- الاهداء والمقدمة
- الفصل الأول
- الفصل الثانى
- الفصل الثالث
الاهــداء
إلى أولادى وبناتى: محمد، منى، مى، مصطفى
أمِلاً أن يشرق، فى وعيهم، لهم، وللناس:
بعض ما وصلنى، من الناس، ومنهم.
مقدمة:
هذا العمل يتكون من مداخلة أساسية عن علاقة العلوم النفسية بالنقد الأدبى وهو يقدّم معارضة لفكرة أن العلوم النفسية وبالذات التحليل النفسى الكلاسيكى، أو الطب النفسى يمكن أن يكون مرجعا يقاس به أو عليه النص الأدبى نقدا، ففكرة التحليل النفسى للأدب، أو التفسير النفسى للأدب هى فكرة – مهما كانت مفيدة ومنتشرة – تحتاج إلى مراجعة. الأدب أسبق فى اكتشاف أغوار النفس من العلوم النفسية وخاصة فى صورتها الحديثة. الأوْلى أن نتكلم عن “الكشف الأدبى للنفس”، قبل التفسير النفسى للأدب، وحتى إذا تعارضا، وهو أمر وارد، فعلينا أن نحترم إبداع المبدع بقدر أكبر من الاعتداد بتنظير عالم النفس أو الطبيب النفسى، أو حتى الناقد النفسى. هذا هو ما تتناوله هذه المداخلة.
الفصل الأول يشمل مقدمة عن “إشكالية العلوم النفسية والنقد الأدبى” وقد نشرت فى صورتها الأولى فى مجلة فصول (المجلد التاسع عدد 3، 4 سنة 1991) وحين رأيت أن أعيد نشرها مستقلة فضلت أن ألحق بها تطبيقين هما الفصلين الثانى والثالث نقداً لأعمال ديستويفسكى، آملا أن يظهر من خلال ذلك كيف نتعلم من قراءه بعض أعمال ديستويفسكى فى سيكولوجية الطفولة (نيتوتتشكا نزفانوفنا، وهامش من البطل الصغير)، ثم كيف سبق دستوفسكى إلى سبر غور أبعاد العلاقات البشرية (العلاقة بالموضوع/ بالآخر) سعيا إلى هارمونية البشر معا إلى الكون الأعظم (إيمانا)، وذلك فى الإخوة كارامازوف.
بعد انتهائى من المراجعة قبيل النشر عثرت بين أوراقى لاحقا على ما يمكن أن يجيب عن التساؤل الذى يخطر على بال القارئ بعد قراءة المتن وهو السؤال الذى يقول: إذا كان ما يسمى النقد النفسى مقولا بالتشكيك هكذا، وكان المؤلف يمارس قراءته لنصوص متنوعة نقدا منشورا متداولاً معروضا للنقاش، فمن أى موقع يمارس هذا النقد إن لم يكن يمارسه من موقع تخصصه الأول (الطب النفسى)، أو من موقع النقد الأدبى الأكاديمى؟
فى تلك الأوراق، وجدت بعض الإجابة، فجعلتها ملحقا للفصل الأول، وهى شهادة المؤلف ناقدا ضمن شهادات النقاد، حين تفضلت مجلة فصول باعتباره كذلك، وعرضت عليه أسئلة محددة عن ممارساته النقدية بين نقاد ثقاة، وذلك فى عدد فصول، المجلد التاسع – عددا 3-4 فبراير 1991.
إشكالية العلوم النفسية والنقد الأدبى
– 1-
تنويعات ما يسمى النقد النفسى
يكاد يجمع النقاد والدارسون على أن أحدا لم يدع وصاية لعلم النفس بخاصة، والعلوم النفسية بعامة، على الإبداع الأدبى، وخلاصة ما اتفقت الغالبية عليه هو”.. أن الأدب وعلم النفس منهجان متوازيان فىارتياد الحقائق (التى تمثل هذه الحياة، والتى تشكل علاقة الإنسان بها).. وليسا متداخلين”، “.. وأن الميدان الصحيح الذى يمكن أن تستغل فيه نتائج الدراسات النفسية، هو ميدان النقد الأدبى”[1] و “أن الكاتب المبدع يعبر، والعلم يفسر… إن الإبداع يسبق الكشف العلمى بزمان”[2]، بل إن توصية مناسبة بنسيان حقائق هذا العلم (علم النفس) تبدو لازمة “… لتحقيق الشرط الأول للخلق الأدبى”[3]. وهكذا يبدو أن الأدب فى مستواه الإبداعى الأول قد تخلص من أية وصاية علمنفسية. لكن الإشكالية بقيت دون حسم فى مجال الإبداع الأدبى على مستوى النقد، على أساس أن العملية النقدية أقل حاجة إلى تلقائية الإبداع، وأنها أكثر حاجة إلى تعدد مصادر المعرفة، ومن بينها العلوم النفسية. قد يصح هذا الظن أو ذاك قليلا أو كثيرا، وإن كان لا يصح دائما ولا بنفس الدرجة مع تعدد مناهج النقد: وما زال الخوف واجبا من تدخل هذه العلوم تدخلا معطلا أو مشوها، خصوصا إذا كان بجرعة غير محسوبة، أو غير مناسبة.
ولكن إذا كان الإبداع الأدبى يسبق إلى معرفة للنفس أبعد وأعمق من تلك المعارف المتضمنة فى هذه العلوم (النفسية) بشهادة أهلها[4]، فأى دور يمكن أن تلعبه هذه العلوم فى عملية النقد الأدبى؟
الإجابة ليست سهلة، ولكن المحاولة لازمة، وهذا هو بعض مهمة هذه المقدمة. ينبغى علينا ابتداء أن نفرق بين العلوم النفسية، والمشتغلين بها: فقد يكون ثم مجال لمعطيات العلوم النفسية تسهم به فى النقد الأدبي، ولكن هذا لا يعنى – بشكل تلقائى – أن المشتغلين بهذه العلوم هم القادرون أساسا على القيام بهذا الدور: فلا يخفى أن أغلب من تناول منهم – بنجاح – موضوع النقد الأدبى كان له دور شخصى مواز فى تذوق الأدب، وربما فى الإسهام فى الإبداع الأدبى بشكل أو بآخر. بدءا من فرويد، نستطيع أن نؤكد أن جماع معرفته العلمية، مع قدرته الأدبية، هو الذى مكنه من خوض هذا المجال المتميز، صائغا رؤيته المبدعة بأبجديته المعرفية النفسية فى تكامل مناسب. كذلك فإن شاعرية يونج ورؤيته ورآه هى التى سمحت بالفتوى المضيئة والإسهام النقدى الرحب اللذين تميز بهما. وليس هناك مشتغل بالعلوم النفسية يدعى لنفسه – دون استعداد مناسب أو إعداد منظم – حق النقد الأدبى لمجرد أنه “عالم” فذ فى مجاله. وحتى شهادته لناقد “نفسى” هى رأى لا ينبغى الاعتماد عليه (هكذا)، لأنها ليست شهادة فى فرعه وإنما هى بمثابة “نقد النقد”: وهى عملية أكثر تصعيدا، ومن ثم ألزم إبداعا. ثم إن “الإعداد المنظم” أيضا قد لا يفيد بمعنى أنه لا يعطى حق النقد المبدع للمجتهد فيه، على الرغم من أنه قد يفيد فى حذق تطبيق منهج بذاته (سلوكى فى العادة) فى دراسة نص من بعد معين (وهذا ليس نقدا فى ذاته).
هكذا نجد أنفسنا فى موقف دائرى محير: فالعالم فى الدراسات النفسية (بما فى ذلك الطبيب النفسي) ليس مؤهلا للنقد النفسى” والناقد الأدبى ليس عالما فى النفس (وإن كان عارفا بالنفس). وهذا الموقف المحير ذاته هو الذى يلزمنا “بحوار ما” بين النشاطين، لعلنا نجد مخرجا (أو مهربا) من هذا المأزق أو به. وهذا ما سأحاوله فى هذه المقدمة.
– 2-
إذا عدنا نقول: إن الأدباء “النقاد” من “هواة” العلوم النفسية هم الأقدر على القيام بهذا الدور الخاص، لكان أوجب الواجب أن يقدم لهم المختصون الزاد المناسب الذى يعينهم فى أداء مهمتهم الصعبة. وأول هذا الزاد هو وجوب مراجعة ما شاع بين العامة والمختصين حول ماهية العلوم النفسية مجالا ومنهجا. وبغير ذلك فلا أمل فى درجة مطمئنة من التواصل لتبادل المعارف ومواجهة المسئولية. وقد تحمل هذه “المراجعة” قدرا من المفاجأة لا يتوقعه القارئ ولا حتى الأديب المجتهد: وقد يختلف حولها المختصون أشد الاختلاف: لكن هذا الاختلاف فى ذاته هو الحقل الرائع المتعدد الثمار الذى يسمح للأدباء النقاد بانتقاء ما يساعدهم فى مهمتهم التى تتخطى بالضرورة مرحلة الهواية إلى ريادة متميزة يمكن أن تضيف إلى هذه العلوم (النفسية) ذاتها ما هى فى أشد الحاجة إليه – وذلك من واقع إسهام نقدى إبداعى متجدد.
* * *
بداية: تعبير “علم النفس” يكاد يوحى للجميع بأننا اتفقنا على ما هو “علم” وما هو “نفس”، ومن ثم: ما هو علم نفس، من كثرة ما اقترن اللفظان أحدهما بالآخر (علم/ نفس). غير أن حقيقة الأمر تعلن العكس تماما[5]: فالأغلبية تستعمل هذا التعبير بلا تحديد جيد حتى إننا لنكاد نتحاور كما يتحاور الصم.
واقع المرحلة المعرفية الحالية يقول: إن ما هو “نفس” مازال أمرا غامضا: فهو ليس مرادفا للروح (من أى منطلق ميتافيزيقي)، ولا هو محدد بسلوك ظاهر (تحت أى دعاوى منهجية)، ولا هو مظهر لنشاط عصبى جزئى (مع أى تدعيم معملى أو “قياس” فسيولوجي). كذلك فإن النفس ليست هى بعض مظاهر نشاطها: حيث اعتاد كثير من الناس – من بين العامة والخاصة – أن يطلقوا ما هو “نفسى” على ما هو انفعالى أو وجدانى أو حتى ما يشير إلى الشخصية الظاهرة (أو “القناع”). فإذا هربنا إلى (أو “فى”..) تعريف غامض – برغم صحته – وقلنا إن النفس هى النشاط الكلى للمخ البشرى[6]، لم ينفعنا شيئا، وإن نفى – ظاهريا، ومن حيث المبدأ – الاختزال التجزيئي. على أن هذا “النشاط الكلى” إنما يشير أساسا إلى عمليات التناول والتكامل والتآلف بين مستويات الوعى (بما تشمل من سلوك ظاهر وكامن)، وما يقابله من مستويات تنظيمية تركيبية حيوية مخية، وهو لا بد أن يقربنا كثيرا من مفهوم النفس كما ينبغى أن نتفق عليه من حيث أنه ينماول “مستويات الوعى ونتاجها معا”. إذن: فما النفس (عند الإنسان) إلا ما يرادف ما يتميز به ما هو إنسان، حالة كونه نشطا ذهنيا وجسديا على مختلف المستويات (“معا”،.. و “بالتناوب”). و على ذلك يتسع الأفق إلى رحابة مزعجة، حيث يشمل هذا النشاط الإنسانى كل ما يندرج تحت المعرفة والوعى بكل مستوياته واحتمالاته واتجاهاته ودوافعه وتكثيفاته وولافاته[7].
ومع ذلك (ولذلك) فلابد من تخصيص، فهل هو ممكن؟
نرجىء الجواب عمدا ثم نخطو إلى منطقة أخرى، حيث نبحث كيف اتصف هذا النشاط المعرفى (العلوم النفسية) بعلميته، ذلك أن ما يسمى بالعلوم الإنسانية بعامة، والعلوم النفسية بخاصة، يثير إشكالية لم تُحل بعد. أدى ذلك إلى إثارة قضايا لم يقتصر أثرها على مدى موضوعية هذه العلوم[8] (بالمعنى التقليدى المطبق فى العلوم الطبيعية)، بل امتد حتى هدد بقاءها فى حظيرة العلوم أصلا. على أننا إذا رضينا أن يكون “العلم” هو ما يشير إلى “مجموعة منظمة من المعارف” فإننا نستطيع أن نتصور بالنسبة للعلوم النفسية أننا أمام علم “ما”: أما إذا ارتأينا أن العلم لا بد أن يخضع لمنهج بذاته (تجريبى وقابل للإعادة غالبا)، فإن الحلقة تضيق حتى تكاد تستبعد العلوم الإنسانية من حظيرة العلوم أصلا (اللهم إلا علم السلوك: أنظر بعد).
ما دام الأمر كذلك فإننا لا بد أن نراجع الاستعمالات المختلفة لصفة “النفسى” التى يستعملها المشتغلون بما يسمى “المنهج النفسى للنقد الأدبى”. فهناك من قّدر أن كل ما يتعلق “بالنفس”، أو الوظائف النفسية (ما يندرج تحت علم النفس العام) أو ما يؤثر فى نفسية الأديب، هو من صميم هذا التخصص. وقد تضيق الحلقة وتتحدد حتى تقتصر على التحليل النفسى بعامة وما يرتبط به من معارف[9]. وقد تزاد الحلقة ضيقا لتقتصر غالبا على التحليل النفسى الكلاسى أو الفرويدى بخاصة[10]. على أن ثمة محاولات قد تواترت فى اتجاه التعريف والتحديد دون اتفاق كاف. ومن ذلك محاولة قميحة[11] أن يطلق تعبير ” المنهج النفسى فى النقد” بشكل عام على عدة ألوان من النشاط المعرفى الإبداعي، تتعلق بدراسة (أ) كيفية الإبداع أو (ب) دلالة العمل الأدبى على نفسية صاحبه أو (ج) كيفية تأثر المتلقى للعمل الأدبى ومطالعاته.
هكذا تمتد المساحة لتشمل دراسات الإبداع السلوكية من جانب، وفلسفة الجمال من جانب آخر.
وفى محاولة تحديد أخرى: ميز عز الدين إسماعيل بين التفسير النفسى والتفسير التحليلى[12] على أساس أن التفسير النفسى مهتم أساسا بتشخيص (أو تصنيف) حالة بطل أو مبدع، وهو ما يقع فى مجال علم الأمراض النفسية أو الطب النفسى أو حتى علم الطباع: أما التفسير التحليلى[13] فقد استعمله الناقد وهو يحاول أن يشير إلى ترجيح جانب التحليل النفسى (الفرويدى حسب ما استوعبه) عما سواه، إلا أنه فى التطبيق تجاوز التحليل النفسى إلى آفاق أرحب.
وفى محاولة مختلفة: اقترح ناقد آخر[14] التفرقة بين المنهج النفسي، والمنهج النفسانى: حيث خص المنهج النفسى بوزن مدى نجاح البواعث النفسية فى إفراغ النشاط أو التعبير عنه بأى صورة حقيقية أو مجازية: وعلى قدر ماتمتليء الصورة بهذا الباعث يكون حظ التعبير من الحق والجمال والقوة. أما المنهج النفسانى فهو الذى يحاول فهم أسرار الأدب والنقد عن طريق نظريات “علم النفس”. ورغم أن التفرقة واضحة بين النوعين فإن التسمية غير دالة عليها. أما المحاولة ذاتها فهى جديرة بأن تنبهنا إلى مخاطر الخلط ونحن ننسب إلى ما هو نفسى بالمعنى الشائع وبالمعنى الأكاديمي.
وقد أوضح سمير سرحان[15] – مواكبة لتمييز يونج بين الأدب النفسى وأدب الرؤى – إن أدب الرؤى هو الذى يتطلب خدمات عالم النفس…. (حتي) يستطيع… أن يبين لنا أن “عالم المخاوف الليلية، والمناطق المظلمة فى العقل” ليس غريبا عنا تماما..
أما النوع الأول الذى “.. لا يتجاوز فى نشاطه حدود الوضوح والفهم النفسى” فهو.. “الذى يتطلب مجرد الأدوات التقليدية للنقد الأدبى”. وفى هذا الرأى حُـسن ظن بعالم النفس، يتضمن استعمالا متجاوزا للكلمة، حيث إن اليونجيين “المبدعين” وأمثالهم هم وحدهم الذين يمكن أن يقوموا – جزئيا وباجتهاد شخصى – بهذه المهمة على هذا المستوى (مستوى أدب الرؤيا).
هكذا.. نجد أنفسنا أمام استعمالات شديدة التنوع لدرجة التناقض لما هو نفسي، أو علم نفسي، أو أدب نفسي، أو تحليل نفسي. وليس على الناقد المجتهد لوم فى إجتهاده المستقل، خاصة أن “من يهمه الأمر” من المشتغلين بالعلوم النفسية لم يتفقوا فيما بينهم على معجم علومهم وأبعادها.
آن الأوان – إن كان للمنهج النفسى أن يستمر أو يتطور – أن تبذل المحاولات فى إتجاه التوضيح والتجديد لكل نشاط معرفى يقال عنه “نفسى”، دون أى إلزام بالتماثل أو حتى بالاتفاق. وبهذا سوف يجد أهل الأدب – على المستوى النقدى خاصة – ما ينتقون منه فيلتزمون به. وبهذا وحده يمكن التواصل فالتقدم: علما بأن الاختلاف نفسه هو مطلب الناقد المبدع، لأنه يعلن أن الظاهرة البشرية تُرى فى مجال هذه العلوم خاصة من أكثر من زاوية، وعلى أكثر من مستوى، ومن ثم تتسع فرص الانتقاء والتوليف للكشف عن مستويات أعماق النص ودلالاته بأكبر قدر من حرية الحركة الملتزمة.
إن تحديد معالم هذا التنوع داخل هذا النشاط المعروف فى مجال مايسمى بعلم النفس أو الدراسات النفسية هو بعض مهمة هذه المقدمة.
– 3 –
نبدأ بعلم “الطب النفسى” (وهو المجال ”الرسمى” لتخصص المؤلف): فهو بوضعه الراهن ليس علما بالمعنى الدقيق للكلمة: إذْ لم يرتق حتى إلى مرحلة العلم التطبيقي. ذلك أن حقيقة الممارسة الطبنفسية ما زالت تقع فى مجال الحرفة (الفنية) المفيدة: حيث تعتمد على معطيات إمبريقية، وتستند إلى اتفاقات “مرحلية” بين المشتغلين بها لاستعمال “فروض” أو نظريات بذاتها، والتواصل بلغة تصنيفية مشتركة “إلى حد ما”. وكل هذا قابل للتحوير والتطور: إذ لم يثبت فى أغلب مجالات الممارسة أى تفسير سببى حاسم لحدوث ظاهرة المرض أو لطبيعته أو لمسيرة الشفاء منه. لكل هذا لزم أن أؤكد – بخاصة لغير المختص – أن هذا النشاط الطبنفسى هو أقرب إلى “الفن الحِرَفى”، وهو يستعمل كل المعطيات العلمية المتاحة “كأدوات” تشحذ حذقه ومهارته، ومن ثم يصبح دور الطب النفسى فى النقد الأدبى دورا محدودا من جهة، وفائق العطاء من جهة أخرى. وتظهر حدود هذا الدور ومخاطر تخطيها حين يحاول أديب ناقد أو طبيب مجتهد أن يمارس لعبة “التشخيص” (التصنيف) لوصف شخص “أو شخوص” العمل الأدبي، أو لوصف شخص الأديب المبدع ذاته. يأتى الخطر من أن مجرد تعليق لافتة التشخيص يبدو وكأنه إضافة “علمية”!!، ومن ثم فإن ذلك قد يثرى عملية النقد الأدبي. وأحسب أن فى هذا تجاوزا صريحا: “فاللفظ” التشخيصى عادة ما يشير إلى “تعميم” تختص به “فئة” بذاتها، وهذا يتعارض مع “التفرد المحتم” فى كل شخص من شخوص العمل الأدبى، كما فى شخص مبدعه على حد سواء، إذ أنه لو مَثِّل أى منهما “نموذجا” بذاته، لما كانت ثمة ضرورة للصياغة الإبداعية أصلا. أمثلة توضيحة:
إن تشخيص هملت بأنه كان مجنونا، دون تحديد نوع جنونه[16] لا يعنى شيئا أصلا: فكلمة “الجنون” وحدها لا تعنى معنى علميا متفقا عليه، بل إنها لاتعنى معنى شائعا واحدا: وأغلب ما يشاع عنها (أو يشع منها) أن ثمة شذوذا وغرابة يجب الابتعاد عنهما طلبا للسلامة، وتجنبا لمخاطر الفهم والمشاركة. أما الندرة (من التحليليين والوجوديين عادة) التى ترى فى الجنون عقلا، فإن مجرد “إعلان هذه الصفة التشخيصية لا يبلغنا شيئا عن هذا العقل” الذى فى الجنون، بل إن التشخيص قد يختزل الظاهرة ويزيدها تجهيلا. فإذا راجعنا احتمالين محددين لمرض هملت، وهما “النوراستانيا الهستيرية”[17] والسوداوية[18] لما أمكننا أن نستقبل رسالة جامعة مانعة، لا من واقع الاستعمال التاريخى للفظين، ولا من واقع بدائلهما المستعملة حاليا: فوصف السوداوية مثلا بأنها “متى تمكنت من المرء أظهرت تفكيرا مفرطا فى الفعل المطلوب”[19] هو وصف يسرى على القلق النفسى المفرط، وعلى الرهاب الوسواسي، وعلى الوسواس الاجترارى، و على حالات البارانويا، وغير ذلك مما يكاد يشمل معظم الاضطرابات النفسية.
وحين يذهب جونز إلى القول بأن هملت إنما يعانى من العصاب النفسى Psychoneurosis[20] فإن ذلك يتنافى – وصفيا – مع رؤيته شبح أبيه رأى العين، وسماعه صوته بكل ذلك الوضوح بتكرار لحوح[21]. جونز محلل نفسي، وقوله بعد ذلك بأن العصاب النفسى هو حالة عقلية يهزم فيها الشخص – أو يعاكسه – ذلك الجزء اللاشعورى من عقله: ذلك الجزء المدفون الذى كان ذات يوم عقل الطفل[22]، هو قول صحيح من حيث المبدأ، ولكنه لا يميز مرضا محددا دون سواه، بل إن هذه الهزيمة الآتية من الداخل الطفلى (وغير الطفلى) تحدث فى الذهان والعصاب واضطراب الشخصية على حد سواء.
ولعل أهم ما كان مناسبا فى توصيف جونز للحالة هو حديثه عن عرض محدد عنده – دون وجه حق – باعتباره ظاهرة مميزة للتشخيص المقترح: ذلك العرض المسمى بالتعطل النوعى للإرادة Specific abolia . لا شك أن هذا العرض يمكن أن يفسر التناقض بين القرار الظاهر والفعل المؤجل أو المعطل (قرار قتل العم والتردد فى تنفيذه). غير أن هذا العرض لا يصنف مرضا بذاته. حقيقة أننا يمكن أن نعزوه إلى هذا الصراع الداخلى، لكنه عرض شائع فى التركيب البشرى عامة، وفى مساحة واسعة من الأمراض، وفى بدايات الفصام بخاصة (وسنرجع إلى ذلك بعد حين). لا نترك هذه النقطة دون أن نذكر أن جونز – مثل المحللين بعامة – لم يبالغ فى قيمة ذكر اسم المرض، بل كان ذلك مجرد بداية لاستبعاد كلمة “جنون”، ثم الانطلاق إلى تفسيرات تحليلية “أوديبية” بوجه خاص. المحللون – خاصة أيام “جونز” – لا يحبون الخوض فيما هو “جنون”، ولا يزعمون اهتمامهم بهذه “المنطقة” من الوجود البشرى. يبدو هذا فى إشارة جونز إلى أن مجرد تصوير حالة هملت على أنها حالة جنونية يكفى لأن نصرف انتباهنا عنه، فلا نتعاطف معه، ولا يثير اهتمامنا حتى النهاية (كما هو الأمر فى حالة أوفيليا التى جُنِّتْ جنونا صريحاً لا لبس فيه). هذا الرأى يكاد لا يعلن إلا جهلنا بالجنون، وخوفنا منه، ومن لغته المثيرة الدالة المتحدية أبدا. إن واقع الأمر هو أن الناقد المبدع، من منظور نفسى على وجه التحديد، لايمكن أن يضيف شيئا ذا قيمة إلا من خلال مغامرة الخوض فيما هو “جنون” وما يعادله من رؤى وصور، إذن، فعدم التعاطف مع الجنون غير مطروح أصلا، لا فى حالة هملت، ولا فى حالة أوفيليا.
هكذا نرى كيف أن المحاولاته التشخيصية لحالة هملت لم تُـُضف شيئا، بل شوهت أشياء وكادت تطمس أخرى. أما إذا تجاوز الناقد المستهلم للطب النفسى التشخيص إلى مستوى المعايشة والاستعانة بأبعاد معرفية (نفسية) أخرى، فإنه قد يكون أقدر على إبداع نقدى فنى جيد، ليس بالضرورة مما يندرج تحت التفسير النفسى بالمعنى الشائع.
* * *
يندرج تحت أحادية النظرة والتجزىء نتيجة لاستعمال لافتات الطب النفسى تشخيص حالة ديستويفسكى السابقة على ظهور الصرْع على أساس أنها حالة “نوبات هستيرية”، كما ذهب فرويد، ليفسر بذلك معالم المنطقة المشتركة بين ديستويفسكى وأبطال قصصه (وخصوصا الإخوة كرامازوف): فقد رأى فرويد أنه “قد كانت لهذه النوبات دلالة الموت: فقد كان مبعثها الخوف من الموت، كما كانت تتضمن حالات من السبات والنعاس. “وقد أصابه هذا المرض فى البداية عندما كان لا يزال صبيا فى شكل حالة من السوداوية المفاجئة التى لا أساس لها، فكان يشعر – كما أخبر هو صديقه سولييف فيما بعد – كأنه سيموت على التو… الخ[23]. ثم يذهب فرويد إلى تفسير هذه الحالات بأنها تدل على الاتحاد مع شخص ميت، سواء كان هذا الشخص قد مات حقا أو أنه ما يزال حيا، وإن كان المريض يرجو له الموت. والحالة الثانية – كما يرى فرويد – “أكثر أهمية: إذ تحمل النوبات عندئذ معنى العقاب..” ويؤكد التحليل النفسى أن الشخص الآخر بالنسبة للصبى هو فى العادة أبوه، وأن النوبة (التى تسمى هستيرية) هى، مِن ثَمَّ، عقاب ذاتى على رغبة الموت لأب مكروه: فديستويفسكى - من وجهة نظر فرويد- يعانى من الشعور بالذنب… الخ. ومن هذا المنطق يفسر فرويد عدوانية شخوص روايات ديستويفسكى وإجرامهم، وكذا سادية ديستويفسكى الخفية، المتناقضة مع رقته (وماسوشيته) الظاهرة.. الخ.
هذا كله تعسف لا يؤيده أى قدر من المعرفة العلمية بتشخيص هذه النوبات “الصرْعية”، وإن اختلفت مظاهرها عن الشائع عن الصرع الحركى العام: فهذه النوبات قد وصفت بدقة بحيث تشير مباشرة إلى أنها ليست سوى “نوبات صغرى”، و”نوبات إغفائية”، و”نوبات سوداوية”.. وكلها أنواع وتباديل مما هو صرع فعلا: فليس الصرع هو مجرد فقد الوعى والتشنج الحركي، بل إن مداه قد امتد ليشمل مساحة من السلوك وأشكالا من الوعى تكاد لا تحصى[24]. والشعور بالموت، والخوف منه قبيل النوبة، (وقبيل النوم، كما ذكر ديستويفكى لأخيه أندريا) هو إعلان مباشر للطبيعة البشرية التى تظهرها بوجه خاص “الطبيعة الصرعية”. ذلك أن النقلة المفاجئة التى يحدثها النشاط الصرعى تعلن التغير النوعى المؤقت من تنظيم وعى بذاته إلى تنظيم آخر (أو “لا تنظيم” لحظى): وهذا هو الموت (الذى يمكن أن نعرفه فنخاف منه رأى العين، فالموت الحقيقى غير قابل “للمعرفة” فى حدود أدواتنا المحدودة). إذن، فالتفسيرات التى بنيت على تصور رمزى لمعنى الإغماء، وتفسير “تثبيتى” لمعنى الخوف من الموت… الخ. هى تفسيرات غير صحيحة حيث لا تتفق مع الممارسة الإكلينيكية الفعلية، حتى فى زمن فرويد.
على أن كل ذلك ينبغى ألا يعنى أنى أريد أن أختزل بدورى حالات (نوبات) ديستويفسكى إلى “مرض الصرع” بمختلف أشكاله، لأطرد كل احتمال للربط بين ظاهرة المرض وفيض الإبداع عند ديستويفسكى” بل لعل العكس هو الصحيح: لأنى حاولت فعلا أن أبين دور النشاط المكافيء للصرع من منظور بنائى فى وجهه الإيجابى” وهو ما أعان ديستويفسكى – فى تصورى – على فيض إبداعه.
نفس الاتجاه التشخيصى قد حاوله بعض النقاد والأطباء على المستوى المحلى” فقد قدم كاتب هذه الدراسة تشخيصا لحالة “عمر الحمزاوى” بطل شحاذ نجيب محفوظ[25]، وحالة صلاح جاهين (الفرحانقباضية) فى رباعياته خاصة[26]، و “الغبى” لفتحى غانم[27]. وكان أكثر هذه الدراسات الثلاث دلالة هى دراسة رباعيات جاهين، ربما لأنها كانت تصف حالة لا مرضا. أما دراسة مرض عمر الحمزاوى فى “الشحاذ”، وبالرغم من الاستهلال بأنها دراسة لمحتوى قصة بمفهوم “كلاسيكى” للصحة والمرض، فإن رص الأعراض الواحد تلو الآخر للاستدلال على أعراض مرض الاكتئاب المتخلَّلْ بلحظات الهوس كان تسطيحا برغم دقته. وأعترف الآن (أعنى أعلن اعترافي) أنى لم أضف بهذه الدراسة جديدا للنقد الأدبى، وإن أفادت الدراسة “بعض” صغار الأطباء فى تفهمهم لمرض الاكتئاب. وأكثر بعدا عن الصواب كان ما جاء فى دراستى لرواية “الغبى” لفتحى غانم بشأن قياس العمل بالمقياس التقليدي. ولا يخفف من الخطأ – إلا قليلا – ما أعلنته تلك الدراسة منذ البداية من أنه “… لولا كل هذا (مثل ذكر القياسات النفسية تحديدا، ونقص قدرات النمو مباشرة… الخ) – لوجدنا لها مخرجا رمزيا، ولأمكن اعتبارها من نوع الدراسات التى تستنطق مالا ينطق، وتناقش من لا يفهم… الخ”[28]. ذلك أن هذا النقد لرواية الغبى ظهر وكأنه يصحح ورقة إجابة طالب، لا يعايش عمق وعى كاتب.[29] والأمر نفسه، أو قريب منه، أو مزيد عليه، ورد فى دراسة طبيب آخر لمسرح اللامعقول[30] وبالنسبة للنقاد، فإن النويهى[31] والعقاد[32] إستعملا اللغة التشخيصية فى نقدهما النفسى لأبى نواس على سبيل المثال. وفى حين استعمل الأول ألفاظ المرض والانحراف بشكل مباشر، اكتفى الثانى بوصف “حالة كذا” و “لازمة كيت” ، أكثر من تشخيصه لمرض بذاته. وسوف أعود إلى هذه الأعمال مرة ثانية.
أوردنا هذه الأمثلة العالمية والمحلية لنرى كيف أن النزعة إلى التشخيص المبنية على الطب النفسى إن كانت تفيد الطبيب فى التعرف على الظاهرة المرضية فهى أقل نفعا للأديب أو الناقد، إن لم تضرهما أو تعوقهما.
