر
د.يحيى: انت بتعتبر يعنى بداية العيا هو الحلم، ولا الحلم جاب العيا؟ ولا العيا جاب الحلم ولا إيه؟ ماترسينا على بر يا ياسين يابنى
فى بعض الأحيان يبدأ الذهان (الجنون)، بحلم، ثم يحضر نفس الحلم فى صورة هلاوس بعد ظهور المرض.
ياسين: يعنى قبل الحلم ده كنت باقعد أقول كلام، يعنى ده بيتكلم عليا، ده بيعمل عليا ده مش عارف إيه كده، بعديها على طول حلمت بالقبر
هنا يمكن أن نلاحظ:
إن ضلالات (أو أحاسيس) الإشارة، والاضطهاد قد بدأت قبل الشرخ فالتفكيك فالتداخل فالخلط الذى حدث بين مستويات الوعى بقليل، وتعتبر فى هذه الحالة نوعا من الدفاعات، وتحديد ظهور هذه الصور وتشكيلها فى القبر بعد وفاة الوالدة ربما يؤكد ما ذهبنا إليه من علاقة ياسين بأمه واعتماده المطلق عليها مصدرا أوحدا لوجوده طول حياتها، ثم إنه يدعم فروض توقيت ظهور المرض وعلاقته بموتها
د.يحيى: حلمت بإيه بقى؟ إنك إنت جوه القبر؟ ولا أمك المرحومة هىّ اللى جواه؟
ياسين: أنا
د.يحيى: طب إوصف لنا بقى القبر
ياسين: حلمت إنى أنا إيه واقف فى التـُّـربْ واثنين ماشيين واحده حلوه وواحده وحشه
د.يحيى: كنت جوه التربه ولا براها؟
ياسين: وأنا بره
د.يحيى: يا خبر!، أنا مش قادر اتـّـبـَـعـَـك قوى
ياسين: واحدة حلوة وواحدة وحشة وبعدين باقول يا ربى هما مش خايفين وهما ماشين حد يعتدى عليهم
د. يحيى: وبعدين؟
ياسين: … فجأه لقيت نفسى فين، فى التربه
د. يحيى: جوه التربه
ياسين: أه قاعد على سور كده وفيه زى رمله
د. يحيى: يخرب بيتك هو فيه جوه التربه سور؟
ياسين: لأه، بس هو ده اللى أنا شوفته
د. يحيى: أه، اللى انت شوفته!! طيب فيه رمله وبعدين؟
ياسين: وبعدين فيه سور كده مبنى بالطوب الأحمر
د. يحيى: ياه !!
ياسين: قعدت كده وبعدين باميـِّـل كده لقيت إيه لقيت واحد رجليه طويله ورأسه هى اللى طالعه، فأنا باقول له: “إيه كل دى رجل”؟ راح قال لى ربنا هو اللى عايز كده.
د. يحيى: رجل واحده اللى طويله ولا الاثنين؟
ياسين: الرجلين الاتنين، وهو طويل باقول له كل دى رجل، لأ وإيه رقبته بس هى اللى باينه، لما قلت له كل دى رجل، فقال لى: آه، ربنا هو اللى عايز كده، وبعدين لقيت واحد أسمر رقبته هى اللى باينه بس برضه، وعمال يعيط وصعبان عليّا
تجنبت ُربط هذه الصورة بالذات بضمور ساقه سبب عرجه وإن كنت لم أستبعد ذلك، وخاصة أنه يواصل الحكى عن رجل واحده برغم زعمه أنه رأى رجلين…الخ
د. يحيى: رقبته باينه من إيه ؟ من الأرض؟
ياسين: أه من الرمله، بس ده أنا سبتنى منه وبعدين باتلفت كده لقيت واحد أسمر وبيعيط أكنه عذاب
د. يحيى: أكنه عذاب؟
ياسين: عذاب
د. يحيى: عذاب؟ عشان كده راسه باينه وعمال يعيط ؟
ياسين: أه، فقلت يا ربى لما أضربه بقالب طوب يموت أحسن من العذاب اللى هوّا فيه ده، رحت مسكت قالب طوب وما رضيتش أحدفه بيه، خفت إن لحسن قالب الطوب ييجى على دماغه ولا يموتشى، رحت الناحيه التانيه: شفت نور قلت إيه أهرب، لقيت إيه كتفين كده طالعين، قلت إيه أشبّ كده حوالين النور ده، أطلع فوق، لقيته إيه بيضيق بيّه شوية شوية، بس إيه وأنا عمال أعافر، قولت إيه لما أعمل نفسى ميت علشان الضيقه ديه تخف، عملت نفسى ميت وما خدش نَفَسى فعلاً، القبر إيه خف شويه، رحت خرجت جيت أطلع لقيت فيه نور تانى لقيت واحد طالع من الباب اللى أنا إيه جاى منه كده وواحد ريحته معفنه وسايح، روحت اتخضيت، ورحت رايح الحته اللى أنا إيه مزنوق فيها، إستنيت لما مشى، حاولت أطلع ماعرفتش وقمت على الأذان بيقول الله وأكبر وعاوز أقوم، خايف، باترعش، ده الحلم التانى
د. يحيى: أنهى تانى
ياسين: أيوه، جايلك أهه
د. يحيى: ماشى، بس نخلص اللى احنا فيه
ياسين: ما هوه خلص على كده
هذه لوحة تشكيلية كاملة يمكن مقارنتها بنوعية ترابطها وإيقاع تشكيلها بأى حلم فى إبداع حقيقى سواء ورد تحت مسمى “الحلم” أم ورد فى سياق أسطورى أم غير ذلك([12])، لكن: كثيرا من الزملاء الأطباء (وبعض الباحثين) حين يسمعون مثل هذا الحكى يتهمون المريض بالتزييف على طول الخط، ولا يأخذون محتوى مثل هذه التفاصيل مأخذ “الواقع الآخر”، ولا مأخذ الإبداع مهما كان يسمى مرضاً.
ربما هذا هو ما يقابل فرض كيف أن الحلم هو إبداع متميز مصنوع فى وعى خاص، حيث أننى من خلال دراساتى وفروضى فى الأحلام وجدت أن مجرد ترجمة مثل هذه الخبرات إلى أسماء أعراض هى نوع من تشويه واختزال خبرة المرض النفسى، وفى رأيى أنه إبداع لكنه ابداع مجهض، ولابد من الحذر من التعميم، فإن كل حالة غير أى حالة أخرى، وأى حالة تحتاج جهدا نقديا منفردا (قراءة ناقدة) أكثر مما تحتاج حكما جاهزا لمجرد عجزنا عن التصنيف الفاصل بين الحلم، والجنون، والإبداع والحياة العادية، إلا بأحكام وارتباطات ونتائج من خارجها.
د. يحيى: ما احنا حناخد وندى فيه، كنت نايم فين ساعتها وأنت بتحلم
ياسين: على السرير
د. يحيى: الدنيا ظلمه برضه؟
ياسين: أنا صحيت والأذان بيقول الله وأكبر
د. يحيى: يعنى كانت الدنيا ظلمه ؟
ياسين: لأه ده أنا حلمته قبل الظهر
د.يحيي: يا ابن الحلال: ما أنت بتقول كانت الدنيا ضلمه
ياسين: أنا حلمت قبل الأذان بتاع قبلها بخمس دقائق
د. يحيى: ما أنت كنت بتحلم، إيه اللى عرّفك إن الأذان كان قبلها بـ 5 دقائق؟
ياسين: ما الأذان بيقول الله وأكبر
د. يحيى: ده بعد الحلم؟
ياسين: آه ده بعد الحلم أه
د. يحيى: طيب أثناء الحلم، إيه اللى عرفك أن الأذان حايقول الله وأكبر بعد 5 دقائق
عودة إلى التأكيد على ضرورة الانتباه إلى اختلاف استعمال ياسين وحدات التعبير عن الزمن واختلاف تتابعها بشكل خاص، ربما كدليل على انتقاله بين مستويات الوعى بإبداع (مرضى) نشط.
ياسين: أنا قمت على الأدان بيقول الله وأكبر
د. يحيى: طب وبعدين؟
ياسين: وقبلها الحلم بقد أيه؟
د. يحيى: إنت بتسألنى أنا؟ هوّ إيه اللى حايعرفنى أنا؟ انت اللى بتقول وبتحكى
ياسين: هو ده اللى حصل
د. يحيى: كل ده كان بعد الوالده لما اتوفت بقد إيه؟
ياسين: بعديها بشهر
د.يحيى: قبل المرض بقد أيه؟
ياسين: قبل المرض ؟ يعنى إيه قبل المرض؟
د.يحيى: يعنى قبل المرض؟
ياسين: مرض مين ؟
د.يحيى: المرض اللى أنت فيه دلوقتى
هنا ملاحظة ضمنية، أنه برغم أن بصيرة ياسين سليمة نسبيا من حيث المبدأ، إلا أنه يبدو أنه لا يعتبر حالته مرضاً صرْفاً (برغم خبرته السابقة بما هو مرض، مثلاً وهو يرعى ذهان أخيه الصريح، كما سبقت الإشارة).
ياسين: كان قبلها بشهر، كنت باقعد أتكلم: كنت أحس إن ده بيقول عليا كذا، وده بيعمل عليا كذا، ولدرجه كنت باقول كلام وحش على نفسى
د.يحيى: كل ده قبل الحلم إياه؟
ياسين: ده قبل الحلم
د. يحيى: وقبل المرض؟
ياسين: أه
يلاحظ هنا أن أعراض الإشارة، والاضطهاد، برغم عدم ثباتها قد سبقت الحالة الراهنة التى أعلنت كل هذا التداخل بين مستويات الوعى.
د. يحيى: بصراحة انت لخبطتنى هوّا اللى أنت فيه ده مش هوه المرض برضه؟
ياسين: والله ما اعرف يا دكتور، أنا حسيت أن أنا مش طبيعى
د. يحيى: طب الحلم ده، هو ده الحلم بتاع القبر اللى شفته بعد وفاة الست والدتك، اللى حصل قبل الأدان بخمس دقايق، أنا مش عارف، انت لخبطـّنى فعلا، والحلم ده ما ظهرتشى فيه الست الوالده، مش كده.
ياسين: الحلم اللى قبل الفجر؟
د. يحيى: الحلم بتاع الرمله والجدار والبنتين؟
ياسين: لأه ده قبل الضهُّر
د. يحيى: يعنى، المهم ما ظاهرتش فيهم المرحومة الست الوالده، مش كده؟
ياسين: لأه، هى ظهرت فى الحلم اللى أنا بتخانق فيه وهى بتدافع عنى
د. يحيى: فين فى الحلم الأولانى؟
ياسين: لأه الأولانى ده خلاص
د. يحيى: آه يعنى حلم غير ده كله بقى
ياسين: آه
د. يحيى: يا شيخ حرام عليك أنا مش قادر أتابعك بصراحة، المهم إحكى لنا حلم الوالدة لما أنت بتتخانق وهى بتدافع عنك
ياسين: إن أنا بتخانق مع أبويا
د. يحيى: مع أبوك؟ إزاى؟
ياسين: وهى جت تسلّك عنى تقولى خلاص يا إبنى، يا ابنى خلاص، وهى تقول له برضه خلاص،
د. يحيى: وبعدين …
ياسين: أنا بقى كنت بتشاكل مع أبويا
د. يحيى: بتتشاكل ولا بيضربك
ياسين: لأه، زى اشتباك
د. يحيى: يعنى إنت كمان كنت ماسك فيه
الأرجح أن هذا التشكيل أيضا هو من نوع التشكيل السابق (أحلام القبر) لكنه على مستوى أقرب إلى الخيال الدال على ما ورد فى تاريخه عن علاقته بوالديه، كما ورد فى تقديم الحالة.
ياسين: لأه زى اشتباك
د. يحيى: هوّا أنا عارف يعنى إيه أشتباك؟ أنا فاهم إن اشتباك يعنى بيضربوا بعض، أو بيشتموا بعض
ياسين: إشتباك يعنى إشتباك
د. يحيى: يعنى أيه أشتباك
ياسين: مش ضرب كده، هو ماسك فيّا وأنا ماسك فيه
د. يحيى: آه!! ماسكين فى بعض، طيب!؟ يعنى، ماشى، أمك بقى عملت أيه الله يرحمها
ياسين: والدتى جات بقى قالت لى يا أبنى قول له خلاص، وانا ماسك فيه
د. يحيى: بتقول لك قول له خلاص، خلاص إيه؟
ياسين: آه
د.يحيى: بتقول لك انت
ياسين: أه
د.يحيى: وانت سمعت كلامها
ياسين: قلت له خلاص، وفعلاً سابنى،
د.يحيى: فيه حاجة تانى؟
ياسين: أنا ساعات كده بيتهيأ لى حاجات كده واقفه قدامى
د. يحيى: وانت صاحى؟
ياسين: وانا صاحى
د.يحيى: ولمّا تبص، تلاقيها ولا ما تلاقيهاش
ياسين: تيجى تكلمنى أعمل لها كده (يشير بيده) تروح ماشيه، يعنى مره وانا قاعد، لقيت نفسى باقول له “يا عم غور كده”، وبعدين بابص قعدت أركز مافيش، بس كان فيه حاجه بتكلمنى
د.يحيى: بتقول لك أيه
ياسين: حاجه عماله تضحك كده، عماله تبص علىّ، وتضحك، وبعدين باعمل لها كده (يشير بيده)، شخص يعنى، وبا قول له غور
د.يحيى: كان الشخص ده فى سنك ولا أكبر ولا أصغر
ياسين: راجل كبير
د.يحيى: فى سن أبوك
ياسين: لأه مش فى سن أبويا
د.يحيى: يعنى أكبر ولا أصغر
ياسين: واحد كده
د.يحيى: ما هو يا أكبر من أبوك يا أصغر يا أخى، ما تدوخنيش
ياسين: ما أعرفش مش متخيل
د. يحيى: طيب خلاص، إيه بقى الحلم اللى بعد كده؟
ياسين: لأه ده مش حلم، دا أنا بلاقى واحد واقف قدامى
د.يحيى: ماشى، مع إنى ماعدش عارف أفرق بين الحلم واللى مش حلم، ما علينا هل فيه حلم تانى عاوز تحكيه لينا غير حلم القبر، وحلم أبوك والست والدتك بتخلصكم من بعض، الظاهر أنا قاطعتك يا ابنى وقلت لك إستنى لما نتكلم فى الأولانى، هل كان فيه حلم تانى إنت عاوز تحكيه، حلمته بعد وفاه الست الوالده برضه الله يرحمها؟
ياسين: مش فاكر
د.يحيى: مش فاكر إيه
ياسين: أصلى أنا بيتهيأ لى إن فيه حاجات كده واقفه قدامى بعض ساعات
د.يحيى: وانت صاحى؟؟!
ياسين: وأنا صاحى
د.يحيى: بس تعمل كده كده (يشاور بيديه مثلما كان يفعل المريض) تروح؟
ياسين: بس لما يكون إيه الجو هُسْ هُسْ
د.يحيى: لما يكون إيه ؟
ياسين: يعنى مافيش كلام ولا حاجه ممكن أقعد أسرح كده فى حاجه واقفه، إيه هى؟ ما عرفش
نلاحظ هنا أن استدعاء وعى الحلم فى حالة اليقظة هو إثبات آخر لفكرة أننا نؤلف أحلامنا لا نتلقاها ونحكيها كما نتصورها، وهذا تأكيد آخر للفروض التى طرحتها عن الأحلام (علما بأن هذا يختلف تماما عن ما يسمى “أحلام اليقظة”([13]).
د.يحيى: طيب ننتقل لحاجة تانية: فيه حاجه غريبة برضه قالها لنا الدكتورعدلى بس بالكلام، يعنى شفهى، هو مش كاتبها ما اعرفشى ليه، قال لنا إنك قلت إنهم فى الحتة طلعوا إشاعة إنك خطبت بنت تالتة، وإنهم رفضوك، ما تحكى لنا عنها شوية كده يمكن نتنور ونساعدك أحسن
ياسين: كان فيه اثنين اصحابى شغالين حلاقين، وبعدين جم قالو لى إنت خطبت أخت ابراهيم ([14]) قلت لهم أنا ولا خطبت ولا حاجة، قالوا دول بيقولوا إنك طلعت عندهم، وشافوك، قلت لهم: أنا ولا طلعت ولا رحت ولا جيت، كل شويه ييجى واحد يقول لى: أنا عاوز طوبتين من عند نسايبك، أنا عاوز مش عارف أيه …
د.يحيى: عاوز إيه؟
ياسين: طوبتين من عند نسايبك
د.يحيى: طوبتين ؟
ياسين: أه
د.يحيى: ليه؟ هم نسايبك اللى بيقولوا عليهم دول، بيشتغلوا أيه؟
ياسين: أصل كان عندهم ردش([15])
د.يحيي: آه كانوا بيهدوا حاجة، ويمكن عشان بيبنوها تانى مثلا
ياسين: أه بس كان الموضوع كده، وانا اقول لكل اللى بيقول كده. “دول لا هم نسايبى ولا أنا خطبت ولا عملت …”
د.يحيي: إيه اللى خلاهم يطلعوا الإشاعة دى؟
ياسين: ما تعرفشى، الظاهر الواد لما مشى من عند الحلاق ده، مع إن الحلاق كان هوه اللى جايبه، وهو اللى مشاه، بس الظاهر افتكر إنىّ ليـّـا يد فى تمشيته، حب يشنـّـع علىّ،
د.يحيي: ألا قول لى يا ياسين: مين بيحبك غير صاحبك اللى حكيت عنه قبل كده؟
ياسين: والدتى، وهوّا، وبس
د.يحيي: والدكتور عدلى مابيحبكش
ياسين: لأه الدكتور عدلى على عينى وعلى رأسى
د.يحيي: آه على عينك وراسك شىء، وبيحبك شىء، هوه مابيحبكش؟
ياسين: لأه، بيحبنى
د.يحيي: أمال ماجيبتش سيرته ليه فى اللى بيحبوك
ياسين: آه
د.يحيي: طب وانا مابحبكش ؟
ياسين: الله أعلم بقى
(انتهت المقابلة لإنتهاء الوقت، ولم يمكن متابعة الحالة لغرض هذا التقديم أكثر من ذلك)
*****
تعقيب عام
وددت لو لم أضطر إلى هذا التعقيب حتى أترك الفرصة للقارىء أن يستوعب ما يصله دون وصاية، إلا أننى تراجعت إلا قليلا، فثم إشارات هامة وتوصيات لازمة قد تساعد فى توصيل الرسالة التى قصدت أن أوصلتها من خلال عرض بعض هذه الحالة هكذا.