- 4 –
الطب النفسى
أقرب “العلوم” إلى ما هو طب نفسي، هو ما يسمى تجاوزا “علم” السيكوباثولوجى[33]: وهو نشاط معرفى يتعلق أساسا بعملية تكوين الأعراض فى أثناء تطور المرض. لم يتفق المختصون على طبيعة أو حدود هذا العلم[34]. وقد وضعت له تعريفا يناسب مرحلة المعرفة الحالية، و يتفق مع التزامى بالفكر التطورى الدورى” وهو تعريف يشمل البعد الطولى التوليدى والغائى معا، كما يغطى البعد العرضى التركيبى البنائى”. إنه”:…. العلم الذى يبحث فى أصول المرض النفسى وكيفية تكوين الأعراض وما تعنيه، كما يبحث فيما يرتبط بذلك من طبيعة تكوين النفس البشرية وبخاصة فى أثناء نموها، أو فى أثناء اضطرابها وتفكك مكوناتها، وأخيرا فى أثناء علاجها، بما يشمل تباعد أركانها وإعادة تنظيمها معا.
هذا التعريف يحدد كيف أن هذا العلم ينتمى إلى الدراسة الدينامية والتركيبية، وفى الوقت نفسه ينتمى إلى التاريخ الطبيعى Natural History: ثم إنه فى النهاية علم لا يمكن فصله عن الممارسة الإكلينيكية العميقة، التى تواكب مراحل التدهور وأطوار إعادة البناء على حد سواء. لذلك فإن هذا العلم لا يقتصر على رصد الأعراض الظاهرة، أو تسجيل المعلومات المستبطنة، وإنما هو النتاج المباشر لتطبيق المنهج الفينومينولوجى فى الممارسة الإكلينيكية. وهو يتخطى الملاحظة الطرفية (دون إهمالها)، ولا يكتفى لا بالملاحظة للرصد، ولا بالاستبطان والتذكر، حيث يعتمد على “الخبرة المباشرة الكلية، القادرة على الاختراق واستيعاب المعطى وإعادة التركيب”.[35]. هذه الطريقة تعتمد إلى حد كبير على “شخصية الباحث: نوعها وخبرتها، وتجربتها ومعاناتها، ومدى وعيها”[36].
وقد عرجت إلى الحديث عن منهج الدراسة المحورى لهذا العلم لأنى أراه منهجا موازيا – بل يكاد يكون مماثلا – للمنهج المتبع فى كل من الخلق الفنى والنقد الإبداعى [37]. فإذا كان موضوع الفحص والدراسة مريضا، شمل هذا المنهج “المواجهة والمعاناة والإثارة والتقمص (والتمثل) والاختراق والتخلخل الموازى والعودة وإعادة التوازن”، ثم التعبير والتنظير. المريض هنا يعتبر “نصًّا بشرياً” قابلا للنقد من خلال فروض هذا العلم، أما إذا كان موضوع الفحص نصا أدبيا واتّبَعَ المنهج نفسه، إذن لأنتج إبداعا نقديا (ليس بالضرورة نفسيا). وهكذا يتفق علم السيكوباثولوجى مع النقد الأدبى منهجا ويختلف معه “مادة” (ونتاجا طبعا).
علم السيكوباثولوجى
علم السيكوباثولوجى من هذا المنطلق يختلف عما هو علم بالمعنى الشائع من حيث إنه معرفة دائمة النمو، فائقة المرونة: فمعطياته السابقة تكاد تكون إطارا عاما لمسيرة دائمة التغير من واقع دائم التجدد. وإذا كان اشتقاق اسمه (باثولوجى = علم المرض) يقصره على ما هو مرض، فإن وجهه الآخر – بنفس منهجه – يمكن أن يدرُس الإبداع، إذ هو نقيض العملية المرضية (وذلك بالرغم من أنى ضمنت تعريف علم السيكوباثولوجى الجانب المختص بالنمو وإعادة التنظيم) فإذا كان المقصود فى علم السيكوباثولوجى هو التركيز على العملية التى تتحور بها البنية السوية إلى بنية مريضة، بما يترتب على ذلك من ظهور أعراض، فإن التركيز فى العلم المقابل[38] (الوجه الآخر للسيكوباثولوجي) يكون على العملية البنائية التى تتحور بها البنية المتلقية المستوعبة إلى بنية قادرة على إعادة التنظيم، بما يترتب عليه من ظهور الناتج الإبداعى [39]. وبألفاظ أخرى: إن دراسة الإبداع الأدبي، بمنهج فينومينولوجي، مع استعمال أبجدية نفسية منتقاة من مختلف المصادر، وتخليق العمل الإبداعى فى صورة نقدية جديدة، هو ما أعده الوجه المقابل لعلم السيكوباثولوجى[40]. أعلن فى هذا الموقع أن علم السيكوباثولوجى كما أقدمه هنا لم يعد له فى أغلب ألوان نشاط الطب النفسى المعاصر مكان لائق. وعلى هذا فإن وجه الشبه بين النقد الأدبى من المنطلق الفينومينولوجى بأبجدية نفسية وبين السيكوباثولوجى لا يعلن ضمنا أن أغلبية الاطباء النفسيين قد اكتسبوا الأداة المناسبة لأى من النشاطين، بل إن واقع الأمر يقول: إن هذا يكاد يكون هو الاستثناء[41]. ولو أننا راجعنا المثالين السابقين (هملت، ديستويفسكي) بمقياس السيكوباثولوجى لنقارن بين هذا المقياس والبعد التشخيصى السالف الذكر، لأمكن معرفة مستويى الدراسة المشار إليهما (أى مستوى التشخيص، ومستوى السيكوباثولوجى). ولكن قبل ذلك يجدر بنا أن نكمل استعراض بقية ما يسمى بالعلوم النفسية.
– 5 –
تحت عنوان “علم النفس” نقابل ثلاثة أنواع من النشاط المعرفى، لكل منها علاقة مختلفة بموضوعنا فى هذه المقدمة.
1 – علم السلوك Behaviourology[42]: هو العلم المختص بدراسة ظاهر السلوك، دراسة دقيقة مقننة ومحددة، بمعطيات كمية قابلة للمقارنة وللتثبت بالإعادة. وهو بذلك أقرب ما يكون إلى مفهوم العلم الحديث حتى ليحق لأهله أن يكون لهم معمل محدد المعالم مثل معامل العلوم الطبيعية. هذا العلم – فى الحدود التى رسمها لنفسه – قد أجاب عن أسئلة مهمة فى موضوعنا هذا: وذلك فيما يتعلق “بما يتميز به سلوك المبدع”، أو “ما هو فى المتناول من عملية الإبداع”، أو “الدراسة التحليلية لمحتوى الناتج الإبداعى”. لكن هذا كله لا يغطى المفهوم الإبداعى (الفني) لنشاط النقد الأدبي خاصة، برغم أنه يثرى الأبجدية النفسية بما يزيده من مساحة رؤيتنا للعمل الفني، وما يضيفه من أبعاد وصفية. النقد الأدبى بما هو إبداع تال يمكن أن يستفيد من الأرضية المعرفية التى يشارك فى تنميتها هذا العلم (علم السلوك): لكن الإغراء الخطر يظهر حين يصبح علم السلوك هذا هو النموذج الأمثل، أو الأوحد، المطروح على النقد الأدبى فى محاولته أن يصبح “علما” [43].
2 – على أقصى الطرف الآخر من هذا العلم (السلوك) نجد ما يمكن أن يسمى “علم نفس اللاوعى” – وقد فضلت هذا الاسم بديلا عن الاسم الشائع عن هذا النشاط المعرفى وهو “التحليل النفسى”. لأوكد “مجال” النشاط الذى يقول به أكثر من محتوى” المادة” التى يدرسها، وطريقة تناولها لها. يمكن أن نُرجع بداية ذيوع هذا النشاط المعرفى إلى سيجموند فرويد ومن تبعه (وليس من انشق عنه، أو تجاوزه، كما هو سائد). علم نفس اللاوعى هذا شديد الإغراء شديد الخطر، يحمل من التحدى والتناقضات مالا سبيل لحصره فى هذه المقدمة: ومع ذلك فلا يمكن إنكار التأثير المترامى الأطراف الذى أحدثه ظهور المدرسة الكلاسيكية للتحليل النفسى حتى كادت أن تؤثر بشكل خطر على الإبداع الأدبى فى مستوياته الإنشائية والنقدية على حد سواء. أول ما ينبغى مواجهته من تناقضات هذا النشاط المعرفى هو أن يكون ثَمَّ علم، ثم يكون موضوعه ليس قائما فى الوعى”. الواقع أن اللاوعى هو فى غير متناول الدراسة إلا من خلال مظاهره فى الوعى، لكن المحللين يرون فى ذلك رأيا آخر على أساس أن “الشعور الظاهر نفسه لا يعدو أن يكون إنكاراً لهذا اللاشعور، ونفيا له”[44]. وعلى ذلك فإن الدراسة المتوقعة لهذا المحتوى تعتمد أساسا على القدرة على الترجمة المعقدة من ظاهر الوعى إلى حقيقة اللاوعى. إن كشف فرويد هو بمعنى ما كشف لغوى”[45]. وهى لغة جديدة فعلاً: وهذا يتطلب بدوره “معجما” سابق الإعداد (غالبا)، ومترجِماً فائق المهارة. لقد كانت نتيجة تضخم هذا المعجم وثباته مع تواضع المهارة، أن تعسفت التفاسير وتمادت فى تقييم “الرمزية” فى العمل الأدبى”، وهى ليست رمزية مستقاة عادة من مضمون العمل الأدبى وإنما هى مستعارة من أبجدية التحليل النفسى الكلاسى (الفرويدى)، التى كادت تستقر على مقولات بذاتها ضد طبيعة تطورها الحتمية. ومع التركيز على أن لغة اللاشعور هى لغة مصورة بدائية، وأن التعبير فيها هو أقرب إلى العيانية، فإن ظهور هذه اللغة بصورتها المباشرة فى الشكل الجديد للعمل الأدبى (أدب الحلم – وتيار الشعور) لم يثن أغلب المهتمين بهذا الفرع المعرفى عن الإفراط فى الترجمة بنفس الأبجدية، ليذهبوا مباشرة إلى مواجهة المادة التى لم تعد لا شعورا، بل شعورا مباشرا برغم عدم ألفته، مواجهة مبدعة متحررة من وصاية النظرية.
هكذا نجد أنفسنا أمام واقع يكاد يقول: إنه لا يوجد إلا الشعور (الوعى) وإن اختلفت مستوياته ولغاته. ومن ثم، حـُقَّ للاتجاه الذى يركز على الوعى أن تكون له منظومته المعرفية المميزة تحت اسم علم نفس الوعى.
3- هذا الاسم “علم نفس الوعى” غير شائع بالدرجة التى يستحقها. أغلب أهل “علم السلوك” لا يعترفون بالوعى “سلوكا” قابلا للدراسة فى ذاته، وإنما فى محتواه، وأصحاب علم اللاوعى لا يرون فى الوعى إلا قناعا لما دونه أو نفيا لما يُخفيه. كل ذلك برغم أن الوعى هو النشاط الوسادى الجوهرى الأساس لكل الوظائف النفسية، المتداخل فيها، والمحتوى للأحداث بذاتها، المصنوع منها: كل ذلك معا فى آن واحد. وهو النشاط الكلى الوسادى اللازم لكل الوظائف النفسية، المتداخل فيها، والمحتوى للأحداث بذاتها، المصنوع منها: كل ذلك معا فى آن واحد. أى أنه النشاط الكلى الذى يمثل البنية الأساسية لأى سلوك جزئي، كما أنه تتعدد فيه “المستويات” التى تتبادل وتتناقض فى تضفّر ولافى متناوب متصاعد دائما. وقد استعمل الطبيب النفسى هنرى إى[46] هذا التعبير “علم نفس الوعى” ليؤكد أن النشاط النفسى بعامة (فى الصحة والمرض على حد سواء) ليس إلا سيكولوجية الوعى” أو هو البنية المحصلة لكل المستويات المنظمة هيراركيا النابعة من التاريخ الفيلوجينى والأنتوجينى.
على أن هناك مدارس لا تطلق على نفسها هذا إلاسم المباشر (علم نفس الوعى)، لكنها تعطى أهمية قصوى للإرادة والحرية والمسئولية فى تشكيل الذات ومواجهة الآخر. ومن ذلك مدارس علم النفس الوجودي، وكثير مما يندرج تحت ما يسمى بالاتجاه الإنسانى فى علم النفس، مما لا مجال لتفصيله هنا.
علم نفس الوعى هذا لا ينفى ما هو ”لا شعورى”، وإنما يعُدّه وعيا آخر كامنا، ونشاطا متبادلا فى الوقت نفسه. وهو يسمح من هذا المنطلق باستيعاب مفهوم “تعدد الذوات” فى إطار الوحدة الإنسانية، وبتعبير آخر: تعدد حالات الأنا. وبرغم الشائع، اعتمادا على ما اشتهر من نظرية التحليل التفاعلاتى “إريك بيرن”، من أن هذه التراكيب هى حالات الذات “الوالدية” والناضجة والطفلية، فإن المسألة أكثر تعقيدا، وتكثيفا. فحقيقة الأمر، ومن خلال تبنى المفهوم الأحدث للبصم[47] اعتمال المعلومات[48] على مستويات متعددة، نستطيع أن نفهم العلاقة الوثيقة بين الإدراك الجشتالتى، والذاكرة الكلية، وتعدد التنظيمات البيولوجية (بنيات الوعي)، وبين مفهوم تعدد الذوات[49].
أهمية هذه الإطلالة هى أن هذا التعدد يمثل أولا: الثروة الأساسية التى يستمد منها الإبداع مادته، وثانيا: أن الإبداع يخلق من هذه المستويات المتبادلة فى الأحوال العادية بنية جديدة من خلال تآلفها الجدلى النشط، وبتعبير آخر فإن الإبداع ينشّط أكثر من مستوى من مستويات الوعى (على أساس أن كلا منها تنظيم كامن وليس مجرد معلومات)، من كمونها فى صورتها الجاهزة أولا، ثم من خلال التنشيط “معا”، ليتم التخليق الجديد الذى يظهر فى شكل النتاج المبدع[50].
يصبح النقد الأدبي، إذ يواكب هذا المنطلق المعرفي، نشاطا إبداعيا من حيث إنه النتاج الولافى المثار من واقع تنشيط نشأ من النص الأدبى موضوع الدراسة. هكذا نجد أن ما يسمى “علم نفس الوعى” هو أقرب ما يكون إلى طبيعة النقد الأدبى. يتأكد هذا بوجه خاص حين نعرف أن طريقة الدراسة إنما تتم أساسا باتباع المنهج الفينومينولوجى. بعد هذا العرض السريع – من منطلق ما نتبنى من رأى – نركز على نشاطين معرفيين من بين ما ذكرنا، وهما علما السيكوباثولوجى (ووجهه الإيجابى لدراسة الصحة الفائقة فى حالة الإبداع)، وعلم نفس الوعي. إن مساحة التداخل بين هذين العلمين تكاد تجعل نشاطاتهما تتطابق من عمق معين.
- 6 –
معنى تعدد مدارس علم النفس
قبل أن ننطلق إلى الجزء التطبيقى من هذه المقدمة، يجدر بنا أن نشير فى عجالة إلى بعض ما يسمى ”مدارس علم النفس”، وهى تتضمن بوجه خاص مدارس السيكوباثولوجى”، فقد تعددت هذه المدارس وتنوعت بحيث أغرت بأن تُرفض جميعها. حين يقال إن ثم “نقدا نفسيا”، نتوقع أن يحدد الناقد مدرسة بذاتها، أو يعلن موقفه الانتقائى المسئول. ولنتذكر أن المدارس النفسية لا تختلف فى المنهج فحسب، وإنما فى التصور النظرى لما ”هو إنسان”، وتركيبه، واحتمالات تغير هذا التركيب فى النمو الصحى والتدهور المرضى على حد سواء. إن تبنى أكثر من مدرسة بشكل انتقائى مرن هو من أكثر الأساليب المتبعة سواء فى التفسير النفسى أم العلاج أم النقد النفسى، على أن الأسلوب الانتقائى يترجح بين سلبية مهارب الاستسهال، وإيجابية “رحابة المعرفة”، وهو فى صورته الإيجابية يتطلب قدرة فائقة المرونة على الترجمة من منظومة معرفية إلى أخرى. هذا الأسلوب من منطلق فينومينولوجى سوف يشمل فى نهاية الأمر المعايشة وإعادة الصياغة الخلاقـة، مع استعمال أبجدية نفسية من مختلف المصادر بتوليف جديد. ويصعب حينذاك التركيز على أن هذا النقد هو نقد نفسى بالضرورة، لأنه لايعدو أن يكون نقدا مبدعا أولا.. مستعملا الأرضية المعرفية بعامة، بما فيها المعارف النفسية. وقد يكون هذا هو نفس الحال بالنسبة للإبداع الإدبى بعامة، إلا أن الفرق هو أنه فى النقد الأدبى قد تظهر المعارف بشكل محدد ومباشر: أما فى مراحل خلق النص ابتداء فلا تظهر هذه المباشرة عادة (فى الأعمال الجيدة).
إن قوة النقد وأصالته إنما تنبع من تماسكه الداخلى وإضافاته الخلاقة، بغض النظر عن اللغة المستعملة: نفسية أو غير نفسية.
- 7 –
إعادة قراءة هلمت (شكسبير)
آن الأوان لنباشر التطبيق والمراجعة. ولنرجع أولا إلى المثالين السابق الإشارة إليهما (هملت – وديستويفسكي)، فبعد أن رأينا تهافت التفسير التشخيصي، نتقدم خطوة محاولين الانتقاء المرن لإعادة تخليق النص من واقع معايشة مباشرة، فنقول:
1 – إن رؤية شبح والد هملت المقتول بواسطة صديقيه أولا إنما يضعنا مباشرة فى مواجهة ظاهرة هى أقرب إلى الأسطورة، أو التخيل الجمعي، أكثر مما يذكرنا بحالة “فردية” ترى هلوسات بصرية وسمعية لا يراها غيرها: لأن الإصرار على الاقتراب التشخيصى من “الحالة” لابد أن يضعنا فى مواجهة ما يسمى بالجنون الثلاثى Folie á Trois من النوع المُعْدىcontaminé أو المتزامِنْ Simultanée. لكن مسار المسرحية وتطور الأحداث لا تبرر أيا منهما: فالهلوسة بدأت أولا عند من لا يهمه الأمر (مباشرة)، ثم انتقلت إلى صاحب القضية: كما أن الظروف الوجدانية بين “الأصدقاء الثلاثة” ليست متماثلة لدرجة تجعل اضطراب إدراكهم متزامنا إلى هذه الدرجة. لكل ذلك لا تصبح الهلوسة مفتاحا لمرض هملت، بل لا يصبح المرض مطروحا أصلا كاحتمال حقيقى أو تفسيرى. والفن يسمح بتواجد “الوعى الآخر” بجوار “الوعى السائد” دون حاجة إلى مرض أو تشخيص.
2 – إن المبالغة فى التركيز على تلكؤ هملت فى تنفيذ ما تلقاه من الشبح (الوالد) هو أمر غير مفهوم: فالأصل فيمن يعانى من خبرة الهلوسة أو الحدس المجسد.. الخ فى هذا الوقت المبكر من الاضطراب هو أن يقابَل بالشك والمراجعة، هذه المراجعة تعلن تماسك الشخصية نسبيا.، فى مواجهة هذا الوعى الآخر (التنظيم/ البنية) الذى نشط مستقلا ليعلن رؤيته أو يملى إقتراحاته فى شكل شبح أو صوت، كما يدل التردد أيضا على أن العملية التفككية ما زالت فى بدايتها لم تستتب بعد: فالمتوقع (بل الواجب) أن يتأجل التنفيذ حتى يتحقق هملت من حقيقة هذه الرؤية، وربما طبيعتها، ثم يدبر الخطة وهو يدرس جدواها. ثم إنه – حتى بعد ذلك – لا يوجد إلزام بالتنفيذ لمجرد أننا نتوقع ذلك بحسبة منطقية سخيفة: لأن دور الفن هو أن يتحدى هذا المنطق الجاهز والحساب المسطح[51]. هذا المنطق المسطح هو الذى برر – أحيانا – إتهام هملت بالجبن والضعف، وكأن الموقف يحكم عليه من منطلق أخلاقى، وأخلاق من؟ أخلاق العامة أحادية النظرة. إن الفن يحرك الطبقات الأخرى، وإلا فلا “فن”، واستجابه هملت كانت على أكثر من مستوى” فهو قد تفاعل فعلاً مثلما توقعنا، واستجاب للهاتف – من حيث المبدأ – وخطط للانتقام، إلا أنه “رأى” أبعد مما حسبنا، فثارت قضايا أكثر جوهرية وأخطر أثرا. ذلك أنه واجه الطبيعة البشرية فى تركيباتها المتكاثفة من ناحية، وفى مسار نموها من ناحية أخرى، (كما سيأتى).
3 – انطلاقا من هذا المنْحَى الأخلاقى المنطقى بدأت محاولات النظر والتفسير، وكان من أكثرها قبولا التفسير التحليلى النفسى الذى يقول: إن هملت تقمص عمه باعتبار أنه (هملت) هو القاتل الحقيقى (لوالده)، وما عمه إلا أداة تنفيذ أحلامه التى تمنت قتل الوالد للاستحواذ على الأم (ومضاجعتها). وهذا التفسير المؤسس على ما يسمى عقدة أوديب يحتاج إلى مراجعة[52]، كالتالى:
نقرأ العمل من منطلق تركيبى ذى أبعاد أرحب: فالتنظيم “الوالدى” (من منظور تفاعلاتى تطورى إيقاعى)[53] هو كيان داخل النفس يقابل “بشكل ما” الكيان الوالدى خارج النفس، وهو لا يرتبط “بالوالد” بالمعنى الأسرى الجنسى الأوديبي، وإنما يستمد تركيبه من “منطبعات” كل ما يمثل السلطة. ثم إنه يمثل – فى نفس الوقت – أشكالا متعددة – وأحيانا متناقضة – من التنظيمات الوالدية (فوالد هملت هو والده، وأمه، وعمه، وملكه، وحموه،.. جميعا.. وغيرهم). ومن ثم فإن صراع هملت (ومن ثم تردده) كان نتيجة أن حادث القتل قد نشَّط التنظيم الوالدى الداخلى وقلقله، فى الوقت الذى كان ينتظر فيه – تلقائيا – أن يتقمص الوالد الميت على نحو أعمق. ترجع هذا القلقلة التى غَّلبتْ التقمص إلى كيان هملت الحساس المرن النامى المعوق معا. هكذا واجه هملت مشكلة نموه الأساسية، وليس مشكلة الثأر لأبيه: فأبوه فى الداخل (داخله) ، وسيزداد “دخولا” كلما اختفى من واقعه الخارجى -خاصة بالموت- “فيزيائيا” دون استيعاب أو تمثل ولافي. وهذا ما جعل هملت يكاد “يكتشف” هذه الخدعة التى يستدرجه إليها الشبح[54]، بديلا عن مسيرته النموية الذاتية. وهكذا وجد هملت نفسه فى بؤرة “مأزق نمو” لا تسعفه فيه كل الاقتراحات المطروحة (من ذاته وأشباحه وأصدقائه وأمه جميعا)- ذلك أنه بقتل العم والحلول محل الوالد لن يكون هو إلا والده: (فلن أكون) ثم إنه هو بترك العم والهرب بعيدا عن المواجهة لن يكون نفسه النامية أيضا، بل نفسه الهاربة ووالده المقتول بداخلها يعايره ويلاحقه. حين يلتقط داخل هملت هذا المستوى من الصراع (ليس بالضرورة التقاطا محددا ممنطقا) يعلن بصريح العبارة طبيعة القضية وأنها قضية نموه الكيانى فى مواجهة الداخل والخارج معا. إذن فالسؤال ليس هو “هل يقتل العم، أو يؤجل قتله، أو يهرب من مواجهته؟”: ولا هو فى “هل يستولى على المُلْك فيضاجع الأم (فى خياله)، أو يظل طفلا سلبيا معتمدا يضاجعها فى معركة سرية أيضا؟. السؤال هو ما صرح به، نتيجة المواجهة والقلقلة “أن يكون..أو لا يكون” – “يكون” نفسه، مستقلا عن الوالد، متمثلا له فى الوقت نفسه، إذ يستوعبه نتيجة للمواجهة الجدلية البنائية: أو “لا يكون” حين يصبح هو صورة ليست إلا والده (أى والده)، أو عكسها تماما (حتى لو كان اسمه هملت): فهو فى الصورتين “لم يكن” الخطوة التطورية الصاعدة منه ومن والده معا، بل ظل إما والده نفسه، وإما عكسه. هذه هى “اللاكينونة”. وفى مواجهة هذه القضية الجذرية لابد أن تعاد حسابات قتل العم بمحاولة الإجابة عن السؤال: ثم ماذا؟ هل هذا القتل- إن تحقق- سيخدم اتجاه الكينونة أو سيلغى أحد شقى الصراع الذى هو أحوج ما يكون إليه فى هذه المرحلة الحرجة، بعد أن ألغيت مواجهته مع والده المقتول؟ إن الصراع إذن ليس بين “والد” غريم لا بد أن يختفى كما اختفى الوالد القديم، ولكنه صراع مع “والد داخلى” (وليس ضده)، والد لا يختفى باختفاء أصله كما يحدث بوفاة الوالد “فى الخارج”، بل يلزم للتعامل مع هذا الوالد الداخلى أن تتواصل تعتعته بوصفه تنظيما مستقلا، ثم إنه قد يُسقط إلى الخارج على “والد” خارجى جدي (العم هنا)، فتنقلب المعركة -جزئيا- إلى معركة خارجية أيضا، وباستمرار الرحلة بين الداخل والخارج يتولد البناء الولافى للمخلوق الجديد، و “يكون” هملت الذى هو ليس “مثل” ولا “عكس” والده، بل “هو ما نما من خلال هذا التنظيم السلطوى الجاهز وعلى حسابه، دون بتره أو إغفاله.
مرة ثانية: كأن التحدى الذى ألقى فى وجه هملت دون هوادة هو إدراكه أن نجاحه المطلق فى قهر سلطة الخارج “الوالد.. فالعم”، والتخلص منها، هو نجاح فاشل (نجاح يحقق فشلا أكبر!): لأنه يؤدى إلى إنهاء معركة هو أحوج ما يكون إلى خوضها ليستكمل مسيرة نموه، وربما كانت مشكلته مع أمه (تنظيم والدى فى الداخل والخارج أيضا) هى على نفس الوتيرة مع اختلاف نوع القهر: فقهر الأم هنا هو سلطتها الامتلاكية ليظل (هملت) طفلها المعتمِد عليها أبدا. علاقة هملت بأمه وأبيه هكذا هى دلالة على رجاحة الفكرة التى ذهب إليها “رولو ماى” Rollo May فى تأكيد أن الصراع الأساسى – بغض النظر عن شكله الظاهرى – هو صراع النمو للاستقلال. وهذا هو ما حاول أن يفسر به شخصية “أوريست” (انظر بعد). هذا الرأى ينطبق على حالة هملت أكثر مما ينطبق فى حالة “أوريست”، حيث تعلن هنا المشكلة صراحة بلغة النمو والكينونة[55] وحيث يصبح قتل العم (التخلص منه، بعد الحرمان من الأب) بمثابة إعلان “إجهاض” نمو هاملت. هذا الحرص على النمو – ضد الرغبة فى الهرب بالبتر فالإجهاض – هو الذى يفسر عواطف هملت تجاه عمه: فهو “محبوب مكروه”: لأنه “لازم لسد الحاجة وإكمال المسيرة، وفى نفس الوقت هو سبب فى هذه إلانحناءة العنيفة فى مسيرة النمو على نحو لا يحتمل، فمن الضرورى أن يبقى، وفى الوقت نفسه من البديهى أن يدفع ثمن فعلته بأن يختفى. هذه الثنائية العاطفية هى أمر طبيعى تجاه “الوالد” (فى الداخل والخارج). وكونها تتجه نحو العم هو دلالة على أن العم “الآن” يقوم بدور الوالد بكل تناقضاته الطبيعية. شكسبير لا يدع مجالا يسمح لنا برفض هذه الطبيعة (حتى لو خِفنا منها أو أجلنا مواجهتها بمحاولة تفسيرها)، وموقف هاملت فى مواجهة أمه كان مؤيدا لهذا التفسير النمائى، بل إن موقفه من علاقته بأوفيليا هو كذلك أيضا.
خلاصة القول: يبدو أن رفضنا (القراء والنقاد) “لما هو نحن” حالة كوننا فى حركية نمائية متصلة، هو الذى قد يفسر ادعاءنا عدم الفهم، ومسارعتنا لاتهام المؤلف بالغموض. وحتى التفسيرات الأوديبية الجنسية إنما تستقطب قضية النمو إلى صراع جنسى ثلاثى أو أكثر. وقد يثبت أنه ليس سوى إسقاطات لتركيبات قائمة تبحث عن “مجال” فى الخارج يساعدها فى الجدل الصعب، وقد تتخذ شكلا جنسيا[56] أو لا تتخذ هذا الشكل أصلا. فمشكلة النمو هى أساسا تطرح على الكيان الإنسانى النامى باستمرار فى صورة “أن يكون أولا يكون”: ولها أشكال متعددة المسالك مختلفة التجليات. وإذا كان الجنس هو أحد هذه الأشكال أو المسالك، فالعدوان (غريزة أسبق وأخطر) هو وسيلة أخرى. وقد أدت المغالاة فى التفسيرات “الجنسية” الاستبعادية إلى تجاوز المشكلة الجوهرية “الكينونة”، ثم إلى تجاوز تقييم دور العدوان “فى ذاته” فى رحلة النمو لتحقيق الكينونة، حتى إنه كلما أطل العدوان برأسه سارع المحللون المفسرون إلى البحث عن دافع “جنسى” وراءه، وكأن العدوان ليس دافعا بقائيا تطوريا فى ذاته، وكأنه لا بد أن يجد ما يبرره فى دافع آخر وليس فيما يتصف به هو ذاته، إن الوعى النسبى بغريزة العدوان بشقها الإيجابى، واحتمال مخاطرها السلبية، يمكن أن يفسر التردد بشكل أكثر مباشرة [57] وهو الأمر الذى سنتناوله فى الفقرة التالية:
هذا التردد الذى أدهش الناس وحيَّر النقاد، وله أكثر من مظهر فى المسرحية، سواء فى الأحداث أو الأقوال (الأشعار) أو الاستغراق فى التفكير أو حوار الأحياء والأشباح.. إلخ. التردد – من منطلق تركيبى – هو إعلان لنشاط أكثر من مستوى للوعى ، يتقدمهما عادة مستويين متنافسين، ينشطان معا، بالتبادل السريع أو بالتنافس المتذبذب، وإلى درجة أقل بالصدام المؤقت. وهذا ما ظهر جليا فى موقف التردد الذى أثار كل هذا التساؤل: لأننا لم نتعود مواجهة هذا التعدد الذى هو طبيعى فى التركيب البشرى من منظور تعدد مستويات الوعى (الذوات). وقد تم تنشيط مستويين على الأقل من بنية هملت نتيجة لمقتل الوالد. وكما ذكرنا فإن الطبع (البصم) Imprinting الذى يظهر فى شكل تقمص شامل كان خليقا أن يتم فور قتل الوالد، فيقفز هملت إلى ما هو “والد” (ليس هو هاملت)، ويحل محله (يحل الوالد محل هاملت) فيبدو قويا “شهما” منتقما. غير أن هذا لم يحدث نتيجة لتنشيط الكيان الطفلى (مشروع هاملت النامى) فى نفس اللحظة، فكانت المواجهة، وكان الإسقاط إلى ما هو شبح، وكان الحوار الذى لم ينته فى الخارج، ولم ينقطع فى الداخل: لأنه مع تنشيط الكيانين معا انقلبت المشكلة من “أنتقم أو أهرب” إلى “أكون أو لا أكون”. ولم يقتصر هذا التنشيط على المستوى اللاشعورى لنواجهه فى الخارج بمحصلة نتاجه، وإنما ظهر مباشرة فى الوساد الشعورى. ومادام هناك نشاطان متزامنان يحتلان الوعى معا، فلا بد من التردد بشكل قد لا يشل الإرادة فحسب، بل يشل الحركة ذاتها، لدرجة قد تصل إلى الشلل المؤقت، أوالانتظار الساهم، والحديث الداخلى الذى قد يظهر فى شكل همهمة خافتة أو ابتسام بلا مثير، كل ذلك يعلن هذا التعدد فى “قيادة” السلوك. هذا التنشيط “معا”، الذى يظهر بوجهه السلبى فى شكل التردد المعوق، هو هو نفسه أساس النمو الولافى الناتج من نجاح التناقض المواجِهِى أن يتم جدلا خلاقا لصنع الذات الحقيقية (إشكال هاملت “أن يكون”)، كل هذه الاحتمالات يمكن أن نجد ملامحها فى المسرحية وهى تطل بوصفها بدائل. إن التنشيط معا قد يظهر فى شكل التردد الكياني، أو المرض المُشِل، كما أنه قد يدفع إلى قدر من الاغتراب بالإسقاط أو بالإجهاض بالقتل أو النكوص. هملت كان يصارع طوال الوقت للنمو، إلا أن كل البدائل السلبية كانت تراوده بلا هوادة، فتتجلى منه بلا انتظام. يظهر ذلك أكثر جلاء إذا ماعشنا المسرحية شعرا ولم نكتف بروايتها أحداثا.