أولاً: إن اختلاف روايات ياسين ليس دليلا على عدم معايشته الخبرة التى يحكيها بكل أبعادها وصدقها .
ثانياً: إن أهم ما نوصى به ونحن نعايش مثل هذه التجارب هو احترام الخبرات مهما عجزنا عن تصديقها أو تصورها، وكما لاحظنا، فإن التركيز على التفرقة بين ما هو حلم، وما هو تخيل، وما هو هلوسات، وما هو صور، لا ينبغى أن يحول بيننا وبين تقبل ما وراء أى من ذلك من طبيعة تداخل مستويات الوعى بعد صدمة فقد الدعم الخارجى، ثم ظهور أى من هذه المظاهر بالتناوب أو التكثيف أو التفرد حسب توقيت الفحص ونوع الحوار وهدفه، وأن كل هذا ينبغى أن يهدف من البداية للنهاية إلى إعادة النتائج والتبادل والهارمونى بين كل هذه المستويات لمواصلة النمو والسلامة..
ثالثاً: إن التداخل بين مستويات الوعى (ومن ثم مصادر الحكى) هو شديد الدقة والخفاء واحترام مبدأ هذا التداخل يساعدُ فى محاولة إرجاع كل سلوك، أو حكى أو خبرة إلى ما نتصور أنها نابعة منه، دون حسمٍ طبعا، ولكن هذه المحاولات تفيد فى الإسهام فى إعادة تشكيل (نقد) النص البشرى للمريض والطبيب على حد سواء.
رابعاً: إن الربط بين حقائق وأحداث الماضى، بما فى ذلك خبرات الفرح والإحباط وغيرها، ربط كل ذلك مع حاضر الأعراض (بما ذلك الأحلام على مستوياتها المختلفة) لا ينبغى أن يكون ربطا خطيا أو تعسفيا بناء على نظريات شائعة أو ثابتة (أو تزعم ذلك)، لكنه يجرى مرنا وعلى مستوى الفروض التى تحتاج إلى تعديل وتطوير طول الوقت.
خامساً: إن طريقة حكى ياسين لخبراته (بما فى ذلك وصف أعراضه واختلاف رواياته) هى أبعد ما تكون عن “الفبركة” التى قد نلقاها فى حالات الهستيريا أو بعض اضطرابات الشخصية، وفى نفس الوقت هى أقرب ما تكون إلى الإبداع الطليق، وأحيانا الشعر الأحدث أو التشكيل الحر.
سادساً: إن احترام كل ما أمكن الحصول عليه من معلومات لا ينبغى أن يثنى عن مواصلة الكشف عن المزيد مع المعلومات والملابسات الأمر الذى لابد أن يعين فى طرح فروض أخرى ربما تسهم فى مزيد من استيعاب أبعاد الحالة ومن ثـَمَّ كفاءة العلاج.
سابعاً: إن الربط بين العامل الوراثى والعامل التشوهى الخـِـلقى (مع العجز الحركى) وبين محتوى الخبرات الإمراضية المتلاحقة والمتراكمة، هو وارد ومهم، لكن لا ينبغى التوقف عنده أو إعطاؤه أهمية أكبر من إرساء علاقة علاجية وتصحيح التمادى فى اللجوء إلى مستوى العقل (الوعى) الذى رجحت كفته، وهو هنا العقل القتالى الذى استعان أيضا بالعقل الانسحابى، فتم هذا وذاك على حساب قيادة العقل الاجتماعى التواصلى والعقل الإبداعى المحورى (مما لا مجال لتوصيله هنا).
ثامناً: إن حركية الحوار، وقد اتسمت بالاحترام والصبر والقبول قد أتاحت بداية محاولة استعادة التوازن بين مستويات العقول من خلال التوازن مع مستويات وعى (عقول) المعالج بالاستعانة الانتقائية الموقوته باستعمال العقاقير حسب تطور الحالة واحتمال اللجوء إلى إعادة تشغيل الأمخاخ معاً، حفزاً لاستعادة الهارمونى والتكامل والتبادل الإيقاعى السليم.
تاسعاً: إن المرضى مهما كانت درجة تعليمهم أو خلفية ثقافتهم يستطيعون أن يتقبلوا فروض النفسمراضية (السيكوباثولوجى) بطريقة مباشرة وفاعلة دون تقعر فى شرح نظرى مفصل.
عاشراً: إن احترام كل كلمة وكل إشارة وكل تعبير طول الوقت هو جزء لا يتجزأ من قواعد إرساء العلاقة العلاجية البناءة.
ملحوظة: إن عرض هذه العينة من العلاقة والفحص لا يدرج تحت ما يسمى “تقرير حالة” إنه بمثابة عرض لقطات دالة تسهم فى عملية “إعادة التشكيل” التى تستلزم وضع كل المعلومات المتاحة فى خدمة هدف الاستعادة السليمة للتنظيم الطبيعى وهى العملية التى اسميتها مؤخراً “نقد النص البشرى”، وذلك من خلال المشاركة الإبداعية لمستويات الوعى المتعددة بين المريض والمعالج للتوجه نحو شفاء المريض، وفى نفس الوقت إعطاء الفرصة للطبيب (المعالج) لصقل الخبرة وحفز النمو والإبداع معا.
******
الملحق
هذا الملحق ورد بحروفه أثناء شرح الحالة للحاضرين (ص20) وقد انتبهت إلى أن طوله والتفاصيل التى وردت فيه لا تتناسب مع الهدف المحدد من عرض هذه اللقطات، ففضلت نشره ملحقا حتى أتيح الفرصة للزملاء وطلبة الدراسات العليا للإطلاع عليه اختيارا.
…………..
د. يحيى: ….عشان نفهم حكاية صورة الجسم ومخططه، ومخطط النفس وصورتها، والكلام ده خلينا .نبدأ ….. باللى خدناه فى الفسيولوجى:
إنتو فاكـرين التمثيل بتاع الجسم فى الفص خلـف وأمـام التلفيـف الأوسـط Post central gyrus Pre & فى النصف الكروى، مش علـّـمونا ازاى الجسم بيبقى مرسوم بكل ما هو، فى خلايا المنطقة دى، بالشقلوب، يعنى الخلايا العصبية هنا فى المكان ده بتمثل الجسم بالظبط، بس الراس تحت والرجلين فوق والكلام ده، وده بالنسبة للحركة قدام التلفيف المركزى، وللإحساس وراء نفس التلفيف المركزى، وقالوا لنا إن فى التجارب النادرة، إنك تقدر تعرف بالظبط أى حتة فى المنطقة دى بتقابل أنهى حتة فى الجسم سواء بالإثارة الكهربية الدقيقة microelectrode أو بشكة دبوس فى الجسم، الأولانية للحركة، والتانية للإحساس، بس يا ترى تفتكروا بقى الحكاية دى بتحصل من الولادة كده جاهزة وكاملة، ولا بتبقى مشروع، زى “ماكيت” بيولوجى منظم ببرنامج يتشكل تفصيلا بالممارسة بعد الولادة؟
أنا افترضت إنه مشروع جاهز بالشكل ده، وفى نفس الوقت بيتشكل ويتحدد بعد الولادة، يعنى أنا باتولد بمشروع مخطط للجسد، وللنفس، بكل التفاصيل اللى مستعدة تتملا بالممارسة، أهو هوه ده الفرض اللى خلانى أنظم تنظيرى وتفسيرى لكتير من الأعراض، خصوصا فى بداية التنشيط الذهانى.
إذن المسألة بالنسبة للمخطط Schema مش مجرد صورة ذهنية عندنا، لأه، ده تنظيم نيورونى، ويمكن داخل خلوىIntracellular كمان، المهم إنها مش مجرد صورة تجريدية، دى حقيقة بيولوجية، نيجى بقى لصورة الجسم نلاقيه مرتبط ، فى الأحوال العادية، بتخطيط الجسم، المفروض يعنى، ويمكن يختلف عنه شوية على قد الاختلاف المسموح بيه بين الحقيقة العيانية، وبين التصور الذهنى، يعنى التطابق هنا حايفيد تماما فى إن الواحد يبقى مصاحب جسمه ومتعرف عليه ومـْـصـَـالحه وكلام من ده، التطابق الكامل هو الغاية القصوى اللى لا يمكن تتحقق فى حياة الإنسان الفرد، يعنى الصورة Image (التجريد) تبدأ مش منطبقة على المخطط Schema (الواقع البيولوجى) طبعا، إنما اللى بيحصل أو مفروض إنه يحصل، إن مع كل أزمة نمو([16]) الصورة تقرب من المخطط، لحد ما المفروض يعنى فى المدى البعيد يحصل تطابق كامل، وده اللى يمكن ما يتحققشى للجنس البشرى الحالى أبدا – يعنى ما فيش تطابق – 100 %، التطابق الكامل ده فرض مستحيل، مش بس فى صورة الجسم ومخطط الجسم، ده فى كل نمو بنلاقى فرق بين التجريدى والعيانى، ومع مسار النمو للسعى باستمرار نحو التكامل مع كل نبضة نمو، بينى وبينكم مع كل نبضة حيوية Biorhythm، تحصل محاولات وحركية التقارب والتطابق دى
مرة تانية ده فرض برضه،
نيجى لمخطط النفس وصورة النفس، أنا غامرت وعملت نوع من القياس عشان أفترض إن فيه مخطط بيولوجى نيورونى وداخل خلوى “للنفس” برضه، تمام زى مخطط الجسم ، إحنا بنتولد بيه، وبعدين نشتغل فيه (تلقائيا مش بوعى وإرادة طبعا) عشان نحققه بشكل بيولوجى حيوى ماثل، وده بيحصل بالحوار على كل المستويات مع اللى حوالينا، من أول بصـّـيـتـنا فى المراية لحد احساسنا بوجودنا فى عيون الناس، ومن المعاملة مع بعضينا طول الوقت، لحد ما يبتدى التجريد ياخد اليد العليا، تبتدى صورة النفس تتكون، وده كيان تجريدى منفصل نسبيا فى البداية عن مخطط النفس، تمام زى حكاية الجسم ، وتقعد الحكاية مع كل نبضة نمو (أو زى ما قلنا مع كل نبضة حيوية) يحصل حوار وجدل بين مخطط النفس البيولوجى، وصورة النفس المجردة، وكلام من ده، وباستمرار فى رحلة التطابق([17]).
أظن كفاية الخطوط العريضة للفروض دى،
على فكرة أحنا ما بنستناش لما نثبت الفروض عشان نطبقها ونستفيد منها للعيانين بتوعنا، إحنا أى حاجة مفيدة بنستعملها على شرط ما تعرّى أو تعطل حاجة أحسن.
نيجى لعمك ياسين العيان بتاعنا ده بقى:
هو اتولد وعنده مشروع مخطط لجسمه، زى ما عنده مشروع مخطط لنفسه يعنى تحديد هوية من هو ياسين، جه يحقق مشروع جسمه لقى إن جسمه الحقيقى مش مطابق للمشروع الطبيعى اللى هوه اتولد بيه، يعنى شلل رجله للدرجة دى بعت رسايل للبرنامج اللى عايز يتكون، قاله ما ينفعشى أبقى زيك، فيه حاجة غلط، إنت عندك مرسوم جاهز رجل كاملة ومليانة، أنا اللى وصلنى حاجة مدلدلة ومالهاش لازمة، يبقى حصل حاجتين على الأقل: إن المساحة بين المجرد والعيانى تأكدت ويبقى ما فيش أمل فى تجاوزها إلا بظروف خاصة، وتربية خاصة ووقاية خاصة، وإن مخطط الجسم، والنفس بالمرة لازم يتجمدو بشكل او بآخر على الواقع الجديد، تبقى حركية النمو أصعب، وجمودية الوقفة أخطر.
وبعدين فى مرحلة تحديد التجريد بقى اترسمت عند ياسين صورة الجسم مشوهة، ويا ريت مشوهة على قد التشويه أو الضعف أو الخلل الواقعى الحقيقى نتيجة لشلل الأطفال والكلام ده، لأ دى بقت مشوهة أكتر نتيجة للعوامل السلبية اللى بتوصل من برّه: إشى إهمال، وإشى صعبانية، وإشى معايرة، وإشى شفقة، وإشى عجْز وإشى مقارنة وكلام من ده، خلوا بالكْم الصعوبة مش بس إن فيه حاجة مشوهة نتيجة لعجز أو ضمور فى الجسم، الصعوبة فى امتداد التشويه والجمود إلى الأربع وحدات دول: مخطط الجسم، وصورة الجسم، ومخطط النفس، وصورة النفس.
يقعد صاحبك مسنود من برّه بأمه، ومن جوه بإرادة التحدى، والتعويض، والجدعنة، حنية امه واحتواءها له جوّا الرحم النفسى بتاعها، عمل سند جامد زيادة عن اللزوم، ما هو الواحد جوا بطن امه مش محتاج رجلين يمشى عليها، يقوم عمره ما حايعرج، حا يقعد يبلبط فى السوائل جوه الرحم وهو واخد بـَرَاحـُه تمام التمام، عمك ياسين اتعامل مع العالم الخارجى بالجدعنة، والهجوم زى الفهد زى ما قلنا، وبرضه بالشهامة والعطاء اللى ظهرت مثلا فى دور اللى قام بيه فى رعايته شاهين أخوه، لما اتجنن لحد ما خفّ، إنما كانت جدعنة مـُـرْهقة ثمنها غالى لأنها من برة بره، ما غيـّرتشى حاجة لا فى الصور ولا فى التخطيط، سواء للجسم أو للنفس لأنهم اتجمدوا واتشوهو والحكاية وقفت لحد هنا،
ييجى صاحبك يخش أى امتحان إن حد يشوفه بصحيح، بالخطوبة، بالحب، تتهز الصورة والتخطيط بشكل مزعج، ما هو ما عندوش أى أمل إنه يعيد تشكيلها بالسلامة الطبيعية، لأن ده مابيحصلش من خلال الاقتناع والكلام الخايب السطحى ده، ولكن من خلال الممارسة اللى انا باعتبرها بيولوجية أساسا، يروح هـُب عمك ياسين داخل فى مزيد من الاستهداف للمرض، وهو عنده ميراث طاقة جامدة واستعداد جاهز للتفكيك والتشكيل، تيجى امه تموت، هـُبْ تروح الدنيا متفركشة، وهو يحاول يلمها بعنف مرة، (قفزات العدوان والتشابك التى استحق معها صفة الفهد) وبضلالات الاضطهاد والإشارة مرة، وباكتئاب مرة، وبهلوسات على صور خيالية زى ما انت عايز، وهات يا توافيق وتباديل، وكله طالع من نفس الإمراضية (السيكوباثولوجى) ونلاقى عمك “ياسين” زى ما احنا شايفينه كده.