هكذا نجد أن التفكير البنائى ينقلنا من مستوى “لماذا حدث” إلى مستوى “ماذا حدث”. وهذا المستوى الأخير يمكن أن يكون “حضورا” فى ذاته، يسمح بأن يعاش “مباشرة” قبل الإسراع إلى فك الرموز أو الترجمة.
* * *
ننتقل الآن إلى المبحث الثانى “ديستويفسكى”:
أوضحت فيما سبق خطأ “التشخيص” الفرويدى الذى حاول أن يستنتج أن نوبات الإغماء والسوداوية والخوف من الموت كانت نوبات هستيرية، ثم ذهب يستنتج من ذلك دلالتها على أنها توحد مع شخص ميت.. الخ. وقد أبنت كيف أن هذه النوبات – بوصفها المتاح – ليست سوى تنويعات لنوبات الصْرع الأصيل. ومع ذلك فإنى لم أقصد اختزال حالة ديستويفسكى إلى “مرض الصْرع” على أساس أنه ليس له علاقة بإبداعه، بل لعل العكس هو الصحيح كما ذكرت. وسوف أعود لذلك فى الفصل الثانى وبالذات فى نقد روايته الناقصة نيتوتشكا نزفانوفنا. الذى يهم أن أعيده هنا بإيجاز هو أن الدراسة الوصفية لما هو “صرع” فى الطب النفسي، والاكتفاء بتشخيصه وعلاجه بمضاداته، هى حائل جذرى دون أى فهم محتمل لظاهرة الصرْع المتعددة الأعماق والأبعاد، والمعلِنة لطبيعة تركيب المخ ونشاطه بنائيا ونوابيا، هذا (الحائل) يجعلنا ننظر إلى هذا المرض مثلما نفعل مؤخرا مع أغلب الأمراض، بحسب ظاهر شكله بمقياس الشذوذ والإعاقة فلا نتعمق منبعه أو تنظيماته أو بدائله أو غاياته (ولا نكتفى بأسبابه التى يعددها أو يزعمها أطباء الأعصاب، ولا بدلالاته التحليلية التى يركز عليها التحليليون). من هذا المنطلق اجتهدت فى فرٍض يقول: إن الوجه الإيجابى لهذا المرض (الصرْع) هو الذى سهل على ديستويفسكى رحلات “الداخل” والخارج” حتى اكتسب هذه القدرة الفائقة التى سمحت له أن يعيش شخوصه – بما فى ذلك الأطفال – فيصف لنا هذه المساحة المترامية من الدراما البشرية الزاخرة: ثم افترضتُ تاليا أن الإبداع يتم “… لو دب النشاط (الصرعي)[58] وانتشر (دون تفريغ فجائى شامل).. وبدلا من أن يعود الحال إلى ما كان عليه، تترتب المعلومات[59] الكامنة فى شكل جديد…”، ثم “إن درجة النشاط الفجائى التى تفرغ فى شكل سلوك صرعى مرضي، هى ما يعنى الأطباء والأخصائيين: أما درجة النشاط الفجائى الممتد، التى تتيح إعادة ترتيب مبدع وتوليفه فى شكل استعادة إعادة معايشة وتنظيم وصياغة ونقل، فهى الصورة الإيجابية للصحة الفائقة فى حالة الإبداع.
نتج عن هذا التنشيط – الجاهز للإطلاق – عند ديستويفسكى أمران:
الأول: أن معظم (وربما كل) المنطَبعات سواء أتت من الخارج، أو كانت كامنة فى الجذور، أصبحت عرضة “لتعتعة” مناسبة تجعلها لبنات جاهزة للبناء الإبداعى الفياض. وقد يكون هذا سر تعدد الشخصيات وفيض الإنتاج وثراء التفاصيل فى آن واحد.
والثانى: أن هذه الشخصيات قد اصطبغت من جانب أو آخر بلون معاناته الذاتية التى لها علاقة مباشرة بالوجه المرضى لهذا التنشيط. ومن هنا نستطيع أن نفهم هذا العالم الهائل من المرضى الذى ورد فى أعماله (تخصص ديستويفسكى الدقيق)، وفى الوقت نفسه نفهم التنوع الهائل فى شخصياتهم، بحيث يستحيل القول الساذج بأنهم ليسوا سوى ديستويفسكي. وإذْ نتذكر أن تلك المُنْطَبَعات الواردة الكامنة ليست فى النهاية إلا ذوات تنظيمية داخل البناء النفسي، يمكن أن يفيد فهم برجسون[60] حين يرى أن مؤلف الدراما “لا يحتاج أن يرى شخوصه فى الحياة من أجل أن يصورهم، وإنما هو يستخرجهم من ذاته التى تضم إلى حالة الإمكان ذوات أخرى كان يمكن لأى واحدة منها أن تكون ذاته لو وافت الظروف وطاوعت الإرادة. فشخصية مؤلف الدراما تضم شخصيته التى يعيشها لنفسه، وتضم إلى ذلك عددا من الشخصيات غافية أو نائمة، لا يزيد هو على أن يوقظها، فإذا هى تتحرك وتسعى، وترقص رقصها المقابرى، فيأخذ يصورها”[61].
ديستويفسكى إذن مدين جزئيا لمرضه – ونحن كذلك – ولكن لابد أن يتضح أن المرض فى ذاته ليس هو الَمعْنِى بصاحب الفضل، وإنما التنشيط الباعث له أو لبديله: ذلك لأنه لو لم يلتقط وعى ديستويفسكى (وأدواته) هذا التنشيط النوبى فى عملية ولافية إبداعية، فإنه كان سوف “يرتد” إلى وجود ساكن أدني. فالاختلاف هو فى “جرعة النشاط” وما يترتب عليها، وكيفية استيعابها. الإبداع هو المسار الإيجابى المركَّز لهذه العملية. والنمو يمثل المسار الإيجابى الممتد: أما المسارات السلبية فهى الإجهاض الصرعي، والتناثر التركيبي، والتجمد المشوش، وما يصاحب كل ذلك من مظاهر مرضية.
مما تقدم نستطيع أن نخلص إلى نتيجة تقول: إن التفسيرات “الرمزية” و”العـِلّيـة” تزداد كلما قلَّت معارفنا عن الظاهرة المعنية، تركيبا بنائيا حاليا، ومعنى غائيا مباشرا. فتفسير نوبات ديستويفسكى قبل الحالة الصرْعية، بعلاقته بوالده بدت مناسبة حين افتقرنا إلى معلومات كافية عن أشكال الصرع الأخرى، وعن التركيب البنائى للنشاط الصرعى ومكافئاته، واختزال شخوص ديستويفسكى إلى ما هو “ذاته”، و “ذكرياته” تحت تأثره بمرضه، بدا لائقا حين افتقدنا فكرة “تعدد الذوات” و “وحدات الأنا”، وما يمكن أن يجرى عليها من تنشيط يومى عادى (أثناء الحلم) أو فجائى مجهض (فى نوبة الصرع) أو بنائى ولافى (أثناء الإبداع). بديهى أن هذا الاجتهاد هو ما استقبلتُ به – بأرضيتى المعرفية الخاصة – ما هو ديستويفسكى شخصا ومبدعا، دون إلزام بحتم علمى معين.
– 8 –
بدأت بهذين المثالين السابقين لشيوعهما، ثم لأنى سبق أن تناولتهما فى بداية الدراسة أثناء مناقشة مخاطر الاختزال التشخيصى، ثم رأيت أنه ينبغى أن انتقل إلى أمثلة مقابلة من واقعنا الخاص، فأبدا بتراجم اتبعت المنهج النفسي، ثم أنحو إلى مراجعة عينات محدودة لنقد نصوص أدبية بنفس المنهج، وسوف ألتزم فى حدود هذه المقدمة أن أراجع النقد وما استشهد به، دون إضافة من النص الأصلي، فهذه مرحلة لاحقة إن أتيحت لها الفرصة.
بالنسبة للتراجم نختار العقاد نموذجا مناسبا. ولنبدأ برائعته “ابن الرومى: حياته من شعره”.
يرى جابر قميحة فى المنهج النفسي، فيما يختص بالتراجم الأدبية، صورتين واضحتين: هما الصورة الهادئة المعتدلة، والصورة العلمية المتطرفة. وواضح ما وراء هذا التقسيم من فكرة مميزة: ولكن اختيار التسميات يحتاج إلى مراجعة: إذ قد لا يصح أن يقرن ما هو علمى بما هو متطرف: فالتطرف يكون عادة فى العقائد مواكبا للحماسة الدينية والمذهبية، كما أن الهدوء والاعتدال ليسا بالضرورة من صفات التحرر من النظرية، وهما يتنافيان مع التلقائية المبدعة التى ينبغى أن يتصف بهما الباحث الطليق من النوع الأول، بل إن هذا الباحث – وهو العقاد فى ابن الرومى – يمارس عملية متفجرة ومقـَـلْقِـلـة: إذ هى خلاقة وطليقة، فى حين أن الباحث من النوع الثانى – العقاد (والنويهى) فى أبى نواس – يسير مكبلا بأبجدية ملزمة. خطر ببالى ولو مؤقتا أن أسمى دراسة العقاد لابن الرومى : النقد النفسى التلقائى المبدع، فى حين أن دراسته بأبو نواس بدت لى أحق باسم التأويل النفسى المعاق.
والآن، إلى قراءة مفصلة:
المثال الأول: حين يتكلم العقاد عن “الطفولة النامية” التى تصف ابن الرومي، تلك الطفولة التى “لا تجف ولا تشيخ”[62] نشهد له بالتلقائية والإبداع، وفى نفس الوقت هو يتحدث بلغة نفسية – نمائية، صريحة وسليمة، يصف فيها ما وصل إليه، واعتمل فى نفسه بشكل مباشر، وهو يستشهد على صحته من شعر الشاعر وسيرته. (بغض النظر عن مدى لامة هذا الربط أوو ضرورة صحته !) ثم يأتى “إريك بيرن” بعد ذلك بنحو ثلاثين سنة ليتكلم عن “حالة الذات الطفلية” فى كلٍّ منا. ولو علم بذلك العقاد تفصيلا – حسب ما تطور إليه فيما بعد – فلربما عدل (بغير وجه حق) عن استعمال تعبير “النامية” ليلتزم بلغة العلم. فإريك بيرن يتكلم عن “ذات طفلية”، لكنها لا تتصف بالنماء المتجدد كما توحى الكلمة التى اختارها العقاد وصفا لما “رأى”، بل إن الذات الطفلية – من منظور بيرن – تُـتَـمَثّلُ فى ذات نامية أكبر هى ما أسماه إريك بيرن: “الناضج المتكامل” Integrated Adult وهو ما يشير إليه أنها النهاية المفتوحة لاستمرار النضج الحقيقي. العقاد بحدسه الأدبى أعطانا بعدا أصيلا لاحتمال أن “ينمو الطفل فينا طفلا ناضجا، لا أن يحل محله يافعا متعقلا أو شيخا حكيما”. الطفل هكذا يكتسب قدرات متزايدة مع احتفاظه بحلاوة طفولته ونقاء صدقه وتلقائية بساطته. العقاد لا يشير إلى فاعلية نضارة الطفولة فى دفع الإبداع – وهى عملية أصيلة وعامة، ولا تتعلق بمفهوم بيرن – ولكنه يشير إلى ظهور “ملامح” هذا الطفل النامى فى “محتوى” الإبداع ونبضه. كما أن تعبير “الطفولة النامية” ليس هو المرادف المباشر لتعبير “الطفل الكبير”، الذى وصف به العقاد ابن الرومى فى موقع آخر، حيث إنى استقبلت التعبير الأول بما يشير إلى طفولة دائمة التجدد والنمو والنضارة الطازجة، فى حين أن تعبير “الطفل الكبير”[63] هو تعبير أكثر سكونا. رؤية العقاد مقبولة فى الحالتين، والسياق يسمح بالاستنتاجين، وربما يرجع ذلك إلى ضعف “الوصاية” العلمنفسية على فكر العقاد آنذاك.
المسألة بعد ذلك تحتاج إلى مزيد من النقاش: فالعقاد كان يرى أن كل “اعتراف” شجاع ذكى بما “فى الداخل” هو نوع من البراءة الطفلية: مع أن ذلك قد يشير أساسا إلى قدرة الشاعر على المخاطرة برحلة “الداخل/ الخارج” بأقل قدر من الحيل النفسية الدفاعية. لكن السياق كله – أو أغلبه – يجرى فى صالح قبول رؤية العقاد كإضافة محدودة من قارئ ناقد حساس.
إن ما هو طفلىّ، إذ يُرى فى محتوى نتاج شاعر، إنما يحتاج إلى عمق مناسب لنتبين تكامله مع ما هو يافع وكهل وغير ذلك مما تتشكل منه المسيرة الولافية التى لا يمكن استيعابها إلا باحتمال رؤية – وممارسة – ومواجهة الضدين للتفاعل الخلاق والتوليد التصاعدى. لكن يبدو أن العقاد لا يحتمل ذلك أصلا، فاهتمامه المفرط بتأكيد نمط محدد للشخصية إنما يشير إلى موقفه الساكن، ومن ثم تسكينه لما يرى وبالتالى : الميل إلى الاستقطاب أو الاختزال. العقاد يميل غالبا إلى إفتراض رجحان أحد الضدين، وهو يلتمس التأويلات لظهور الضد المقابل. على سبيل المثال نراه يفسر شهادة ابن الرومى على نفسه بالحقد بأنه ادعاء للحقد وليس حقدا، أو بأنه لتخويف الناس من قدرته على الحقد، أو بأنه كان يتعاطى صناعة البرهان فأحب أن يمتحن قوته فى المنطق والفلسفة[64] ويستشهد على ذلك – ضمن شواهد أخرى – بأن ابن الرومى قد ذم الحقد كما مدحه. وكل هذه الاستنتاجات والدفاعات تشير إلى أحادية زاوية الرؤية نتيجة للعجز عن استيعاب الحركة الجدلية، وعن عدم تحمل مواكبة “قفزات النمو الكيفية”. وقد يرجع ذلك إلى شخصية العقاد الصارمة – برغم موسوعيته – كما قد يرجع إلى منهجه الفكرى الذى يميل فى أحيان كثيرة إلى الإفراط فى “الالتقاط – فالتعميم”[65]. وقد يجوز أن الشاعر ذاته (ابن الرومي) لم يحتمل هذا التناقض، فسارع بالتراجع رغم روعة الرؤية. ولكن من أين لابن الرومى أن يقول:
وما الحقد إلا توأم الشكر فى الفتى
وبعض السجايا ينتسبن إلى بعض
إن هذه الرؤية ليست طفلية، ولا هى مجزأه، ولا هى تحتاج إلى تأويل. ومهما تراجع الشاعر فى البيت التالى فخص الحقد بذى الإساءة، وخص الشكر بحسن القرض[66]، فإنه قد أبلغنا رؤية متداخلة لا فكاك من الاعتراف بأنها إنما تعلن لحظة حدس عميق، اكتشف فيها الشاعر المبدع كيف ينتسب الحقد إلى الشكر والعكس بالعكس. وهذا الانتساب لا يقتصر على وحدة الأصل بل على ولاف المسار. ثم يتراجع الشاعر، كما يتراجع الناقد، ولهما ذلك، لكن يظل الاستقطاب الأخلاقى أضعف من الحدس الشعري. وإذا كان العقاد قد سمح لنفسه برؤية اقتراب الضدين بتبادل سريع “وربما تعاودته الحالتان فى لحظة واحدة”[67]، فإنه (العقاد) جعل نتيجة ذلك هى (الحيرة) وليس الاستيعاب المتحِّمل، ومن ثَـمَّ ذهب العقاد ينفى بالحجة تلو الحجة حقد ابن الرومى أصلا، ويذهب إلى أن اعترافه به أدل على عدم وجوده. والناقد هنا أوْلى باللوم من الشاعر: ذلك أن “حركة” بصيرة الشاعر المخترقة لطبقات وعيه ذهابا وإيابا قد تفرض عليه رؤية ما لا يُحتمل وقد يتراجع، وقد يعود، وعلى الناقد أن يواكب “حركته” هذه، لا ليبرر تناقضاتها ويرجح أحد شقيها، وإنما ليجمع مفرداتها فى كل جديد لم يقدر الشاعر بفيض صوره أن يلم به. العقاد بتفسيره النفسى الأحادى البعد، اضطر إلى تثبيت عامل غالب يقيسه بمقياس محدد الوحدات، وأغفل – مضطرا فى الأغلب – الوضع الدائم النمو لما هو شعر وشاعر، حيث تكون الصفة الأساسية هى عنف الترحال بين الداخل والخارج، وسرعة الانتقال من “مستوى رؤية” إلى “مستوى رؤية آخر”، إلى مستوى سلوك، بحيث تتلاحق الصور الشعرية وكأنها بلا رابط واحد، على نحو يحتاج إلى تأويل نقدى، والواقع أنها تحتاج إلى عمق لامّ، لا يتم إلا بمواكبة ممسكة بالأطراف جميعا. والتفسير النفسى هنا، (مثل الأخلاقى والطبعى معا)، يفترض منظومة معرفية شائعة تعينه على تأويل التناقض الظاهرى بشكل ما، فتسكن النظرة وتضحل الرؤية، يقول العقاد:
“فالمطبوع على الصراحة لا يكون مطبوعا على الحقد”، أو ”إن الحقود لا يشهد على نفسه بحقده”[68].
العقاد يـُلقى الرأيين كالقوانين: الرأى الأول يقابل بين ضدين ليسا بضدين أصلا، بل إن الحقد يستلزم قدرا من الصراحة حتى يطلق إرادة العدوان التأثيرى من عقالها: واستعمال تعبير “والمطبوع على” يحرمنا من رؤية معركة الشاعر مع “طبعه” وهو ينقده أو يخترقه أو يتجاوزه، والرأى الثانى لا يوجد ما يبرر التسليم به كقاعدة أخلاقية أو طبعية: فـمِـن الحاقدين من يفخر بحقده: ومنهم من يؤجّر ليحقد ويحسد. والتراث والقص الشعبى مليء بما يثبت ذلك، ولكنه الالتقاط فالتعميم.
نخلص من عرض هذا المثال المحدود إلى القول:
”إن العقاد بغلبة طبيعته أحادية النظرة (بمعنى الاستقطاب، لا بمعنى ضيق الأفق)، لا يحتمل مواجهة التناقض، ربما فى ذاته ابتداء وبالتالى فى طفله الحبيب الكبير ”ابن الرومى” فهو لذلك لم يستطع أن يراه حقودا شاكرا فى آن واحد، فكان عليه أن يبحث عن تفسير أو تأويل ، فأسعفته معلوماته النفسية والطبيعية فوضع القوانين وأفتى، وكان فى كل ذلك القارئ الحساس المحق، الموضِّح لجانب رؤية وضوحا نحن أحوج إليه، ولكنه مجرد جانب. ولم تكن قد أصابته – بعد – وصاية تحليلية نفسية، أو طبية غدد صمائية، ألبسته عقلنة حالت دون انطلاق إبداعه ناقدا بشكل أو بآخر كما سيأتى حالا:
المثال الثانى” أبو نواس، عند العقاد[69] (والنويهى):
من سنة 1931 إلى سنة 1953 (من عمر42 عاما إلى عمر 64 عاما) إزداد اطلاع العقاد – بداهة – على المعارف النفسية وبخاصة التحليل النفسى. ويبدو أنه انبهر بمعطيات التحليل النفسى خاصة، لأسباب بعينها. وبالرغم من إعلانه قبوله لملاحظات التحليل، وتحفظه إزاء تأويلاتها، فإن لهجته فى الدفاع عنها (وبخاصة فى مواجهة طه حسين) وأسلوبه فى اتباع طرقها واستعمال أبجديتها، يشير إلى اقتناع بتأويلاتها وليس فقط بملاحظاتها. وقد كان أثر كل ذلك “وخيما” على دراسته لأبى نواس: فقد بدا أن هذه المعارف لمّا دخلت إلى فكره حرمته كثيراً من تلقائيته التى ميزت ترجمته لابن الرومي. ويكفى أن نقرأ العنوان الفرعى لكل من الدراستين حتى ندرك الفرق بينهما: ابن الرومى” حياته من شعره: أما أبو نواس فهى” دراسة فى التحليل النفسانى والنقد التاريخي.. (هكذا: خبط لصق)!.
وقد عيبت هذه الدراسة من أكثر من دارس وناقد وأديب بما ينبغي، وبأقل مما ينبغي. ولا يمكن لغرض هذه المقدمة وفى حدودها، أن أناقش بعض التجاوزات العلمية والتحليلية النفسية التى اضطر إليها العقاد فى سنه هذه وظروفه تلك، ولكنى أذكر القارىء بما أسميته ظاهرة “الالتقاط – فالتعميم”، فقد غلبت على الدراسة من أولها إلى آخرها.
وأكتفى هنا بذكر بعض الملاحظات: مثل:
- إن المعلومات الطبية (والفسيولوجية) الواردة عن “أسرار الغدد” (فضلا عن أن كثيرا منها قد نسخ علميا) لا مبرر لها : فهى معلومات جزئية لا قيمة لها فى شعر أبى نواس أو شكل جسمه أو طبيعة نموه (حيث لم يكن مريضا بأى مرض غدى أصلا ، كما لا يوجد إلا ارتباط واه بين الشذوذ والغدد). وحتى لو كان، فإنه لا يمكن إثبات العلاقة بين وجود عاهة الغددية الصمائية تلك والسلوك الفكرى بخاصة هكذا، وبين الإبداع بوجه أشد تخصيصا.
- بالنسبة للتحليل النفسى (وبرغم تحفظ العقاد الموقوف عن التنفيذ كما أوضحنا) فقد ذهب إلى استعمال جزئيات المعلومات من أمثال “لازمة التلبيس”، “ولازمة الارتداد” الخ، بشكل محدود، وبالمفهوم الذى عثر عليه العقاد، ربما بالمصادفة. فالارتداد – مثلا – يقول عنه إنه من لوازم النرجسية: “فهو الذى يعرف أحيانا باسم الصفات الثانوية (!!) ثم يشرح شيئا أشبه بالتقمص: ولعله يقصد الارتداء!! وهو كذلك يبالغ فى دلالة ما يبدو أنوثة لأبى نواس ويرجعه إلى النرجسية، برغم أن ثنائية الجنس، من عمق معين، هى من ألزم أرضية الإبداع[70]. ثم يمضى العقاد فى سائر اللازمات يلتقط ويعمم ويشخص بما لا داعى لتكراره هنا، حيث عورض بما فيه الكفاية، وكان نقد طه حسين من أدق ما قيل فى هذا الصدد، برغم ما جاء به أيضا من تجاوزات فى الرفض.
لقد بالغ فى تجاوزاته وتعميماته وتشخيصاته بما لا يحتاج إلى إعادة تفنيد[71]. كذلك فعل النويهى وأكثر بإصراره على التفسير الأوديبى مثلا. لقد ركز النويهى على أن أبا نواس قد قام بإحياء animation الخمر كائنا أنثويا مجسدا[72]. وهو يفسر هذا الإحياء بأن أبا نواس أحس نحوها بإحساس جنسى[73]، ثم أحس بعد ذلك نحوها بأنها أمه[74]. وهكذا تكتمل عقدة أوديب برغم أنف كل شىء، لمجرد أن شاعرا خاطب الخمر على أنها كائن حى يرضى ويسخط، أو أنها العذراء تفض عذريتها، أو الأم ترضع طفلها. والتعيينConcretization والإحياء animation هما من أهم أدوات ما هو شعر، دون أى حاجة إلى تفسير لاحق، بل هما من أخص خصائص الفن بعامة، دون إعلان شذوذ أو انحراف أو مرض أو أوديبية. ولو أننا عدلنا عن حشر المعانى والصور فى النظريات، لظهرت الخمر كما رآها أبو نواس وأحبها وطرب بها وطرب لها وعاتبها وحادثها وشكرها وخاصمها ورضع منها وألَّهها. وكل هذا لا يصف إلا دقة إحساس شاعر سكر أو لم يسكر، بل الأرجح، أنه لم يسكر بالمعنى الغيبوبى الذاهل، وإلا لما قال كل ذلك بكل هذا الجمال والعمق، بل لنام أو هام على وجهه عييا حصرا. حتى المخمور، العادى قد “يحيى” الخمر تؤنس وحدته فى ركن حانة مهجورة، فنراه – قبل أن يغيب – وهو يناجى كأسه ويستلهمه ويواعده، دون جَنسْنَةَ أو أوديبية. بل إن أبا نواس قد عاش خبرة تأثير الخمر بوعى فائق سبق اجتهاد العلماء اللاحق: فقد عايش – ووصف – فعل الخمر المباشر فى “تعتعة” التركيب الواحدى للذات، ذات شاربها، فتتعدد – دون جنون – كخطوة أساسية فى طريقها (الذات) إلى إعادة التركيب فى إبداع محتمل.
يقول أبو نواس:
وما الغبن إلا أن ترانى صاحيا ومالغنم إلا أن يتعتعنى السكر[75]
“التعتة” تحديدا هى اللفظ العربى الذى اخترته ليصف هذه المرحلة الباكرة من البسط النموى أو المرضي، التى تحُقق فض التسوية المؤقتة أو الاشتبك الجامد المحقق لواحدية الذات مرحليا. وهى العملية نفسها التى تحدث – صناعيا – نتيجة للسكْر: وهى العملية التى تسبق وتصاحب الإبداع أيضا[76]. وأبو نواس لا يكتفى بذكر الظاهرة، بل هو يصف نتيجتها من تعدد يعيه فيستوعبه فيبدع به فرحا شاكرا:
مازلت أستل روح الدن فى لطف واستقى دمه من جوف مجروح حتى انثنيتُ ولى روحان فى جسدى والدن منطرح جسما بلا روح
هذا بعض فعل الخمر – مباشرة – فى كيان مرن قابل للتحريك وليس كيانا هشا جاهزا للتناثر فالإغماء[77]. ثم إن النويهى يذهب إلى تشخيص أبى نواس بالشذوذ والمرض الصريح، ويصر على ذلك بجرأة نادرة، حيث يؤكد أنه ماذهب فى تأويله لأبى نواس هذا المذهب إلا لشذوذه المرضي. وتصل به شهوة التشخيص إلى القول بأن أبا نواس كان فى أواخر حياته على حافة جنون الهوس والاكتئاب، يفسر به فترات زهده ومرارة فلسفته فى ذبذبتها مع حالات نشوته وجذله، بل لا يتردد فى أن يحدد “السبب” لهذا المرض: “والذى أسرع بدفعه إلى هذا الجنون وكاد يقذفه فى حفرته كان نفس الدواء الذى تداوى به: الخمر” !!! والأمر لا يحتاج إلى تعليق: لأنه إذا بلغت الهواية النفسية والشهوة التشخيصية هذا المبلغ الذى يسمح لناقد أن يقوم من خلال شعر شاعر بتشخيص محدد يعجز عن أن يصل إليه الأطباء فى جامعاتهم ومستشفياتهم والمريض ماثل أمامهم يشكو ويحكى هو وأهله!! فلا تعليق. الأمر لا يتعلق فقط بأى التشخيصات اختار، وإنما يتعلق أساسا بالحد الفاصل بين الصحة والمرض، بل بالحد الفاصل بين الإبداع والمرض: فحتى فرويد لم يعد الشذوذ الجنسى مرضا فى ذاته. ومسار حياة أبى نواس، منحرفا أو شاذا أو سويا أو ثائرا، ليس فيه ما يعلن الإعاقة المرضية أو التناثر المعجز أو الاضطراب المحدد، وهو يصل بحدسه الإبداعى إلى وصف أعمق خلجات النفس على نحو لم نعتده، يضئ لنا الطريق، ولا يظلمه على نفسه أو علينا[78].
مهما يكن من أمر، فلنذكر أن “رؤية” تركيبنا الداخلى بطبيعته غير المألوفة لنا فى الحياة العادية لا تعنى أن هذا “الشذوذ” هو كيان معيش فى فعل يومى لمن رآه: لأن مستوى السيكوباثولوجى غير مستوى السلوك، وما يحكم الفرق بين السواء والمرض هو السلوك وليس جذوره. حتى السلوك نفسه لا يحدد المرض بحالة الاختلاف عن النمط الإحصائى،وإنما بشكوى صاحبه وإعاقته وشلله. كل ذلك غير وارد أصلا فى حالة أبى نواس حتى نعلق عليه هذه اللافتة التشخيصية أو تلك.
كل ما سبق نتناوله احتراما للمحاولة، مع أنه مبنى على أساس يحتاج مناقشة مبدئية، ألا وهو طبيعة وتنوعات وإشكالات علاقة الشاعر – شخصا- بشعره – إبداعا- وهو ما سوف نتناوله فى فقرة لاحقة من هذه الدراسة.
– 9 –
النقد النفسى فى الرواية
هذا فيما يتعلق بعينة “التراجم” المؤسسة على المنهج النفسى” أما بشأن محاولة تفسير العمل الأدبى ذاته بنفس المنهج، فسوف أركز على ناقد واحد (عز الدين إسماعيل) لأنه يمثل هذا الاتجاه بشكل متميز، مع بعض الاستطرادات المحدودة إلى غيره إذا لزم الأمر. وسوف ألتزم بمراجعة نقده دون مراجعة تفصيلية للأصل، حيث لن أخرج عن مقتطفات الناقد فى نقده.
نبدأ بمراجعة تفسير مسرحية “سر شهر زاد” لباكثير كما قدمه عز الدين إسماعيل[79]، حيث أورد فى هذا الشأن محاولات متجاورة – وليست مؤتلفة بالضرورة – يمكن أن نعددها كما يلى:
1 – إن شهريار قتل زوجته الأولى “بدور” وهو يعرف أنها لم تخنه: وقد قتلها لأنها صدته رفضا لشهوانيته، فأُحبط (جنسيا)، فثار، فانتقم منها بقتلها (حيث ارتبط معنى الرجولة عنده بتلك الصورة الشهوانية من الحياة التى يحياها).
2 – إن شهريار أقنعه “لاشعوره” (عن طريق الاستنتاج المعكوس)، أن “بدور” كانت خائنة (= بما أنه قتلها).
3 – إن شهريار – ليحافظ على هذا الاستنتاج الحامى له من مواجهة الذنب الذى ارتكبه – ظل يكرر قتل بدور: أولا فى قتل زوجاته (البدائل) من العذارى بعد الليلة الأولى، ثم بعد ذلك بقتلها (بدور) فى حلمه فى أثناء سيره وهو نائم.
4 – إن شهريار انقسمت نفسه نتيجة لهذا الشعور الدفين بالذنب، وأنه لم يكن له خلاص من هذا الشعور، ومن ثم لم يكن لتتوحد ذاته ثانية إلا بالاستماع لصوت الضمير (رضوان الحكيم) بأن يكفر عن ذنبه بعمل الخير.
وبرغم ما فى أغلب هذه الاستنتاجات من وجاهة، وبرغم ما بنيت عليه من “معلومات نفسية”، فإن بعضها يبدو متأثرا بأبعاد متواضعة لم تستطع أن تغطى هذا التركيب المكثف لشخصية شهريار كما وردت فى المسرحية. وأكتفى هنا – كما وعدت – ببعض المراجعات كعينات لما يحتاج إلى إعادة النظر.
1) أما أن الصد قد يؤدى “فى كثير من الأحيان… إلى العدوان” فهذا صحيح: ولكن بما أن الناقد قد طرح بدائل لمسارات الإحباط، إذن فهو يعرفها: فكان المتوقع أن يكون التركيز على العوامل التى رجحت هذا السبيل (العدوان حتى القتل) دون غيره (العنة مثلا) كرد فعل للإحباط. لذلك فإن الحاجة للبحث عن دلالة القتل تلح جنبا إلى جنب مع محاولة تفسير الدافع إليه.
2) أما نظرية “الاستنتاج المعكوس” فهى جائزة وجائز مثلها، وقبلها، – لو صممنا على المنهج النفسى تفسيرا أو تحليلا – أن يكون ثمَّ إدراك ضلالى Delusional perception[80] قد أكد له الخيانة قبل القتل مباشرة، وفى لحظة بالذات، رغم علمه المسبق بغير ذلك: لأن الصد الجنسى يفسر عند مثل هذه الشخصيات (مثل شهريار) بأن فحولته ليست كافية لإخضاع “بدور” وجذبها، فلا بد أنها تريد من هو أكثر فحولة، أى أكثر حيوانية (ما يمثله العبد الزنجى): فهو (شهريار) مرفوض “لنقص فى الفحولة” (رغم كل ما يثبت عكس ذلك)، وليس لنقص فى الرقة والطهارة كما يظهر من سطح حجج بدور (هكذا يفكر داخله)، فتتركز غيرته فى حيوان أقوى منه، ولا ينفع فى ذلك إقناع سابق أو لاحق: فهو الإدراك الضلالي، فالقتل.
3) أما أن شعورا بالذنب قد نشأ نتيجه لهذا القتل “الخطأ”، ترتب عليه انقسام الذات، فإنه جائز أيضا، لكن تكرار فعل القتل له أكثر من وجه: فهو يعلن – أيضا – أن القتل لم ينفع فاعله شيئا (شرب الماء المالح يزيد الشارب عطشا)، وهو يعلن كذلك استمرار المشكلة الأصلية (المبهمة حتى الآن)، وهو يعلن كذلك “إنكار” القتل الأول (وإلا فما الداعى للتكرار).
4) أما أن الحل النهائى (الذى لأَمَ ذاته المنقسمة) كان هو التكفير عن الذنب بفعل الخير، فهو حل لايحرر النفس “حتى تعود إلى صاحبها أو يعود إليها صاحبها واحدة بلا انقسام”، ولكنه حل ينكر الجزء القاتل الشرير حتى يلغيه تماما، بقهر “ضميرى” مقابل. إذن فهو لايوحد النفس، ولكنه يشكلها من “النصف الآخر”، ليصبح فردا عاديا ماسخا مهذبا وليس هذا ما حدث: فالسندباد ليس هو “فاعل الخير” تكفيرا عن الذنب، ولكن السندباد هو فارس المعرفة بكل طبقاتها.. وهذا هو مفتاح الاقتراح البديل: وفى ذلك نقول (مع احتمال الوقوع فى الأخطاء نفسها).
نبدأ من رؤية المؤلف والناقد (النفسي) على حد سواء: فقد أعلنا – الواحد تلو الآخر – حاجة شهريار إلى أن يُرَى[81] (يشاف) فجوره الدال على فحولته. وهذه خطوة تعلن حدس المؤلف والناقد على نحو يجعلنا نقف أمامه كما ينبغى، إلا أن الحاجة لرؤية “الفجور” داخلنا ليست هى الفجور (سلوكا)، فحاجة الإنسان إلى أن يُرى – عموما – هى حاجة أصيلة فى الوجود البشرى” وهى عميقة الغور، قبل الجنس وبعد الجنس.
الرؤية المطلوبة تشمل التقبل: وهوية الرائى (المتقبل) لها دلالة خاصة: فأن يُرى شهريار من “بدور” أو من شهر زاد غير أن يُرى من جواريه: فالرؤية التى تغنى إنما تكون ذات قيمة وجودية خلاقة حين يكون مصدرها شخص، يستطيع أن يبدى قبولا (ولو مبدئيا) للمرئى “كما هو”، لا “كما ينبغى” ولا “كما يريد”. وأيضا حين تكون هذه الرؤية “شوفانا” كليا. حين لا ترى الجوارى شهريا إلا فحلا جنسيا، ولا تراه بدور إلا بعلا دمثا، فى حين تراه شهر زاد سندبادا يجمع الاثنين ويتخطاهما بالبحث الدائم عن معرفة متجددة أبدا للداخل والخارج (اللذان هما فى النهاية صورتان لوجه واحد) فهى التى رأته “كلا مجتمعا” دون غيرها. هكذا تنقلب قضية وجوده كما تعلنها شهرزاد الأسطورة، أو شهر زاد المسرحية (سر شهر زاد) إلى دعوة ممن اعترف بوجوده إلى مواصلة النهم – معا- إلى المعرفة، والرؤية المتجددة الكشف: لِى، ولنا، وللعالم، مستظلين بإرواء الحاجة إلى القبول الكلي، كشرط أساسى لوجود البشر “معا”، بما يميز البشر. من هذا المنطلق تصبح عذراء كل ليلة هى المجهول الذى لم يكتشف من قبل، وحين تُـفض بكارته ولا ينبئ إلا عن جنس لا يفني، أو عمىً لا يُتقبل، ينتهى دوره (دورها) ليبدأ البحث من جديد[82]، إلى أن تظهر شهر زاد فتمسك الخيوط من أطرافها المتعددة، وتقبل كل “البدايات” برغم ظاهر تباعدها: فهى تقبل فحولته وتنفخ فيها، وهى ترى حاجته إلى هذا القبول أكثر من الفعل المترتب عليه: وهى تلتقط حاجته إلى معرفة “الباقى”، فتقدمه إليه فى حكايات “الخارج” (التى هى مساقط لما بالداخل من جانب ما) حتى تجعله يكتشف نفسه سندبادا، لا فحلا جنسيا (فحسب)، ولا زوجا مطيعا ماسخا (فحسب أيضا)، بل إنسانا “يسعى” عشقا إلى المعرفة والاكتشاف. وهنا تقع أهمية مراجعة “النهاية” المختلفة ما بين حدس كاتب المسرحية وتفسير الناقد[83].
يكاد النص يصرح بما يبرر هذه القراءة الجديدة من التركيز على الحاجة للرؤية من آخر، من ناحية، والشوق للمعرفة من ناحية أخرى:
شهر زاد – يقولون إنك أكبر زير نساء أنجبته امرأة.
شهريـار – وتخشيننى من أجل ما سمعت؟
شهر زاد – كنت يامولاى أخشاك من أجل ما سمعت، أما الآن….، فقد صرت أخشاك من أجل ما رأيت، ثم تطلب أن يعفيها من ذكر ما رأت.
وعلى الرغم من أن هذا السياق يمكن أن يفسر ببساطة بأنه “وماراءٍ كمن سمعا”، وأن المقصود بالتمنع فى الرد هو النفخ فى فحولة شهريار بالإشارة دون العبارة، إلا أن تَرْك الباب مفتوحا (بعدم التصريح)، بالإضافة إلى موقف شهرزاد “القاص” لعجائب “الداخل” – “فى الخارج”، قد يسمح بتأويل النص إلى ما ذهبنا إليه حين تتجاوز الرؤية التركيز على الفحولة، أو تأكيد عكسها، ومن ثم إغفالها أو رفضها، إلى رؤية كل ما يمكن أن يرى فى حكايات الليالى أو عالم الناس.
الحاجة إلى “الشوفان” قد تقبل رؤية جزئية “كبداية” لا تمنع رؤية الباقي. أما إذا فرضت الرؤية الجزئية نفسها كرؤية نهائية أو مطلقة، مما يترتب عليه فرض الاغتراب أو الانشقاق، فلا. هذا هو شهريار يرضى، بل يسعد، حين تراه بُدور فاجرا، ولكن أن يكون الفجور مرادفا للجنون، فهذا إعلان للاغتراب المرفوض، ولا رد على هذا العمى من جانبها إلا بالقتل: فالجنون فى صورته الاغترابية المنشقة هو عمق التجزيء المباعِدْ. فكأن قبول شهريار لوصف الفجور ورفضه لوصف الجنون يعلن أن “فجورى هو جزء مني، هو أنا: أما أن تفصليه عنى وترينه اغتراباً عنّى، فأنت لا تريننى” فلتذهبى إلى الجحيم بهذا الجنون الآخر = القتل”.
خلاصة القول: إن التفسير الذى قدمه الناقد قد وفق فى رؤية شهريار وهو يعلن احتياجه لأن يُرى بفجوره غير المنفصل عن كيانه (كخطوة جوهرية نحو التكامل). لكن رؤية الناقد لم تكتمل، ربما لغلبة الموقف الاستقطابى الذى يضع الشهوانية فى مقابل العفة، والإنسانية فى مقابل الحيوانية: وهو موقف أخلاقى أحادى البعد. ويمكن الرجوع به إلى فكر فرويد ذاته، حتى إن علم النفس الفرويدى قد سمى أحيانا بعلم نفس الأخلاق Moral Psychology كما أن الفكر الدينى (التقليدى) السائد فى شرقنا ووطننا يرحب دائما بهذه المواجهة: الشر فى مقابل الخير، بديلا عن التجزيء فى مقابل الرؤية الشاملة.[84]
قبل أن ننتقل إلى محاولة الناقد نفسه فى مجال الرواية يجدر أن يتسع الصدر للإشارة إلى محاولته لتفسير مسرحية أخرى من بعد آخر: مما يؤكد موقفه الانتقائى أيضا، وذلك فيما حاوله من تفسير مسرحية الحكيم “ياطالع الشجرة” تفسيرا “تركيبيا”. وقد كانت أهم نقلة تميز هذا الاتجاه هو أن يعلن الناقد من البداية أن هذه المسرحية “ليست من المسرح الرمزى فى شيء”: “فالنقلة بين “شهرزاد (الحكيم) و”ياطالع الشجرة” هى النقلة من الرمز العقلى إلى الوجود الحيوى”: وشتان ما بينهما[85].
يتضح فى هذا التفسير أن حدس الناقد (وربما الكاتب) قد تخطى الإطار النظرى الذى اعتمد عليه فى التفسير. ذلك أنه أسس رؤيته على النموذج الفرويدى لتشريح الشخصية، باعتبار أن فرويد رأى فى “أجزاء” تشريحه شخوصا، أى أنه تبنى فكرة تعدد الذوات: وهو أمر لم يعلنه فرويد مباشرة أبداً: فعند فرويد نجد أن الهو (أو الهي) ليس إلا طاقة دافعة مشوشة، لا كيانا “ذاتيا”، على الرغم من لغتها وصورها وأهميتها[86] على أن الناقد هنا التقط احتمال التجسيد العيانى لمستويات “الأنا” و “الهى” و “الأنا العليا”[87] فى شخوص الرواية. رؤية الناقد هى إضافة جديدة سابقة لتأكيد فكرة تعدد الذوات (حالات الأنا) التى لم تتضح بهذا الاكتمال إلا مع ظهور التحليل التفاعلاتى (إريك بيرن)[88]. وهذا (السبق) هو حقه دون نزاع، كما يبدو أنه أيضا قد استوعب المفهوم التركيبى بشكل دقيق حين أكد على أن المسرحية ليست رمزية بل هى تعلن ” “الوجود الحيوى” مباشرة: ومن ثم فاللاشعور (الدرويش) هو “ذات” بلا زمان أو مكان أو منطق أو نظام: والرغبة الكامنة فى القتل هى واقع حادث قبل الحدث، بعد تحطيم حاجز الزمان، إلى آخر ما ذهب إليه بريادة مقبولة، إلا أننى قد خيل إلى أن الناقد عاد فتراجع كثيرا أو قليلا عن تجاوز الرمزية حين عاد يقول “أما الزوج والزوجة فيمثلان الإنسان والكون أو الحياة، وتمثل الشجرة طموح الإنسان كما تمثل السحلية الزوجة”. وأحسب أن هذا لا يتفق مع مواجهة الوجود الحيوى كما هو، دون إشارة إلى أى شئ آخر، اللهم إلا أن يكون قد أراد الحديث عن الوجود الحيوى نفسه مكثفا فى الوجود البشرى، وليس ممثلا فى هذا الوجود الذى فكك النص وحداته ليدير الحوار.
وبصفة عامة فإنى اعتبرت هذا التفسير قفزة مناسبة تخطت محاولات الناقد السابقة، وأفادت ما قصدته من هذه المقدمة من أهمية أن يتجاوز الناقد (قاصدا أو غير قاصد) معلوماته النفسية.
* * *
أما النموذج الذى اخترناه للناقد نفسه ليمثل النقد النفسى للرواية المصرية المعاصره، فهو نقده لرواية “السراب” لنجيب محفوظ. وقد اعتمد الناقد فى تفسيرها على عقدة “أورست”. وقد استعار الناقد تفسيرا لشخصية “أورست” فى المسرحية الثانية من ثلاثية “أجاممنون” أكد فيه رولو ماى Rollo May أن قتل أورست لأمه كان إعلانا للانفصال عن الأم إلى العالم الخارجى: “لقد اتجه حبى إلى الخارج”. ولن أناقش هنا ما سبق أن أكدته عند تناولى لشخصية هاملت من أن القتل ليس إيذانا بالانفصال بل إنه فى الأغلب نوع من التعويق للانفصال نتيجة لاحتمالات البصم والاحتواء والبتر. دعوتى هنا تنصب على الاعتراض على التقاط وجه الشبه الضعيف لمجرد الاتفاق حول فكرة قتل الأم: فبالرغم من أن أورست قد قتل أمه فعلا، فى حين أن كامل قد شعر “وكأنه قتلها” فإن بقية الملابسات لا تسمح بافتراض شبه آخر من حيث خيانة كليتمنسترا أمُ أورست لأبيه، ثم تآمرها لقتله، ثم نفيها لابنها. فالذى حدث بالنسبة لكامل رؤبة (بطل السراب) يكاد يكون العكس تماما: فالوالد هو الذى هجر، وكأنه تآمر، إهمالا وتخليا عن المسئولية، وكامل كان شديد الالتصاق بالأم، وكأنه لم يولد أبدا، بفعل عدم أمانها وامتلاكه بديلا عن كل شئ. ومن حيث المبدأ، فإن التقاط خيط أن المسألة ليست مجرد تعلق جنسى أوديبي، وإنما هى صراع للاستقلال فى كدح الجهاد للولادة النفسية فالكينونة المستقلة، هو كل ما يربط بين التفسيرين. ولو انطلق الناقد – دون حاجة إلىعقدة أورست أصلا – فالتقط مراحل هذا الصراع بصوره “الجنسية” و”الاجتماعية” و”الأخلاقية” وغيرها، لقدم لنا إضافات جديدة شديدة الثراء لما تمثله رحلة كامل رؤبة لاظ[89] الفاشلة للاستقلال بالانطلاق إلى رحاب العالم بعيدا عن رحم أمه. فمحنة كامل التى عوقت استقلاله لم تكن فحسب علاقته الإحتوائية بأمه، أو علاقته الإستمنائية بجسده، أو علاقته الانشقاقية بالجنس المجرد، بل كانت كل ذلك معا، بالإضافة إلى الحرمان من الأب بكل الصور التى يمكن أن يتمثلها: ”الأب الخلقى”، و”الأب القاهر”، و”الأب الحانى”، و”الأب الحامي”. كل ذلك حرم “كامل” من فرص الصراع مع “آخر” (واللجوء إليه) فى طريقه إلى النمو: فكان التذبذب بين الخوف لدرجة التراجع إلى عالم داخلى مليء بالأوهام واللذائذ السرية، وبين أوهام الأمان فى رحم أم (رحم نفسي) لم يعد قادرا على إعطاء أى درجة من الأمان.
تكرار حوادث قتل الوالد: فعلا (ديمترى كارامازوف)، أو تدبيرا فتنفيذا مؤجلا (أوديب)، أو ثورة وثأرا (أوريست)، أو حلما أو معنويا (كامل) – كل ذلك نابع من صعوبة الصراع تعبيرا مأساويا عن جدل “الأجيال”: فبينما يلزم استمرار وجود الوالد كأحد شقى الصراع، تتأرجح كفة الصراع فى مأساوية خطرة حين يبدو التخلص منه أحد صور الانتصار (الذى يحمل فى داخله حرمانا حتميا من الشريك الضرورى لإكمال مسيرة التكامل)، وكأن هذا التكرار يعلن – ضمنا – أن مسيرة التكامل لا يمكن أن تتحقق فى “جيل واحد”، وأنه إذا كان على أحد شقى الصراع أن يذهب فى جولة جيل واحد، فليذهب الأكبر: وما بين البداية (المواجهة فى كفاح الاستقلال) والتأجيل إلى جولة لاحقة (قتل الوالد) وبداية الصراع من جديد (فى الجيل التالى)، تتحرك الأحداث[90]. أداة “التخلص الاضطرارى” (القتل) إنما تنبع من غريزة العدوان أساسا، وتلعب غريزة الجنس دورا مواكبا، حتى لا يكون القتل نهاية مرعبة ساحقة، حيث ثمة ضمان - من خلال الجنس – يعلن أنها نهاية “فرد”: وليست نهاية “نوع”: أى أن الجنس يتحرك ليسهل “الفناء” الفردى بضمان البقاء النوعى” فلا مبرر – إذن – لأن تترجم كل جريمة قتل والدية إلى ما وراءها من دوافع جنسية، تهميشا لدور العدوان القاتل – فى معركة الاستقلال والبقاء – فى بقاء الوجود البشرى. يعد تفسير رولو ماى لأوريست، وتفسير عز الدين إسماعيل لكامل، من التفسيرات التى لم تدر أساسا حول العلاقة الجنسية الثلاثية بين أب وأم وابن، بل هى معركة استقلال تظهر على السطح من منطلقات متعددة وبلغات مختلفة.
أزعم – إضافة إلى ذلك – أن العلاقة المريضة فى حالة رواية “السراب” كان يستحسن أن ننظر إليها من منطلق مشكلة الأم أساسا لا مشكلة الإبن. وقد أشار الناقد إلى هذا البعد، ولكن فى موقع الأرضية غالبا، أعنى أن “العقدة” (مع تحفظى على هذه التسمية) هى ليست عقدة كامل، فى محاولته أن ينفصل عن أمه، بل هى عقدة أمه إذ ترفض ولادته، وكلما تحرك كامل عنوة بعيدا عنها لاحقته بكل ثقل أنفاس حبها الاستحواذى وعنف إغارة عدم أمانها. فالتفاف الحبل السرى النفسى حول عنق كامل وروحه وجنسه كان يعلن طوال الرواية أن الأم قررت ألا تكمل الولادة وأنها أنفذت قرارها. الرواية كلها كانت محاولات مأساوية متلاحقة لتحقيق “التراجع” المستحيل: التراجع عن أن يصيرا “اثنين” منفصلين (ولادة) . وفى البداية أسقطت الأم ذاتها الطفلية عليه لتعلن أنها هى هو: فألبسته ملابس البنات، ثم بعد ذلك أعلنت امتلاكه ما استطاعت إلى ذلك سبيلا. وحين قرر الانفصال عنها ذهبت “معه” فى داخله، تعجزه عن أى علاقة كاملة: فإما جنس قح مع امرأة عابرة، وهو صورة مؤقتة لاستمناء آخر، وإما زواج “نظرى”، مع وقف التنفيذ. أما أن يكون ابنها منفصلا عنها شخصا ”كاملا” بذاته يتصل بشخص كامل غيرها، فهذا هو الموت بعينه لكيان الأم المهزوم بالوحدة والهجر والحرمان من قبل أن يوجد كامل بزمن بعيد. فالقتل يصبح هنا نوعا من إعلان استحالة الإنفصال بالحوار والمواجهة: لأنه ليس ثمة فرصة أصلا لحوار أو مواجهة: فالأولى أن نسمى العقدة بعقدة “الاحتواء”، أو “الولادة الممنوعة” (مع التحفظ على كلمة عقدة وتفضيلى لكلمة “قضية” – ولكنه الحرص على المقارنة). هذه العقدة أظهر عند كامل منها عند أوريست: فطغيان كليتمنسترا كان طغيانا صريحا ملاحقا (بحيث يغرى بالمواجهة، بل هو يدعو إليها)، فى حين أن طغيان أم كامل كان سلبيا إمتلاكيا يحرم الابن من أى معركة صريحة: فليس أمامه إلا الهرب، وأين المهرب، وهى – أيضا وقبلا – بداخله؟.
على أن جذب الأم المستمر يـُـنّشط فى الإبن- كل ابن – دافعا أصيلا أيضا يغريه بالتراجع عن محاولة الاستقلال، وهو ما يظهر فيما يسمى “الحنين للعودة إلى الرحم”. وقد يأخذ شكل الجنس “رمزيا”، فتتعقد المشكلة، ويصبح الجذب من “الخارج” (الأم) والدفع من الداخل (التراجع إلى الرحم تجنبا للإستقلال والمسئولية) من أقوى القوى التى تحول دون الحياة (الأمام/ الآخر).
* * *
بديهى أن هذه الشروح الجانبية ليست سوى “هوامش” على النقد المقدم، حيث لا مجال لإعادة النظر بشكل متكامل إلا بدراسة مفصلة مستقلة، ولكنى أردت فقط أن أعلن إحتياجنا إلى الإنتقاء (من أكثر من مصدر نفسى)، وإلى المراجعة، وإلى إعادة الصياغة، ما ظل النص مثيرا مولدا، وما واصلت المعارف النفسية وغير النفسية كشوفها وتعديلاتها. كذلك أردت أن أنبه إلى أنه قد يكون من الأفضل مواجهة كل نص أصيل (بما هو) وليس بقياس ملزم بأسطورة قديمة أخذت مكانها ومكانتها فى وجدان المجتمع البشري، حتى لو تشابهت بعض الجزئيات: فينبغى ألا نشير إلا إلى هذا التشابه، ليصبح كل نص جديد بمثابة فرصة جديدة لإضافة جديدة. وقد بينا منذ قليل أوجه الإختلاف البالغة بين النص والأسطورة المستشهد بها[91]. وأعتقد أن معركة كامل مع أمه قد بلغت من الثراء ووعدت بالعطاء بما لا يستدعى إقحام موضوع موت الأم (وكأنه القتل الفعلي) إلا بما قد يمثله من أرضية داخلية كامنة، أو بوصفه النتاج الطبيعى للعجز عن الولادة النفسية: فالولادة (النفسية) الطويلة المتعسرة هنا تنتهى بموت الأم، وإخراج جنين عاجز مشوه.
تعليقات إضافية: رفض الناقد “فجأة” التناقض فى شخصية كامل “الأوديبية الأورستية” التى نشأت من “إقحام موضوع آخر مناقض هو قتل الأب”.. “فالشخصية – فى رأيه- إما أن تمثل هذا الوجه الحضارى الإجتماعى أو ذاك: أى أنها إما أن تكون بكل مشكلاتها النفسية وليدة حكم الأب أو حكم الأم”[92] ويرفض الناقد أيضا إحتمال “أن تكون وليدة هذين النوعين من الحكم معا” على المستوى “الفردى”، ولكنه يقبله على المستوى الرمزى (للمجتمع)، مع التحفظ ضد “الصناعة المقصودة مسبقا”. هذا رأى لابد أن يثير الدهشة: لأن العكس يكاد يكون هو الصحيح: فمعركة الاستقلال البنوى تسير فى خطوط متوازية ثم متداخلة، وتصارع كل الصور الوالدية بنفس الحتمية، وإن اختلفت اللغات. وأعتقد أن هذا الميل إلى الإستقطاب عند الناقد قد ساعدت عليه شدة رغبة الناقد فى تطبيق نموذجه الذى ارتضاه: “.. ومن ثم أرى أنه لو إقتصر الكاتب على تقديم كامل فى إطار “أورست” وحده لكان ذلك أكثر إقناعا لنا بوجوده الحى”[93]. وأحسب أن هذا الإقتراح هو الذى كان يمكن أن يجعل العمل ماسخا: لأنه هو الذى سيقدم لنا شخصا مصنوعا يسير فى “خطوط هندسية مصنوعة له من قبل”. وهى مصنوعة من إلزام – ضمنى – بأبعاد أسطورة قديمة أدت دورها فى حدودها، ولو تكررت لما كان ثمة حاجة إلى فن جديد. وأخشى أن يكون هذا هو بعض مضاعفات الحماسة للمذهب النفسى. الرواية بوضعها الواقعى الفردى، لا الرمزى الإجتماعي، قد وصلت فى إظهار مشكلة تعسر الولادة النفسية إلى أبعد مما أتاحته المعرفة النفسية المتاحة للكاتب وقت صدورها، (أو حتى لغيره، وحتى الآن)، وبهذا تصبح مصدرا معلِّما نقيس عليه (إن شئنا) ولا نقيسه بغيره.
كذلك أدخل الناقد بعد ذلك “فجأة إيضا” قضية تحرر المرأة، خوفا من أن يدل تمرد كامل على أمه على انتكاس رجعى فى حياتنا، حين ينكر الابن سلطان أمه (وحقوقها) ويجاهد للتخلص منها. ولنفى هذا الظن يورد الناقد تفسيرا من محاكمة أورست (لا “كامل” !)[94].
وقد كان الأوْلى أن نتذكر أن تحرر الأم يستحيل أن يتم إلا بتحرر الابن (جدل “العبد” و “السيد” عند هيجل)، ومن ثم – دون استعارة أى شيء من أورست – يكون تمرد كامل على أمه هو لصالح أمه، ولصالح قضية تحرر المرأة التى لا أجد مبررا لإقحامها أصلا بالطريقة التى أوردها الناقد.
وقد خيل إلى أن وقفة أرحب عند نهاية القصة – متحررين من وصاية أورست – كان يمكن أن تضعنا “مباشرة” أمام “سيدة العباسية” وقد حضرت للعزاء (أو الزيارة أو الدعوة أو الإثارة) وكأنها جاءت لتحل محل الأم والزوجة جميعا. ومع أنها نقيض الأم (على الأقل من الناحية الشهوانية) فإنها هى هى الأم من ناحية الاحتواء، مع اختلاف نوع الإحتواء: وكأن “كامل” قد تخلص من الرحم النفسى – أخيرا – ليرتمى فى أحضان الرحم الجنسى (لا ليتحرر إلى الاستقلال).
وكأن “السراب” هو أن يخيل للفرد أنه قادر على أن يكون “كاملا” بذاته، أو بالتخلص من غريمه، دون هذه الرحلة الدائمة من وإلى الرحم، حيث تتاح الفرصة للاستقلال بالنمو الولافى المتناوب، لا بالبتر المندفع العاجز[95].
* * *
– 10 –
نقد الشعر والمنهج النفسى
بقيت كلمة فيما يخص هذا المنهج بالنسبة لنقد الشعر، وهل يمكن معالجته بنفس هذا الأسلوب النقدى. وفى محاولة الإجابة نجد أنفسنا أمام عدة إشكاليات لا أحسب أنى بمستطيع تناولها حالا بالكفاية اللازمة، ولكنها جديرة بالطرح لتناول قادم.
سبق أن ناقشنا تراجم لشاعرين، إتبع فيها هذا المنهج النفسي، إلا أننا لم نتناول أصلا مدى دلالة الشعر على صاحبه: وهى قضية سابقة لنقد النقد الذى أوردناه. ويجدر بنا هنا أن نتبين معالمها من خلال محاولة الإجابة عن أسئلة مثل:
- إذا كان الشاعر هو هو شعره، فلماذا الشعر أصلا؟
- أليس الشعر (فى أحوال كثيرة) نفيا لما هو الشاعر “ظاهرا”؟
- أليس الشعر بديلا “استطلاعيا” أو “ثوريا” لواقع يتحدى بجموده؟
- أليس الشعر تجديدا للغة، ومن ثم فهو تجديد للشاعر؟. إذن، فثمة فرق بين الشاعر “سلوكا”، والشاعر “رؤية”، والشاعر “رؤيا”.
كذلك، فمن حق الشاعر، بل من حق شاعريته أن يتجول طليقا فى ذاته، وأن يتذبذب – من ثم – عنيفا فى رؤيته[96]، حتى لانكاد نلاحقه، أو نحدده: حيث تتداخل مستوياته الثلاثة السابقة (سلوك/رؤية/رؤيا)، بل مستوياته غير المعدودة الكامنة فى تكثيف قد يتناثر فى إيقاع “ضام”، ثم.. هكذا من جديد.
لكل ذلك فإن ترجمة “نفسية” شاعر من شعره من بعد سلوكى محدد، أو تحليلى واحد، أمر محفوف بالمخاطر بلا جدال.
أما بالنسبة للشعر ذاته ومحاولة تفسيره بالمنهج النفسى فالأمر يحتاج إلى دراسة خاصة: فالشعر لا يفسر أصلا (أو ينبغى ألا يفسر)[97]، ومع ذلك فلا مجال لإصدار “قرار” يحرمنا النظر فى “رسالة” الشعر، ومن ثم فيما يطرحه من إضافة نقدية معرفية قد تثرينا (فيما هو نفسىّ وغيره) ثراء بلا حدود.
الشعر ليس واحدا، ومستوياته وأبعاده أكثر من أن يضمها تناول واحد. لذلك.. فإن موقع المنهج النفسى فى نقد الشعر لابد أن يختلف باختلاف مستوى الشعر ووظيفته، لا من حيث الجودة أو الأصالة، ولكن من حيث العمق والأداة. وسوف أكتفى هنا بالإشارة إلى بعض ذلك فيما يتعلق بموقع المنهج النفسى فى نقد مستويات الشعر المختلفة:
(1) فالشعر الذى يتناول المعانى الشائعة فيصوغها صياغة مألوفة لكن بإعادة تشكيل يظهر جمالها ويضبط إيقاعها، لدرجة تسهل توصيلها إلى أصحابها، هو شعر جيد، لكنه أقل أهمية من ناحية إمكانات كشفه لطبقات الوعي. ومن ثم فإن تناوله بالمنهج النفسى قد يكون تناولا تقريريا من نوع تناول الحياة السائدة، ولكن من منظور يتصف بوجه خاص بجماله المتميز. وقد يصلح تطبيق نظرية نفسية بذاتها على نص بذاته.
(2) والشعر الذى يعلن رؤية صاحبه التى تخطت المألوف حتى تميزت شكلا ومحتوى، فتكثفت فى رسالة إيقاعية تشكيلية مركزة، يمكن أن يحوى بين ثناياه اختراقا حقيقيا لسابق معرفتنا عن أنفسنا ونفس صاحبه، فيكون تفسيره النفسى إضافة حقيقية قد تتخطى كل المعارف النفسية السابقة. وقد نجد هذه الإضاءة فى شطر بيت واحد، وقد نجدها فى وحدة القصيدة كلها. وقد تتخطى القدرة الشعرية تشكيل الرؤية إلى تكثيف الرؤى. وهنا يستطيع الشعر بما له من وظيفة تكاملية، أن يقدم النغم والصورة والرمز الواردة من أكثر من مستوى للوعى فى ذات التعبير المكثف الجميل، وكلما غاصت الرؤية فى دنيا الرؤى وتعددت مصادرها، زاد عبء التفسير النفسي، وتطلب الأمر ريادة إبداعية غير ملتزمة بنظرية أو فرضيات مسبقة جامدة.