د.عدلى: مش فاهم قوى، يبقى كل اللى عندهم شلل أطفال معرضَين لكده
د. يحيى: يا شيخ حرام عليك، إحنا من إمتى بنعمم بالبساطة دى، إحنا بنقول أحتمالات للحالة دى بالذات، كل واحد مننا بيدبر أموره زى ظروفه ما تسمح، يعنى همه اللى ما عندهمشى شلل أطفال يعنى عمالين واخدين ديلهم فى اسنانهم وهات يا نـُـمُوّ زى ما الفرض ده ما بيقول!!، إحنا هنا بنقول احتمالات الأرضية اللى ظهر فيها المرض، والحكاية دى عايزه معلومات تفصيلية عن ياسين أكثر من كده شويتين، يعنى إحنا لازم ندور على شعوره وهو محط الأنظار من سن سنة مثلا، ندور على شعوره إنه أقل من غيره فى الحركة من بدرى خالص، نسأله مثلا هوه اول ما ابتدي يشوف العيال بيلعبوا كوره في الشارع وهمه بيجروا وهوه ما بيجريش عمل إيه أو حس بإيه وكان سنـُّـه كام، نشوفه طلب منهم يلعب ولا اتكسف، حتى لو وقفوه جون، زى ما قلنا كده، وإنت عارف الجون بينط يصد الكورة ازاى، وفاكر لما وقف جُون هوّا قال إيه، وعمل إيه وكل الكلام ده، كل الحاجات دى ممكن تزيد بهدلة الصورة والمخطط الاثنين، وده وده يأدى لتجميدهم فى نفس الوقت، ثم سيبك من حكاية التعويض السطحى أو حتى بأحلام تحقيق الرغبة والكلام ده، ثم إنك ممكن تصلـّح صورة الجسم أو النفس بجهد فظيع لانها تجريد، بس صعب تصلح المخطط لأنه بيولوجى، أصل المصيبه بقى إن الابحاث والكلام والحياة كلها اللى احنا عايشينها دلوقتى بقت تقريبا على مستوى التجريد بس، أو غالبا، بصراحة شغلتنا دى خليتنى أرجـع للأصل، العيان بيقول:
يا جماعة أنا مش زى ما رسمتونى، أنا زى ما ربنا خلقنى، خلايا وتركيبات وتكريم، لكن يا خسارة، بيقول كده وينام فى الخط، نيجى احنا ما نسمعهوش من أصله، أنا لما ركزت على العيانين بيقولوا إيه بعياهم: ابتديت ما شوفش البنى ادم إلا من خلال مخه ، يعنى بقرا البيولوجي، بابص عليه وأحاول أقراه زى الصفحة المفتوحة، ده اللى باعتبره نفسمراضية (سيكوباثولوجى) المخ ده معمول ازاى؟ مترتب ازاى؟ طيب واتلخبط إزاى؟ وبقى إيه؟ وبعد ما توصلنى فروض كفاية وتصور مفيد، أدوّر بقى هوه احنا عندنا فرصه نصلـَّحه بحق وحقيقي، نعيد تشكيله، ولا حانكتفى بإننا نلصمه، ونقبله كده والسلام، وده يمكن صح، إنما الصحح هوه الصح صح، خلى بالك، احنا بنعمل الممكن حسب المتاح، ما هو أحنا ما بنعملش معجزات!!.
[1] – قسم الطب النفسى – كلية الطب – قصر العينى: 26-2-2009
[2] – الأسم مستعار طبعا
[3] – الأسرة الكبيرة التى ما زال يعيش معها
[4] – أخوه الأصغر الذى مرض نفسيا ورعاه ياسين وعولج وتحسن أو شفى برعاية ياسين
[5] – بناء على فروضى الخاصة المتاحة من الممارسة الإكلينيكية وتنظيرى فى الإيقاع والتطور فإنى افترضتُ أن ما يورّث عادة ليس مرضا بذاته، وإنما هو استعدادات مميزة تشمل عموما – و خاصة فى مثل هذه الحالة- وراثة كلٍّ من (أ) زخم حركية الطاقة (ب) قدر الجاهزية للتفكيك مع دورات الإيقاع والنمو (د) القدرة على التشكيل وإعادة التنظيم (ء) الاستهداف للتفسخ والنكوص والجمود، وبقدر تناسب هذه الاستعدادات وفرص استيعابها إيجايبا أو العكس: يظهر هذا المرض أو ذاك أو يتجلى هذا الإبداع أو ذاك.
[6] – أفضل عادة أن أكتب المقابل بالإنجليزية فى الهامش، حتى لا أشوه وجه العربية القادرة الجميلة، إلا أننى وجدت أن النقاش كان يدور كثير منه “بالأنجلو عامية”، وأن ترجمة ذلك إلى العربية الفصحى ينقل الصورة ناقصة، فقدرت أنه ما دمنا قد رضينا بتقديم النص بالعامية، فلنستسمح القارئ أحيانا أن نضع الكلمة المتخصصة التى ذكرت أثناء النقاش بالإنجليزية، أن نضعها فى المتن مباشرة، آملين مستقبلا أن يتم النقاش كله بالعربية فقط،: عامية كانت أو فصحى.
[7]– آسف، ولكن تستعمل كلمة الـ “شيت” sheet بتواتر شديد فى أثناء الشرح وغيره، وفى رأيى أنه آن الاوان لإدخالها اللغة العربية لأنها تستحق: مبنى ومعنى، وترجمتها إلى “ورقة المشاهدة” ليست دقيقة.
[8] – يوجد هنا شرح طويل نسبيا ورد فى مناقشتى للحالة وذلك فيما يتعلق بفروضى الخاصة بكيفية تكوّن وتمثل هذين المخططين، ثم تشكيل صور الجسم وصورة الذات أيضا وقد فضلت أن أفصله وأجعله ملحقا للفصل (ص 56)، وذلك لصعوبته، ومع ذلك فهو يتعلق بالحالة جدا ومتروك لمن يشاء أن يصبر عليه.
[9] – يمكن الرجوع إلى أصل هذه الفروض عن “الحلم” فى أكثر من موقع مثلاً: “الايقاع الحيوى ونبض الإبداع” (مجلة فصول المجلد الخامس – العدد الثانى 1985) وأيضا كتابى (“عن طبيعة الحلم والإبداع” دراسة نقدية فى: “أحلام فترة النقاهة” نجيب محفوظ)، ص40. دار الشروق 2011.
[10] – انظر هامش رقم (13)
[11] – Awareness
[12] – أنظر بعض أحلام محفوظ وتداعياتى عليها بعنوان “التناص” أو تقاسيم (“عن طبيعة الحلم والإبداع” دراسة نقدية فى: “أحلام فترة النقاهة” نجيب محفوظ)، دار الشروق، 2011 وأيضا (هامش 13).
[13]– انظر الفروض فى تجربة “تعمل حلم” فى العلاج الجمعى ، نشرة 22-9-2010 www.rakhawy.net وأنظر أيضا هامش (13) عن “الإيقاع الحيوى ونبض الإبداع”، و(“عن طبيعة الحلم والإبداع” دراسة نقدية فى أحلام فترة النقاهة لنجيب محفوظ).
[14] – كل الأسماء مستعارة
[15] – كلمة “ردش” بالعامية المصرية تعنى كسر الطوب والطلاء نتيجة هدم مبان أو حوائط قديمة.
[16]– ومؤخراً: (بعد تطور فروض الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى) : التعبير الأدق هو مع كل “نبضة حيوية”
[17]– يمكن الرجوع إلى هذه الفروض تفصيلا فى موقعى فى النشرة اليومية “الإنسان والتطور” أنظر (نشرة 23-3-2016 “صورة ومخطط الجسم وصورة ومخطط الذات”) و(نشرة 27-3-2017 “الفصام: مغارة الضياع ووعود الإبداع”) و(نشرة 8-4-2017 “النفسمراضية” السيكوباثولوجية( www.rakhawy.net
الحالة الثانية: الكهل العربجى
الحالة الثانية: الكهل العربجى
الحالة الثانية
الكهل “ٌالعربجى” – النـَّمـِرْ – يعلـِّمـُنا([1])
مقدمة:
هذه حالة شيخ فى الرابعة والثمانين من العمر، “عربجى”، ابن عربجى”، يعيش مع زوجته (69 سنة) فى حجرة إيجارها جنيهان وسبعون قرشا، فى حوش به ثلاث حجرات مع أسرتين أخريتين، كل فى حجرة، وللثلاثة حمام واحد بلدى مشترك فى الحوش.. الخ.
بعض الأسئلة التى استلهمنا منها الفروض التى يمكن أن تساعد فى فهم الحالة:
السؤال الأول: ما معنى ما نسمية “العلاقة بالموضوع” (العلاقة بالآخر)؟ فى ثقافتنا خاصة، وفى آخر العمر بالذات؟
السؤال الثانى: ما الذى يحافظ على القدرات المعرفية حتى سن متأخرة؟
السؤال الثالث: ما هى علاقة العالم الداخلى (الذى يفرز الأعراض وخاصة الضلالات والهلاوس) بالعالم الخارجى (الناس والأشياء)؟
السؤال الرابع: كيف نساعد (نعالج مثل هذه الحالات)؟
السؤال الخامس: كيف نستفيد من هذه المعارف فى الوقاية من التدهور الأسرع فى سن متأخرة؟
ودون وعد، أو حتى أمل فى أن نجد إجابات شافية حاسمة على كل هذه التساؤلات، دعونا نقرأ هذه الخبرة الإنسانبية المؤلمة الخاصة لعلنا نتعرف من خلالها على بعض عمق ثقافتنا التى هى أصل ممارستنا ومحيط علاجنا لما يسمى المرض النفسى (وخلافه)
وسوف نعرض هذه الحالة فى خمس حلقات كالتالى:
الحلقة الأولى: عرض موجز للحالة، مع المناقشة المبدئية لمقتطفات من ورقة المشاهدة (Sheet) التى قدمتها الزميلة (الطبيب مقيم) تحت التدريب بتاريخ (13-11-2009).
الحلقة الثانية: مقتطفات من المناقشة مع مقدمة الحالة.
الحلقة الثالثة: الفروض والخلفية النظرية والمقابلة مع المريض.
الحلقة الرابعة: تطور العلاقة فى مقابلة تالية بعد أسبوعين.
الحلقة الخامسة: الخلاصة.
الحلقة الأولى:
عرض موجز للحالة مع المناقشة المبدئية لمقتطفات من ورقة المشاهدة (Sheet) التى قدمتها الزميلة (الطبيب مقيم) تحت التدريب بتاريخ (13-11-2009).
موجز الحالة:
جاء المريض بنفسه يشكو من أعراض جسمية يعزوها لهلاوس حسية ابتداءً:
جسمى كله مدغدغ، رجليا واجعانى وراسى وظهرى من ساعة ما العفاريت ضربونى علقة من سنتين.
وعند سؤاله أضاف:
أنا بأسمع أصوات رجالة وستات، بيتكلموا مع بعض بس كلامهم مش مفهوم وباشوف عفاريت شكلهم زى البنى آدمين بالضبط، بييجوا فى أى وقت، ومرة واحد طلّع أيده من تحت السرير وقعد يمشى إيده على وشى وعلى دماغى، وساعات باشوف راجل دراعه طويل حوالى مترين وبعد 10 دقايق يختفى.
الناس كلها بتتكلم عليّا، وبيضحكوا عليّا، وبيبصوا لى بصة غريبة ويقولوا لى من يوم ما طلعت الحج([2]) نفسك كبرت ومابقيتش تكلم حد.
وفيه واحد فى الحارة عاوز يأذينى ودايما يشتمنى ورحت اشتكيت فى القسم، ولاَ سَأَلوا.
وكنت بأحط السكينة تحت دماغى وأنا نايم عشان أخوّف الشياطين بس همّا سرقوا منى 3 سكاكين.
أنا مضايق، بعد ما كان عندى صحة وباشتغل عربجى، بقيت تعبان وماباشتغلش وماعيش فلوس، وعندى قلق فى النوم، الدنيا مالهاش لازمة خلاص، أنا بأتمنى أموت كل ثانية علشان أرتاح.
أما شكوى زوجته (69 سنة):
عبد الغفار تعبان من حوالى سنتين، بدأ يشتم ويتخانق مع الناس من غير سبب،
واحد جارنا عنده معزة، دخلت الحوش عندنا، فهـَّـوا جرى وراها ومسكها وعض ودنها وقطع لها حته منها والمعزة قعدت تصرخ وطلعتْ جـَـرْى من عندنا.
ولما رحنا عمرة من سنتين كان بيقول إنه شايف العفاريت راكبة عجل، وماشية جنب الأتوبيس بتاعنا، وبقى يقول بأسمع أصوات كتير بتتكلم زى البرابرة، مش فاهم منهم حاجة، ومن 5 أيام قالى إنه شايف أرانب كتير فى الأوضة مع إن ماكانش فيه حاجة.
كان بيحط سكينة تحت المخدة ويقوم بالليل يشوّح بيها ويقول أنا عاوز أقتلهم، ولما يخرج يأخد السكينة فى جيبه علشان لما العفاريت تطلع له يموتهم.
بقى يشك فى الناس إنهم عاوزين يأذوه ويسرقوه، دلوقتى بقى حزين وقاعد لوحده ومنعزل بس بيهتم بنفسه، بأكله وبنظافته.
بالنسبة لظروف المعيشة تقول الزوجة:
– عايشين أنا وهو فى أوضة إيجار، بقالنا فيها 60 سنة، إيجارها 2 جنيه ونصف، الأرض فيها 3 أوض وحوش وحمام بلدى مشترك للثلاث سكان.
– عندنا سرير وكنبتين ودولاب وثلاجة وبوتجاز وتليفزيون صغير.
– عندنا معاش (تأمين عبد الناصر) 79 جنيه والـ 3 صبيان بيدونا 150 جنيه، يعنى ساعات، مش دايما، يعنى، ومش بيكْفوا، وبنستلف.
يضيف عم عبد الغفار عن نشأته:
– أبويا مات وأنا صغير وأنا عندى 9 سنين، كان “عربجى زيّى” بس اللى أنا فاكره إنه كان طيب وله أصحاب كتير والناس كلها بيحبوه، ماكانش يعمل مشاكل مع حد.
كان بيحبنى أوى علشان أنا أصغر اخواتى وكان بيعاملنا كويس، وعمرى ما شفته ضرب أمى، كان بيصلى ويصوم بانتظام.
– أنا باحب أمى قوى وزعلت عليها جداً، لما ماتت من أربعين سنة، وهى كانت بتحبنى أكتر من اخواتى هى كانت فى حالها، تشحّت اللى عندها، بس ما تاخدش حاجة من حد، كانت بتصلى وتصوم بانتظام.
وتقول الزوجة عن ذلك:
أم عبد الغفار كانت مدلّعّاَه قوى، علشان هو الأخرانى فى اخواته، وكانت بتسلطه عليا علشان يضربنى، ساعات كان بييجى يضربنى وانا نايمة بعد ما هى تقول له عليا حاجات ماحصلتش. أمه كانت وحشة مع قرايبها وجيرانها، ومالهاش أصحاب، هى كانت تشك فى أى حد، ومتآمنشى لحد، وهوّا كان آخر العنقود فى اخواته السبعة([3]).
تاريخ العمل:
بدأ عبد الغفار عمله “صبى عربجى” مع أبيه، ربما فى السابعة من عمره ثم عربجى بعد سنوات قليلة، بعد موت أبيه وهو فى التاسعة (كما ذكرنا)
وتقول الزوجة: كان بيشيل حديد وخشب، وبقى يشتغل مع شركة بيرة، يحمـّـل 20 صندوق ولما يبيعهم، يرجع الفلوس للشركة، وياخد نسبة على كل صندوق. (الشيلة بـ 5 -10 صاغ – صندوق بحاله بربع جنيه)
تضيف الزوجة:
أنا وعبد الغفار كنا بنتخانق على طول، ماكنتش طايقاه، بيضربنى على طول، حتى وانا حامل ويحلف أنه حايسقطنى وحايطلقنى، وكمان ممكن يندهلى بإسمى([4])، ولو فى وسط 100 راجل، واحنا عندنا ده ما يصحش.
ويفسر المريض ذلك وهو يقول:
أنا كنت باضربها علشان مابتسمعش الكلام، وبتعاندنى، أنا كنت بأحبها وهى صغيرة بس لما كبرت بقت وحشة من السكـّر اللى جالها.
وعن شخصيته قبل المرض تقول زوجته:
“عبد الغفار طول عمره بيتخانق كتير فى الشارع ويضرب الناس بأزازة، بمطوة، وكتير بيسنّ الحدوة بتاعت الحصان ويحطها فى جيبه.
ولو حد حتى فى القسم قال له إوعى، يضربه على طول، على طول، كان فى الأقسام مايهموش، ومايندمش ابداً، وعمره ما يقول لحد معلهش.
كان بيضربنى على طول ويورمنى ويزرّقنى، هو بخيل أوى ويحب نفسه أوى.
مايزْعَلش على حاجة، مازعلش غير على بنته اللى اتشلت من سنة.
(وصفت الطبيبة بناء على ذلك أن شخصيته كانت: شخصية ضد المجتمع Antisocial Personality.
وعن مدى إلمامه بالمعلومات العامة أجاب:
رئيس الجمهورية==>حسنى مبارك، رئيس الوزارء ==>أحمد بيه حاجة، مغنى == > عبد الوهاب، مغنية ==> أم كلثوم
(انتهت المقتطفات من ورقة المشاهدة)
*****
الحلقة الثانية:
مقتطفات من المناقشة مع مقدمة الحالة
قبل لقاء المريض:
د.يحيى: المقدمة (الحالة) أنا متشكر على اختيارِك ده، هو غريب شوية بالنسبة للحالات اللى بتقدموها لىّ هنا كل خميس، 84 سنة!!! أنا مابعالجشى المسنين عموما، ده مش اختصاصى الدقيق، مش عشان هما ما بيتعالجوش، أنا باحبهم وباحب العيال، يمكن عشان كده مابعالجهمش، زى ما اكون باعتبر الغلط مش فيهم، والعلاج كمان فى إيد اللى حواليهم، لكن مسألة علاج حدّ من دول أو من دول ومتابعته واحد اتنين تلاته، لأ، دى مسائل مش تبعى قوى، مش اختصاصى الدقيق، أنا مركّز على مرحلة منتصف العمر زى يونج، وساعات حوالين سن المراهقة، أنا باعرف أتفاهم مع العيال والعواجيز تمام التمام، وباعرف أعمل علاقة سريعة جداً معاهم هما الاتنين، العيال والعواجيز، لكن علاج ونظام وتأهيل، غيرى أحسن منى.