(3) أما إذا كان الشعر فى ذاته إقتحاما للغة وتخليقا فى الرؤى وتحليقا بالنغم، فقد تخطى الأمر كل مستوى معروف للتفسير النفسى” لأن مادته حينئذ لن تخضع لأى ترجمة ممكنة، وإنما هى قد تكون قابلة للمعايشة المباشرة، فى محاولة لإستيعاب أطرافها بإعادة تشكيل وعى المتلقى” الأمر الذى قد يماثل – مع الفارق – مواجهة كلام المريض الفصامى المتناثر، مع رفض حاسم لاعتبار هذا التناثر بلا رابط، ومن ثم التزام حتمى بتشكيل الوعى المقابل الذى يستطيع أن يغوص للعمق الموحد الذى ينبع منه هذا التناثر الظاهرى. والتحدى قائم فى التجربتين (الفصام وهذا المستوى من الشعر)، والخطر قائم أيضا منهما معا، والفرق بين المثيرين شديد الأهمية: لأن الشاعر من هذه الطبقة لا يسمح لقارئه بتركه لمجرد أنه لم يفهمه، بل هو يتحدى وعيه لأنه (الشاعر) تشكل مع شعره من موقف قصدى مسئول، ليس بالضرورة شعوريا، وعلى المتلقى أن يغامر نفس المغامرة مهما أعاقته معارفه القديمة (وما ألف بصفة عامة). أقول إن هذا النوع من الشعر يكاد يكون من المحال تناوله بأى تنظير مسبق، نفسى أو غير نفسى” لكن من الممكن – وكما هو الأمر فى المنهج الفينومينولوجى – أن يعد مادة لبحث متجدد، يحتاج لباحث (ناقد) له أرضية معرفية شاملة: من عناصرها ما هو “نفسىّ”، ولكن له – فضلا عن ذلك – ممارسة ذاتية مباشرة، مع تجارب موازية ومغايرة، يتناولها بإبداع متجدد. وقد خيل إلى أنه من فرط إصرارى على رفض أى وصاية مسبقة فى تناول هذا النوع الأخير من الشعر – خيل إلى أنه قد تخطى مرحلة اللغة بوصفها رمزا، إلى مرحلة اللغة بوصفها كيانا مولدا لكل ما يمكن أن يتولد منه. وهنا يكاد يذوب الحد الفاصل بين اللغة وقائلها، وتصبح الصور المطروحة كيانات قائمة فى ذاتها، لا دلالة لها على غيرها: على ألا تقود اللغة صاحبها وتشكله (كما هو الحال فى الفصام)، بل تكونه ليكونها وبالعكس: تصعيدا متصلا. هذا المستوى من الشعر لا يصلح أن يكون دالا على نفس قائله أو على رغبته أو على سماته أو على تركيبه، لأنه مواكب لإعادة النظر فى كل ذلك.
مجال الحوار بين السيكوباثولوجيا بخاصة والمستويين الأخيرين مما هو شعر، مجال واعد بكل أمل فى رحلة المعرفة غير المحدودة.
خاتمة (شخصية)
– كتبت هذه المقدمة محاولا الالتزام بصفتين جاءتا فى خطاب تكليفى بكتابتها: “.. على مستوى الدراسة العلمية وعلى مستوى الإبداع الفنى”. غير أن المستوى الثالث الذى تحدثت من خلاله هو أساسا – وقبلا – مستوى الممارسة العملية لمهنتي. وقد تجنبت أن أستشهد بأى من هذه المستويات استشهادا مباشرا لسببين: الأول: الحرج من الحديث الشخصى حتى يطلب منى ذلك تحديدا، والثانى: الخوف من الابتعاد عن لغة القارئ غير المتخصص فى مجالى. غير أنى أعتقد أن الإشارة إلى كيفية مرورى ببعض التجارب الإبداعية التى تطورتُ من خلالها هو من حق القارئ، لما قد يكون لها من دلالة متعلقة بما قدمت فى هذه المقدمة. ومن ذلك:
إن محاولتى الشعرية الأولى “سر اللعبة” بدأت بفكرة تكاد تناقض كل ماورد فى هذا المقال: حيث إنى تصورت – تحديا لنفسى أساسا، وللوصاية اللغوية الأجنبية بعد ذلك – أننى يمكننى أن أكتب علما من أصعب العلوم النفسيةوهو علم السيكوباثولوجى باللغة العربية شعرا. ولم أكن أعرف حينذاك الفرق بين الشعر والنظم، إلا أنى عند تنفيذ المحاولة، وبرغم رغبتى فى التعبير عن أفكار بذاتها، وجدت التجربة تتحور حتى تخوض بى فيما لم أحسب حسابه أصلا، فجاء الناتج الشعرى متجاوزا التنظير السابق، على نحو جعلنى – نتيجة لنقاش من ذى صفة[98] – أكتب شرحا لهذا الديوان الصغير، تخطى بدوره الديوان الواقع فى بضع وثلاثين إلى ما يناهز الألف صفحة، لقد تعلمت من هذه التجربة، وما تلاها من محاولات فى الشعر والقصة والممارسة، ما أظهر لى بعض ما أشرت إليه طوال المقدمة.
كذلك الحال فى محاولتى الروائية “المشى على الصراط”: فقد بدأت من البداية نفسها، حتى إننى صّدرتها بعنوان خاطئ يعلن أنها “رواية علمية”: وكنت أقصد من ذلك أنى أستعمل اللغة الفنية لتسعفنى فى “توصيل” ما بلغنى بعد أن عجزت عن التعبير عنه بلغتى العلمية. لكن التجربة – أيضا – تخطت هذا التصور، وخاضت بى إلى بحر من المعارف لم أضعه فى الحسبان، وكاد الأمر يحتاج إلى “نقد نفسى” ذاتى، لولا خشية المسخ وغرابة الاقتراح.
ملحق الفصل الأول
شهادة المؤلف (ناقدا)
الملحق
(شهادات النقاد . مجلة فصول
المجلد التاسع – عدد 3-4 فبراير 1991)
س1- متى وكيف بدأ اشتغالك بالنقد الأدبى؟
1- لم أشتغل بالنقد الأدبى كما يوحى به السؤال، وإنما بدأت القراءة بالقلم – كما أحب أن أسميها– حين لفت نظرى نجيب محفوظ وهو يكتب فى الأهرام رائعته الشحاذ، حيث جزعت من دقة وصفه لمرض من الأمراض النفسية (وهو الاكتئاب) حتى خشيت أن يكون قد ألم به طائف منه، إذ تراءى لى أنه لا يستطيع أن يصل إلى عمق هذا الوصف ودقته إلا من عاش هذه الخبرة حتى النخاع، فقلت أكتب مبيناً ما فى هذا العمل من قدرة على تعليمنا المرض النفسى بأدق وأعمق من السائد فى كتبنا ومراجعنا العلمية. ونشرت قراءتى لهذه القصة فى باب ابتدعته فى مجلة كانت تسمى الصحة النفسية، وأسميت هذا الباب نظرات فى الأدب، وبدأته بهذه الكتابة عن الشحاذ، ثم رباعيات جاهين، ثم عن “غبى” فتحى غانم. ولكنّى سرعان ما تبينّت الخطأ الذى وقعت فيه، فمن ناحية تبينت أن المستوى الذى أكتب فيه هذا النوع من النقد هو مستوى وصفى، يقلل من قيمة العمل الأدبى ولا يضيف إليه، ومن ناحية أخرى تبينت مدى التشويه الذى يمكن أن ينتج عن مظنة وصاية العلوم النفسية على تلقائية المبدع، فعدلت عن هذا المستوى تماما، لدرجة أنى أود لو أتخلص من هذه الأعمال الباكرة، أو حتى أن أكتب ضدها. وقد أشرت إلى ذلك فى كتاباتى اللاحقة، فيما يختص بالغبى لفتحى غانم، حين قرأت له “الأفيال” ناقدا، وقدمت هذه القراءة باعتذار عما بدر منى فى قراءتى للغبى، وكذلك قدمت نفس الاعتذار بالنسبة لرباعيات جاهين، حين عدت لدراستها بالمقارنة برباعيات الخيام ورباعيات سرور فى عمل لاحق. أما شحاذ نجيب محفوظ فإنى أقوم بإعادة دراسته حاليا بالمقارنة بمالك الحزين لإبراهيم أصلان. ولعل ذلك يكفى اعتذارا عن هذا الخطأ الباكر.
س2- إذا كنتَ تكتب أدبا (شعرا أو نثرا)، فهل بدأت أديباً ثم تحولت إلى النقد؟ ولماذا كان هذا التحول؟ وكيف كانت العلاقة بين عملك مبدعا وممارستك للنقد؟
2- أنا لا أعد نفسى أديبا (ناثرا أو شاعرا) بما يمكن أن توحى به هذه الصفة، وإن كنت أمارس الكتابة فى كل من هذا وذاك، وقد نشر بعضها ولم ينشر أغلبها. غير أننى أتصور أنه لا توجد علاقة مباشرة بين ما أمارسه إبداعا أوليا وما أمارسه إبداعا نقديا، وإن كان من المحال أن أنفى هذه العلاقة. المهم أن ما أكتبه ناقدا لا يلزمنى فيما أكتبه منشئا أوليا، فأنا – ناقدا – لست المقياس الذى أقيس به إبداعى مُنشئاً، وإلا أصحبت كتابة موصى عليها. كذلك فأنا لا ألزم نفسى بقيم نقدية أكون قد طرحتها أوأكتشفتها فى أثناء نقدى لعمل غيرى. وليس معنى ذلك أن المسألة عفوية تماما، وإنما أردت أن أوضح أن العملية النقدية هى عملية إبداعية، تبدأ بنص متاح محدد المعالم، له ذاتيته واستقلاله ونكهته وشموليته وإيحاءاته. هذا النص هو الواقع الماثل أمام الناقد ليبدعه مرة أخرى، فى حين أن كتابة القصة – مثلا – تستلهم واقعها من أبجدية عيانية مختلفة، أبجدية من مادة الواقع الداخلى أو الخارجى، وعادة ما تكون أبجدية كلية غير منتظمة حتى لو تجددت بعض معالمها هنا وهناك.
أما الشعر فهو اقتحام يصنع واقعه بكل عنفوان الخلق الذى يكاد يكون من المحال معه إرجاعه إلى نص قائم، ولا حتى إلى أبجدية محددة المعالم. وأية وصاية نقدية مسبقة –حتى من موقف الشاعر على نفسه إن كان فى الوقت نفسه ناقدا- أية وصاية لابد وأن تفقد الشاعر هجوميته المخترقة، التى لا يتميز الشعر إلا بها ليكون شعرا بحق. صحيح أنه يوجد موقف نقدى لاحق لانبعاثة الشعر الأولى، حين يتدخل الشاعر ناقدا شعره وهو يعيد صياغته تدخلا يزيد أو ينقص من قيمة الجرعة الأولى، بحسب الجرعة ودرجة الوصاية. ولابد أن أعترف أن كثيرا من قصائدى قد تشوه بهذا التدخل حتى تنتهى إلى سلة المهملات، وبعضها قد تحور ونضج وتنامى حتى صار جديرا بأن يبقى.
إن كل عمل من أعمال الإبداع عندى له كيانه وبداياته وغاياته التى يتداخل بعضها فى بعض من حيث المبدأ والغاية، ولكنها أبدا غير ملزمة لبعضها البعض. ولا يمكن أن تكون الكتابة النقدية وصية على الكتابة المبدعة الابتدائية، وإلا أصبح الأمر مثل تدريبات التطبيق على القواعد النحوية مثلاً. وهذا ليس إبداعا ولا هو حتى كتابة عادية.
دعونى أعترف أنى أتبين فى إسهاماتى النقدية ما أتصور أنه إضافة إبداعية، هى أهم وأكثر أصالة من محاولاتى الابتدائية إنشاء انبعاثياَ أوليا، حيث أشعر أننى أستطيع أن أضيف – ناقدا – ما يميز نقدى، من موقعى المتعدد التوجّه والمصادر، بالمقارنة بما يمكن ألا اضيفه قاصا أو شاعرا.
ربما يرجع هذا إلى طبيعة مهنتى الأصلية، حيث يمثل المريض نصا إنسانيا أصيلاَ ينبغى علىّ قراءته بما هو عمل فريد ليس كمثله عمل آخر. أنا أرفض اللافتات التشخيصية لمرضاى حتى لا يصبحوا رقما فى نمط، وأعد الجنون الفردى حدثا أصيلا دائما يحتاج إلى قراءة نقدية مسئولة.
أما أين بدأت، وكيف تحولت إلى النقد، فالإجابة هنا ترتبط بمأزقى الخاص الذى دفعنى إلى أن أطرق كل هذه الأبواب معاً، وهو عجز تخصصى العلمى عن استيعاب الجرعة الوجودية المعرفية التى وصلتنى من مرضاى، ومِن عالمى الخاص الذى استثاره فىّ مرضاى، فرحت أطرق كل أبواب التعبير معا، لعل وعسى، فكأنى بدأت كل محاولاتى الإبداعية جميعا لنفس الهدف، بنفس الدافع. أما الدافع فهو عجز الأداة واللغة العلمية فى تخصصى عن استيعاب الرؤية التى بلغتنى. وأما الهدف فهو أن أبلغ هذه الرؤية التى لم أعد أملك أن أكتمها، وإن كنت لا أتبين تفصيلات معالمها إلا فى أثناء الإبداع ذاته، بكل أسلوب، وفى كل مجال.
النقد هو هذا وذاك، وهو أقدر وأرحب المجالات التى طرقتها.
س3- هل تصدر فى نقدك عن بناء نظرى فى الأدب والفن بعامة؟ وإذا كان فما الدعائم التصورية الأساسية التى يقوم عليها هذا البناء؟
3- من البديهى أنى لابد أن أكون متهما بأنى أكتب ما يسمّى النقد النفسى، وإن كنت قد أوضحت فى أول دراسة لى هذه المسألة “عن إشكالية العلوم النفسية والنقد الأدبى”. أوضحت أننى فى نهاية الأمر ضد هذه المدرسة النفسية، فمن ناحية غلب على هذه الدراسات النقدية النفسية مفاهيم التحليل النفسى التقليدى الذى تجاوزتْه معظم المدارس الأحدث، بما فى ذلك المدارس التحليلية، ومن ناحية أخرى ظهرت بعض مقاييس تقيس العمل الأدبى بما يختزله أويفرغه، وفى الحالين وثق أهل الإبداع الأدبى بأهل النفس حتى تصوروا أنهم أصل فى معرفة ماهية النفس، ومن ثم قد يمكن أن يكونوا مرجعا فى ذلك، وكل ما حاولت أن أبرزه فى هذه المسألة هو أن المبدع هو الأصل، ونحن – المشتغلين بالعلوم النفسية – نتعلم منه، وأن فرويد حين أطلق كلمة “عقدة أوديب” على مرحلة من مراحل النمو كان يعلن سبق الأدب لمعرفة النفس، أى أنه كان يفسر النفس بالأدب، ولا يفسر الأدب بالنفس، وحين حاول فرويد عكس ذلك فى تحليله لليوناردو دافنشى أخطأ وشطح بما لا يليق، وهكذا.
ومع ذلك فأنا اضبط نفسى متلبسا بالتفسير النفسى للأدب فى أثناء قراءاتى وكتاباتى النقدية، برغم كل هذا الرفض لهذه الوصاية.
وقد اكتشفت من واقع هذا التناقض الظاهرى أنه يمكن أن توجد لما يسمّى النقد النفسى عدّة مستويات مارستها جميعا حتى انتهت إلى ما أقوم به الآن:
المستوى الوصفى: وهو الذى يقول فيه الناقد إن هذا البطل فى رواية كذا كان عنده كيت من الأعراض واسم مرضه كيت من الأمراض وهذا هو أسوأ المستويات قاطبة، وهذا هو ما وقعت فيه من البداية، وما أحاول أن استغفر عنه حالا (كما ذكرت فى البداية).
المستوى الدينامى أو التحليلى: وهو ما تتصف به المدرسة النفسية فى النقد أكثر من المستوى الأول. ولاشك أن له شرعيته وعمقه. وهو المستوى الذى تناولت به الدراسة المقارنة بين رباعيات الخيام، ونجيب سرور، وجاهين، وإن كنت لم ألتزم فيها بالفكر التحليلى التقليدى (الفرويدى) بقدر ما قرأتها (الرباعيات الثلاث) من منطلق العلاقة بالموضوع object relation school، وقد أفدت منها أبعادا جديدة أضافت إلى علمى بهذه المدرسة أكثر مما أضافت هذه المدرسة إلى هذه الأعمال، وإن كان فى ذلك ما يمكن أن يسمى الصدق بالاتفاقconsensual validity، أى أن الوصول إلى حقيقة معرفية واحدة من منطلقات مختلفة، وبلغات مختلفة، هو فى ذاته إثبات لصحة هذه المعرفة. وقد أثبتت هذه الدراسة صدق ما ذهبت إليه هذه المدرسة التحليلية، بقدر ما أضاءت أبجدية هذه المدرسة جوانب الحدس الإبداعى فى هذه الأعمال.
ثمَّ بعد آخر لهذا المستوى التفسيرى، وهو قراءة العمل الأدبى من منطلق تركيبى نفسى أساسا، وهو بعد مستعرض أكثر تميزاً، لأنه يعطى رحابة وحركة آنية أكثر مما ينقله المنظور التحليلى الذى يهتم بالبعد الطولى والعلاتى أكثر فأكثر .. وأعتقد أن كل أعمالى النقدية بلا استثناء قد غامرت فى خوض هذا البعد التركيبى بما استطاعت، وخاصة من منطلق مفهوم تعدد الذوات حيث أرى شخوص الرواية، ووحدات الشعر – مثلا – كلها كيانات حية قائمة حاليا، ومتفاعلة ومتضفّرة ومتبادلة .. إلخ، فى ذات المبدع وفى عمله فى آن واحد. هذا هو مفهوم الواقعية عندى، الواقعية هى أن يتناول المبدع واقعه الحى بكل مفرداته من حيث حيوية تمثله (لا فهمه) للواقع بكل أبعاد الداخل والخارج، فتتحاور كياناته الحية واقعا بيولوجيا وجوديا مع عالمه الخارجى، واقعا آخر، بحيث يكاد يكون من المحال الفصل بينهما. وعلى ذلك فكل أدب جيد هو واقعى حتما. وقد كدت أحقق هذا الفرض من واقع قراءاتى النقدية بنفس قوة تحقيقه من واقع ممارسة علاجية خاصة هى العلاج الجمعى.
أما المستوى الثالث: فهو الذى أقرأ فيه العمل الأدبى بما هو أنا، ليس بمعنى الذات المشخصنة، وإنما بمعنى الأداة الكيانية المشاركة، وذلك دون التزام مسبق بأى إطار مدرسى أو نظرى، فأتحاور مع النص مثل أى قارئ آخر. لكن ما هو “أنا” ليس إلا خلاصة كل معرفتى ووجودى وخبرتى وإبداعى وحضورى ..إلخ. فلا أستطيع أن أتخلص من كونى طبيبا، أو من كونى متقمصا مريضا لى، أو من كونى أعرف هذه النظرية النفسية أو تلك، فيتم حوار عنيف، ظاهر وخفى، بينى وبين العمل، أحاول فيه أن أطوعه لما وصلنى منه، وما عرفت عنه وبه، وفى الوقت نفسه أقبل منه أن يروّضنى نحوه. يتم هذا وذاك فى آن واحد، فأخرج من القراءة بإضافة إلى ما هو “أنا” بحيث تتحور مواقفى العلمية والأدبية على حد سواء، بعد ما تتحوّر ذاتى، فأمسك القلم لأسجل كل هذا الذى حدث، فيكون نقدا.
لا أحسب أن ذلك كله يندرج تحت ما يسمى بالمدرسة الانطباعية، أو أنه يحتوى أى جرعة شخصية مفرطة، ذلك أنه بقدر ما يكون حضور الناقد موضوعيا، أى بما هو، وبما يمثله، وبما يستوعبه جميعا، وبقدر ما يكون حضوره هذا حيا متحركا أبدا فى رحلة مرنة متصلة بين الداخل والخارج – بهذا القدر يكون انطباعه أبعد شئ عن الذاتية. المسألة إذن ليست فى أن هذا العمل أنا أسيغه، وأن ذاك العمل أنا أنفر منه، بل إن المسألة هى: هل انا أعيش هذا العمل فى داخله، داخلى، أم أنى أمرّ فيه منفصلا عنه؟ المقياس فى ذلك عندى هو أننى إذا خرجت من عمل ما كما دخلته فلا نقد ولا يحزنون، مهما بلغت دقة الأداة، وموسوعية التنظير، أما إذا عشته فغّيرنى، فأعدتُ صياغته من خلال ذلك، ثم استطعت أن أوصل صياغتى هذه لثالث، فهذا هو النقد الذى أجتهدُ فى اتجاهه. وأرى أننى لو نجحت فى ذلك قليلا أو كثيرا فإننى أكون قد أسهمت فى إضافة إلى النص، وأستطيع أن أعد قراءاتى النقدية المنشورة عن: “ليالى ألف ليلة”، و”رأيت فيما يرى النائم” لنجيب محفوظ، وعن قصة (رواية) “نيتوتشكا نزفانوفا” لديستويفسكى، و “أفيال” فتحى غانم، و”ليل آخر” نعيم عطية، و”بيع نفس بشرية” للمنسى قنديل، وشعر أحمد زرزور – أستطيع أن أعد كل ذلك نموذجا لهذه القراءة الموضوعية المرنة لإعادة خلق النص فى اتجاه مواز، إن صح التعبير. أستطيع كذلك أن أعلن أن هذا الأسلوب هو الذى قرأت به – ناقدا – كثيرا من الأعمال الأخرى التى لم تنشر كتابتى عنها بعد، مثل “رشق السكين” للمخزنجى، و”السكة الحديد” للخراط، و”ذباب” سارتر و”متمرد” مورافيا، و”ليمون” الديب، و”مالك الحزين” لأصلان، ناهيك عن محيط ديستويفسكى الذى ليس له قرار أو حدود. (الأخوة كارامازوف – الأبلة – مذلون مهانون – قرية ستبيانتشيكوفو وسكانها – المقامر .. الخ)
س4- هل تأثرت فى عملك النقدى بناقد أو نقاد سابقين، من العرب أو غير العرب؟ وفيم كان هذا التأثر؟
4- بصراحة، لا أستطيع أن أجزم، بل لعلنى أكون أكثر أمانة حين أجيب بالنفى، فأنا مقل تماما فى قراءاتى المنهجية المنتظمة، وإن كنت قد قرأت معظم ما نشر بالعربية فيما يسمّى المنهج النفسى، محاولا أن أصحح نفسى، من أول أستاذنا العقاد حتى شاكر عبد الحميد، مارا بالغنيمى وعز الدين إسماعيل، فتأكد تحفظى على هذا المنهج كما أسلفت، وأنا أعد هذا تأثرا بشكل ما، فلولا هذه الإسهامات الباكرة والمواكبة ما صقلت رأيى فى اتجاه ما أرى الآن، وإن كان اتجاها مختلفا فالفضل يرجع أيضا إلى أصحاب الاتجاه الذى اختلفت معه دون ارتباط بالنتيجة. وقد تتملذت على نقاد نجيب محفوظ بصفة عامة حين رجعت إليهم لّما قررت أن أقوم بدراسة مقارنة بين أولاد حارتنا والثلاثية والحرافيش فى مقابل مائة عام من العزلة لماركيز، وقد هالتنى هذه الرؤى المتعددة، حتى قلت، وسجلت فى بداية بعض نقدى لمحفوظ، خذ من محفوظ ما شئت لما شئت. وعموما ففيما عدا أستاذنا يحيى حقى، من الجيل الرائد، وجابر عصفور من الجيل الحالى، فإنى أجد صعوبة شديدة فى تتبع الدراسات النقدية المفرطة فى أكاديميتها، ففى نهاية النهاية، لن يكون النقد إلا إبداعا، وأية محاولات لجعله علما بالمعنى المقنن المحكم، سوف تمسخه وتشوهه، كما حدث لعلم النفس وأكثر، ولن تفيد علمنة النقد مسيرة الإبداع بصفة عامة، بقدر ما لم تفد دراسات علم النفس الُمعلمن معرفتنا بماهية النفس بالمقارنة بها أسهمت به الفلسفة قديما.
س5 – كيف يكون مدخلك إلى العملية النقدية؟ وعلى أساس من أى منهج يكون تحليلك للنصوص الأدبية؟
5- ذكرت حالا أنى أدخل قارئا عادياَ، لكننى أستطيع أن أتذكر أن ثمة فرقا بين أن أقرأ صامتاً لى، وأن أنوى أن أقرأ العمل بحروف مكتوبة لى ولغيرى (مما أسميه نقدا)، فالأمر على ما يبدو يجرى هكذا:
أحاول أن أنزع عن نفسى ابتداء أن هذا العمل لفلان الذى أعرفه مسبقا، إذ أننى لو قرأت العمل بما أتوقع منه، وما أعرف عن كاتبه، فجاء كما توقعت، فأى جديد هناك؟ وأى نقد ممكن؟ وقد شجعتنى هذه البداية دائما على أن أرفض أعمالا لمن لا يمكن أن أجرؤ أن أتصور أنهم يكتبون ما يُرفض فمثلا حين قرأت قصة اسمها “الفأر النرويجى” لنجيب محفوظ لم أتمالك أن أرفض رمزيتها المفرطة، ولم أنقدها ولم أعد إليها قط. ثم إنى أعود للعمل بعد أن تكون قد وصلتنى الإشارات الأولية التى تكون سلبياتها – فى العادة – أكثر من إيجابياتها، فأحاول أن أتقمص الجو العام الذى كتبت فيه، احتراما للجهد البشرى وتقمصا لإبداع الكاتب الخاص لهذا العمل بالذات (إن أمكن ذلك)، فمالك الحزين والسكة الحديد، كتبتا فى سنوات، فكيف أسمح لنفسى أن أمر بأى منهما فى ساعات ثم أدعى أننى عايشت كاتبها بدرجة تسمح لى بمحاورته ومحاورة قرائه؟
فى هذه القراءة الثانية أمسك القلم “مشخبطا” على النص بحرية كاملة، وكأن صاحبه معى أمسك بخناقه، بل أننى أتصور أحيانا أننى “ألابطه” جسديا، ويملؤنى الغيظ منه، والحقد عليه، وشكره والدعاء له، والتضاؤل أمامه، فأحاول أن أعايش كل ذلك إلى ما أسميه حوار “الملابطة”. ثم إنى أعود إلى العمل ببطاقات التسجيل، أجمع “التيمات” التى سبق أن أشرت إليها “مشخبطا” والتى تستحق أن ترصد معا، فأعيد تنظيم العمل من منطلقى الخاص لأظهر منه ما ظهر لى فى نسيج آخر، يصنع منه ثوبا آخر.
فى هذه المرحلة الأخيرة تحضرنى الرؤى العلمية، والممارسات الخبراتية، فأستعين بها وأستهدى، بقدر ما اضيف إليها وأحورّها من واقع العمل، فأنا لا أجعلها – مثلما أخطأت فى البداية – وصية على العمل، وفى الوقت نفسه لا أتناساها مدعيا أننى تخلصت من أثرها تماما، بل إننى أعدلها من خلال العمل طوال الوقت، فحين أكتشف – مثلا – فى “سكة حديد – إدوار الخراط” صورة محوّرة للموقف الأوديبى، أضيف إلى الموقف الأوديبى تفصيلات جديدة، بقدر ما تهدينى معرفتى بالموقف الأوديبى الأصلى إلى اكتشاف بذوره فى هذه العلاقة أو تلك.
فى كل ذلك أريد أن أقول إننى لا ألتزم بمنهج معينّ، اللهم إلا الالتزام بمعاودة القراءة، وإبطاء إيقاعها والحوار معها حالة كونى أعايشها بأكبر قدر من الموضوعية والمرونة التى تسمح برحالات الداخل والخارج المستمرة.
على أنى بدأت مؤخرا محاولة خبرة جديرة بالتسجيل، بعد أن حذقت السيطرة على التقنية المغيرة (الحاسوب) حين حاولت أن أكتب النص الأدبى على الكمبيوتر، وأعد ذلك فى ذاته نوعا من القراءة البطيئة، ثم رحت أستعين بهذا الحاسوب ليجمع لى تواتر ما ترامى لى جمعه فى أثناء هذه القراءة المكتوبة، (حيث كنت أضيف إلى النص ملاحظاتى مقوسة أولا بأول فى أثناء نسخه)، فوجدت أنه قد وفّر علىّ ما لا أتصور، وتذكرت مرايا طه حسين لجابر عصفور، وأشفقت عليه، وحسدت نفسى، لكننى عدت وخفت أن تنقلب المسألة عند المتعجل أو المنهبر إلى عد تواترات فارغة، فتصبح مسألة حسابية قبيحة، وهذا لا ينبغى أن يدفعنا إلى إهمال هذه التقنية الجديدة، إلا أنه يطرح علينا – كما باشرت – تحديات ماثلة خطيرة، فقد شعرت أن هذه الآلة يمكن أن تساعدنى فى جمع ما أرى، لكنها لا ترينى ولا ترى بدلا منى – طبعا، فعدلت عنها، وإن لم أستغنِ تماما عن مساعداتها.
س 6- بأى الأجناس الأدبية يتعلق معظم عملك النقدى؟ ولماذا؟
6- للأسف، بكل الأجناس، فلى قراءاتى النقدية فى القصة القصيرة والرواية والشعر، بل إن قراءتى فى التراث الشعبى، والحواديت والأمثلة والمواويل، أعدها قراءة نقدية أكثر منها دراسة منهجية، وإن كان لى أن أعتذر عن هذا التعدد المترامى الذى يحرمنى من إتقان نوع بذاته، فعذرى أننى لست ناقدا بقدر ما أنا قارئ حاضر، وأحب أن يحضر الناس معى قراءتى لما أقرأ، ونتاج هذا قد يسمى نقدا.
أضيف هنا تفصيلا مناسبا، فأصعب أنواع النقد فى خبرتى هو نقد الشعر، لدرجة أننى قلت لنفسى إن الشعر لا ينقد أصلا، ولولا إلحاح الصديق أحمد زرزور، وبعض إيحاءات متفرقات شعرية هنا وهناك، لما جرؤت على أن أقول شيئا أمام ما هو شعر. ولابد أننى مخطئ فى هذا فما دام هناك نقد للفن التشكيلى، والشعر تشكيل، فلابد أن نقده جائز، ومع ذلك فما زلت عند تحفظى، وقد يكون مناسبا، ما دمنا نتكلم عن علاقة أنواع الإبداع عندى، تصورت دائما أن الشعر قد لا ينقد إلا شعرا، وهو أحد صور ما أسميته “إبداع على إبداع” (مستشهدا بقصيدة محمود شاكر على قصيدة الشماخ الغطفانى، القوس العذراء). وأعترف أن الشعر يثير فى ما هو شعر أكثر مما يثير فىّ ما هو نقد، وكفى.
إذا كان لى أن أختار، فأنا أختار القصة والرواية ذلك أن البعد الزمنى فى هذه الأعمال (الزمن بمعناه الطولى ومعناه العرضى) إنما يسمح لى بالحركة المواكبة التى يمكن أن أجد فيها الجديد، وأن أعيد فى رحابتها الصياغة، بعكس الشعر الذى يعوقنى عن الحركة الرحبة بقدر ما يصوّر الإبداع مكثفا بعضه فى بعضه، حتى يصبح تحليله إلى عناصره أقرب إلى التشويه أو الجريمة.
س7- كيف ترى الواقع النقدى الآن على الساحة العربية؟
7- ليس لى أن أحكم من موقعى هذا، وإن كنت أرى أن النقد يسير على غير ما أشتهى، أو أتمنى، إذ أخشى أن يغلب الطابع الأكاديمى المعَلمَن على النقد، فلا يعود إبداعا، إذ قد يتردد النقاد المبدعون أن يرفعوا صوتهم بإعادة صياغة النص نقدا، وذلك خشية التجهيل أو التهوين. وأتصور أن العودة إلى النقد/الإبداع هى ضرورة للحوار مع المبدع المنشئ، بقدر ما هى ضرورة للأخذ بيد الشباب والمبتدئين بصفة خاصة، بل هى ضرورة لتحريك الحركة الأدبية برمتها.
س8- ما المشروع النقدى الذى تود أن تنجزه فى المستقبل؟
8- لابد أن أعترف أننى فعلا أحلم بمشروعٍ ما، وأن هذا يمثل عندى غاية لها حق الأولية على كل ما عداها فى محاولاتى المتشعبة، فلا أحسب أننى استطيع أن أكتب شعرا لا يكتبه غيرى أفضل منى مرات كثيرة، كذلك القصة قصيرة أو طويلة، فهذا كله يكاد يكون مفروضا علىّ فى محاولة تواصل مُجهضة غالبا، كما اشرت سابقا.
أتصور أن الذى أستطيع أن أضيف فيه، ومن خلاله، هو هذا العمل النقدى الذى أحلم به. وأحسب أنه يقوم على محورين متوازيين متكاملين:
المحور الأول: هو قراءة نجيب محفوظ قراءة شاملة، وخاصة فيما يتعلق برؤيته الممتدة عبر الأجيال فى الحرافيش التى هى “ولاف” يمثل جماعا بين أولاد حارتنا والثلاثية. (وقد بدأتها فعلا، ونشر الجزء الأول منها فى كتاب “قراءات فى نجيب محفوظ” الهيئة العامة للكتاب – 1992) وقد كان لى فيما كتبت عن ليالى ألف ليلة ورأيت فيما يرى النائم (وليس الشحاذ) ما يدفعنى إلى الأمل أن تستأهل هذه المحاولة أن تكون حلما قابلا للتحقيق، وخصوصا إذا نجحت فى أن أربط بينه وبين “مائة عام من العزلة” بوجه خاص، وبينه وبين الأعمال الأخرى لهذا الكاتب/التاريخ. وقد كان هذا حلمى قبل جائزة نوبل، ولكننى ترددت لأسباب أصبحت أكثر مدعاة للتردد بعد الجائزة، ومع ذلك فأنا اجتهد لأحاول أن أخترق كل صعوباتى داخلية وخارجية، وأشعر فى الوقت نفسه أن هذا ما أستطيع أن أشكره به بما يجدر به وبنا.
أما المحور الثانى: الذى أحلم به فهو إعادة قراءة ديستويفسكى حرفا حرفا فى ضوء المعطيات المعرفية الجديدة عن النفس، وخصوصا البعد التركيبى الذى أشرت إليه حالا، فأحسب أن عالَم النفس الداخلى عند ديستويفسكى لم ينل ما يستحق، وما هو جدير بأن يجعلنا نستلهمه، وما يضيف إلى معارفنا ما ينبغى، وأن نضئ حوله بما نستطيع، فنسهم بذلك فى معرفة أعمق بما هو نفس، وبما هو إنسان.
وإذا كان ما يحول بينى وبين المبادرة إلى ذلك أننى سأتناول هذه الأعمال مترجمة، فإننى أعد ترجمة سامى الدروبى على وجه الخصوص هى إعادة إبداع بالعربية، أو لعلها، من عمق معين، عملية نقدية بشكلِ ما، هى إعادة قراءة النص بحدس لغة أخرى وليس مجرد نقلها إلى ألفاظ لغة أخرى، وقد يكون فى هذا التحفظ ذاته ما يحفزنى أكثر نحو هذا العمل، لعله يأتى قراءة فى جماع حدس الترجمة والإبداع جميعا.
[1] – عز الدين إسماعيل (1963) التفسير النفسى للأدب. القاهرة. دار المعارف ص 26. [2]- فرج أحمد فرج (1982) التحليل النفسى والقصة القصيرة فصول مجلد 2 عدد 4 ص 175. [3]- سامى الدروبى (1971) علم النفس والأدب: القاهرة. دار المعارف ص 120. [4] – تصل هذه الشهادة إلى درجة بالغة الوضوح فى قول يونج عن رؤية جيمس جويس “أظن أن جدة الشيطان وحدها هى التى تعرف كل هذا عن سيكولوجية المرأة، أما أنا فلا…” – يحيى عبد الدايم (1982) تيار الوعى والرواية اللبنانية المعاصرة – فصول، مجلد 2 عدد 2 ص 158 مقتطفا من موسوعة جيمس جويس د. طه محمود طه (1975) الكويت وكالة المطبوعات. [5] – مصطفى سويف (1967) علم النفس الحديث: القاهرة. مكتبة الأنجلو المصرية الفصل الأول ص 3 – 23. [6] – يحيى الرخاوى (1980) دليل الطالب الذكى فى علم النفس والطب النفسى – الجزء الأول – فى علم النفس – القاهرة – دار الغد للثقافة والنشر، ص 18. [7]- ولاف (بضم الفاء) استعملها بمعنى Synthesis، وقد شرحت فى موقع آخر أسباب تفضيلى لهذا اللفظ على كل البدائل (مقدمة فى العلاج الجمعى: عن البحث فى النفس والحياة) القاهرة. دار الغد للثقافة والنشر 1978، ص 110. [8] – انظر إن شئت: صلاح قنصوه (1980) الموضوعية فى العلوم الإنسانية – دار الثقافة للطباعة والنشر، القاهرة. [9]- فرج أحمد فرج.. انظر هامش (2)، ص 26، 27 وكذلك “فصول” مجلد 2 عدد 4، 1982 ص: 169 – 171. [10] – مثل دراسة العقاد والنويهى لأبى نواس. وسنعود إليهما فى هذه الدراسة بقدر أكبر من التفصيل. [11] – جابر قميحة (1980) منهج العقاد فى التراجم الأدبية، القاهرة مكتبة النهضة المصرية، ص 318، 319. [12]- عز الدين إسماعيل التفسير النفسى للأدب “سبق هامش (1)”، ص: 144. [13]- استعمال تعبير “التفسير التحليلى” يفتح الباب لخلط بين التحليل النفسى كما قال به فرويد وأتباعه، وبين علم النفس التحليلى Analytic Psychology كما أنشأه يونج، والخلاف ليس ثانويا، وانشقاق يونج عن فرويد ليس تفريعا لنظرية فرويد، وإنما هو إختلاف نوعى يصل إلى درجة سلب نظرية فرويد، ثم تجاوزها. كما أن استعمال هذا التعبير دون إضافة صفة “النفسى” بعد لفظ التحليل قد يوحى بتحليل آخر: والمقترح أن يكون الاسم المناسب لما قصد الناقد هو “التفسير التحليلى النفسى”. [14]- محمد خليفة التونسى” عن قميحه ص 321. [15] – سمير سرحان (1981) التفسير الأسطورى فى النقد الأدبى – فصول مجلدا عدد 3 ص 100.
[16] – تيرش Tierich وسجموند Sigimunid واشتنجر Stenger.. دون أن يخصصوا شكل جنونه (فى عز الدين إسماعيل: التفسير النفسى ص 144). [17] – روزنـر Rosner نفسه ص 144. [18] – برادلي، نفسه، ص 144.. ولم أرجع إلى الأصلErnest Jones: Hamlet and Oedipus Doubleday And rk1949 Comp.، New York
لا هنا ولا فى أغلب المقتطفات، حيث إن شمول الدراسة كمقدمة إكتفت بالمعلومات على سبيل العينة المحدودة الوافية لغرضها.
[19] – نفسه 144. [20] – نفسه ص 150. [21]- لكن سماع الصوت بالاشتراك مع آخرين يشاركونه نفس الإدراك الحسى قد يشير إلى أن المسألة كلها لم تكن مرضا بل معنى” فالمريض المهلوس لا يشاركه آخر فى اضطراب إدراكه. أما الاحتمال الآخر فهو أن المسألة هى إيحاء من آخرين (بقصد أو نتيجة وهم جماعي) استقبله هملت المتعطش إلى محتواه، فعاشه كأنه الحقيقة. ولكن القابلية للاستهواء لا تتفق مع كل هذه الصلابة الخلقية والمعاناة الوجودية اللتين تميز بهما هملت – حيث إنها تصف – فى العادة – الشخصية الهستيرية أو غير الناضجة، وعدم نضج هملت الذى تكرر وصفه من أكثر من ناقد لا يعنى هذه الفجاجة البدائية: وإنما هو يشير إلى معاناة إعادة الولادة Rebirth كما سوف يأتى فى محاولة التفسير البديلة فى هذه المقدمة. [22] – نفسه ص 150. [23] – نفسه ص 223. [24] – تكاد الظاهرة الصرعية (ومكافئاتها) بمعناها الفسيولوجي، ثم دورها التفريغي، تفسر غالبية السلوك البشري، وقد يفسر هذا الاختلاف الشاسع حول تعريف ما هو صرع بحيث يرد فى المرجع الشامل لفريدمان وزملائه:Freedman H. and Kaplan H. (1967): chapter 21 By 792Ervin، E،p.
اقتطافا من شتراوس Strauss أنه يكاد توجد تعريفات للصرع بعدد المرضى والأطباء المهتمين بالظاهرة !! وسوف أعود إلى هذه الفكرة فيما بعد.
[25] – يحيى الرخاوى (1972) حياتنا والطب النفسي. القاهرة دار الغد للثقافة والنشر ص 32-49. [26] – نفسه ص 50 – 64. [27] – نفسه ص 65 – 76. [28] – نفسه 75. [29]- رغم أن الكاتب كان كثيرا ما يستعمل التعبيرات الحرفية والتقنية بشكل مباشر لا يصلح معه اعتبارها رمزا. [30] – عمر شاهين (1963) الأسس النفسية لمسرح اللامعقول “المجلة” العدد 78 السنة السابعة. [31]- محمد النويهى (1970) نفسية أبى نواس، القاهرة.. مكتبة الخانجى (الطبعة الثانية) – وأيضا قد أورد قميحة: (انظر هامش 11) مزيدا من هذا الاتجاة فى كتابات النهويهى” انظر ص 309 وما بعدها (مما لم أطلع عليه بعد فى أصله). [32] – عباس محمود العقاد (1980) أبو نواس: الحسن بن هانيء – القاهرة دار نهضة مصر. [33] – يمثل هذا العلم محورا خاصا فى تطورى الشخصي، ومازال هو المحور الأساسى المنشور لنظريتى فى هذا العلم وممارستى للطب النفسى” وهو المنشور بعنوان “دراسة فى علم السيكوباثولوجى: شرح سر اللعبة” حيث كتب المتن شعرا.ثم تم شرحه تفصيلا فى العمل الأشمل. القاهرة 1979 [34]- هناك من يعد مجال هذا العلم هو دراسة المظاهر الشعورية للاضطرابات النفسية الأساسية بحسب الوظائف الملموسة ك. ياسبرز K.Jaspers، وهناك من يقصره على ما هية الأغراض تحديدا سلوكيا (فيش Fish)، وهناك من يخص به آلية تكوين الاغراض (المدرسة التحليلية عموما). [35] – يحيى الرخاوى (1979) دراسة فى عالم السيكوباثولوجي. شرح سر اللعبة، ص 12. [36] – نفسه، ص 13. [37]- حيث يكون المبدع فى الحالين هو نفسه أداة إبداعه وحقل هذا الإبداع، بما هو يمثله معا: إذ لا يصدق على الفعل الإبداعى قول أكثر مما قيل فى ذات الباحث حين تصبح ذاته هى “الذات المشاركة، الملتحمة المنطلقة معا”. “ذلك أن الذات فى هذه الحال تنتظم دوراتها مع دورات خارجها الموضوعي، حتى تصبح حساسية التقاطها ومدى وعيها وعمق رؤيتها متسقة مع نفس القوانين التى تشملها”، وكأنها الأداة اللاقطة الناقلة بين الداخل والخارج ” حيث تعتبر الذات هى نفسها أداة الدراسة انتقاء وتسجيلا واستيعاباً وقياسا حدسيا، ثم هى أيضا أداة فحص وإعادة ترتيب وتعبير وإعادة تشكيل: أى أنها أداة التقاط وقياس وموضعة عبر وجودها المستقل المرن القادر على الاتصال والانفصال دون ذوبان أو انشقاق”. [38] – خطر ببالى أن أسميه علم “السيكوإبداع” مفضلا تعريب الجزء الأول من الاسم حتى لا أخلط بينه وبين ما يمكن أن يسمى “علم نفس الإبداع” الذى يغلب عليه المنهج السلوكي، ولكنى فضلت إثبات هذا الخاطر فى الهامش دون المتن لأنى أتوقع المبادرة بالهجوم على الاسم وما يعنينى فى المقام الأول هو التواصل حول المضمون. [39]- أرجو ألا يجزع الذين يخافون الجديد، فإن هذه الممارسة قائمة فعلا تحت أسماء مختلفة، والبنيوية التوليدية – مثلا = تكاد تعلن نشاطا موازيا أو مماثلا. [40]- إستعمل فرويد تعبير السيكوباثولوجى فى الحياة العامة، وحدث خلط نتيجة لتداخل مفهوم السواء بالمرض بالصحة الفائقة. [41] – المهتمون المعاصرون بعلم السيكوباثولوجى أغلبهم من المحللين النفسيين، وهم لا يزعمون لأنفسهم – إلا قليلا – علاج “الجنون”. لكن العطاء الأكبر فى هذا العلم وما يقابله من نشاط إبداعى لا يفيض إلا مع مواجهة خبرة الجنون. وهكذا نجد أنفسنا فى مأزق مؤلم: فالذين عندهم الفرصة (يواجهون الجنون) لا يأخذونها (لايهمهم عملية توليده السيكوباثولوجية)، والذين يهتمون بعملية التكوين المرضى لايخوضون البحار الأعمق – فكانت النتيجة أن تولى بعض الأدباء والنقاد بعض هذه المهمة فى مجالهم وبإمكاناتهم. [42] – تعمدت أن أطلق على هذا النشاط إسم “علم السلوك” وليس “علم نفس السلوك”، إحتراما وحذرا فى آن: حيث إن المغالين من السلوكيين يعدونه هو علم النفس وما سواه خارج عن نطاق العلم أصلا. ولا يهمنى هنا أن أناقش هذه القضية، ولكن يهمنى أن أؤكد طبيعة المنظومة المعرفية، حيث يحدد مجالها منهجها. وفى هذه الحدود، فقد أجاب هذا العلم عن أسئلته وبطريقته، وميزته أنه لم يدَّع غير ما يستطيع، ولم يحاول غير ما أعلن، فكان عطاؤه متميزا بالدقة، واعدا بالإثراء فى حدوده. [43] – مسألة موقع النقد الأدبى كعلم مسألة تكاد تثير نفس القضايا التى أثارتها إشكالية علم النفس. لكن المسألة فى النقد أخطر: لأن النقد عمل إبداعى ذاتي/ موضوعى بالضرورة: ومن هنا فهو إما يؤكد أحقية النشاط المعرفى ذى المنهج الفينومينولوجى أن يكون علما، وإما أنه سينسلخ من جوهر صفاته فيتكلم لغة تسمى “علمية”، وهى لا تصلح له أصلا. [44] – فرج أحمد فرج (1981) التحليل النفسى للأدب، فصول، مجلد 1، عدد 2، ص 26. [45] – مصطفى صفوان (1981) مقدمة ترجمة تفسير الأحلام لسيجموند فرويد، القاهرة. دار المعارف. [46] – EY، H. Bernard ،P. and Brisset C. (1967 Manuel de Psychiatrie. Paris: Masson.47- Imprinting اقرأ إذا شئت ملمحا عن التحوير الذى أدخله الكاتب على هذا المفهوم فيما يتعلق بالتعلم: يحيى الرخاوى دليل الطالب الذكى” علم النفس (1980) ص 100 وما بعدها.-
[48] – Information Processing كنت أترجم هذا المصطلح إلى “فعلنة المعلومات” وهو الترجمة التى استعملتها فى النشر الأول، ولكنى عدلت عن ذلك مفضلاً مصطلح “اعتمال”، من اعتمل يعتمل: “إن الكريم وأبيك – يعتمل إن لم يجد يوما على مَنْ يتكل” [49]- انظر تفصيل الفكرة: يحيى الرخاوى” الوحدة والتعدد فى الكيان البشرى” (1981) الإنسان والتطور، عدد أكتوبر ص 19 – 32. [50] – وهذا يمكن أن يحل الإشكال الصورى المتعلق بما إذا كان الكاتب يكتب نفسه، أم يُسقط منطبعاته، أم ينسج مخلوقات جديدة تماما (لا شخصية) كما يتمنى إليوت: فالواقع أن ذات الكاتب هى حاضنٌ مرن، وحقل خصب، لتخليق هذه المنطبعات الكامنة فى مخلوقات جديدة. كذلك فإن الأدب الذى يندرج تحت ما يسمى تيار الوعى إنما يمثل مستوى (بل أكثر) من مستويات الوعى وقد انساب فى تنسيق متميز يتجاوز – بالضرورة – التنظيم الواحدى الطاغى المألوف. [51] – الذى يقول: من قتل يقتل، ومن سمع هاتفا يجيبهُ.. لماذا يكون الأمر كذلك ونحن فى ساحة الإبداع لا قاعة المحكمة؟ [52] – بل إنه قد آن الأوان لمراجعة تلك العقدة التى لصقت بأوديب شخصيا: ولا بد لذلك من العودة إلى عمل سوفكليس الأصلى” وقد حاولت عدة تفسيرات لما يسمى عقدة أوديب فى مواقع أخري. [53] – يعتمد هذا التفسير على فكرة الولاف بين الذوات (البنيات)المتعددة على مسار حتم النمو الدائم، فى إيقاع حيوى تطورى شبه منتظم. وهذا ما صغـته فى النظرية الإيقاعة التطورية Evolutionary Rhythmic Theory فى “دراسة فى علم السيكوباثولوجى” (1979)، ومحاضرات مختارة فى الطب النفسى (1983) لم تنشر. [54]- الشبح -تركيبيا- هو الوالد المقتول الذى زاد تقمصه له بعد قتله، لكنه لم يستقر فى داخله أو حوله كحذاء الأطفال الصينى، وإنما راح يتتعتع نتيجة لحركية هذا الكيان النامي، الذى أثارته الأحداث فى نبضة نشط بسطى unfolding. [55] – لاحظَ جيمس مولوفى ولورنس روكلاين (مجلة علم النفس – المجلد السابع – يونيو 1951، باب المجلات والدوريات، تلخيص مصطفى سويف) أن تفسير جونس لتردد هملت غير كاف، وأضافا أن خوف هملت من النمو (النضج: الإحساس بالمسئولية: امتلاك الأم) كان وراء هذا التردد، ونقل الثقل من العلاقة الأوديبية المجردة إلى منظور نموى يعتبر خطوة نحو مزيد من الفهم. إلا أن الخوف من النمو لا يعلن العجز عن النمو رغم كل الحنين إلى النكوص البادى فى المسرحية بقدر ما يعلن البصيرة بحتم النمو. فإذا أضيف أن النمو ليس مجرد الاستقلال بالبتر أو الهرب، وإذا رأى النامى هذا المأزق، إقتربنا من التفسير المقترح هنا. [56] – أشار رولر ماى أيضا فى تفسيره إلى أن تحريم مضاجعة المحارم وما ترتب عليها من كبت (وعقد) هو محاولة من جانب التطور لإطلاق “الطاقة” إلى خارج حدود الأسرة، وكأن مضاجعة المحارم هى المستوى الثانى للاستمناء العقيم. [57]- انظر أيضا “العدوان والإبداع” ليحيى الرخاوى – الإنسان والتطور، عدد يوليو 1980 ص 49 – 81.قد يصل التردد فى بعض الحالات المرضية إلى العجز عن أن يحسم المريض أمره: هل يمد يده للسلام أو يبقيها بجواره فتتوقف اليد فى وضع وسط بين السلام واللاسلام مما يسمى Propf hand ومن المناسب أن نذكر القاريء أن المسرحية كتبت شعرا، وان التركيز على تفسيرها “بالأحداث” الجارية دون طبقات الشعر المتكاثفة الموحية قد يسطح الموقف تسطيحا مخلا.
[58] – ما بين الأقواس فى هذا المقتطف إضافة لم ترد فى النص السابق نشره فى مجلة “فصول”، وإنما لزم إضافتها لتوضيح المعني. [59]- نستعمل كلمة المعلومات هنا بمعناها الأوسع، فهى لا تشير إلى المعارف اللفظية المسجلة بالذاكرة فحسب، وإنما تشير إلى كل الكيانات الكلية المنطبعة فى تنظيمات معقدة متكاثفة، كما أن لهذا علاقة بنظرية اعتمال ( فعلنة) المعلومات Infomation Processing [60] – عن سامى الدروبى” علم النفس والأدب، ص 99. [61]- أقول يفيد فهمه.. ولا نسلم – بالضرورة – بتفاصيله: إذ يكاد يكون من المحال أن ينفى برجسون أن المنطبعـات الآتية من الخـارج هى فى تآلف مع مكمون الداخـل مصدر تـلك الشخصيات الغافية، وأن الإبداع ليس إطلاق سراح من استيقظ، وإنما هو إيقاظ من أغفى لإعادة تخليق الوحدات المكونة للتركيب الوليد. والتنشيط المكافيء للصرع يساعد فى هذا الإيقاظ، ثم تعتمد النتيجة على الخطوات التالية. [62] – عباس العقاد (1968) ابن الرومى “حياته من شعره” بيروت، دار الكتاب العربي، ص 149. [63] – العقاد: ابن الرومى 153. [64] – السابق، ص 161. [65] – ولم يكن العقاد فى وسط العمر أكثر تحملا للغموض، فقد غلبت النظرة الأحادية الاستقطابية على كثير من أعماله وتراجمه طول الوقت تقريبا. ولا نزعم أنه وهو يكتب ابن الرومى كان متأثرا بفرويد (المستقطب غالبا) أكثر من يونج (صاحب المحاولة الرائدة فى تجميع الأقطاب على مسيرة التفرد). [66] – فحيث ترى حقدا على ذى إساءة فثم ترى شكرا على حسن القرض العقاد: ابن الرومى ص 160.
[67]- العقاد: ابن الرومي. ص 165. كما آمل أكون مبالغا حين أقف أمام استعمال ابن الرومى للفظ “شوب” فى وصفه اختلاط اليقين بالشك “ما وجدت امرأ يرى يوقن إلا وفيه شوب امتراء” وأتذكر هذا التداخل اللازم لاستعمال لفظ “شوب” يطلق على نماذج السوائل أساسا (العقاد ابن الرومى – ص 165). [68] – نفسه ص 160. [69] – عباس العقاد (1980): أبو نواس: الحسن بن هانيء، القاهرة دار نهضة مصر للطبع والنشر [70] – بمعنى أن المبدع أقرب إلى التصالح مع ذاته الداخلية من الجنس الآخر حسب “كارل يونج”. [71] – دراسة العقاد لأبى نواس: 45 – 63، ثم إن الطبيب وهو يفحص مريضا بعاهة فى الغدد الصماء حقا، ويمسك بالتحاليل الحديثة، ويقرأ الأرقام ويشاهد الأشعة، لا يستطيع أن يربط مباشرة بين مظهر سلوك واحـد ونقص هرمون واحد. وهـذا لا ينفى تأثيـر العاهـة على الإبـداع، == ولكن التأثير يأتى من كيفية مواجهة العاهة وتمثلها وتحديها واختراقها، وليس فى أثرها المباشر فى الصفات ثم فى الشعر.. مما لم يثبت أصلا عند أبى نواس. ومقتطف واحد قد يظهر مدى خطأ التعميم. يقول العقاد ص 68 ” ولا يخفى أن جهاز النطق شديد العلاقة بالنمو النفسى” فإذا عم النقص لسانه وحنجرته كان لذلك علاقة بوظائفه الجنسية مدى الحياة”!!.. هل هذا كلام يا عمنا ؟!!
[72] – محمد النويهى” نفسية أبى نواس (1970) الطبعة الثانية، القاهرة مكتبة الخانجى بمصر.وقد استشهد فى هذه الطبعة برأى اثنين من “الأساتذة المتخصصين فى الدراسات النفسية” (ص9) – “فكان حكمهما كليهما أنهما لم يجدا مأخذا على عرضى لحقائق ذلك العلم أرائه – ولم تصل الناقد أى “دراسات نفسية” قد اختص بها من سألهم، كما لم ينتبه إلى أن هذه الطريقة فى تقييم الصحة بالمحكمين validity by refrees تحتاج إلى تقييم المحكمين أساسا لا من حيث مكانتهم العلمية فى مجال تخصصهم، بل من حيث خبرتهم فى هذا المجال التطبيقى الخاص.
[73] – نفسه ص 31 وبعدها. [74] – نفسه ص 44. [75] – انظر عن التعتعة “دراسة فى علم السيكوباثولوجى” للكاتب، وبخاصة صفحة 93 كخطوة نحو الاستيعاب الإيجابي، وصفحة 366 كخطوة فى المسيرة الفصامية. [76]- لم أحاول أن أنظر فى تشبيهات أبى نواس للخمر من باب المجاز الشائع كما حاول ناقدو النويهي، لأنى أرى المجاز فى الشعر بخاصة ليس هو الجوهر، بل لعله يبعدنا عن المباشرة العيانية الجديدة التى تلتقى فى مساحة “ما” مع بعض الصور والرموز القديمة، دون حاجة إلى الإسراع بتجديد وظيفتها الرمزية وبلاغتها المجازية. [77] – يذكر الاسم بالإنجليزية manicdepressive دون ترجمة، لاندرى لماذا. ص 156. [78]- ذهب أدونيس (1977) الثابت والمتحول: الكتاب الثانى ص 108، 109: إلى إعتبار أبى نواس رائد ثورة مبدعة، كشفت “.. بشكل عام عن قضايا أربع متلازمة ومترابطة: عن محسوس. جديد،.. وعن حدث جديد، وعن تجربة جديدة، وعن لغة شعرية جديدة”، بل إن نفس الناقد جعل الخمر وسيلة هذا الثائر لا ختراق نفسه/ عالمه: “إنها مفتاح يصلنا بالأبواب كلها.. إنها صيغة لوجود كل شيء”. فهل يحق لنا أن نفترض أن هذه الجرعة من الإبداع المتحدى هى التى دفعت هؤلاء النقاد النفسيين إلى حبس أبى نواس داخل تشخيصاتهم كما يفعل بعض الأطباء أحيانا مع مرضاهم (الذين قد لا يكونون مرضى بعد). [79] – عز الدين إسماعيل: التفسير النفسى للأدب: “سر شهر زاد”، ص 190 – 203. [80] – الإدراك الضلالى يحل كالصاعقة فى أقل من ثانية فيستقبل الشخص المثير الحسى بتأويل ذاتى ضلالى محمل بكل شحنة إقناعه وإنفعاله. وقد ذكرته هنا ليس لقيمته كعرض (وإلا وقعت فيما نهيت عنه)، وإنما لدلالته فى حقائق الوعى الأعمق متى حلت فى الوساد الشعورى الظاهر فرضت ما يترتب عليها فعلا حقيقيا لايحترم المنطق أو يرتدع بالإقناع. [81] – انظر الحاجة إلى الشوفان فى دراسة لعلم السيكوباثولوجى (1979) للكاتب صفحات 193، 529، 700. [82] – هذا الرأى ليس بديلا لفكرة عدم الأمان من “يوم آخر” يحمل “خيانة أخرى” وإنما هو مستوى آخر متداخل من الرؤية. [83]- يمثل سندباد معنى عاما يكاد يكون مؤكدا لهذه الرؤية. ولعل أقرب المعانى لما نريد إظهاره هنا ماورد على لسان “بلوم” (جيمس جويس) يحيى عبد الدايم “الطفل الرجل، مجهد: الرجل الطفل فى الرحم – رحم؟ مجهد؟ يستريح.. لقد طاف مع سندباد البحار (فصول 1982 المجلد 2 عدد 2 ص 158) وهنا تعلن الرحلة بشقيها، وأنه لكى يستطيع الواحد أن يكون سندبادا فإنه لابد أن يطمئن – فى نهاية كل جولة – إلى رحم ينتظره طفلا رجلا ، رجلا طفلا، يستجمع نفسه ليبدأ من جديد كل يوم جديد، مثلما علمته شهر زاد: فطمأنينة شهر يار لرحم شهر زاد المنتظر القابل الرائى هو الذى يسمح له أن يجوب آفاق المعرفة بشقيها. [84] – فكر فرويد مبنى على فكرة أن سعى الإنسان يتصف أساسا بمحاولته التكيف “أخلاقيا” مع مجتمعه بالإعلاء والتسامى على حساب الطاقة الجنسية الفجة. وبرغم أننا نجد فى كتابة فرويد ما ينفى هذا التمادى فى الاستقطاب، حيث نلمح إشارات جيدة إلى احتمال الولاف، إلا أن تفسيره للفن والحضارة بالتسامى يؤكد الاستقطاب المحدد للعمق – وقد سمى بهذا الاسم “علم نفس الأخلاق” من جانب من تسموا بـ “علم نفس الكينونة”، حيث التركيز على مشكلة الوجود والعلاقة بالآخر أساسا. (راجع إن شئت للكاتب مقدمة فى العلاج الجمعى (القاهرة – 1978). [85]- عز الدين إسماعيل (1963) التفسير النفسى لمسرحية ياطالع الشجرة – مجلة المجلة، فبراير 1963 عدد 74، ص 36 – 40. [86] – يمكن مراجعة فكرة تعدد الذوات التى سبق ذكرها فى هذا المقال والمرجع المذكور هامش (50). [87]- مع بعض التجاوز، حيث ”الهى” ليس مرادفا للاشعور تحديدا: فمحتوى اللاشعور، حتى عند فرويد، أكثر شمولا من ”الهى” بكثير. كذلك فإن الأنا العليا ليست مرادفة (هكذا) للضمير. [88]- Eric Bern. (1961) Transactional Analysis in Psychotherapy. Grove Press In, New York. [89] – فضلت أن أورد هذا الخاطر فى الهامش دون المتن لما يحمل من احتمال خطأ أو مبالغة: فالاسم “كامل رؤية لاظ” شديد الغرابة على الأذن المصرية، حتى لو افترضنا جذوره التركية. وقد رجعت إلى محاولة معرفة دلالته فوجدت أن الرؤية: القطعة تدخل فى الإناء ليرأب (ورأب الإناء أصلحه)، ولاظ من مادة لظ، ولظ به لظا لزمه ولم يفارقه (الوسيط): فياترى هل قصد نجيب محفوظ أن ال “كامل” (ولادة جسدية مكتملة شكلا) لم يكن نفسه أبدا: فهو لم يكن سوى “أداة” ترأب بها أمه صدعها، إذ تفرض عليه أن يلزمها لا يفارقها، لأنها قررت ألا يولد نفسيا أبدا؟!. [90] – يظهر هذا أيضا فى روايات “الأجيال” – مثلا حرافيش نجيب محفوظ، وإلى درجة أقل كثيرا ثلاثيته.[91] – القتل الضمنى الذى اعتبره الناقد مقابلا للقتل الفعلى عند أورست يحتاج – بالذات – إلى مراجعة: فكامل لم يقتل أمه فعلا، ولم يكن سببا فى موتها، حتى حين أغضبها إلى ذاك الحد، حتى لو أعلنت هى بنص الألفاظ أنه يقتلها بكلامه. ولا يوجـد أى تأييد علمى مباشر يسمح بالربـط السببى بين أى وفاة وبين انفعال سابق، برغم أنه رأى شائع بين العامة. وأرى أن الناقد اضطر إلى هذا ليسهل المقارنة بأورست. [92]- التفسير النفسى للأدب – عز الدين إسماعيل، ص 269. [93] – نفسه ص 270. [94]- يقول إن الذى رجح براءة أورست وأعطاه حريته هو صوت الإلهة أثينا التى جاءت من جبهة زيوس دون المرور برحم الأم، وعلى ذلك، فقد يكون النضج (والحكمة) هو رفض العودة إلى الرحم، وعلى هذا فصراع كامل بعيدا عن رحم أمه هو فى اتجاه الحكمة (والنضج) – وهذا إقحام لأورست فى كامل دون مبرر أو وجه شبه، كما أن التقابل بين الحكمة والرحم هو دليل جديد على الموقف الاستقطابي، ونرد عليه بالقول بأن النضج لايتم برفض العودة للرحم، بل برحلة الداخل الخارج (إلى الرحم/ بعيدا عنه) بشكل مرن ومتغير ومرجح للخطوة الأمامية قليلا بعد كل جولة (رحلة). [95] – تجنبت قاصدا، لظروف هذه “المقدمة”، مراجعة بعض عينات من المحاولات الأحدث، مثل دراسة فرج أحمد فرج فى عددى فصول (يناير 1981 – المجلد الأول العدد الثاني، وعدد يناير 1982 المجلد الثاني، العدد الثانى) . وهى وإن كانت أصرح إعلانا بالالتزام بالتحليل النفسي، فهى – فعلا – أكثر تحررا من قيوده الكلاسية، وأكثر تحملا لرؤية التناقضات الهيجلية الكامنة فيما تناولت من أعمال، وإن كانت تحتاج إلى حوار متجدد قد تتاح له فرصة أخرى. [96] – راجع ما ذكرناه فى شأن حقد ابن الرومى فى هذه الدراسة. [97]- انظر الفقرة الأخيرة فيما يتعلق بتجربتى الشخصية فى هذا الصدد. [98] – المرحوم الشاعر صلاح عبد الصبور، حين كان يناقش الديوان المذكور فى البرنامج الثاني، وأصر على أنه شعر قح، فرحت أحاول إقناعه بأصل الفكرة فكاد لا يصدق، فذهبت أكتب هذا الشرح لأثبت ما ذهبت إليه، فى علم السيكوباثولوجى” شرح سر اللعبة”.