لكن قولى لى ياساندرا: أنا بيتهيألى إنتِ بتحبى الراجل ده، …. ليه يا ترى؟
د.ساندرا: باحبه ليه؟! علشان … عشان …
د.يحيى: أولاً أنا إيش عرفنى إنك بتحبيه؟ أنا لسه ما شفتهوش
د.ساندرا: لأ هو أنا فعلاً أول ما شفته فى العيادة يعنى كنت عايزة أعالجه، يمكن عشان راجل كبير يعنى
د.يحيى: عشان راجل كبير بتحبيه بحق وحقيقى، دا كويس، بس برضه هوّا راجل وأنتِ ست، يعنى، ولا ناسيه
د.ساندرا: لأ مش ناسيه
د.يحيى: بتحبيه كبنى آدم، وبتحبيه وبتحبيه كمريض، وانتى ست كواحد مصحصح، بتحبيه كواحد قريّب حاضر، مش كده ولا إيه؟ كل ده موجود مع بعضه، باين فى المشاهدة (Sheet) ([5])
د.ساندرا: آه
د.يحيى: عشان كده أنا أشكرك مرة تانية إنك بتقدمى حد، وانت عاملة علاقة كويسة معاه، لما أنتِ رسمتى صورة له زى بورتريه يعنى جمعتى معلومات عن العائلة من أول أبوه واخواته، لغاية مش عارف أيه، لغاية كل عياله، والبنت اللى اتشلت، وبعدين روّحتى بيتك، وانتِ قاعده لوحدك بقى بعد ما سبتيه، قعدتى تتصورى العائلة دى عايشة ازاى؟ فى أوضه بين أربعة عائلات كل عيلة فى أودتها؟ بمعاش 79 جنيه، وشوية مساعدات من العيال، يايدفعوا، يالأّه؟ ودورة ميه واحده فى الحوش للعلائلات كلها اللى الساكنة حواليها؟
د.ساندرا: تخيلتهم فقرا أوى يعنى
د.يحيى: قِدِرْتى تتقمصى هذا المستوى من الفقر والصعوبة اللى همّا عايشين فيها
د.ساندرا: أنا حسيت بصراحة إنهم من أفقر الناس اللى شفتهم، أو حتى سمعت عنهم، ازاى هّم عايشين فى الأوضة دى،
د.يحيى: طيب إنت ليه يا ترى ماحبتيش مراته؟
د.ساندرا: هى صعبت عليا برضه
د.يحيى: بـَـسَ خلىِّ بالك، الصعبانية غير الحب، إنتى حبيتى الراجل، إنما مراته صعبت عليكى، هل لاحظتى الفرق؟ هوّا صعب لكن مهم، لمّا تكبرى حاتعرفى
د. ساندرا: ربنا يسهل
د. يحيى: إنت لاحظتى معنى قيمة الفلوس اللى اتقالت “الشيلة بكام، والنقلة بكام
د.ساندرا: أيوه لاحظت، وماقدرتش أتصور قوى
د. يحيى: لابد من التدقيق فى كل كلمة
د.ساندرا: ازاى يعنى؟
د.يحيى: ساعات مقارنة الأسعار تحدد لـِـكْ نقلة الحياة اللى حصلت، ويمكن تساعدك فى تقمص المريض.
د.ساندرا: آه
د.يحيى: انتى لاحظتى لما مراته بتقولّك “وكمان ممكن يندهلى باسمى، ولو فى وسط 100 راجل، واحنا عندنا ده ما يصحش!؟ تفتكرى الأصول ينده لها إزاى فى المجتمع ده فى السن ده فى الزمن ده؟
د.ساندرا: هى بتقول لى إنه كان حقه يقول لها يا أم محمد
د.يحيى: شفتى هيا بتعلّمك الفرق إزاى! خلّى بالك إحنا بنتعلم من مرضانا كل حاجة بما فى ذلك الأصول، والعادات، والتاريخ، والحياة اللى احنا مانعرفهاش.
د.ساندرا: آه صحيح، بس أنا مافهمْتش قوى الفرق بين إنه يناديها باسمها أو بأم محمد.
د.يحيى: كان أيام زمان اسم المرأة حاف كده “عَوْرة”، لازم يدّارى، العَوْرة اليومين دول بقت والعياذ بالله حاجات تانية، عشان كده الحالة بتاعتك دى تفيدك فى التعرف على ثقافتنا وعلى النقلات اللى حصلت واللى بتحصل فينا، فى مجتمعنا، ودى أمور مهمة، بتورينا يعنى طول وعمق طبيعة الجارى، العيان ده كتاب كامل، ما استغربتيش لما قال إن الناس بيقولوله “من يوم ما طلعت الحج نفسك كبرت” طلع الحاج ازاى هوّا بالفقر ده؟ “حج” ازاى؟
د.ساندرا: هوّ راح عمرة مش حج
د.يحيى: عندك حق يا بنتى، العمرة غير الحج، بس الطبقة دى بتسميها حج ساعات، وساعات فيه ناس أغنيا يتصدقوا على الناس دول بمصاريفها ويطلبوا منهم الدُّعـَا.
د. ساندرا: آه صحيح، أظن ده اللى حصل.
د.يحيى: يبقى هوّا طلع عمرة بس، وصدقة كما، لكن الأصوات بتقول له: “من يوم ما طلعت الحج نفسك كبرت وما بقيتش تكلم حد”
د.ساندرا: آه، هما بيقولوا له كده
د.يحيى: هما مين؟ الناس؟ ولاّ الأصوات؟
د.ساندرا: الأصوات
د.يحيى: يعنى هو عمل عمرة، والأصوات كتبتها له حج، شفتى الأصوات وفرت له قد إيه!!! إوعى تنسى إن الراجل الطيب ده عنده 84 سنة.
د. ساندرا: لأ فاكرة كويس، ويمكن عشان كده باقدّمه لحضرتك
د.يحيى: إنت بتوصفى شخصيته إنها كانت “ضد المجتمع” مش عايزة تراجعى نفسك؟ ده لو ضد المجتمع ماكنتيش حبتيه كده، ما هو صعب إنك تستعملى ألفاظ موضة موجودة فى الكتب توصفى بيها فترة تاريخية وثقافة مختلفة ما تعرفيش عنها حاجة، طبعاً أنا عاذرك يابنتى، إنتِ ماتعرفيش الدنيا كانت ماشية إزاى أيام لما كان شيل الصندوق بربع جنيه، لو استقبلتى ربع جنيه ده بنفس الأرقام بتاعة اليومين دول حتلاقيكى بعيده عن الراجل ده، العلاج أساسه التعرف على حقيقة أبعاد ووعى اللى قدامك، وإنتِ صغنطوطة لسه، صعب عليكى تعملى علاقه مع راجل كبير زى ده، مع راجل بالفقر ده، إنت عارفه يعنى إيه حمام بلدى مشترك لتلات عائلات فى تلات غرف حوالين حوش، ودا بيعمل إيه فى النفسية بتاعة أفراد تلات أو أربع أسر، كل أسرة فى أوده، لو تقمصت أى حد من السكان دول مش ضرورى الراجل الطيب ده، مش ضرورى يكون عيان، حاتعرفى العلاقات شكلها إيه وبتتشكل ازاى، وبعدين مع راجل بالتاريخ ده صعب، صعب إنك تلملمى كل التفاصيل بحجمها، كل كلمة تسمعيها عايزة واحد يترجمها لك عشان تعرفى دلالتها الحقيقية، واحد زى ده تختبرى ذكاؤه بإنك تسأليه تقولى له إيه وجه الشبه بين الموزة والبرتقالة؟ بقى ده اسمه كلام؟
د.ساندرا: ما هو ما فهمشى قصدى، وقعد يضحك
د.يحيى: والله كويس إنه ماضربكيش،
وأنا نايب سنة 58 كنا بنعمل اختبارات لبحث كان بيقوم بيه استاذى الدكتور عبد العزيز عسكر، كان بحث عن الثعلبة (سقوط موضعى لشعر الرأس أكثر، لأسباب نفسية غالبا)، وأنا باطبّق اختبار ذكاء اسمه “بورتس ميز” (متاهة بورتس) على واحد صعيدى عنده ثعلبه، كان مفروض العيان يمسك قلم ويمشى فى متاهة زى اللعبة بتاعة العيال اللى بتتنشر فى “ميكى” أحيانا، وفيه فار فى ناحية وحتة جبنة فى ناحية تانية، وخطوط مقطعة، وكلام من ده، وكل سنة من العمر لها متاهة أصعب فى أصعب، والصعوبة بتزيد واحدة واحدة حسب السن، وانا باقول للراجل الصعيدى الطيب ده: يالاّ ورينا شطارتك، وارسم خطوط، إزاى الفار ده الناحية دى يوصل لحتة الجبنة دى الناحية الثانية، بص لى الرجل باستغراب زى ما أكون باهبّل وقال لى: ما ينفعشى، فأنا قعدت اتحايل عليه عشان البحث وخايف من الأستاذ،، وهو آخر زَرْجـَـنه، وإن راسه وألف سيف مستحيل الفار يوصل، قلت له يا عم فلان، إذا كان الاختبار ده معمول إنه ينفع، وإن الفار يقدر يوصل، قال لى “لا يمكن مستحيل”، قلت له من غيظى “طب أوريك”، نسيت بقى البحث، ومسكت القلم وبدأت، لكنه قاطعنى وهـّوا بيقول:
طبعاً “إنت تقدر ونـُصّ”، قلت له: “إزاى بتقول مستحيل؟ وفى نفس الوقت أنا أقدر؟ قال لى” إمال أبوك علّمك ليه؟ ما هو أبوك صرف عليك عشان تخلى الفار ده ياكل “حتة الجبنة دى”، بصراحة ضحكت وقررت ما اعملش الاختبار، وابتديت اكمل المعلومات اللازمة للبحث، وإذا به يقاطعنى ويقول: “ألاّ قل لى يا بيه، بقى هو الفار لما حياكل حتة الجبنه دى شعرى حايطلع”؟ ولا كان بيهزر ولا حاجة خالص، يمكن كان بيستقل عقلى وبيوعـِّـينى، زى ما يكون كان بيقوللى كبّر عقلك يابيه وقول كلام ينفع لحالتى.
إنتِ يا ساندرا لو ماكنتيش تاخدى بالك إنتى بتكلمى مين، وإيه اللى ينفع وإيه اللى ما ينفعش، مش حاتتعرفى على عيانينك كويس. لكن قولى لى: إنت عارفه اسم رئيس الوزراء بتاعنا إيه؟
د. ساندرا: اسمه نظيف.
د. يحيى: وهوّ قال اسمه إيه؟
د. ساندرا: أظنه قال اسمه احمد بيه حاجة.
د. يحيى: يبقى مين الأشطر فيكم؟ يبقى نلم اللى انت قلتيه، على اللى هوّا قاله على بعض: يبقى اسمه أحمد نظيف.
الراجل ده لا بيقرا ولا بيكتب، ولا له علاقات من اللى احنا بنحكى عنها اليومين دول، يا ترى إيه اللى حافظ عليه مصحصح كده، ومنتبه زى ما شفنا فى إجاباته عليكى، إنت شطورة خالص إنك تقدمى لى حالة زى دى عشان نراجع الإشاعات اللى إحنا مطلعينها على كبار السن، حالة زى دى تخلينا نعيد النظر، إحنا مجرد الواحد ما يكبر نقول ده بينسى، وتايه، وبيلخبط، كأنها قاعدة.
أنا عادة لمـّـا يخش علىّ فى العيادة حد فى السن دى، أروح قايم وانا منحنى، وساعات أروح بايس إيده، وانا لا أعرفه ولا حاجة، حتى لو كان أول كشف، لما ألاقيها ست طيبة كده وكبيرة، أقول لها إدْعـِـى لى، ساعات قبل ما أقولها أسمك إيه ولا بتشتكى من إيه، ده أحسن ما أبدأ أهين العيان الكبير وابدأ أسئلتى بامتحانات النهارده إيه فى الأيام، وانت فطرت إيه الصبح، بالشكل ده أنا باحاول أكسر الحواجز من بدرى، وباقدر أحصل على معلومات تفيد للعلاج
يا ترى إيه اللى حافظ على ذاكرة العيان ده كده، وعلى تماسكه بالشكل ده؟
الراجل ده بيورينا حاجات شديدة الأهمية، يا رب نعرف من خلالها إن النشاط المعرفى، الانتباه والإدراك والذاكرة، ماهماش قراية وكتابة، مش ده اللى بيحافظ على الذاكرة، نوع العلاقة بالحياة، وبالتفاصيل وبالناس هوّا دا المهم اللى حانحاول نشوفه مع بعض.
*****
الحلقة الثالثة:([6])
الفروض والخلفية النظرية والمقابلة مع المريض
أولاً: تمهيد نظرى:
كثر الحديث بشكل عـام، وفى الطب النفسى (والعلوم النفسية) بشكل خـاص، عن ما يسمى “العلاقـة بالموضـوع”. أصل المصطلح باللغة الإنجليزية هو “Object Relation ، وللأسف، فإن الترجمة إلى العربية ليست كافية، لأن كلمة “الموضوع” فى اللغة العربية لا تشمل – تلقائيا- ما يعنيه التعبير بالإنجليزية، حين نقول “الموضوع” بالعربية لا نعنى فى المقام الأول “الآخر الإنسانى”، تصور أن رجلا يحب “موضوعاً”، “بدلا من “حبيبته” أو أن أمَّا تعتبر ابنها “موضوعها” وليس “ضناها”.
أعترف بصراحة أننى لم أجد باللغة العربية ما يحدد ماهية الموضوع بَشَراَ أو غير ذلك بما يفيد الاستعمال الشائع، تصورت أن أقْرب ما يمكن أن يقترب بنا من المفهوم الذى يحمله التعبير بالانجليزية هو “العلاقة بالآخر”، لكن الموضوع ليس هو فقط “الآخر” البشرى!!
المسألة ليست مجرد صعوبة فى اختيار اللفظ المناسب بالعربية، ذلك أن الموضوع هو “ما ليس الذات”، فمع بداية التمييز بين ما هو “أنا Me ، وما هو “ليس أنا” Not me تبدأ العلاقة بالموضوع، ويتدرج التمييز بشكل مضطرد مع تقدم عملية النمو إلى “من” هو “أنا” و”من” هو “ليس أنا“، وقد تنطمس الحدود بين الذات والموضوع مع زيادة التحوصل على الذات وتنامى الإسقاط، حتى ينقلب العالم كله أو أغلبه ليصبح “كما نراه”، وليس “كما هو”.
لكن إذا توقف النمو، أو ارتد إلى مرحلة سابقة تستلزم تنشيط موقف حياتى أسبق مثل ما يسمى موقف “الكر والفر” مثلا ( أسميه الآن: الطور البارنوى=المخ القتالى)([7]) فإن الموضوع يحتد، ويقوم بوظيفته بكفاءة دفاعية ليست بالضرورة نمائية لكنها بقائية ضرورية حتى تستنفد مرحلتها، ثم يتواصل النبض إلى عودة مع تكرار الاستعادة النابضة.
المدخل إلى الفرض:
عم عبد الغفار، اشتغل عربجيا فى القاهرة وضواحيها منذ سن العاشرة، ثم عمل عربجيا مستقلا بمجرد أن سُمِحَ له بذلك، ربما فى الخامسة عشر، وظل يعمل حتى سن73.
من البداية، كان الشارع بناسه وحركته وكرّه وفره وهو مع حماره يحمل بضاعته، هو الموضوع الأول، وربما الأخير، أما المواضيع البشرية الأخرى مثل أمه القوية المتحيزة التى دللته، وزوجتة الطيبة (تزوجها و سنها 13) التى استعملها فاحتملته، ثم أولاده الذين استقلوا الواحد تلو الآخر، فقد كانت – غالبا- مواضيع تأتى فى المقام التالى، وقد حضرت فى وعيه أحيانا بما هى، لكن غالبا بما صاغه منها.
لم يتردد عم عبد الغفار فى مواصلة تحريك وعيه بالحشيش، والبيرة، لكنه لم يستسلم لأى من ذلك تعودا خطيرا أو إدمانا، وكان يعود بعد التحريك إلى نفس موقف الكر والفر الذى تدعمه حركته الدائبة فوق عربته وراء حماره فى الشارع الغابة، كانت علاقته بايمانه الخاص راسخة، أما علاقته بتدينه فكانت علاقة انتقائية، بلا شعور بالذنب أو ملاحقة بالترغيب والترهيب.