عالم الطفولة من ديستويفسكى
أولا: مقدمات
واقع النفس وسرعة التغير
حول 1845 (أقل قليلا “الحمل والحضانة”، أو أكثر قليلا “الكتابة والنشر”) تم افراز هذين العملين موضوع هذه الدراسة. ديستويفسكى يقول لنا ما رآه فينا/فيه، و”هو” لا يزال شابا آنذاك، لكن مارآه هذا ما زال فينا الآن، عام 1982،[1]، فهل هذا صحيح؟ هل يمكن أن نعتبر ما قاله ديستويفسكى وعاشه ورآه هو هو نحن الآن؟ الإجابة الأرجح عندى: أن “نعم”، بل هو قد يصح أكثر فى ظروفنا الأحدث. النفس الانسانية لا تتغير بالسرعة الظاهرة لتغيرات السلوك، وما قاله الشاعر الجاهلى ما زال ينبض فى وجداننا إن كان ثمَّ من يشرف بالانتباه الى وجدانه يقظا بنفس الدرجة، والأسطورة ما زالت مرجعا لدارس النفس باعتبارها مصدرا أساسيا لفهم تراكيبها. حين نقرأ ديستويفسكى معا حالا، يمكن ان نعتبر – بدرجة مناسبة - أننا نقرأ أنفسنا الآن دون اعتبار خاص لفارق الزمن، ودون نفى مطلق لبعض التفاصيل السلوكية أكثر من التركيبية، إنْ سلبا وإن ايجابا.
الترجمة: فضلها وحدودها
كل قراءة منشئة هى”إعادة إبداع”، وهى مسئولية متجددة إن صح هذا الافتراض فى القراءة المتذوقة المعيشة، فهو يصح أكثر فى الترجمة التى هى قراءة مبدعة ثم أمانة ملتزمة ثم صياغة جديدة، أعمال ديستويفسكى التى بين أيدى معظمنا هى أعمال مترجمة (ربما للمرة الثانية)، والترجمة بهذا القياس وخاصة تلك التى بين يدىّ هى إبداع أساسا، وفى تصورى، وكما وصلنى من هذه الترجمة المتميزة (د.سامى الدروبى) أنه يرجع إليها كثير من فضل ما بلغنى بلغتى العربية. اللغة- أى لغة – لها شخصيتها ونبضها وحركتها وإيقاعها وطبقاتها وإيحاءتها – وبالتالى فانى شديد التحفظ وأنا أدعى أن ديستويفسكى قال كذا وعنى كيت، لعله د.سامى الدروبى، ولعله كاتب هذه السطور، ولكنى شديد اليقين فى نفس الوقت أنه قاله من حيث مطابقته “الموضوعية ” لحقائق المعرفة المتماسكة فى ذاتها، المثيرة لمثيلها فى ذات المتلقى، المتناغمة مع بقية أعمال المبدع وتراجمه.
مسئولية القارئ (والمترجم أكثر القراء معاناة حالة كونه ناقدا طبيعيا رغم أنفه) هو أن يتخذ لنفسه موقفا جديدا يعيد من خلاله صياغة ما وصله [2].
مادة هذه الدراسة هى من خلال تلك الترجمة المشار إليها لا أكثر ولا أقل، ومع ذلك، سوف أعامل “النص” باعتباره ديستويفسكيا صرفا (حتى يثبت غير ذلك) ولن أعود لإيضاح هذه النقطة أبدا.
أعمال مستقلة:
كنت أود- وما زلت – أن يكون حديثى عن النفس كما رآها ديستويفسكى من خلال دراسة طويلة شاملة تربط بين أعماله وبعضها، وبين مراحل نموه ومراحل رؤيته، إلا أننى لكى أفعل ذلك – وسط مسئولياتى الأخرى- كان لابد أن أنتظر طويلا طويلا، حتى قدرت أن يمتد الانتظار الى ما بعد أجلى، فأقضى حاملا ما ليس لى حق الاحتفاظ به بعذر وهم الاتقان والشمول، فقررت أن أبدأ بعمل مستقل واحد (أو بضعة أعمال متقاربة فى المرحلة أوالدلالة) أولا بأول، فاذا ما انتهيت مما استطعت عدت اليها أنظر فيها مجتمعة لعلها تقول ما تصورته ابتداء.
المنهج الفينومينولوجى بين العلم والفن:
المنهج الفينومينولوجى يعتمد على الباحث كأداة وجزء من الظاهرة قيد الدراسة – حيث يقوم بالمعايشة فالاحتواء فالإمحاء فاعادة التركيب فالصياغة، وهذا يصدق على العلم مثلما يصدق على المبدع الفنان. فالباحث الذى هو نفسه أداة البحث فى هذا المنهج هو الباحث الذى تنمحى ذاتيته الخاصة فى موضوعية مشتملة لذاته وموضوعه معا، ثم يستعيد ذاته بما أضيف إليها “فيقول” (أو يعبر بأى أداة شاء). بتكرار سخيف، أذكّر أن المنهج الفينومينولوجى ليس استبطانا، كما أنه ليس ملاحظة عن بعد، هو موضوعى بقدر مرونة الباحث به وتناسقه مع موضوعه وقدرته على الاحتواء والإمحاء والإعادة والاستعادة والصياغة المباشرة دون “استبطان “ذات أو “تأمل” أجزاء، بل بافراز نتاج المعايشة تلقائيا ومباشرة !! الأديب والناقد المبدع يفعلان كل ذلك دون أن يدرك أى منهما أنه ”فينومينولوجي” بالضرورة، وأنه إنما يصوغ ”حياة عاشها فى موضوعاته (الداخلية والخارجية) معا” صياغة جديدة متناسقة متفوقة عن الواقع الأصل ليصنع منها جدلا واقعا أكبر وأشمل، وهو ما أسميه الواقع الإبداعى.
لماذا ديستويفسكى:
(1) لأنه غير بعيد عن القارىء العربى وأعماله المترجمة فى متناوله.
(2) ولأنه رائد فى رحلات ”الداخل/الخارج” واصفا تفاصيل التفاصيل.
(3) ولأنه صاحب تجربة مرضية ذاتية اعتقد أنها ذات دلالة فى دفع إبداعه وتمييز محتواه جميعا.
(4) ولأنه قد غطى مساحة هائلة من النفس فى مختلف مراحل تطوره الشخصى وتطور المجتمع وتطور رؤيته.
قارئ ديستوفسكى يعرف ما يقال عن أغلب شخصياته – إن لم يكن جميعها حتى الشخصيات الخلفية والثانوية – من أنها من الشواذ، سواء كان الشذوذ مرضا صريحا، أم انحرافا عجيبا، أم تميزا غير مألوف، الأمر الذى قد يثير شكا حول ما إذا كان ديستويفسكى فى عطائه المعرفى الفنى هذا قد وصف النفس الإنسانية العادية، أم أنه لم يصف إلا حالتها الشاذة (والمرضية) فحسب، نفس النقد الذى وجه لسيجموند فرويد من أنه استقى معلوماته من المرضى وعممها على الأصحاء. هذا الهجوم الهادف للفصل الحاد بين السواء والمرض هو – فى نظرى – حيلة دفاعية ربما نلجأ إليها- نحن الأصحاء !- لتحمينا من رؤية أنفسنا فى عمق تركيبها، وبالتالى تحرمنا من رؤية المرض والحقيقة. المريض والشاذ- فى المجال النفسى – تضخيم وتعرية بشكل صارخ فيه لأحد جوانب تركيبنا ووجودنا، والباحث الأمين هو الذى يبحث فى هذا الجانب تحت نور هذه الخبرة المكبَّرة، فإذا تمكن من سبر غورها رآها هى هى فى الشخص السليم بدرجة أخف، وبتكامل أشمل مع سائر الجوانب الأخرى، وبتعبير آخر: ما المرض الا “مبالغة منفصلة” (مستقلة) فى نشاط تركيب قائم يوجد أصلا كجزء متسق مع الكل عند الأسوياء. إن رفض رؤية الشاذ كنموذج مكبر لأجزاء الوجود البشرى هو دفاع ذاتى سرعان ما سيتراجع المختبئون فيه عودة الى الحق أو إنهاكا من الباطل، ويكفى لسوىٍّ خائف، (عالم أو غير عالم) أن يتشجع بالنظر فى أحلامه (ما يصله من أحلامه) ليرى مدى شذوذه الذى يسارع برفضه.
شخصيات ديستوفيسكى “الشاذة” ما هى إلا داخلنا بكل تفاصيله وقد وضع تحت عدسة حدسه المكبرة.
والآن: إلى قراءة المتن نقداً
ثانيا: نيتوتشكا نزفانوفا
هى رواية متوسطة كتبها ديستويفسكى فى عامى 1849,1847، أو هى فى واقع الأمر”نصف رواية”، لأنه كان ينوى أن يكتبها فى ستة أجزاء، ثم توقف، ويقال أن اعتقاله فى 23 أبريل 1849هو الذى قطع عليه عمله فى إنجاز هذه الرواية، رغم أنه لم يكف داخل السجن عن الكتابة. إن القصة القصيرة ”البطل الصغير” التى تمثل الجزء الثانى من هذاه الدراسة كتبها داخل السجن، فلو كان ثمة تكملة ملحة- أو ممكنة- لهذه الرواية المبتورة لأمكن ذلك داخل السجن كما أمكن لغيرها، على أن بتر هذه الرواية ونشرها ناقصة كانا فرصة جيدة لأقول:
(1) إن النسيج القصصى المحبوك والمتكامل ليس هو محور دراستى هذه، بل اللقطات المكثفة المستعرضة بغض النظر (ليس تماما) عن الخط الطولى.
(2) إن حالة الوعى المصاحبة لكتابة عمل ما، هى حالة من نوع خاص (الخصوصية هنا بمعنى الاختلاف عن عموم الوعى فى غير هذا الوقت وليس بمعنى الاختلاف عن وعى سائر الناس، وإن كان ذلك محتملا)، وهى تكتمل وتنضج فى تهيؤ بذاته وهى تنشِّط تركيبات بذاتها، ذات”حضور” متداخل، على أن هذه التركيبات ليست جاهزة لتخرج كاملة إذا ما ترتب لها التهيؤ النوعى المناسب، إلا أن تحريك مكوناتها وتنشيطها يحتاج إلى هذا التهيؤ الخاص الذى يعطى هذا العمل تشكيله المتميز، فاذا تغير التهيؤ نوعيا وطويلا فقد تنزوى حالة الوعى الخاصة تلك أو تختفى فيعجز المبدع عن إتمام هذا العمل بالذات - دون غيره، وكأنه لم يعد هو ذاته الذى بدأه، وكأنى بهذا الفرض أرجح أن المبدع الحقيقى يكون – أثناء إبداعه – هو عمله الذى يعمله أكثر مما يكون هو نفسه الشائعة، وتتولد شخوصه من طبقات وعيه الإبداعى وتنمو ما استمرمصدر التوليد، وقد يؤكد ذلك عملية بتر [3] الصغير “لوريا”، فقد ظهر هذا الطفل فى مسودة أحد فصول الجزء الثانى من رواية نيتوتشكا (الجزء الذى يجرى فى بيت الأمير”ك”) ثم ظهر فى الطبعة الأولى ليحذف تماما فى الطبعة التالية. وكأنه بتر بعملية جراحية قاسية لازمة فى آن، ولعل ذلك تم بعد أن اضمحل هذا “العضو” (لوريا) نتيجة لافتقاره الى مقومات نموه (حالة الوعى الذى حملته حتى الولادة الباكرة) فاستوجب البتر رغم أن ما كان يمثله هذا الصبى لوريا كان شديد الأهمية بالنسبة للدراسة الحالية لو أنه إكتمل خلقه فكمل مساره، ذلك لأن هذا الصبى كان محاصرا بفكرة ملحة ” “أن أبويه ماتا حزنا وكمدا لأنه لم يكن يحبهما”، وفى ذلك ما فيه من معانى الذنب المركب، والقتل بالحرمان[4] مما كان سيثرى معرفتنا بعالم الطفولة كما قدمه ديستويفسكى، وخاصة وأننا نلمح بعض ملامح نفس التركيب والميكانزمات عند نيتوتشكا نفسها، ناهيك عن التماثل فى الالتقاط والاستضافة فى بيت الأمير (مثلهما فى هذا الشأن مثل الكلب: فالستاف- انظر بعد).
رواية نيتوتشكا تتكون من ثلاثة أجزاء:
الجزء الأول: يمثل الطفولة المحرومة البائسة التى نشأت بين أم شبه مريضة طول الوقت، تعانى أبدا من الإنهاك والفقر، وبين زوج هذه الأم المضطرب العاطل الأنانى الخيالى المحبَط، الذى اعتبرته نيتوتشكا والدها منذ بداية إدراكها، فأحبته (كما سيأتى) وتمنت موت أمها لحسابه، (رغم حبها السرى لها) حتى ماتت الأخيرة وكأنها قضت نحبها من تراكمات البؤس فى ليلة واجه فيها زوجها حقيقة عجزه (“الموسيقى”!!) عن كل شئ، فولّى هاربا من جثة زوجته، ومن فشله، ومن حب نيتوتشكا، ومن عقله جميعا، ليتمتع بحرية الجنون يوما أو أكثر ثم يموت معلِنا الهزيمة الأخيرة.
الجزء الثانى: يشير إلى حياة نيتوتشكا فى بيت الأمير الذى التقطها بعد ترك والدها[5] (زوج أمها) لها فى الشارع عاويا جبانا قاسيا، وفى هذا الجزء نرى التعويض الصعب (لدرجة الاستحالة) لبؤس الطفولة الأولى، فنرى العلاقة الزاخرة بين نيتوتشكا ابنة الأمير وهى فى مثل سنها، تلك العلاقة التى بدأت بالتوجس والحذر لتنتهى بالغرام الملتهب بين الطفلتين، حتى تحول الأسرة – والظروف- بينهما.
أما الجزء الثالث: فيمثل المراهقة التى أمضتها نيتوتشكا فى بيت إبنة الأميرة الكبرى – من زواج سابق – (ألكسندرينا ميخائيلوفنا) حيث لقيت رعاية أموية حقيقية لأول مرة، ولكن فى ظروف شاذة (أيضا) حيث ظل زوج ألكسندرينا، بكل بلادته وتصنعه وانزوائه وغروره، يغذِّى شعورا وهميا بالذنب عند زوجته حتى يربطها به وببيتها وطفليها ونفسه دون أدنى كرامة أو إرادة، وينتهى هذا الجزء والرواية بعد أن تعثر نيتوتشكا على رسالة تحوى “سر” هذا الإذلال القاتل، وهى رسالة موجهة إلى ألكسندرينا تحمل كل العواطف (الأخوية) النبيلة مع قرار الانفصال الرزين من حبيب مخلص قديم، مما دعى نيتوتشكا أن تعلن ثورتها لصالح “الحق” فتمثل الضمير القاضى الحامى المسؤل (الوالد) الذى يضع حدا لهذه المأساة بما يتضمن حق “الحق فى الحب”.
تبتر الرواية فجأة دون أن نعلم ما يترتب عن إعلان هذا الحق من ممارسة أو انهيار أو استمرار أونقلة أو غير ذلك.
تحفظات حول التفسيرات النفسية لمقدم الأعمال المترجمة
كما قدمنا، نجد أن الجزء الأول إنما يروى نشأة نيتوتشكا التعسة فى جو شديد البؤس، مع أمها العاملة المكافحة المحبة لزوجها (رغم ما هو، وبسببه) حيث يقوم هذا الزوج بدور “والد” نيتوتشكا ليجسد الاضطراب والضياع والخيالية الذاهلة، حتى يفسد كل استقرار عائلى محتمل أو مأمول، وفى نفس الوقت فقد كان مصدرا هائلا لفيض زاخر من العواطف الملتهبة الصادرة من تفاعل بؤسه ووحدته وهواجسه ومحاولاته المستميتة لكى يعترف أحد بموهبته “الحقيقية المشوشة” أو “المزعومة المأمولة” (لا أحد يدرى – فهو لم يُختبر)، المهم أن يُرى (بضم الياء) من خلالها، ورغم ما ذهب اليه مقدم الترجمة من تصوير حالة بافيموف “لعقدة النقص” مشيرا بذلك إلى سبق ديستويفسكى لأدلر[6]، فانى رأيت فى يافيموف أساسا إلحاح “الحاجة إلى الشوفان” لذاتها[7] (ومن ثم الاعتراف بالوجود)، لا ليغطى بها نقصا حقيقيا أو متخيلا.
طوال هذا الجزء ظلت هذه الحاجة تلح عليه أساسا وتماما حتى لتفسر كل وحدته وكل شقائه وكل ضياعه، ولعل علاقته بكمانه (أنظر بعد) لم تكن سوى علاقته بذاته (من داخل)، وقد يكون هذا اليقين بالقدرة الموسيقية الإبداعية الخاصة ليس سوى إعلان أن بداخله من الألحان[8] ما يستحق أن يظهر فيُسمع، ”ليرى” صاحبه، ولم يُثْرِهِ أو يطمئن وجوده أى شئ آخر، لاحب زوجته (الحقيقى) له ولا أمومة نيتوتشكا، ولا غيبوبة الشراب، وظل وغْدا طوال الوقت، بما فى ذلك علاقته بهذه الطفلة البائسة، كان وغدا معها أيضا، وأصلا، رغم نوبات العواطف المجهضة التى كانت تظهر منه رغما عنه فى بعض الأحيان، ظل لها – وهى الطفلة الوديعة – إبنا مدللا أنانيا حتى تركها فى أصعب المواقف بعد وفاة أمها، وهنا أختلف مع من يزعم بأن هذه العلاقة هى علاقة أوديبية أساسا[9] (أو بتصحيح أدق: عقدة إلكترا) إذ يستشهد ذلك الزاعم بقولها: “…شعرت نحو أبى… بحب ليس له حدود، حب غريب ليس من الطفولة فى شئ” (ص66) فتصور هذا الناقد أن ما ليس طفولة هو ما يعنيه التفسير الأوديبى لعواطف الأطفال، بل ذهب أكثر من ذلك إلى تصور أن ديستويفسكى صالح بين أدلر وفرويد (أو جمع بينهما) فى علاقة نيتوتشكا بأبيها من ناحية مع استمرار تطلعاتها الحالمة نحو القصر المجاور ذى الستائر الحمراء (عقدة النقص: أدلر) الأمر الذى يمكن إرجاعه مباشرة إلى نشاط خيالها النابع من شقائها وغيره نحو المنزل الجنة (الرحم الآمن)، لم أجد فى هذا أو ذاك تصالحا يستأهل هذه الوقفة أو هذا التفسير، بل إنى أشك فى جذور النقص كدافع أولى لهذا الخيال، فما كانت نيتوتشكا إلا أمّا لأبيها، وما كانت خيالاتها حول القصر ذى الستائر الحمراء إلا خيالات الأطفال حتى لو لم يعيشوا النقص، فهى مجموعة متداخلة من خيالات الاستكشاف والتغير والتعويض جميعا، يغذيها هذا القدر الهائل من التعاسة والحرمان لتهرب فى “خيالات الأمن والسكينة (التى قد تشير إلى الرحم لا إلى التطلع) دون حاجة إلى لافتة “عقدة النقص” ومن ثم “التعويض”!!.
ثم إن هذا المقدم الناقد زعم أن العلاقة بين نيتوتشكا وكاتيا (إبنة الأمير) فى الجزء الثانى تثبت تصالحا جديدا بين أدلر وفرويد حيث ذهب إلى تفسير حب الطفلتين لبعضهما البعض بحب “المِثْل” الذى قال به فرويد، أما صراعهما التنافسى المبدئى فقد عزاه الى ما أشار به أدلر من رغبة التفوق (تعويضا) وهذا تأكيد جديد لخطورة التسرع بالتفسير النفسى الظاهر، ذلك أن علاقة طفلتين مختلفتين عادة ما تبدأ بالحذر، ثم تشمل التنافس، ثم قد تتصاعد الى الالتحام للتكامل فضلا عن إسقاط كل منهما لداخلها وأحلامها على الأخرى، واستعمال كل منهما للأخرى بما تحتاجه، وكذلك فضلا عن دور “الصنو”[10] فى النمو، وكل هذا سوف أعود اليه تفصيلا، المهم هنا أنى أنبه ابتداء إلى رفض ما يسمى بالتفسير النفسى كما هو شائع.
القصة القصيرة: البطل الصغير
قصة “البطل الصغير”، من وجهة نظر هذه الدراسة، تعتبر هامشا للعمل الأساسى، وهى تكمل رؤية ديستويفسكى للطفولة فى أعماله الباكرة، وهى قصة كتبها ديستويفسكى وهو فى سجنه المنفرد بقلعة “بتروبافلوسكابا”، وهى تقدم لنا الطفولة من جانب سهل وحار وشاعرى، ففى حين تمثل نيتوتشكا عالما داخليا زاخرا بكل عوالم الخارج المتناقضة، يمثل لنا البطل الصغير عالم الطفولة الراصد “للخارج” أساسا وبما يستتبعه تفاعله مع هذا “الخارج”، وقد تعجب ديستويفسكى نفسه – كما تعجب ناقدوه – على التناقض بين جو كتابة القصة فى زنزانة منفردة منتظرا صدور حكم الاعدام، وبين جو القصة “.. حياة توشك أن تكون عيدا لا ينتهى”[11]، وعندى أن ذلك يشير إلى أن التهيؤ الذى أشرتُ اليه سالفا لا يكون بالضرورة مطابقا لنفس الحالة المزاجية المصاحبة للكتابة، فتحريك الوعى الإبداع يأخذ استقلاله بمجرد أن ينطلق بغض النظر عما يثيره، وبأسلوب آخر: فليس الجو البهيج هو الذى ينشأ منه وعى بهيج، ومن ثم عمل متفائل سعيد، والعكس صحيح، وإنما يثار من محتوى الذات: ما يماثل، أو يكمل، أو يعوض، أو يعيد تركيب، أو يتحدى: التهيؤ المحيط حسب درجة الاستعداد ونوع الإعداد، ويستمر هذا الوعى المثار باستمرار نوع الإثارة الداخلية والخارجية حتى يصل إلى غايته الإبداعية التى تعطى لكل عمل استقلاليته الفريدة، وقد توفر هذا فى قصة البطل الصغير رغم التناقض بين الخارج والداخل.
حكاية البطل الصغير تروى لنا قصة طفل فى الحادية عشر من عمره، يستعمله بعض الضيوف (الشقراء العابثة) فى قسوة كأداة للمداعبة وموضوعا للفكاهة والمرح، وهو يرفض هذا التسطيح فى استقبال ما يظنونه طفولة، ويحمل من منابع العواطف وتصانيفها ما يكفى أن تجرى منه أنهار الحياة النابضة فى قلوب العشرات، وهو يتوجه بكل حيويته وطاقته وخياله وحاجته إلى حسناء أخرى (السيدة: م) لتصبح معبودته وموضع أحلامه ورعايته معا، وهو يكتشف أثناء ذلك- بموضوعية مناسبة- ثقل زوجها وبلادته، وفى نفس الوقت يكتشف علاقتها الخاصة العميقة الرائقة بفارس مسافر، وهو لا يغار لذلك ولا يثور، بل يحنو ويتقبل، ويتمادى فى إيثاره وعطائه المحب إلى أن يحتال ليرجع لها “رسالة” (أيضا رسالة!) وقعت منها عفوا بعد أن تسلمتها من حبيبها فى لحظة وداع سرى، يحتال لذلك دون أن يظهر مباشرة فى الصورة إكمالا لانكار ذاته، وتماديا فى تصوير أن تحقيق هنائها هو الغاية غير المرتبطة بذاته، واحتياجه أصلا.
هذه القصة إذ تقدم لنا صيحة منذرة لكيفية إفسادنا لما هو طفولة، وعجزنا عن فهمها، تشترك فى أقل القليل مع رواية نيتوتشكا – مثلا فى رعاية الطفل لوالديه (عكس المنتظر). هذا الاختلاف فى ذاته يعلن ثراء ديستويفسكى فى الإحاطة بظاهرة ما، ودون خضوعه لنمط معين.
عودة إلى:
نيتوتشكا نزفانوفا
الجزء الأول- الطفلة الأم
فى هذا الجزء تعيش نيتوتشكا فى جو أبعد ما يكون عن السواء، جوٍّ هو الشذوذ ذاته، هو نصف الجنون الذى هو أخطر من الجنون التام، الجنون الكامل الصريح محدد العالم صارخ الحضور بحيث يمكن مواجهته وأحيانا تحديه، أما نصف الجنون (ص88)[12] فهذا هو الاضطراب المخل حيث الأرض مغرية بالسير لكنها رخوة حتى الغرق وحيث “الآخر” واعد بالإنصات ولكنه بعيد حتى الصمم، وهكذا. بدأت سرعة إيقاع الأحداث تزيد بعد شجار عنيف بين الزوجين إنحازت فيه نيتوتشكا لأبيها لاعتبارات غير واضحة، أهمها الخوف الشديد من أمها التى كان يتراءى لها أنه “ما من أحد إلا يخشاها”، وقد كان خليقا بهذا الخوف وما تلاه أن يعلن بداية طفولة حقيقية واستكانة إلى أبيها مثلا بعد أن لجأت إليه تكاد تدخل فى جسده حتى التلاشى طلبا للأمان وفرحا به.
”نادانى أبى، فقبلّنى، وداعب رأسى، وحملنى إلى ركبتيه بينما كنت أشد جسمى إليه[13] “برفق وحب” (ص66,65)
نلاحظ أن الذى حدث هو: أنها هى التى تلوذ به، وليس هو الذى يضمها، بل إن الرفق يحمل ريح أمومة حانية كما سيأتى حالا.
”وشعرت نحو أبى منذ تلك اللحظة بحب ليس له حدود، حب غريب ليس من الطفولة فى شئ” (ص66)
يسارع النقاد ليقولوا أنها – اذن – عقدة أوديب (إلكترا) ولو تمهلوا ثانية واحدة لسمعوها تكمل:
”حتى لأستطيع أن أقول أن هذه العاطفة تشتمل على شئ مما تشعر به الأم نحو إبنها من حب وقلق” (ص66)
وهى ذات نفسها تعلن غرابة الأمر (لنتعلم! وياليتنا نفعل) وهى تكمل:
”إن لم يكن مضحكا أن توصف عاطفة طفل بمثل هذا” (ص66)
والأكثر إضحاكا أن نسارع نحن (نقادا ونفسيين!) إلى “جنسنة ” هذه العاطفة تحت أفكار تحليلة أوديبية متعجلة.
نيتوتشكا تعلن – مباشرة – أن هذه اللحظة الحادة المعقدة (أنظر بعد) كانت بداية جديدة لتغير كيفى، وتفجر ذكرياتى، ووعى جديد.
”..كانت تلك فيما أعتقد أول ملاحظة أبوية… ولعلها هى السبب فى أن ذكرياتى أصبحت منذ تلك اللحظة واضحة هذا الوضوح”(ص66).
بضربة واحدة وخلال بضعة عشر سطرا قال لنا ديستويفسكى كيف بدأت نيتوتشكا مسيرة النمو، وكيف تغير استقبالها للعالم، بل أنه حدد نوع الوعى الجديد النامي:
”أصبحت لا أكتفى بالمشاعر التى تصلنى من الخارج بل صرت أفكر، وأحكم، وألاحظ”[14]
نيتوتشكا لم تنمُ طفلة منذ “هذه اللحظة”، فقد سرقت طفولتها فى نفس الثانية، سرقتها حالة ألحُّ من طفولتها، فاذا بها الأم الحانية الراعية، ولمن؟ للوالد الذى أثار طفولتها بتلويح ما. يبدو أن الذى يحدد “مَنْ الوالد” و” مَنْ الطفل” ليس هو السن أو القبل العُلوية أو مَنْ يجلس على ركبتىْ من، وإنما اتجاه الاعتمادية ونوع وعى كل طرف بالآخر:
فالأب هنا بدا هو الأضعف، إذن: فهو أولى بالطفولة!.
”كان يتراءى لى أن أبى حقيق بالرثاء، معذب، مضطهد” (ص66)
ثم بالتالى: “وأن من الظلم ألا أحبه حبا قويا” (ص66)
وتتحدد العلاقة اضطرادا بإعلان من هو الأكثر مسئولية والأقدر فهما وأعمق وعيا.
”كيف استطعت أنا الصغيرة أن أنفذ إلى أعماق نفسه، فأدرك الآلام التى كان يعانيها” (ص66).
ويتردد ما يؤكد هذه العلاقة الأموية بعد ذلك فى أكثر من موضع:
”ومع أنى كنت طفلة، استطعت أن أنفذ إلى أعماقه” (ص102)
”لا شك أنه هو الطفل لا أنا، ما دام يحدثنى بهذه اللهجة عن أعدائه” (ص102)
وهى تشاركه آلامه وتُـرجع مصدر آلامهما معا إلى القسوة المتخيلة للأم رغم مخالفة ذلك للحقيقة، فهذه الأم التى لم تكن أبدا قاسية استقبلتها طفلتنا على انها مصدر القسوة التى تبرر لها تعلقها بأبيها أمّاً له:
“لعل قسوة أمى الشديدة علىّ هى التى دفعتنى إلى التعلق بأبى تعلقى بإنسان يعانى مثل الذى أعانيه وفقا للصورة التى رسمتها لنفسى”
وقد ظلت أمومتها لأبيها تلاحقها حتى فى أقسى لحظة فى حياتها حين تركها فى الشارع غدرا بعد وفاة والدتها، فبدلا من أن تثور عليه وترفضه أو على الأقل تعامله تَرْكَاَ بَتْركِ، ظلت تجرى وراءه لا لتحتمى به.. ولكن لترعاه:
”أخذت أعدو وراءه عدوا سريعا وقد تملكنى خوف مجنون.. ووجدت قبعته فى الطريق، لقد سقطت عن رأسه وهو يعدو فحملت القبعة وتابعت عدوى.. كنت أشفق على أبى، كان صدرى يختنق إذ أتذكر أنه بلا معطف، وبلا قبعة، بعيدا عني” (!!) (ص111).