الفرض:
“لم يكن فى مقدور عم عبد الغفار أن يأخذ الموضوع الأساسى “الشارع: الكر والفر” بأى هامشية أو تقريبية أو تماس، وإلا فهو الهلاك فى شوارع القاهرة، الغابة، وظل يقظا سليما منطلقا شجاعا محتجا (حتى ضد المجتمع، ربما كما رأت الزميلة ووصفت شخصيته) وحين حيل بينه وبين هذا الموضوع الأساسى بالذات (أى حين اضطر للتقاعد من كثرة المخالفات)، لم تعد هناك مواضيع حقيقية أخرى من الناس والأحياء والأشياء التى اعتادها حتى لو كانوا يمثلون تهديداً عن بـُعـْد، هذه الموضوعات المحيطة طول الوقت، عبر كلا الشوارع والأمكنة الحادة المتزاحمة المهددة المراوغة المتحدية (الشارع) حافظت على يقظة مشاعره، وحضور ذاكراته، وقدرته على التواصل معها ولو على المستوى الذى توقف عنده، فلما انقطعت هذه الحركة فى غابة الشارع، لم تسعفه علاقته بالموضوع البشرى الخاص (أسرته أساسا)، فتحركت مواضيع محتوىات داخله تملأ الفراغ، ومن ثَمّ ظهر المرض.
بعض المقابلة (معى شخصياً):
إتفضل يا عم عبد الغفار اتفضل هنا، أنا متأسف جداً، سامحنى، لأن حصل غلطة، الدكتورة ساندرا جابتك وأنا قلت لك إستنى ورجّعتك، ماكنتش شوفتها، كانت وراك أنا قلت لك إستنى لما الدكاترة ييجوا، كانوا بيمضوا علشان حضور وبتاع زى الأفنديه الموظفين كده، فكنا مستنينهم، سامحنى معلش…أنا إسمى يحيي، وانا عرفت إسمك من الدكتورة ساندرا
عم عبد الغفار: أهلاً وسهلاً
د.يحيى: إسمى الدكتور يحيي
عم عبد الغفار: أهلاً وسهلاً
د.يحيى: دكتور كبير شوية فى السن على الأقل، زى ما انت شايف كده، وأنا قاعد مع الدكاترة الصغيرين زملاتى وولادى وبناتى زى ما انت شايف برضه، وبناخد وندى علشان نعرف العيانين أكتر، ونفيدهم أحسن، وعلشان نتعلم برضه، واخد بال حضرتك
عم عبد الغفار: أيوه
د.يحيى: واللى نتعلمه نتمنى يبقى لصالحك ولصالح اللى زيك، وصلك الكلام بتاعى
عم عبد الغفار: أيوه
د.يحيى: يا رب خليك، علشان كده إنت شايف الكاميرات دى بنصور المقابلة واحنا بنحكى الحكايه علشان نتعلم ونراجع فى التعليم، مش عشان التليفزيونات اللى فى البيوت، ولا عشان الحكومة، ولازم نستأذنك
عم عبد الغفار: الله يكرمك
د.يحيى: موافق ولا مش موافق على حاجتين: الأول إنك انت تتكلم قدام الناس دول اللى ما انت ماتعرفشى بعضهم، مش بس قدام ساندرا، وبعد كده إن احنا نصور علشان حكايه التعليم والعلم، مش عشان البيوت ولا الحكومة، موافق؟
عم عبد الغفار: موافق
د.يحيى: شكراً جزيلاً، ربنا يجزيك خير على اللى حاينتفعوا باللى احنا بنعمله، طيب عارف الدكتوره دى
عم عبد الغفار: أيوه
د.يحيى: اسمها أيه؟ أنا ما باسمعش أوى علِّى صوتك سـِـنّه
عم عبد الغفار: سـَـمـَـر
د.يحيى: يا راجل تقعد معاك ساعات طويلة عـريضة وماتعرفش اسمها صـــح…. طب ما تعرفش إسمى ماشى، إنما البنت الحلوه دى لأه، لكن قول لى هى حلوة صحيح
عم عبد الغفار: أميرة وبنت حلال
د.يحيى: أنا باسألك سؤال محدد، بقولك هىّ حلوة؟
عم عبد الغفار: أميره وبنت حلال
د.يحيى: يا عم عبد الغفار يا متربى يا مؤدب، الدكتورة دى حلوة ولا مش حلوة
تحريك مشاعر عم عبد الغفار – حتى فى هذه السن- بالسماح له بالتعبير البسيط المباشر عن حضور المعالجة باعتبارها إنسانة لها حضورها الخاص، وشكلها المتميز الذى يمكن إدراكه قبل وبعد حضورها المهنى، بدا لى أنه قد يذيب رذاذ الثلج الرقيق المتمثل فى التأدب الزائد أو العادى الذى يمارسه هذا الكهل الطيب الذى لا تلزمه مهنته ولا طبقته الاجتماعية بالمغالاة فى مثل ذلك، طبعا فارق السن، ودرجة السماح، هما اللذان سمحا ببعض ذلك.
عم عبد الغفار: حلوه وأميرة
د.يحيى: يا رب خليك يا عم عبد الغفار، أنا لسه كنت بقولهم إن أول لما حد يجي فى العيادة عندى ما أنا عندى عيادة بفلوس وبتاع
عم عبد الغفار: طبعاً
د.يحيى: ليه “طبعاً”؟ باين علىّ؟ المهم أنا أول لما حد ييجى لى من الجماعة الكبار اللى زى حضرتك يا عم عبد الغفار أبوس إيده، تحصلـّـى البركة، إذا كانت ست كبيرة أقولها إنت كنتى زمان قمر، واروح مكمّل: ودلوقتى أحلى، يروح وشها ينوّر مهما كان سنها،.. طيب قبل ما حضرتك تيجي هنا، ولا بلاش، أقولك حضرتك مش لازم ما احنا من دور بعض تقريباً
عم عبد الغفار: أنا عندى 84 سنة مواليد 25
د.يحيى: وأنا من مواليد 33 يبقى عندى كام سنة إذا كنت ناصح، أنا من مواليد 1933 يبقى عندى كام سنة
عم عبد الغفار: يبقى 8 سنين
د.يحيى: 8 آه! الفرق يعنى طلعوا 8 سنين صحيح، 8 من 83 يبقى كام يا عم عبد الغفار؟
عم عبد الغفار: إحسب أنت بقى
د.يحيى: أحسبها حاضر، يبقى عندى 75 سنه، يعنى احنا من دور بعض، لكن بس أنت برضه الكبير
عم عبد الغفار: أيوه
د.يحيى: طيب بعد ما الدكتوره سمر، أقولك اسمها بحق وحقيقى على شرط ما تنساش تلاقيك نسيت اسمى مع انى قلتهولك اسمى إيه؟
عم عبد الغفار: أنا مش فاكر
د.يحيى: ماعلش، هوّا أنا ما استهلشى إنك تفتكرنى، ولا استاهل؟
عم عبد الغفار: تستاهل
د.يحيى: إمال نسيته ليه، حاقولك اسمى تانى، ولو نسيته يبقى أنا ما استهلش إنك تفتكرنى، يبقى حق عرب يا عم عبد الغفار، إنت عارف إنك زمان كنت حليوة ولحد دلوقتى، وكان الحريم مبسوطين منك، وكلام من ده، مش كده ولا إيه؟
عم عبد الغفار: الله يكرمك
د.يحيى: هو أنا بامدحك!!؟ ده أنا باسألك يا عم عبد الغفار، مش فاكر؟ ولا مكسوف؟
عم عبد الغفار: فاكر
د.يحيى: … كانت مشيتك فى الحاره اللى هىّ، وكانوا بيبصولك من ورا الشبابيك، أهو انت بتضحك اهه، يبقى حصل، طب وأنا إيه اللى عرفنى إنهم كانوا ورا الشبابيك
عم عبد الغفار: كانوا بيبصوا لى صحيح، كانت عنيه دى خضرة، كانوا بيشاوروا علىّ، أى والله
د.يحيى: ما انا عارف، والدكتورة ساندرا عارفة
عم عبد الغفار: كانوا بيندهو لى علشان يبصولى
د.يحيى: اللى هما مين
عم عبد الغفار: الناس
د.يحيى: الناس ولا الحريم
عم عبد الغفار: الناس الحريم
د.يحيى: ما عَلِشِّ، ما عَلِشِّ، أهي جتلك ساندرا، مش سمر، عماله تحب فيك من غير أى حاجة
عم عبد الغفار: أميرة
د.يحيى: أميرة برضه يا أخى؟ إديها كلمة من اللى هي بتبشبش الستات دى، وبعدين دى بنتك، أو بنت بنتك
عم عبد الغفار: طبعاً
د.يحيى: صح، طيب نتنقل لموضوع تانى، لكن قبل كده نعيد تانى: أنا اسمى أيه؟
عم عبد الغفار: نسيته برضه
د.يحيى: كده برضه؟ ده يصح؟
عم عبد الغفار: نسيته
د.يحيى: الدكتور إيه
عم عبد الغفار: نسيته علشان مخى “مش عليّه”
د.يحيى: يمكن مخضوض من اللمّة دى والتصوير، معلهش، عندك حق، حاقلهولك تالت مرة اشمعنى أنا ما نسيتش إسمك يا عم عبد الغفار هما الـ 8 سنين يعملوا كده برضك؟ إنت مخك زى الألماظ حسب الكلام اللى كتبته الدكتورة
عم عبد الغفار: الله يخليها
د.يحيى: عم عبد الغفار
عم عبد الغفار: أيوه
د.يحيى: حاقول لك إسمى على شرط ما تنساهوش المرة دى
عم عبد الغفار: طيب
د.يحيى: ولو نسيته؟!!! أنا اسمى يحيي، اشمعنى يا خويا فاكر إسم رئيس الوزراء قلت “أحمد بيه حاجة”، وتيجى لحد اسمى ومش عارف، أنا اسمى إيه بقى؟
عم عبد الغفار: يحيي
د.يحيى: قول تانى
عم عبد الغفار: يحيي
د.يحيى: أيوه كده وإذا نسيته بعد كده
عم عبد الغفار: لأ خلاص بقى
د.يحيى: مخك بقى “عليك” دلوقتى
عم عبد الغفار: أيوه، يحيي
د.يحيى: بعد شويه حاسألك تانى اسمى أيه
عم عبد الغفار: يحيى
د.يحيى: شكرا نرجع مرجوعنا للأصوات بقى، مش هي دى اللى بتشتكى منها؟ الأصوات اللى حكيتها للدكتورة ساندرا، انت قلت لها إن فيه أصوات بتكلمك مش كده؟ انت بتسمعها وبتقولك كلام كتير، أصوات بتسمعها وانت لوحدك يعنى، غيرك ما بيسمعهاش! صح؟
عم عبد الغفار: صح
د.يحيى: بتقولك إيه يا عم عبد الغفار
عم عبد الغفار: بتوشوش
د.يحيى: إيه؟
عم عبد الغفار: بتوشوش كده
د.يحيى: وشوشه يعنى إيه؟
عم عبد الغفار: ما بافهمش كلامها أبداً
د.يحيى: ده جزء من الحكاية، لكن إنت قلت للدكتورة حاجات كتير تانية بتسمعها واضحة، الأصوات بتقول كذا وكذا، وبتحكى عنك وبتقول مثلا “من ساعة لما رجع من الحج كذا كذا”، الوشوشه اللى بتحكى عنها دلوقتى حاجة تانية، الوشوشة تقصد بيها الأصوات اللى مابتفهمشى كلامها دى.
عم عبد الغفار: الوشوشة بتاعة الشياطين
د.يحيى: لأ بلاش نسميها دلوقتى، لا نسميها جان ولا شياطين، نأجل التسمية، نسميها أصوات
عم عبد الغفار: آه
د.يحيى: وبعدين حانشوف سوى إيه أصلها وفصلها، أنت تسميها زى ما انت عايز، وانا أسميها زى ما أنا عايز؟ موافق([8])
عم عبد الغفار: أه
د.يحيى: طيب فيه أصوات بتوشوشك فى ودنك وما تفسرهاش، صح؟
عم عبد الغفار: صح
د.يحيى: وفيه أصوات تانية بتفسرها ساعتها، أو بعدها بشوية، بتفسر إنها كانت بتقول كذا كذا.
عم عبد الغفار: بعديها بشوية
د.يحيى: إنما ساعتها ما تفسرهاش
عم عبد الغفار: لأ
د.يحيى: لأ والنبى وضّح لنا الحكايه دى شويه لحسن أنا خايف أوْحى لك بحاجات مش هيه، أه والله، أصلى أنا فى مخى شوية عِلْم باخاف أقوم ملبسها للعيانين([9])، قول لنا لوحدك إيه اللى بيحصل بقى
عم عبد الغفار: أنا عندى بنتى عيانة
د.يحيى: أنا عارف
عم عبد الغفار: أصغر عيالى
د.يحيى: عارف، د. ساندرا قالت لنا
عم عبد الغفار: وأمها رايحة عندها فى البيت
د.يحيى: أيوه
عم عبد الغفار: وبتخدمها، وأنا ما عنديش إلا غرفه فيها العفش بتاعى وبنام فيها، بنام في الغرفة لوحدى، بخاف من الحرامية يسرقوا أى حاجة، ممكن ياخدوا التليفزيون، ياخدوا حاجة من البيت، ياخدوا أنبوبة البوتاجاز مركونه في الحوش، بابقى قاعد صاحى منبه نفسى
د.يحيى: يقوم يحصل إيه بقى؟
عم عبد الغفار: ييجي اللى طلع من تحت السرير على طول وإيده عليا ويقلـّب فيا، أنا أقول له إيه اللى جايبك هنا؟ إنت بتعمل إيه؟ انت جاى منين؟
د.يحيى: ديه غير الأصوات اللى بتوشوش، ثم يا عم عبد الغفار فين الأصوات هنا، دى حاجة بتحصل وانت اللى بتقول لها كلام “انتِ جاية منين”، وكلام من ده
عم عبد الغفار: جُم في يوم لقونى متغطى ببطانية ودوروا الضرب فيـّـا ، ضرب كان جهنم، ضرب ما حصلشى
د.يحيى: ساب علامات بعد لما صحيت؟ ساب علامات فى جسمك شفتها لما صحيت
عم عبد الغفار: لأ بيضربوا فى ظهرى
د.يحيى: ضرب إيه ده اللى ما يسيبشى علامات
عم عبد الغفار: فى رجليه وضهرى ودماغى
د.يحيى: يكونشِ ساعتها كنت نايم يا جدع أنت؟
عم عبد الغفار: ما أنا نايم
د.يحيى: لأه نايم فى النوم
عم عبد الغفار: قمت أجرى رميت البطانية اللى عليا
د.يحيى: إستنى بس يا عم عبد الغفار، دى تـِـفـْـرق معانا، يكونشى كنت نايم؟
عم عبد الغفار: ما أنا نايم على السرير بتاعى
د.يحيى: آه ما أنا عارف، مش قصدى ممدد، متصلطح، لأ، رايح فى النوم، تكون غفّلت شوية فعلا
عم عبد الغفار: لأه، متنبه لنفسى
د.يحيى: مش عارف، أنا مش متأكد من كلامك كده، متنبه مش متنبه، باين دي فيها كلام، فيها كلام ولاّ ولأ…؟
عم عبد الغفار: أيوه صح
د.يحيى: صحّ إيه؟ إنت ماتاخدنى على هوايا؟ نايم صاحى ولا صاحى نايم
عم عبد الغفار: الضرب إشتغل فيّا، رميت البطانية وطلعت أجرى على الباب بره
د.يحيى: بس كلامك شبه الحلم بالظبط، ساعات بيحصل كده في الحلم يا شيخ، الواحد يقوم من النوم بعد كابوس، ويطلع يجرى برضه
عم عبد الغفار: جريت فى الشارع
د.يحيى: هو كان فيه شارع؟ ما أنت كنت في الأودة لسّه، بعد ما الوليه سابتك وراحت لبنتها العيانه
عم عبد الغفار: أيوه أنا طلعت من الغرفة على الباب البرانى، جريت في الشارع، رايح فين، عند ابنى على ناصية الشارع، أمشى بتاع 150 متر، ما هو بتاع دوكوا سواق أصله سواق وعنده تاكسيين
د.يحيى: بتاع دوكوا ولاّ سواق
عم عبد الغفار: بتاع دوكوا وسواق مطلع رخصة
د.يحيى: آه مطلع رخصة بس هو بتاع دوكوا، يعنى بيشتغل الاثنين
عم عبد الغفار: مطلع رخصة
د.يحيى: وبتاع دوكو؟
عم عبد الغفار: آه وبتاع دوكو آه صنعته دوكو
د.يحيى: طيب طيب، بيشتغل دلوقتى إيه؟ دوكوا ولا سواق؟
عم عبد الغفار: بتاع دوكو برضه
د.يحيى: وسواق برضه
عم عبد الغفار: وعنده رخصة سواقة درجة، أولى، معاه رخصة أولى بقالها 35 سنه معاه
د.يحيى: ماشى ماشى رحت ماشى لغاية آخر الشارع، وبعدين؟
عم عبد الغفار: رحت قلت له إلحقنى
د.يحيى: قلت لابنك الحقنى؟
عم عبد الغفار: قاللى إيه يابا؟ مالك؟ قلت له فيه عفريت فى الغرفة، ضربونى ضرب مش قادر أقف، وعمال أعيط واصرخ، قالى لى: طب خلاص إحنا حانروّح دلوقتى، هو ساكن فين، بعد مسطرد
د.يحيى: بعد مسطرد ناحية إيه؟
عم عبد الغفار: مسطرد بعد المرج كده
د.يحيى: ناحية المرج
عم عبد الغفار: بعد المرج كده بشوية، إسمها المرج الجديدة
د.يحيى: فين من بهتيم؟
عم عبد الغفار: تعدى من بهتيم وتعدى الترعه
د.يحيى: عرفت
عم عبد الغفار: وبعد ترعه الإسماعيلية دى تروح البر التانى بعد البترول اللى هناك فكان معاه هو موتوسيكل، العربيات اللى معاه بيشّغل عليها سواقين هوا عنده موتوسيكل
د.يحيى: هناك بلد أسمها “بَلَقْس”، مش كده؟
عم عبد الغفار: لأ دى بلقس دى قبل مننا
د.يحيى: قبل منكم؟
عم عبد الغفار: آه ، وبعدين راح مركبنى على الموتوسيكل، قالى اركب يابا، إركب ورايا على الموتسيكل، ركبت وراه الموتوسيكل مسافة ساعة، وصلنا البيت، طلعت، رحت نايم على الأرض قالى لأه يابا، أنت تنام على السرير، قلت له لأ
د.يحيى: مين اللى قال لك كده، مين اللى قالك قوم نام على السرير
عم عبد الغفار: إبنى ومراته، قالوا لى أطلع نام على السرير، لكن ده أنا مضروب علقة مكسر خالص، ده أنا جسمى مفكك من بعضيه
د.يحيى: يعنى هما اللى ضربوك حايضربوك على السرير، ولما تنام على الأرض ما يضربوكشى؟ (يهم بالكلام، يواصل الطبيب مقاطعاً) إستنى رُدّ علىّ الأول، يعنى لما تنام على الأرض ما يضربوكش ولما تنام على السرير يضربوك؟
عم عبد الغفار: أنا بقيت وسط العالم
د.يحيى: إيه؟ وسط العالم دى يعنى إيه؟ يعنى على الأرض وسط العالم، وعلى السرير تبقى لوحدك
عم عبد الغفار: آه طبعاً
د.يحيى: ما يكونوش هما بيراعو الحاجة الطرية، السرير طري بقى وفيه مرتبة وبتاع، يبقى الضرب حنين ومايعلـّـمشى
عم عبد الغفار: فيه مرتبتين على بعض
د.يحيى: مرتبتين يا عم!! حد قدّك!! مرتبتين قطن ولا بتاع من الجديد ده؟
عم عبد الغفار: لأ قطن
د.يحيى: قطن؟ ماشى، أصل البتاع التانى ده وحش بيوجع الظهر
عم عبد الغفار: قطن متنجد طبعاً
د.يحيى: نمرة كام
عم عبد الغفار: قطن نمره 2
د.يحيى: يا ولد!! إنت عارف كل حاجة! إنت جدع والله العظيم ….!
عم عبد الغفار: أنا مهنتى عربجى فاهم كل حاجة
د.يحيى: يا لهوى على العربجيه دول، انت عارف يا عم عبد الغفار أنا باشوفهم وهما سايقين، بابقى معجب بيهم وهمّا بيتحكموا فى كل حاجة همّ والحصان ولاّ الحمار واحد.
عم عبد الغفار: الحصان! آه والله
د.يحيى: يا لهوى! وباحس إن فى صوابعهم الفرملة مية مية، وابقى مندهش وأنا باشوف الواحد منهم بيحوّد ويفادى، ويهدّى، ويسبق، زى ما يكون ماسك الدريكسيون وتحت رجله الفرامل، أى والله.
عم عبد الغفار: طبعاً
د.يحيى: ولاً لما يركّب النسوان اللى بملايات لف دول
عم عبد الغفار: أغلب السواقين بتوع مصر كانوا عربجية فى الأول
د.يحيى: إمال إيه حكايه “على عوض” دى؟ ليه بيألسوا عليكم بيها، ويقول لك على عوض، ويجرى
عم عبد الغفار: ده كان زمان
د.يحيى: آه كان زمان فعلا، بتوع دلوقتى ما يعرفوش الكلام ده
عم عبد الغفار: لأه
د.يحيى: طيب، خلّى الطابق مستور أحسن الدكاترة تفهمنا غلط
عم عبد الغفار: أنا مهنتى عربجى من زمان
د.يحيى: عارف عارف
عم عبد الغفار: وعندى الرخصة بتاعة أبويا فى جيبى أهـِـهْ
د.يحيى: خلاص بقى، ما انا عارف إن أبوك كان عربجى
عم عبد الغفار: آه أبويه كان عربجى
د.يحيى: يعنى انت عربجى ابن عربجى
عم عبد الغفار: آه عربجى ابن عربجى
د.يحيى: أجدع ناس !
عم عبد الغفار: الله يكرمك، وبعدين معايا اثنين اخواتى، كان الاثنين دول كانوا عربجيه زى أبويه برضك، كان عندنا عربيات
د.يحيى: ورينى يا راجل ورينى البركه (يشير إلى رخصة والده فى يد عم عبد الغفار)
عم عبد الغفار: كنا بنشتغل في إيه، كنا بنشيل كازوزة
د.يحيى: ورينى بس (يأخذ الرخصة)
عم عبد الغفار: ودلوقتى اتغيرت، بقت بيبسى، الرخصة بتاعة أبويه من سنه 23، محطة مصر
د.يحيى: (ينظر فى الرخصة) تمام، ختم المرور أهه
عم عبد الغفار: واخدها من محطه مصر مكتوبة فى الورقه عندك
د.يحيى: صح
عم عبد الغفار: سنة 1923
د.يحيى: يا خبر!! 1923؟ صح صح
عم عبد الغفار: وأنا مولود فى 1925
د.يحيى: الظاهر رخصه أبوك أجدع من رخصتك
عم عبد الغفار: آه
د.يحيى: عم “حسين”، بس مات وانت صغير، خِلِى بيك، كان عندك 9 سنين، انت شفته ياعم عبد الغفار وهو بيسوق العربية
عم عبد الغفار: آه شفته
د.يحيى: ركبت معاه
عم عبد الغفار: آه ركبت معاه العربية وأنا صغير، من وانا عندى 5 سنين باركب معاه العربية
د.يحيى: بس انت جدع إنك أنت محتفظ بالرخصة دى كده يا شيخ وشايلها فى جيبك طول الوقت
عم عبد الغفار: وليها نمرة زرقة وصفرة، أنا عندى الرخصة بتاعتى عندى فى البيت، شايلها ومحتفظ بيها
د.يحيى: وحاططها فى البيت ليه؟ مع إنك جايب رخصة ابوك معاك؟
عم عبد الغفار: أصل رخصتى ما باشتغلش بيها
د.يحيى: يعنى ماشى برخصة ابوك وعاين رخصتك فى البيت! بالذمة يصح؟
عم عبد الغفار: ما يصحش، ما هو أنا بطلت دا وده
د.يحيى: وقـّـف عندك، أنا اسمى ايه بقى؟
عم عبد الغفار: يحيى
د.يحيى: يا ولد!! إشمعنى يعنى دلوقتى؟
عم عبد الغفار: لما كررتها مرة واثنين وثلاثة
د.يحيى: لأه مش مرة واثنين، دا فات مدة طويلة على التكرار ده، يمكن لما صحصحت، ونكشتك وخدنا وادّينا.
عم عبد الغفار: طبعاً
د.يحيى: أنا بصراحة مستبعد ما الأول إن نسيانك ده يكون نتيجة السن، أو تصلب شرايين المخ زى ما بيقولوا، أنا حاسس من بدرى إنك ماعندكش ريحته، ساعة لما تهتم بأى حاجة تروح ناقرها، لما تهتم بحد تفتكر إسمه، فاكر اسم الدكتورة ساندرا؟
عم عبد الغفار: ديه بنت حلال يادكتور
د.يحيى: حانرجع نقول بنت حلال بـَـسْ
عم عبد الغفار: آه أمال أقول إيه
د.يحيى: حلوه وبنت حلال، قول لها ده بنفسك، طب بلاش، ننتقل لحاجة تانية: أنا حاقولك بقى على الحاجات اللى أنا عاوز أوصّلها للجماعة دول، أنا آسف دول دكاتره طيبين وعايزين يشتغلوا صح، الطريقة دى واللى بنحكيه ده يجوز ينفع فى علاجك وأنا باقولها، يمكن تنفع فى علاج غيرك برضه، اللى أنا حاقوله ده سامحنى فيه تستحملنى شـوية لو بعدت عنـك سنـَّـة:
أصل اللى إنت بتحكيه ده شبه الحلم بالظبط، بالنسبه لىَّ يا عم عبد الغفار، واللى انت بتقوله بيأكد لى حاجة فى مخى، أنا عندى فكرة، علم يعنى، بتقول إن الأصوات والحاجات ديه، خصوصاً اللى مش مفهومه، أصلها زى الحلم كده، فإيه رأيك لو أقترح عليك يعنى إنها يمكن تكون حلم، بس مش حلم يعنى زى الأحلام التانية، لأّه، بس حلم لكن مش حلم، إيه رأيك يمكن ولا مايمكنش؟ إيه اللى يخليك تجرى فى الشارع بالشكل ده، ما انا قلت لك إن ساعات الواحد بيقوم مفزوع من الحلم ويجرى حتى لو ماكنش متأكد إيه اللى فى الحلم، ياشيخ وبيسموه كابوس وبتاع ، إيه بقى يخليك ياعم عبد الغفار لما تقول إن ده علم مش حلم، وتقعد تحكى على إنها أصوات، كده وتخليهم يصدّقوا إنك مجنون وكلام فارغ من ده، مش يمكن حلم
عم عبد الغفار: أنا شفتها بعينى وبنفسى
د.يحيى: ما هو احنا بنشوف فى الحلم بعنينا، هوا إحنا بنشوف بقفانا؟ الحلم لما تصحى وتحكيه حاتقول أنا شفت وشفت وحصل وحصل، أنا عندى فكرة بالذات عن اللى انت بتقوله ده وبتوصفه ميّة ميّة، إنه يكون قريب أوى من الحلم، أو شبه الحلم، أو هو حلم، ثلاث كلمات ورا بعض: قريب اوى من الحلم أو شبه الحلم أو هو حلم، إيه رأيك؟ بس ييجى للواحد وهو صاحى نص نص كده يعنى، طب ماجتلكشى الأصوات ديه مرة أو مرات وانت قاعد كده سرحان شويتين؟ أو: وانت بتسوق العربية ساعات فى حتة خلا؟ والمسافة طالت؟ ماجتش مرة كده وإنت بتسوق العربية؟
عم عبد الغفار: أنا بقالى سنين يا سعادة البيه ماسقتش.
د.يحيى: عارف، عشر سنين، إيه يعنى!
عم عبد الغفار: بطلت العربيات علشان البلديه بقى عندنا فى مصر بتأخذ مننا العربيات وتشيلها عندها زى المسجون، وتقولك إدفع 100 جنيه إدفع 150 جنيه، أفضل لحد ما أجمعهم وأروح أدفعهم ليها، هى لامؤاخذه العربيه كلها بكام
د.يحيى: صح
عم عبد الغفار: بعدين غلب غلابى، بعتهم وقعدت خالى شغل
د.يحيى: تصور يا عم عبد الغفار، الدكاترة زملاتنا بتوع العضم فى أمريكا بيعملوا زيك كده ، قعدوا يدفعوا تعويضات على غلطات هايفة فى العمليات لحد ما عدتشى محصلة همـّـها، راحوا سايبين الشغل، بلا وجع دماغ، زى ما انت عملت كده بالظبط، الحكومة تأخذ العربية بـ 150 فى 150 هاتجيب منين، فى ستين داهيه، بس أديك شايف الثمن غالى.
عم عبد الغفار: مرتين ثلاثة بيعملوا العملة ديه، قلت لأه مفيش فايدة، أبيعها، بيعتها وقعدت فى البيت
د.يحيى: أهى دى أكبر غلطة ، بس مش غلطتك لوحدك
عم عبد الغفار: أدينى بقيت قاعد أنتظر عيل من عيالى يدينى جنية أو بريزة
د.يحيى: ياه!!! مش إنت ياعم عبد الغفار، مش إنت ده!! يا أخى وانت طول عمرك شقيان لهم، ده واجب عليهم يا أخى، تنتظر إيه وبتاع إيه، وبعدين بريزة إيه دلوقتى ديه، دى ماتجيبش رغيفين عيش بلدى
عم عبد الغفار: بقالى اربع ايام هنا مافيش غير الوليه اللى بتروح وبتيجى عليا
د.يحيى: مين؟
عم عبد الغفار: الوليه بتاعتى ديه مراتى
د.يحيى: هنا بقى الكلام، إنت واخدها سنها 13 سنة، وهىّ تحت رجليك، بذمتك إنت مقدرها؟ ده أنا ليا حساب معاك على عمايلك فيها دى، مش ملاحظ إن هى اللى باقية لك، وهى اللى بتيجى تزورك فى المستشفى، وهى اللى بتشوف طلباتك، وانت مش حافظ جميلها، ليه بقى؟ هى مستحملاك كل المده ديه وعارفاك من فوق ومن تحت ومن جوه ومن بره وانت مش حافظ جميلها؟ مش خايف يكون ربنا بيعاقبك بالمرض ده علشان إنت ناكر جميل الوليه الطيبه ديه، ثم إيه حكاية بتاعتى دى؟ الولية بتاعتى!! هيه إيه؟ كنبة؟
عم عبد الغفار: يعنى
د.يحيى: ولا انت حاططها فى حسابك، ولا شايف تعبها عشانك وقلت للدكتورة ساندرا حاجات غريبة عن علاقتكم ببعض، كانت بالعافية وكده، ….
عم عبد الغفار: عيالى ماسألوش فيا، بقالى أربع أيام هنا، أمهم بتقول لهم أبوكم راح المستشفى، مين اللى حايسأل عليا، عندى ولد عنده 52 سنه محمد الكبير عامل بيت بأربع تدوار
د.يحيى: يالهوى! جاب الفلوس دى منين؟
عم عبد الغفار: كان بيشتغل، شغلته دوكو
د.يحيى: دوكو؟ آه هوّا ده بتاع الرخصة درجة أولى ده
عم عبد الغفار: لأه ده أحمد، هوّا اللى معاه رخصه درجة أولى
د.يحيى: هو أحمد اللى بتاع دوكو ولا محمد
عم عبد الغفار: كلهم الثلاثة دوكو
د.يحيى: الثلاثة دوكو؟ ماشى
عم عبد الغفار: محمد وأحمد وحسين الثلاثه شغلتهم دوكو ؟ بيجيبولهم العربية مكسرة ومدغدغة كده وفى مسافة 25 يوم يرجعوها سليمة زى ماهى
د.يحيى: صح، دا انت عارف كل حاجة يا عم عبد الغفار
عم عبد الغفار: زى ماتكون طالعة من الشركة بتاعتها لنج
د.يحيى: صح
عم عبد الغفار: دوكو وتصليح وتجديد
د. يحيى: انت يا عم عبد الغفار طول عمرك مـِـنـَـزِّه نفسك، الظاهر ده من دلع امك، وحنية أبوك
عم عبد الغفار: يمكن
د.يحيى: أم محمد مراتك بتقول إن أمك كانت مدلعاك بزيادة، صحيح ده؟
عم عبد الغفار: صحيح
د.يحيى: ليه؟ علشان آخر العنقود؟
عم عبد الغفار: آه آخر العنقود، إحنا 7 إخوات فيهم 4 بنات: 3 رجاله، أنا أصغر واحد فيهم
د.يحيى: باقولك إيه، همّ كانوا بيغيروا من بعضيهم، أم محمد وأمك
عم عبد الغفار: لأه
د.يحيى: كانوا حبايب
عم عبد الغفار: آه
د.يحيى: يا شيخ بطّل بقى، الحكاية مش أوى كده
عم عبد الغفار: مراتى واعـْيه
د.يحيى: مراتك ست طيبة، مش كده، ماهى حـَكِت للدكتورة ساندرا كل حاجة
عم عبد الغفار: برضه مراتى واعية
د.يحيى: هيه لو ماكانتش واعية كانت راحت فى داهية
عم عبد الغفار: هى شاطرة وبعدين هى وليـّه كبيرة فى السن
د.يحيى: يعنى انت اللى صغيـّـر؟ لكن قل لى ياعم عبد الغفار بيقولوا إن الجماعة اللى بيكبروا بيفوّتوا فى الذاكرة يعنى، والفهم ساعات، إنما إنت ياخويا ذاكرتك زى النص، ومخك بيلمع ياترى ليه؟ حتى اسمى أوّل لما عُزْت تفتكره، افتكرته، أنا مش باحسدك
عم عبد الغفار: على أد ماقدرت
د.يحيى: لأه قدرت إيه! ده، انت جميل والله العظيم، عسل، أنا مش فاهم انت ازاى مصحصح كده فى القديم والجديد
عم عبد الغفار: صح
د.يحيى: جبت دا منين يا راجل يا طيب
عم عبد الغفار: ماعرفش
د.يحيى: إنت بتحب الناس ؟
عم عبد الغفار: كان أبويا يحبنى وماودانيش المدارس عشان ما اتضايقشى
د.يحيى: ياخبر! الحب يخليه مايودكش المدرسة، آه صحيح، كان زمان اللى بيحب ابنه ماكانش بيوديه المدرسة، يعنى ياخَىْ كنت حاتعمل إيه؟ أهم اللى راحوا المدرسة اهم (يشير إلى الأطباء الحاضرين) شايف المنظر، كل دول راحوا المدارس لحد ما بطلوا يفكروا من أصله، أبوك خدها من قاصرها، مش عاوز اروح المدرسه يابا، قالك حلال عليك، أقعد معايا عربجى، إبن عربجى، حتى مش ضرورى تفك الخط، على إيه يعنى، قالك اقعد بقى خليك جنبى واتعلمّ من الدنيا الواسعة زيىِّ، وأمك فرحت وزغرطت، مش كده؟
عم عبد الغفار: القصر العينى ده كان جزيرة يعنى كنت أقف على الباب البرانى، على باب الكوبرى بتاع السلطان حسين ده، الدنيا كلها مكشوفه.
د.يحيى: آه صحيح
عم عبد الغفار: أشوف البحر من الناحيه التانية، كانت الجزيرة بتتزرع، كنت أقول للولد إنزل هات لنا شمامتين من الشمام ده، الشمامة بقرشين ساغ، الواحده أد كده هوه، ويقطعه لنا على العربية وكُلْ إنتَ وهُوّه، كان زمان اول لما أعدى الكوبرى بتاع البحر الصغير ده واركن يمين وأقوله إنزل ياولد قول للفلاح ده هات شمامتين كويسين، واروّح معايا غنيمة
د.يحيى: أنا سالتك سؤال وبرضه ماجاوبتش، حودت على أبوك والقصر والشمام، هوه سؤال دمه تقيل شوية، بس يعنى، إنت شكلك كده إنك بتحب الناس، هو انت بتعرف تحب الناس يا عم عبد الغفار؟
عم عبد الغفار: الحمد لله
د.يحيى: بتحب الناس صحيح ؟
عم عبد الغفار: طبعاً
د.يحيى: يعنى إيه؟
عم عبد الغفار: الله يكرمك
د. يحيى: يمكن شكلك ده اللى خلاّنى وخلى الدكتورة ساندرا نحبك، بس الظاهر انك بتعامل الناس زى ما تكون بتسـُـوقْ عربيتك فى الشارع، يتهيألى إن حبك للناس هوّا اللى خلاّك مصحيح كده
عم عبد الغفار: يمكن ده ويمكن ده
د.يحيى: يعنى إيه كلمة بتحب الناس ؟ يعنى إيه ؟ ما كل الناس بيدعوا إنهم بيحبوا الناس
عم عبد الغفار: أنا باصلـّى الفجر حاضر
د.يحيى: بتصلى الفجر حاضر
عم عبد الغفار: آه
د.يحيى: يا ترى إيه علاقة حكاية “بتحب الناس” بـ .. “باصلى الفجر حاضر”، إيش جاب دى لدى
عم عبد الغفار: نعمة من عند ربنا
د.يحيى: بصراحة أنا مصدقك، نسيب دى دلوقتى نرجع مرجوعنا للحلم وللأصوات والكلام ده علشان تخف يا أخى، بس والله مانى عارف، إنت لما تخف حاتعمل إيه وإنت بقالك 10 سنين ما بتشتغلش، لما حاتخف حاتعمل إيه فى السن دى يا عم عبد الغفار؟
عم عبد الغفار: التوفيق من عند ربنا
الربط بين حب الناس بهذا التعميم وبين “باصلى الفجر حاضر” ثم “نعمة من عند ربنا” حرك عندى دلالات مرتبطة بالدين الشعبى وأن القدرة على الحب مستمدة من الارتباط بالوعى الجمعى إلى الوعى المطلق وأنها تختلف عن فعل الحب الخصوصى والحب الامتلاكى ..ألخ (مما لا مجال لتفصيله هنا).
د.يحيى: تصور معايا كده علشان الدكاترة دول غلابة، عايزهم ياخدوا بالهم، تصور إنك خفيت بقى، قال إيه والأصوات راحت، حاتتسلى فى إيه ، ما تخليها أهى بتسليك، خلى الأصوات، بس الضرب بلاش، بلاش الحاجات إللى بتوجع دى
مناقشة وظيفة الأصوات (سواء كانت هلوسات أم خيالات) بديلا عن العلاقة بالموضوع وتعويضا للفراغ الناتج عن هذه النقلة الهائلة من شارع عربجى ملىء بالناس والحركة، إلى غرفة مفردة، وعزلة مفروضة، لا تعنى الموافقة عليها على طول الخط لكنها خطوة نحو الكشف التدريجى وربما التصالح المأمول مع معنى حركية توليد الأصوات، الأمر الذى يمكن ربطه بظهور الهلوسات فى تجارب “الحرمان من الاحساس” Sensory-deprvation ويمكن أن يعتبر مثل هذا الحوار خطوة تمهتدية لإعادة التصالح مع مستويات الوعى.
عم عبد الغفار: إنضربت واستويت
د.يحيى: مش عايز أقول لك تستأهل ماانت ياما ضـَـرَبت، من أول أم محمد لحدّ العسكر فى القسم، معلشى
عم عبد الغفار: مش قادر أقف على رجلىّ
د.يحيى: هوه ماينفعش تيجى أصوات يعنى كده تهزر معاك زى ما احنا بنهزر مع بعض دلوقتى؟ إستنى بس، يعنى ماينفعش تيجى أصوات كده تسليك أحسن من التانية ديه، يعنى لازم ضرب وشتيمة، مافيش أصوات حلوة تطبطب عليك وتشجعك ولا تحبك شوية لحدّ ما نشوف لنا صُرْفة فى اللى حصل ده.
عم عبد الغفار: ياعم خلاص بقى
د.يحيى: خلاص إيه؟ دى أصوات، هو إحنا عملنا حاجة لا سمح الله، دى عزومة على اصوات حلوة، تطبطب عليك وبس على كده
عم عبد الغفار: مافيش، لأنى أنا خلاص كبرت([10]) لما بامشى على رجلىّ مش قادر أمشى، تعبان من ركبتى لحد مشط رجلى، مش قادر أمشى
د.يحيى: طب أنا خلصت اللى عندى ياعم عبد الغفار فاضل إنت تسألنى بقى أى سؤال يخطر على بالك، إسألنى فى حالتك، في حالتى، في حالة الناس، أى حاجة، والنبى تسألنى الله يخليك علشان أحس إنى باخد وباعطى
عم عبد الغفار: أسأل إيه؟
د.يحيى: أى سؤال يا شيخ أى سؤال
عم عبد الغفار: الناس دلوقتى ما بقتشى عندها رحمه ولا تمييز
د.يحيى: وبعدين بقى!!! بأه دا سؤال؟ أسألنى مثلاً: ليه الناس ما بقاش عندها رحمة؟ أسألنى مش تخبّرنى، أنا عارف الكلام ده، أسألنى مثلا: ليه الناس ما بقاش عندها رحمة طب ما هى دكتوره ساندرا عندها رحمة آهه، ولا لأ، هىّ مش ناس برضه.
عم عبد الغفار: أنا بافكر
د.يحيى: ما أنا عارف، ما هو ميزتك إنك بتفكر، ولاّ يمكن دا عيبك
عم عبد الغفار: كنت باشيل إبنى على كتفى ولما بيعوز حاجة كنت اجيبها له، ولما كبر وبقى راجل… (صمت متأثرا)
د.يحيى (مقاطعا): يا سيدى ما انا عارف، طب خلاص دلوقتى، مافيش فايدة في الكلام ده نقعد نعيد فيه ونزيد، فتتوجع وخلاص.
عم عبد الغفار: تعبت، والله تعبت …
د.يحيى: حنقعد نزن ونقول تعبت لغايه لما ربنا ياخدنا، ما تخليك جدع يا عم عبد الغفار زى ما أنت طول عمرك جدع، ما هو ربنا بعت لك ساندرا، واحنا وكل الناس الطيبين دول (يشير إلى الحضور).
عم عبد الغفار: ربنا ياخدنى
د.يحيى: وبعدين. وبعدين؟ يا راجل لا يتمنى أحدكم الموت، دا انت ملان حياة وحيوية، علشان مابقاش ضحكت عليك، بصراحة أنا مش عارف حاعملك إيه بالضبط، كل اللى أنا بتمناه دلوقتى إنك ما تنساناش، لا أنا ولا ساندرا، وتفتكر إن ربنا موجود يا عم عبد الغفار، وان هو حطنا فى سكتك كده بالصدفة، يمكن بالصدفة وان احنا حانمشى سوا واحده واحده، وحاتاخد شوية حبوب بسيطة علشان تنام وتصحي مستريح، وبعدين عاوزينك تسلى نفسك فى حاجة بحق وحقيقى، أديك بتصلى الفجر فى الجامع، نشوف الصبحية تعمل إيه، نشوف العيال اللى هما مشغولين دول ليل مع نهار حاييجوا يزوروك أمتى بالضبط، نعمل جدول، مش غصبن عنهم لأ، نفكرهم ونتابعهم، والحاجة أم محمد نقدرّها زى ما هى تعبت وشقيت معاك، شوف كام سنه لحد النهارده وإنت مش مقدرها، ينفع كده ياشيخ؟ حرام عليك، ما أنت لو حتقدرها، يمكن هى حاترضى وتدّى أكتر، والدنيا حاتتعدل واحدة واحدة، هات وخد.
عم عبد الغفار: الدكتورة ساندرا مّدياها ميعاد تيجى لها دلوقتى، عايزاها هى ضرورى، قالت لها الساعة 9.00 بالظبط
د.يحيى: ما هى ماجتش والساعة بقت بعد 9
عم عبد الغفار: تطلع من بَلَقْس على أحمد حلمى وتخش موقف العربيات بقى، فين وفين على ما تعرف العربية اللى حاتركبها ورايحة القصر العينى
د.يحيى: بصراحة أنا مش عايز أسيبك بس بقى الوقت نعمل أيه
عم عبد الغفار: الله يكرمك ربنا يسترها معاك
د.يحيى: إتفقنا البنيّة ساندرا دى بنت حلال، وهى حاتابعك، ونشوف بعض عن طريقها، موافق؟
عم عبد الغفار: قوى
د.ساندرا: إنشاء الله
د.يحيى: أنا متشكر ياعم عبد الغفار وأنا تحت أمرك بحق وحقيقى بس عن طريق ساندرا، ليه بقى، لأنى مشغول ماباجيش إلا يوم الأربعاء والخميس وبتاع، فلما تطلع بالسلامة ونعمل النظام اللى اتفقنا عليه حانجيب أم محمد ويمكن نجيب محمد أو أحمد وحسين هو حسن، ولا حسين، المهم نعمل زى إيه مجلس عيلة كده، عارف المجالس بتاعة حق عرب بتاعة زمان
عم عبد الغفار: طبعاً
د.يحيى: وننظم المسألة كده على قد ما نقدر، ننظم الصلاة، ننظم الفطار، ننظم الشاى، بتروح القهوة فى مواعيد، ننظم الزيارات، ننظم الواجبات، زى ما يكون يعنى مدرسة ولا شغل، لازم بالساعة واخد بالك
عم عبد الغفار: طبعاً
د.يحيى: ما هو انت برضه لك أصحاب هناك فى القهوة بيروحوا يمكن عشانك؟ أنا عارف الناس بيحبوك غصبن عنك خالص، وبيستنوك مالعصر للعصر، ولا بالليل
عم عبد الغفار: آخر النهار
د.يحيى: آخر النهار؟ ماشى، احنا حاننظم بقى الحجات دى كلها، وشوية دواء خفيف خفيف كده
آخر حاجة بقى عشان أبقى رضيت ضميرى بالنسبة لك، عايزك تاخد اللى احنا قلناه جد، ولو شوية، يمكن الحاجات دى حلم، قصدى زى ما بيحصل الحلم، بس واحنا صاحيين، ويمكن نقدر نظبت الحلم ده شوية شوية بقى، بدال ما نقول تحت الأرض ومش تحت الأرض، يعنى هوّا احنا حانحفر تحت الأرض ، إنما فى الحلم نقدر نتفاهم مع الاصوات([11])
أكرر نفس فكرة التدرج فى التلميح بنقلة إلى الواقع الداخلى كمصدر لكثير من الأعراض الظاهرة ولكن بشكل غير مباشر وبلغة غير متخصص أو متعالية.
عم عبد الغفار: إنشاء الله
د.يحيى: يارب يخليك
عم عبد الغفار: السلام عليكم
د.يحيى: يلا مع السلامة، وعليكم السلام ورحمة الله، شد حيلك.
*****
الحلقة الرابعة: ([12])
تطور العلاقة فى مقابلة تالية بعد أسبوعين
المقابلة الثانية: بتاريخ: 27 نوفمبر 2008 (بعد أسبوعين من المقابلة الأولى)
أثناء لقاء إكلينيكى تال بعد أسبوعين من اللقاء الأول، لفحص حالة أخرى، شاهد الأستاذ عم عبد الغفار يسير فى الممر أمام حجرة اللقاء، فطلب مقابلته للتحية والتتبع، فجرى اللقاء على الوجه التالى:
عم عبد الغفار: ( يدخل نشطا فرحا): السلام عليكم، ازيك يا دكتور، صباح الخير
د.يحيى: صباح الفل عليك، ازيك يا عم عبد الغفار، تعالى ازيك
عم عبد الغفار: الله يخليك
د.يحيى: لو كنت نسيت اسمى بقى حايبقى حق عرب، حق عرب بصحيح
عم عبد الغفار: آه الرخاوى طبعا
د.يحيى: الله يفتح عليك، ايه ده!! دا انت جبتها من الآخر، دا انا على ما حفّظتك اسمى المرة اللى فاتت دوختنى، دلوقتى فات أسبوعين وفاكر اسمى، وبتقول “طبعا”
عم عبد الغفار: لأنى سامع من 50 سنه فاتوا، كانت قامت معركه زمان مع الجزارين فى المدبح، وكان فيهم جماعة الرخاوى
د.يحيى: الله يخرب بيتك، انا مش من بتوع المدبح
عم عبد الغفار: آه
د.يحيى: بس انت ربطها برخاوى المدبح، أصل يا عم عبد الغفار فيه رخاوى فى السويس ورخاوى فى المنصورة ورخاوى فى مصر الجديدة، غير اللى فى المدبح، وانا مش من أى حد دول، شوف المرة اللى فاتت قعدت احفظك قد ايه فى الرخاوى، يحيى الرخاوى، المره دى رحت هوبْ ناطقة زى الصاروخ، الله يفتح عليك، ازيك؟
يلاحظ هنا كل مما يلى:
- أن المقابلة تمت بعد أسبوعين دون أى تذكرة بالمقابلة الأولى
- أنه تذكر الاسم تلقائيا بدءا باللقب “”
- أنه ربط بين اللقب وبين ذكريات قديمة منذ خمسين سنة، لم تخطر على باله فى المقابلة الأولى
كل ذلك يشير إلى انتقائية الذاكرة، وأنه قد استطاع أن يحتفظ فى ذاكرته القريبة بالاسم، دون تدعيم، وأن قدراته المعرفية ما زالت قادرة على التربيط بكفاءة تكاد تكون أعلى من المتوسط، بما يشير إلى أن المقابلة الأولى قد نجحت فى أن ترسى علاقة ما، حافظت على الذاكرة ونشّطت التربيط.
فى هذه السن، وربما فى أى سن بدرجة أقل، ينشط نوع من “اقتصاديات الذاكرة”، بمعنى أن يخصص نشاط الذاكرة لما يهم صاحبها فى لحظة بذاتها، فطالما هى تتراجع حدتها مع تقدم السن، فإن الشخص يوفر طاقتها لما يقرر أن يتذكره، ليس قرارا إراديا طبعا، وإنما من واقع دلالة الانتقاء الوجدانى عادة، فاسم الطبيب تحديدا، مهما كان أستاذا أو أكثر أو أقل، لا يهم عم عبد الغفار فى البداية فى هذا السياق بالذات، المهم فى هذا المقام أنه طبيب كبير، وخلاص، لكن حين يتطور الحوار ليصبح بين شخص له اسم وسن وحضور، يمكن أن تقفز دلالة الاسم بغض النظر عن وظيفته أو صفته، ليصبح المحاوِر شخصا يتميز باسمه بالإضافة إلى صفته (الطبيب الأستاذ)، وقد مضى الحوار فى اتجاه مزيد من تحديد العلاقة مع شخص بذاته يعمل طبيبا، وليس مع طبيب يمارس مهنته وهو غير مُشَخْصَنَ بشرا بذاته.
ويمكن أن نحدد بعض ما نريد التنبيه إليه:
أولا: أن الطبيب المجهَّل الاسم هو مهنىّ أكثر منه بشر مُشَخْصَن (موضوع)
ثانيا: أن إذابة الثلج فى أول مقابلة، تحتاج نوعا من الحوار المتسم بدرجة ما من الجسارة الحذرة
ثالثا: أن الاستطرادات المتعلقة بالموقف، وليس بالضرورة بالفحص الآنى، حتى تلك الاستطرادات الخاصة بالطبيب بعيدا عن موقف التقصى، قد تفيد أيضا فى إذابة الثلج
رابعا: أن استجلاب ذكريات طيبة، جنبا إلى جنب مع تنشيط عملية التذكر حاليا، يغذيان بعضهما بعضا
(ثم تواصَـل الحوار هكذا):
د.يحيى: والله وحشتنى
عم عبد الغفار: الله يحفظك
د.يحيى: باكلمك جد
عم عبد الغفار: الله يخليك
د.يحيى: طب انا وحشتك؟
عم عبد الغفار: طبعا
د.يحيى: لأ مافيش طبعا، يا وحشتك يا ما وحشتكش، من غير طبعا
عم عبد الغفار: وحشتنى صح
د.يحيى: طب سألت عنى
عم عبد الغفار: إنت سألت عني؟
د.يحيى: انا .. يعنى بصراحة افتكرتك، ما انا باجى من الأسبوع للأسبوع، والأسبوع اللى فات ما جيتشى، كان عندى ظروف واعتذرت.
عم عبد الغفار: انا كـِيعانى بتنشر عليا، مش قادر أمسك حاجه بيها
د.يحيى: يا جدع انت صلى على النبى مش وقته إحنا فى كيعانك ولا فى اللى كنا فيه
عم عبد الغفار: ضهرى واجعنى رجليا واجعانى
د.يحيى: يا عم الغفار بلاش تبعد
عم عبد الغفار: ما عملتوليش حاجة، مرتين كتبتوا اجيب دواء، اجيب برشام مرة بـ35 جنيه واول امبارح بـ16 جنيه
د.يحيى: إنت جيبته من بره
عم عبد الغفار: آه والله
د.يحيى: يا حول الله يارب، طب وانا ذنبى ايه؟!
عم عبد الغفار: مره بـ35 جيبته من شبرا وامبارح جيبناه من شبرا برضه بـ 16 جنيه
د.يحيى: وانا ذنبى ايه ؟
عم عبد الغفار: ما هو برضه البركة فيك انت
د.يحيي: هوا حد قال لى حاجة، ما حدش جاب لى خبر، دا انا اللى شوفتك النهاردة فى الطرقة ماشى ندهت لك
عم عبد الغفار: الدكاتره بيكتبوا ورق ويروحوا مديينه للأستاذ بتاعهم
د.يحيى: يا عم عبد الغفار انا شفتك فى الطرقه فقلت لهم اصبّح عليك، واشوفك، وانا مش استاذ رسمى قوى دلوقتى يعنى
عم عبد الغفار: اهلا وسهلا
د.يحيى: لو قلت لهم، والله اجيلك مخصوص، والله باحلفلك يا شيخ
عم عبد الغفار: الله يكرمك ويسترها معاك
د.يحيى: ازيك
عم عبد الغفار: الله يكرمك
د.يحيى: ازاى اخبارك
عم عبد الغفار: الحمد لله
د.يحيى: انا حبيت اطمن عليك
عم عبد الغفار: الله يكرمك ويسترها معاك
يلاحظ هنا أيضا:
- أن المقابلة مضت كأنها معرفة قديمة بين طبيب ومريض بعشم، وصراحة، وعتاب وموضوعية معا
- أن المحتوى لم يتطرق – تلقائيا- لأى من الشكاوى النفسية بأى درجة من الدرجات
- أن الطبيب لم يتعمد أن يسأل عن الأعراض النفسية ، وهذا وارد حين يكون الهدف ألا تدعم اللغة الشكانية النفسية من ناحية، وأن نختبر إن كانت العلاقة – حضور الموضوع هكذا – قد سمحت بإزاحة الأعراض عن الإلحاح على الوعى من ناحية أخرى.
- أنه بالرغم من الآلام الروماتزمية التى يشكو منها، وهى واردة بتواتر فى هذه السن، إلا أنها لم تختلط بمبالغات نفسية، فى صورة جسدنة مفرطة مثلا
- أنه بالرغم من تكلفة (وغرابة) أن يشترى المريض علاجه فى مستشفى حكومى من خارج المستشفى، إلا أن المريض تعاون وفعلها، وكل ما أبداه هو شكواه المشروعة من آلام حقيقية
- أن المقابلة انتهت بسرعة وطيبة دون مطالب لحوح، بما يؤكد أن العلاقة لم تصطبغ باعتمادية لزجة، كان يـُـخشى منها عادة فى مثل هذه الظروف.
*****
الحلقة الخامسة:
الخلاصة
منذ سن الخامسة، أو قبلها، نشأ عم عبد الغفار على عربة ابيه يجرها حصانه فى الشارع – كما بينا – من قبل: ” من البداية، كان الشارع بناسه وحركته وكرّه وفره وهو مع حصانه يحمل بضاعته، هو الموضوع الأول، وربما الأخير” لم يمثل البيت عنده إلا رحم أمه حيث أفرطت فى تدليله حتى كادت بذلك تسحبه إلى رحمها بلا علاقة حقيقية، ولم يمثل أبوه أى موضوع، أى “آخر” بالنسبة له.
كان الأب حنونا على صغيره المرافق له لا يرفض له طلبا، وهو نفسه الذى كانت حياته الحقيقية تجرى غالبا فى الشارع “كارا- فارا” طول الوقت، ويبدو أن هذا لم يكن يشمله وحده، بل هى كانت ثقافة عربجية ناجحة ممتدة إلى إخوته الذين كانوا يمتهنون نفس المهنة ، عربجية، وجاء موت الأب باكرا وعبد الغفار الطفل ما زال فى السابعة لينطبع (الأب) أكثر غورا فى كيان الطفل بما هو كما هو.
ظل عم عبد الغفار يكرس كل حياته ما بين الشارع الغابة، والمنزل الرحم، فلم تتح له فرصة تنمية علاقة جدلية مع آخر له بعض سمات ما أسميناه “الموضوع”.
زوجته تزوجها فى سن الثالثة عشر، ويبدو أنها حاولت أن تكون “مشروع موضوع” بحق، برغم صغر سنها، إلا أنها لم تكن بالنسبة له إلا أداة خدمة فى السرير والمطبخ، وبرغم أنها لم تشك أو تقصر، إلا أنها لم تكن بالنسبة له موضوعا أبدا، وحين انتهى عمرها الافتراضى- من وجهة نظره، كما اسلفنا – وأصيبت بالسكر، لم تعد صالحة للاستعمال (من وجهة نظره على الأقل) فلم يعد يطيقها، وهو لم يطقها أبدا من قبل إلا للذته، ثم أكملت عليها أمه بالغيرة منها، فتحيز لأمه على طول الخط،
الإخوة والأخوات لم يمثلوا أية موضوعات لعبد الغفار، وحين وصفته زوجته أنه
“ما بيزعلشى أبدا على حاجة”،
يبدو أن ذلك يمكن أن يفسر لنا عدم تأثره بفقد خمسة من إخوته الستة فى أعمار متفاوتة (24& 37& 20& 70& 60 ) وذلك بعد فقد أبيه وهو فى سن التاسعة.
ثم إنه كما ذكرت الزوجة لم يقابل تقرب إخوته له بمثله ، تقول الزوجة:
إخواته كانوا بييجوا يسألوا عليه، بس هو ما كانشى يسأل عليهم، ولا يزورهم”
عاش عم عبد الغفار هكذا:
الحياة معركة
والشارع غابة
والبيت هو الرحم (بيت أمه تحت مظلة أبيه الحانية حتى مات باكرا)
راح عم عبد الغفار يتمسك بالطور البارانوى (الكر والفر) مع عودة محدودة مؤقته إلى الطور الشيزيدى (اللاموضوع – فى ظل الهيدونيا اللاغية للموضوع -: أمان الرحم)، وهو واقف فى مكانه !!
وكل ما عدا ذلك من بشر هم “للاستعمال الشخصى”، يُستعملون من الظاهرن بدون عواطف، ولا علاقات ، فلا موضوع
حتى هذه المرحلة ليس فى ذلك أى مرض، ولا أى عيب ولا شكوى بالمعنى الشائع.
توقفه عند طور الكر والفر جعل حياته كلها سلسلة من الهجوم والدفاع
الخسارة بمعنى توقف النمو واردة، لكنها ليست فريدة، ولا نادرة، بل يبدو أنها الغالبة
صبغت هذه الآلية الغالبة النابعة من الموقف البارنوى كل تصرفات عم عبد الغفار حتى بعيدا عن العربة والحصان والشارع.
ثم يبدو أن الزوجة قد فشلت فعلا – برغم جهودها حتى بعد دخوله الآن المستشفى- أن تثير فيه أى احتمال لعمل علاقة بأى أسلوب آخر غير الكر وافر
علاقة “الكر والفر” غير مرفوضة تاريخيا، بل يبدو أنها العلاقة الأكثر تناسبا مع قوانين البقاء البدائية اساسا (مع أن هناك قوانين للبقاء يجرى اكتشافها مؤخرا تنفى أن تكون هذه العلاقة هى الأهم، أو هى الأرجح للبقاء)،
علاقة الكر والفر علاقة أيضا غالبة فى الحياة المعاصرة ، خاصة فى مجالات التنافس الاقتصادى، والإذلال السياسى، والاستغلال البشرى، وهى تظهر فى أبشع صورها أثناء الحروب الحديثة ، والمؤامرات الغالبة من الأقوى فالأقوى.
فإذا كانت هذه العلاقة هى التى حافظت على حياة عم عبد الغفار، فلا لوم عليه من حيث المبدأ، ولا على الآخرين، كما فعل أولاده غالبا باستقلالهم وجفائهم، وربما كما فعلت زوجته بالاستسلام المتألم ، أن يقرروا موقفهم من هذه العلاقة، ويدفعوا ثمن استمرارهم أو انسحابهم
نحن نعرض لهذه العلاقة الآن فى هذا المجال ليس لأنها دليل مرض فى ذاته، ولكن لنبين كيف أنها ليست مضمونة الاستمرار، ذلك أن توازن من اعتمد عليها وحدها (أو اضطر لذلك) يختل بمجرد أن تختلف الظروف فلا تسمح باستمرارها (حدث ذلك فى هذه الحالة حين اضطر عم عبد الغفار للتقاعد) .
حين توقف عم عبد الغفار مرغما عن “عربجته” التنمرية – بعد تكرار مصادرة عربته، وتغريمه بما لم يعد يطيقه – ظل ثمان سنوات بلا أعراض مرضية صريحة، يبدو أن “موضوعات الداخل كانت من الحيوية بقدر ما كانت من التلاؤم مع شخصيته، بحيث لم تُضطر أن تقتحم وساد وعيه الظاهر طوال فترة الكمون هذه”
لكن حين زادت وحدته، وانصرفت عنه زوجته وقتا أطول فأطول بسبب مرض ابنتها، وربما حالت أوجاعه الجسمية دون الحركة الطليقة إلى “الشارع الغابة ” – حتى بدون عربجته أو عربته – حين تجمع كل ذلك قفزت موضوعات الداخل لتغذى نفس الآلية: “الكر والفر”
قفزت اصوات “الرجالة والستات “
أنا بأسمع أصوات رجالة وستات”،
والعفاريت المجسدة المعتدية بالضرب الفعلى
وبعـد
حين يكون الأمر كذلك، فما هو المفروض أن نقدمه لشخص فى هذه السن، بهذه التركيبة؟
بالنسبة لحالته شخصيا، فقد أظهرنا فى الحلقة الثانية أن غاية ما يمكن هو تنظيم حياتى ملزم، يملأ ما تبقى من عمره بشكل آمن ولو قليلا، ولكن لا ساكنا ولا فارغا، بالإضافة إلى محاولة تهدئة هذا الداخل الثائر بعد أن انقطعت مثيرات الخارج المحفزة.
هذا شخص قد عاش بآلية غالبة طوال حوالى سبعين عاما (منذ بدأ ركوب العربة مع أبيه سن خمس سنوات) إذ راح يتلقى العالم الخارجى فى شكل الشارع الغابة، يرتاح منه بعض الوقت فى الرحم البيت الأم
ثم عاش ثمان سنوات مؤتنسا بالغابة داخله (الموضوعات المتربصة الكامنة)
وحين زادت الوحدة، وخفتت حدة مثيرات الخارج فى السنتين الاخيرتين قفزت موضوعات الداخل إلى وساد وعى اليقظة الظاهر (وأحيانا مستوى الوعى بين اليقظة والنوم)
لا يجوز أن نكتفى بأن ندمغه باعتباره أنانيا يدفع ثمن إلغاء كل من هو آخر يمكن أن يأخذ بيده ليتجاوز هذه المرحلة، لقد فات الآوان.
وأيضا يستحيل أن ندعه تحت رحمة هذا الداخل المنقض، حتى لو أدى إلى تماسكه بعض الوقت، وخاصة وأن صحته الجسدية أصبحت مهددة، وأيضا غلب عليه حزن.
إن ما يمكن أن نتعلمه هو أن ننتبه ، فى التربية والوقاية، إلى أن نجاح آليات أقل نضجا فى الحفاظ على استمرار الحياة العادية ، ليس شهادة بأنها غاية المراد، ذلك لأنها متى انتهى عمرها الافتراضى، أو ظهرت ظروف جديدة لا تسمح لها بأن تمارس دورها بكفاءة كما كانت سابقا، اختل التوازن، وظهر المرض أو ما هو أسوأ.
خاتمة:
بقيت بعد ذلك مناقشة كيفية حضور هذا العالم الداخلى هكذا، تعويضا مرضيا، فى صورة الهلاوس والضلالات والخيالات، التى ظهرت، وبالذات فى أى مستوى من الوعى، وما هى علاقة كل ذلك بما هو “حلم”، كما جاء تلميحا وتصريحا،
وكل هذا يحتاج إلى تفصيل “نفسمراضى” ربما نعود إليه مع صديق آخر فى أحوال أخرى.
[1] – قسم الطب النفسى – كلية الطب – قصر العينى: 13-11-2009
[2] – كانت عـُمـْره، تبرعا صدقة له ولزوجته من شخص كريم ، ولكن عم عبد الغفار، اعتبر أنها أكثر مما يتوقع الناس، ومن ثم استقبل همسهم على أنهم استكثروا عليه “الحج” وليس فقط العمرة.
[3] – لاحظ الفرق بين وصف عم عبد الغفار للأم ووصف الزوجة!
[4] – فى هذه الثقافة: من العيب أن تنادى المرأة باسمها خاصة إذا كانت قد أنجبت فيقال لها أم فلان (اسم ابنها الأكبر أو حتى ابنتها) وحتى إذا لم تكن أنجبت فقد تكنـّـى باسم والدها.
[5] – انظر هامش رقم (10)
[6] – المقابلة الأولى: مقابلة التعرف بتاريخ 13 نوفمبر 2008
[7] – مرجع هذه الأبجدية هو الإسهامات الأحدث لما يسمى “الطبفنسى الإيقاعحيوى التطورى”
[8] – هذه البداية تصلح عادة، وبالتدريج وحسب نمو العلاقة فى توصيل رسالة النفسمراضية (السيكوباثولوجيا) إلى المريض بأبسط أسلوب، للتعامل لاحقا (فى الوقت المناسب) مع الواقع الداخلى وعالمه الزاخر.
[9] – هذا التحذير لاستبعاد الإيحاء مفيد عادة، لكنه غير مضمون دائماً!!
[10] – يبدو أن الذى وصل لعم عبد الغفار هو تلميح بعلاقات نسائية عاطفية أو أكثر.
[11] – مزيد من التلميح عن إمكانية إعادة النظر فى مغزى وطريقة تكوين الأعراض سواء كانت هلاوس أو خيالات وعلاقة ذلك بالأحلام بشكل أو بآخر.
[12] – المقابلة الثانية: بتاريخ: 27 نوفمبر 2008
محتوى الكتاب
محتوى الكتاب
العنوان | صفحة |
– الإهـداء | 3 |
– مقدمة | 5 |
الحالة الأولى: الفهد الأعرج | 9 |
– تعريف، وفروض، وبداية المناقشة | 11 |
– بعض معالم الفروض والتشكيل | 14 |
– رؤوس مواضيع | 15 |
النقاش المبدئى مع مـُـقـُـدم الحالة | 16 |
– المقابلة مع المريض | 23 |
– تعقيب عام | 54 |
– الملحق | 56 |
الحالة الثانية: الكهل “ٌالعربجى” – النـَّمـِرْ – يعلـِّمـُنا | 61 |
– مقدمة | 63 |
الحلقة الأولى: عرض موجز للحالة، مع المناقشة المبدئية لمقتطفات من ورقة المشاهدة (Sheet) | 65 |
الحلقة الثانية: مقتطفات من المناقشة مع مقدمة الحالة | 67 |
الحلقة الثالثة: الفروض والخلفية النظرية والمقابلة مع المريض | 73 |
الحلقة الرابعة: تطور العلاقة فى مقابلة تالية بعد أسبوعين | 97 |
الحلقة الخامسة: الخلاصة | 101 |
– خاتمة | 105 |
تمام