وتبلغ درجة السماح الحانى من الأم الطفلة لطفلها الهارب أنها تريد أن تلحق به لتطمئنه أنها سمحت له بتركها وهى الخائفة العاجزة اليتيمة المهجورة، كل ما تريده “له” هو ألا يخاف منها (وليس العكس).
”…حتى أستطيع أن أطمئنه.. حتى أستطيع أن أؤكد أننى لن أعود إذا كان يريد ذلك” (ص118). وهى فى سماحها هذا تعلم مصيرها”
”.. وإنى عائدة وحدى إلى جانب أمي” (ص:118)
مع أن أمها لم تكن آنئذ إلا جثة هامدة فىالمنزل. نيتوتشكا لا تكاد تدرك الحد الفاصل بين الموت والحياة بعد.
هكذا نرى ديستويفسكى وقد استطاع بحدسه الفائق أن يظهر تركيبا متكاملا (هو التركيب الوالدى)[15] الموجود فينا منذ الولادة، نحن أطفالا، إلى نهاية العمر، وكيف أنه يظهر حسب توزيع القوى والعواطف بين كيانين إنسانيين بغض النظر عن السن، ولا أجد أى معالم دالة تبرر تفسيرات أوديبية جنسية فى هذه العلاقة.
ثانيا: النمو وقفزات الوعى
حين أعلنت نيتوتشكا “هذه اللحظة” (ص66) كبداية اليقظة من “نوم الطفلة” (ص66) كانت لا تستعمل مجازا بلاغيا وإنما حقيقة مباشرة، ذلك أن كتب التربية المتعجلة والشائعة قد سطحت مسار النمو حتى تصورنا أنه إضافات كمية مع أقل الإنتباه لهذه “النقلات” النوعية. انتقلت نيتوتشكا هنا هذه النقلة تحت مظلة جو الأمان الذى وصل إليها من هدهدة الوالد بعد رعب معايشة الشجار بين الوالدين، رعب يهدد الوجود ذاته، دام ساعتين طويلتين:
”كنت أحاول عبثا خلالهما، وأنا أرتجف من القلق أن أحذر كيف سينتهى الأمر (ص65)
ورغم هذا التمهيد برعب يهدد الوجود، يتلوه الاحتواء بطمأنينة غير متوقعة أو محسوبة مما يغرى القارئ المتعجل بتصور ما سيتبع ذلك من “نوم آمن” فإن الذى حدث هو أبعد ما يكون عن ذلك، إذ هو”يقظة مفرطة” بل إن تعبيرها عن هذا الحادث وما استتبعه بعد ذلك كان غريبا لمن لا يعرف الطفولة وكيف تنمو.
”وقد جرحنى هذا الحادث جرحا عميقا”!!(ص67)
”…من ذلك اليوم أخذ نموى يتم بسرعة عجيبة- بسرعة مرهقة” (ص 67)
والآن: كيف يجتمع “الجرح ” “بالأمن” “باليقظة” فيؤدى ذلك إلى “الإسراع فى مسيرة النمو”؟.
على القارئ أن ينسى – أو يتناسى – التأكيد الاستقطابى على التناقض الظاهر فى معظم المجالات، إذا كان يريد أن يستقبل علاقة الجرح بالأمن باليقظة (مثلا):
إن النمو لا يتم بالإضافة، وإنما بالكسر فالإطلاق فالاستيعاب فاتساع الوعى، ربما كان هذا ما أراد ديستويفسكى أن يعلمنا إياه، إن هذا الجرح إنما يعلن ما يمكن أن تتصوره شرخا فى جدار الكبت، يطلق مكنون الذات، فُتسْتَعاد الذكريات، ونفيق من تنويم سابق (كان لازما حتى تلك اللحظة) لننطلق بسرعة أكبر- وأكثر إرهاقا – على درب النمو، وكأن ديستويفسكى قد رأى كل الظروف المطلوبة لإعلان هذه اللحظة المتكررة على مسار النمو (برغم أنها غائبة عن اهتمام كثير منا بما فى ذلك رهط من العلماء) فهى تتطلب عادة (وبالترتيب):
(أ) تهديد بأن القديم لم يعد يصلح، أو أنه أصبح مهدداً بشكلٍٍ ما، مهدداً لدرجة الإطاحة بالوجود برمته (هنا الشجار بين الأم والأب)
(ب) ظهور معالم أمان واعدٍ منقذ يسمح بالعودة إلى الحياة (هدهدة الوالد لنيتوتشكا)
(ج) تراخى قبضة الكبت القديم حتى التسليم المؤقت (الالتحام الجسدى)
(د) إنطلاق الداخل عبر الشرخ الحادث فى جدار الكبت نتيجة التراخى بعد الوعد بالأمن الذى تلى بدوره التهديد “السالف الذكر” (اليقظة بعد نوم الطفولة، وظهور الذكريات “بهذا” الوضوح)
(هـ) ومن ثَمَّ الإسراع باستيعاب المخزون المطلق من الوعى الكامن يثرى به الوعى الظاهر لتوليف وعى جديد فى خطى سريعة مرهقة (أخذ نموى يتم بسرعة عجيبة- سرعة مرهقة).
الوقوف عند هذه اللحظات[16] هام وضرورى لأن الأعمال الأدبية تتحفنا به أكثر من الملاحظات التربوية والمشاهدات الكلينيكية، وقد أسميت مقابلها المرضى “بداية البداية”[17]، ولها مقابل ثالث فى لحظات التنوير فى الإبداع أو لحظات “الوصول” فى الخبرة الصوفية. إن تحديد هذه اللحظة تحديدا نوعيا يتم بمنتهى الدقة والوضوح (دون التزام بتوقيت معين) وهى تصبح - عادة- معلما من المعالم التاريخية الحياتية، يتحدث الفرد عنها بجلاء تام[18] هى “لحظة” بذاتها لها ”ما قبلها”، وهو (ما قبلها) عادة ما يكون مدغوما إلى أن يحدث سبق التوقيت[19]، وهى لها ”ما بعدها” الذى يكون عادة شديد الوضوح والتحديد: تقول نيتوتشكا: ”أستطيع أن أرى بوضوح تام كل ما وقع بعد الثامنة والنصف من عمرى يوما بيوم… دون إنقطاع كأنه وقع بالأمس” (ص63)
أما الوضع قبل هذه اللحظة فكان كما يلى:
”كل ما انقضى قبل هذا العهد لم يدعْ فى نفسى أى أثر يمكن أن أذكره الآن” (ص63).
فهل نصدقها بالحرف الواحد حتى وهى تحكى عن”جزر من الذكريات” شديدة الوضوح رغم الضباب من حولها ورغم انفصالها عن أى تسلسل منظم؟ نعم، فهى تذكر فى تلك الفترة (السابقة) فى غير ترتيب “أشبه بأحلام مريض: “حصانا داسها، وفأرا فى ركن حجرة ساكنة وهى مريضة إثر حادث الحصان..” الخ، وحتى الوعى بحالة النوم السابق إنما يدل على أن الفرق ليس فى التذكر من عدمه وإنما هو أساسا فى ”نوع الوعى” قبل وبعد تلك “اللحظة”. وظاهرة”سبق التوقيت” هذه هى عادة من أهم ما يؤكد حيوية الأحداث فى مخزون الوعى، وهى إن كانت ذات دلالة خاصة فى توقيت بداية سيكوباثولوجية بعض الأمراض فإنها هنا تمثل الأداة النشطة فى السرد والرواية. وديستويفسكى لا يفتأ يذكرنا بتناوب النمو، وقد عاد يستعمل تعبيرات: النوم واليقظة والبلادة والوضوح لوصف فترات النمو المتلاحقة المختلفة عن بعضها البعض نوعيا. مثلا:
“كأنما استيقظت من نوم ثقيل” (ص64) وكذلك، “…وانقضت سنة كاملة على تيقظ شعوري… وعلى تمزقى صامتة بين مطامح غامضة نشأت فى بغته” (ص74) ثم، ” أصبحت حياتى بعد سفر كاتيا حياة هادئة ساكنة ملازمة للبيت.. لم استيقظ منها إلا فى نحو السادسة عشرة من عمرى ان صح التعبير..” (ص195) (وقد صح التعبير).
”كنت قد بلغت السادسة عشرة من عمرى، وقد أصبت فجأة فى ذلك الحين بنوع من تبلد الحس وخمود العاطفة… وكأن خيالى قد كبا، وكانت وثباتى قد انطفأت وكانت أحلامى قد تبددت حتى لكأنى لا أستطيع أن أحلم” (ص225)
ويلاحظ هنا أنه كما تحدث الإضاءة والتنوير والوضوح فجأة، كذلك فإن الإنطفاء يحدث فجأة، كما أود أن أكرر أنه لا مبرر لاعتبار هذه التعابير عن انطفاء الوثبات، وخمود العاطفة تعابير مجازية، إذ أنها تصف مباشرة خبرات وعى حقيقية مختلفة نوعيا عن كل عداها.
ثالثا: الداخل والأنغام
يافيموف الكمان:
ما وصلنى هو أن “كمان” يافيموف (والد نيتوتشكا = زوج أمها) لم يكن إلا ذاته الداخلية المرْجُوَّة، وبقبولنا هذا الفرض الذى سنحاول إثباته حالا يبدو تفسير حالة يافيموف بعقدة النقص الأدلرية شديد التسطيح.
لم يكن “الكمان” هو الآلة التى بدأ بها فقد كان فى الأصل عازفا على “الكلارينيت”، وقد “ورث” هذا الكمان من “عجوز عجيب” وكأنه يشير إلى أن هذه اللغة الأنغامية[20] الأعمق هى الأصل الأقدم المنحدرة من تاريخنا الأول[21]الذى لم تعجز لغتنا الرمزية الكلامية أن تستوعبه بما يحقق التوازن والتواصل معا، فالكمان هنا هو “ذات يافيموف” الأعمق، وهو رغبته فى التواصل بحق، وهو عجزه عن هذا وذاك، وهو لغة كامنة واعدة، وحتى اتهامه بقتل صاحب الكمان العجوز قد يواكب هذا الغرض فى مقابلته “بالجريمة الأولى” وقتل هابيل أو الجريمة التطورية الرائعة: “قتل الوالد”.
تطورت علاقة يافيموف بالكمان من آلة يمكن أن يتفوق فى العزف عليها إلى “سر يخبئه” و”يرجع إليه” و”يناجيه”، وحين أراد أن يكافئ نيتوتشكا على استجابتها لنزواته الطفلية، واستغلال أمها لحسابه، كافأها باطلاعها على سره”هذا”، وكأنه يكشف لها عن مكنون ذاته:
”.. لم يستطع أبى أن يكبح جماح نفسه فأخذ يقبلنى بقوة من شدة الفرح،… ثم أخبرنى أنه مكافأة على أننى إبنة طيبة عاقلة سيرينى شيئا جميلا جدا، شيئا، سيسرنى أن أراه، ثم فك أزرار سترته، فأخرج مفتاحا صغيرا كان معلقا فى رقبته بخيط أسود لا يفارقه (أنظر أين يضع مفتاح سره وداخله)[22]، وألقى علىّ نظرة غريبة كأنما يريد أن يقرأ فى عينى السرور الذى كان لابد- فى رأيه- أن أشعر به، وفتح الصندوق وأخرج منه فى كثير من الحذر علبة سوداء ذات شكل غريب لم أرها قبل ذلك أبدا، ولمس العلبة بنوع من الرهبة غير مألوف فيه (فهى تاريخه ونبض داخله) وانمحت الابتسامة من وجهه ليحل محلها فجأة مظهر الرصانة والجلال (فى حضرة الحقيقة) وأخيرا فتح العلبة الغريبة بالمفتاح وأخرج منها شيئا غريب الشكل (الغموض هو أصل الحقيقة) لم أره قبل ذلك أيضا، وتناول الشئ (ما زال مجهولا) فى عناية أشبه بالاجلال (قارن الرصانة قبل ذلك) قائلا: إن هذا هو كمانه، ثم حدثنى بصوت خافت رصين حديثا لم أفهمه (ما زالت اللغة الخاصة من جانب واحد). سالت دموع أبى على خديه، وتملكنى أنا انفعال شديد، وأخيرا طبع على كمانه قبلة رقيقة (ليست هذه آلة وليس ثمة شعور بالنقص أو موهبة مهضومة) ثم مدّه إلىّ لأفعل مثلما فعل (ولم تقل إن كانت قد فعلت أم لا) ثم لاحظ أنى أتمنى لو أرى الآلة عن كثب (كم مرة أعلنت انها رأت داخله قبل ذلك)، فأجلسنى على سرير أمى (كم كان يود أن تفهمه أمها مثلما هى تحاول) ووضع الآلة بين يدى (سلمها نفسه دون أمان كامل) إلا إننى شعرت أنه كان يرتجف خوفا على الآلة أن أكسرها…” “…واستولى على الخوف أنا أيضا، فبادرتُُ أردها إليه، فأعادها إلى علبتها بعناية كبيرة، وأغلق العلبة ثم أرجعها إلى مكانها فى الصندوق، ووعدنى وهو يداعب رأسى أنه “سيرينى” الكمان مرات أخرى كلما كنت عاقلة مطيعة مثلما أنا الآن” (ص:87,86)
المسألة ليست كمانا أو تفوقا فى العزف. إنه بمجرد أن “يريها كمانه دون “عزف” يتحقق بعض ما يعنى، وهولم يعدها أنه ”سيُسمعها عزفه” وإنما فقط “سيريها كمانه” وكأنه يكشف لها عن داخله، عن ذاته الحقيقية.
ديستويفسكى فى نفس العمل قد استعمل نفس الرمز بشأن آلة أخرى فى موقف آخر مع الكسندرين ميخائيلوفنا وهى تعلن لنيتوتشكا إحساسها بقرب النهاية بعد طول المعاناة.
”إن الخريف يتقدم، وقريبا يسقط الثلج، وسأموت أنا عند أول مرة يهطل فيها الثلج، نعم، وإن هذا ليحزن قلبى وداعا”.….، “وقد اقتربت من البيانو تعزف بعض الألحان، فاذا بأحد الأوتار يقطع فجأة..، فيدوى من انقطاعه صوت مباغت امتد ثم انطفأ فى ارتجاف”.
ثم تترجم الكسندرين لنيتوتشكا الأمر مباشرة دون حاجة إلى خدماتنا التفسيرية.
”هل تسمعين يا نيتوتشكا، هل تسمعين، لقد كان هذا الوتر(أنا) مشدودا أكثر مما ينبغى أن يشد (زاد الأمر وضوحاً حتى فاق الفرض)[23] فلم يستطع أن يحتمل فمات (لاحظ كلمة”مات” وليس انقطع) لقد سمعت كيف توجع الصوت وهو يموت (الصوت أيضا”يموت” بعد أن”يتوجع”) (ص258).
فاذا كانت المباشرة هنا شديدة الصراحة وألكسندرين هى الوتر، ألا يدعم ذلك الفرض الذى ذهبنا إليه بعناية مسئولة، وهى أن يافيموف هو وكمانه شئ واحد، وأن التفسير النفسى الأدلرى هو أبعد ما يكون عن الاحتمال.
إن هذه الموسيقى لم تكن موسيقى:
”لم تكن تلك أصوات الكمان لقد كانت صراخا دوى فى منزلنا لأول مرة”
”إلا أننى مقتنعة بأننى سمعت آهات وصرخات إنسانية ونحيبا، لقد كان يتفجر من هذه الأنغام ألم فظيع حتى إذا زمجرت نهاية اللحن بدت تلف كل شئ فى آن واحد” (ص:112)
هامش حول العلاقة الثلاثية:
يجدر بنا هنا أن نذكر أن تفاعل يافيموف لموت زوجته كان يشير إلى طبيعة علاقته الشديدة التعقيد بزوجته، فقد بدا لأول وهلة وكأنه يكرهها ويتمنى موتها، حتى انتقلت تلك الأمنية إلى نيتوتشكا وأصبحت تلح عليها مثيرة الألم والخجل والذنب جميعا، ولكنه حين فقدها فى لحظة إعلان عجزه عن الحياة والتواصل (بالمقارنة بالعازف “س”) احتضر معها، ثم كان هروبه وعدوه ثم جنونه حتى الموت مجرد”تحصيل حاصل” حصل منذ أن نعى نفسه بهذا”الاحتضار اليائس” (ص112)، لقد كانت هذه الزوجة المحبة البائسة مرفأ صامتا صابرا حافظت بوجودها- وباعتبارها ” مرمى للكراهية” – حافظت على نصف عقله ونصف جنونه، فلما ذهبت تحرر منها، فجُـن فمات:
”نعم إنها ضربة قاضية، كان يريد أن يهرب من محكمة ضميره ولكنه أصبح الآن لا يستطيع أن يجد ملجأ يهرب إليه” (ص:12.)
ولنا أن نتذكر - أيضا- أنه كان يعقد على موتها آمالا للخلاص نسجها خياله المريض، فلما تحقق الأمل ولم يتحقق الخلاص سقط من شاهق، وديستوفسكى يعلم (ويعلمنا) ذلك:
”لا شئ أفظع من التحرر من فكرة ثابتة وخاصة حين يكون المرء قد وقف عليها حياته كلها” (ص:95).
ولكن هل كان يافموف يحب زوجته؟ إن مفهوم الحب هنا بالمعنى الشائع قد يوحى بالإجابة بالنفى إلا أن مفهوم الحب بمعنى دورها (الأم) فى تغذية حاجة أساسية لوجوده لابد أن يقلب الإجابة إلى الإيجاب.
قبل أن ننتقل إلى الجزء التالى بقيت لدينا دعوة لنظرتين فى العلاقة الثلاثية المعقدة التى لا يصح أن يسطحها التفسير الأوديبى المختزل:
الأولى تتعلق بقسوة الطفل نتيجة للحب الخاص واحتكاره للشخص المحبوب، فهو يفقد مشاعر الرحمة تجاه كل آخر غير محبوبه:
”وأدركت بعد ذلك أن كثيرا من الأطفال قد يفقدون مشاعر الرحمة فقدانا رهيبا، وأنهم إذا أحبوا شخصا أحبوه وحده ولم يعبأوا بمن عداه، فكذلك كانت حالى أنا” (ص:73).
والثانية تتعلق بعلاقة نيتوتشكا بأمها: فظاهر الأمر أنها كانت تخاف منها وتتمنى موتها لإسعاد والدها (طفلها المسكين) وحقيقة الجارى أنها كانت تحبها فى السر (تخفيه عن نفسها أولا):
”رغم كل شئ لا أستطيع أن أمنع نفسى عن حب أمى فى السر” (ص: 73)
بل إنها كانت تأمن إلى رحم حضنها فتنام: ”كان يكفينى أن أشد نفسى إليها وأن أغمض جفنى وأن أعانقها بقوة حتى أنام على الفور” (ص:73)
ويمكن أن نقارن هذا الحضن الآمن الباعث على النوم، بالتصاق آخر بأبيها سبق الحديث عنه (ص:87) لكنه التصاق بعث على اليقظة لا النوم.
فى نفس الوقت كان الخوف - ربما بتأثير أبيها- هو الحائل الأعظم بينها وبين أمها، فأمنية موت الأم الظاهر كانت استجابة لرغبة الأب غير المعلنة، والمتناقضة فى آن، الأب الطفل المستسهل المسكين معاً، التفسير الأوديبى الذى يعتمد على المثلث الأسرى المحكوم بالحب والكره الموزع إستقطابيا بين الوالدين لا يصلح هنا مقارنة بهذا التفسير التركيبى على المستوى الأعمق لتعقد العلاقات المكثفة عل هذا النحو.
وإذ ينتهى الجزء الأول بفقد الوالدين نجد أنفسنا متروكين مع طفلة ملقاة فى الشارع فى إنهاك ومرض وإغماء تبحث عن قدر مجهول.
الجزء الثانى: من الطفلة الدمية إلى الطفلة النغمة
تكاد الصورة التى يقدمها الجزء الثانى أن تكون نقيض الصورة التى عشناها فى الجزء الأول تماما، فنيتوتشكا هنا تبدو- للوهلة الأولى – فى هناء مادى لا ينقطع، تحظى برعاية فيزيقية متكاملة، إلا أن التأمل الأعمق يظهر لنا أنها لا تمثل ثمرة لشجرة نبتت فى أرضها متصلة بجذورها، مستظلة بفروعها وأوراقها، ولكنها تبدو ”فاكهة من البلاستيك” فوق منضدة تحت نافذة، وليست حتى فى وسط الحجرة، أو هى ضيفة طول الوقت، أو هى دمية آدمية رقيقة تجلب التسلية وتتلقى العطف والشفقة، وقد تحفز الصلوات فيتصدق عليها بكل ما يحسِّـن شكل السادة أمام أنفسهم وأقرانهم، وها نحن أولاء نتحسس مع ديستويفسكى أهمية عامل”الانتماء إلى و”الاتصال بـ” و”الامتداد فى” أسرة ما، إن وظيفة الأسرة ليست فقط فى الحماية المادية والإرواء العاطفى (أو العطفى) وإنما هى تكمن أساسا فى هذا الشعور الممتد: من، إلى، وفى: المجال الذى يجمع أفرادها، قد يمكن أن يرجع جذور هذا الشعور إلى الانتماء “الشعور القبلى” (من:قبيلة) وهو الذى يمثل الجانب الإيجابى فى بعض أخلاق القبيلة، نحن نرى هنا أن هذه الطفلة المُلتقَطَةْ (وليست اللقيطة) المُجتَـثَّـة من جذورها بعد موت الأم وهجر الأب مثل دمية مُعتنى بها تماما، ومن هنا تجلى لها اليُتْمُ لأول مرة وسط الرفاهية المتاحة:
”شعرت أخيرا أنى يتيمة” (ص: 123)
فى هذه الجملة، ومع ما واكبها من وصف “لنعيم الغرباء” الذين استضافوها، نرى ونعجب من شوقها للبؤس ”الأسرى” الملئ بالحياة الحقيقية:
”آمل أن استيقظ فجأة فاذا أنا فى مسكننا البائس بين أمى وأبي” (ص:123).
كان لابد أن ”يعلن” اليتم، ويبدو- كما يعلمنا ديستويفسكى أن آثار اليتم وحقيقته لا تكمن فى فقد الوالدين ذاته، وإنما فى الشعور بذلك، (وهذا يمكن أن يحدث حتى مع وجودهما)، بل هو يكمن أكثر فأكثر فى الشعور بفقد الانتماء والامتداد (فى الأسرة أو المجتمع)، وحين حدث ذلك لنيتوتشكا وتيقنت من المسافة بينها وبين الأحياء البشر من حولها، أعلنت – لنفسها – يُتمها، ثم بدأت تبحث عن علاقات بديلة، فوجدتها فى “الأشياء” دون “الناس”
”كنت أتسمر خائفة أمام لوحة من اللوحات، أو مرآة من المرايا أو مدفأة من المدافئ الأنيقة الصنع أو تمثالا يخيل إلى أنهم دفعوه خصيصا الى قاع ركن من الأركان ليحسن التحديق الىّ تخويفا لى” (ص:124).
”وكان القديسون من قلب الأطر اللامعة ينظرون الىّ فى غموض” (ص:133)
وقد ظل لهذا الموقف آثاره حتى فى الجزء الثالث فى بيت ألكسندرين[24]
لم يكن هذا البيت الجديد بكل كمالياته إلا “مكانا” للتجاور الجسدى وليس أسرة للتكامل البشرى بالتواصل الفكرى والعاطفى. ويبدو أن ذلك لم يكن خاصا بنيتوتشكا باعتبارها “ضيفة ” أو”ملتقطة” بل إنه كان صبغة البيت حتى بالنسبة لأفراده الأصليين، فهم متباعدون أبدا: للدرس، أو العمل، أو العبادة، فاذا تجاوروا، فهو لقاء بالجسم أو باللفظ حسب “الواجب” أو “العادة”، وهذا الوصف الذى أكده ديستويفسكى طوال الجزء الثانى خليق أن يعرى هذه الحياة التى استبدلت بالأحياء الأشياء، وبدهشة اللقاء العفوى- واجب الأداء المحكوم الخ ولا أظن إلا أن هواية رب البيت لـ “جمع الأحياء” بالتقاطهم وإيوائهم فى منزله ليست سوى إكمالا للصورة، فهو كما يهوى جمع التحف والصور والكتب ويغدق على الجميع عطفا متساويا (حتى فى درجة حرارته المضبوطة) يجمع ما يجد من أحياء “أمام الباب” فقد التقط نيتوتشكا، كما التقط الكلب الضال فالستاف (وكذلك الطفل”لاريا” الذى رفع من الرواية طبعة 1860، مما سبق الإشارة إليه)، وربما انتقلت- تلقائيا- فكرة”الملكية” من رب القصر “الأمير ك” إلى ابنته “كاتيا” حيث يبدو استقبالها لنيتوتشكا – على الأقل فى المرحلة الأولى باعتبارها من الممتلكات التى لابد وأن “تسر مالكها” والتى عليها أن “تتصف بالصفات التى تتطلبها فيها”:
كاتيا: ” أما أنا فلا أحبك، إنك نحلية جدا، إنتظرى سآتيك بفطيرة” (ص:143).
وتستجيب نيتوتشكا لارضاء المالك السعيد:
نيتوتشكا: “كنت أرغب رغبة جنونية فى أن أعافى وأن “أسمن”بأقصى سرعة ممكنة عملا بنصيحتها ونزولا على أمرها” (ص:141)
هكذا تتأكد لعبة “التشييئ” (التصنيم: أن تقلب الشخص شيئا او صنما) ومعانى “الدمية” و”الملكية”
ويظهر ذلك فى موضع آخر:
”..وصرَّحت بأنها لا تعرف ماذا تصنع بى” (ص:141)
(لاحظ تعبير تصنع بي.. وليس تصنع لى) وبالنسبة للموقف من الآخرين - الضيوف مثلا- فقد كانت تعُرض عليهم “للفرجة” والتعجب.
”فكان الزائرون أثناء حديثها ينظرون إلى وهم يهزون رؤوسهم ويطلقون من أفواهم صرخات التعجب، حتى أن شابا من الحاضرين أدار نظارته ليحدق في..” (ص:126)
حول نيتوتشكا وفالستاف (الكلب):
خطر ببالى أن أبحث عن وجه الشبه بين نيتوتشكا وفالستاف (الكلب) باعتبار أنهما من المقتنيات الثمينة الملتَقطة، فوجدت أن فالستاف قد يمثل الوجه العدوانى الآخر لرقة نيتوتشكا ورعبها الظاهرين، وكان موقف كاتيا منهما هو موقف “ترويضى” و”تأهيلي”، فهى تروض فالستاف “لتطويعه” (ص164,163) وتؤهل نيتوتشكا “للعب بها” أو (فيما بعد دون قصد) للعب معها، وقد بترت هذا الاستطراد لأرجع إلى الخيط الأول أساسا.
الأصل والصورة:
علاقة كاتيا بنيتوتشكا أخذتْ مسارا معقدا رغم بساطتها الظاهرية، ورغم ما ذهب إليه مقدم الترجمة من أن هذه العلاقة كانت تمثل جنسية مثلية[25] فإن الأمر يحتاج الى تمعن وروية لإعادة النظر. حتى نفهم تطور العلاقة دعونا نتذكر نشأة نيتوتشكا كأم وحيدة لوالد سكير نصف مجنون، وكإبنة “سِرّية” لأم هى الشقاء ذاته، لم يكن لها أخ ولاأخت ولا صديقة فى نفس السن، لم تجد الفرصة التى ترى نفسها فى أخرى فى مثل سنها (دور الصنو[26]) لتتجسد فيها وتتحسس صورتها خارجها وهى تنمو، فما أن وجدت كاتيا فى ”نفس السن “ومع” كل هذا الاختلاف الظاهرى” بما يتصف به من جمال، و ما يثيره من انطلاق ومن سعادة حتى اندفعت إليها إندفاعا بلا حساب وكأنها تندفع إلى نفسها[27] كما تحب أن تكون، إذن فكاتيا هى صورة نيتوتشكا التى تمنت أن تكونها، (أو هي”ذاتها المثالية” كما وصفتها كارين هورنى).
مرت العلاقة بين الطفلتين بمسار معقد كما ذكرت، بدءا بالحب”من أول نظرة”، من جانب واحد(نيتوتشكا) (مع الرفض أو الإهمال من جانب كاتيا) ثم الغيرة من الجانب الآخر، ثم العدوان فالاعتذار (من جانب كاتيا)، وفجأة تفجرت ينابيع الغرام الهائم والقبلات الملتهبة، حتى العض والقرص.. (وخاصة من جانب كاتيا):
”كنت أقول لنفسى: سأخنقها بالقبل، وسأظل أعضها وأقرصها حتى أفجر الدم من جسمها، وسيسرها ذلك هذه الحمقاء الصغيرة” (ص:188)
”…وتورمت شفتانا من قوة القبل” (ص:189)
لا أجد فى هذه الدرجة من العاطفة والخيال والالتحام الجسدى ما يبرر جنسنة الدافع إليها تماما، وإن كنت لا أستبعد الجنس متضفِّرا مع غيره من دوافع الاحتماء والالتحام، وهى الحاجة الطبيعية التى تولدت من الحرمان “البشري” فى هذا البيت “الرسمى” (جدا).
إذا كانت كاتيا هى صورة نيتوتشكا ومسقط أحلامها ورمز أمنياتها لذاتها، فماذا كانت نيتوتشكا لكاتيا؟ بدأت العلاقة كما تُصور الرواية، وكما أشرنا، بأن اعتبرت كاتيا نيتوتشكا “دمية” تملكها تريد أن تشكلها كما تحب، وغلبها حب الاستطلاع فى كثير من الأحيان لاكتشاف هذه المخلوقة المختلفة (نحيفة جدا وباكية أبدا)، ثم ثار فيها التحدى لتخطى الفجوة وترويض البكَّاءة وتأهيلها، وأخيرا تكاملت بها فاندفعت إليها بكل حاجتها إلى الصنو والرفيق والحبيب والعشيق معا.
الطفلة كاتيا تمثل الطفولة كما نتصور “نحن” كيف تكون الطفولة أو كما نأمل أن تكون (بشكل مسطح)، لكن كاتيا نفسها تعلمنا أن الطفولة ليست كذلك، وأنها اكتملت بنيتوتشكا أكثر مما رضيت بظاهر طفولتها التى وضعها أهلها فيها، و قد تعرفت على حقيقة الطفولة بنفسها من خلال استكشافها نيتوتشكا واختلافها معها وهى تمثل هذا العالم النابض المتشابك المائج الفياض، وكأنها وهى تندفع إليها إنما تندفع الى ما أهمله الأهل فيها، وما أنكروه عليها، وأعنى به عالم الطفولة الزاخر بالتناقض والتكثيف والحركة المتبادلة بين أجزائه، ويبدو أن هذا الجهل “بالطفولة” نابع من أننا ننسى طفولتنا الحقيقية خوفا من حقيقتها وإنكارا لمآسيها، فنفترض فيهم طفولة آملة ماسخة كما لو أننا نهرب فى تصوراتنا عن ما كنا نحب أن نكونه بعد أن كبرنا وفاتت الفرصة الحقيقية لنمو حقيقى. ديستويفسكى لم يفعل ذلك، فقد سافر غير هياب فى كل إتجاه، حتى أنه كاد يعتبر أن الطفلة العادية هى التى ليس فيها شئ من براءة الطفولة.
”…ثم إننى طفلة عادية جدا، ليس فىّ شئ من براءة الطفولة، (هكذا قالت الأميرة ذات يوم لسيدة مسنة سألتها هل يمكن ألا يزعجها وجودى)” (ص:127)
وكأن الطفولة العادية ليست بالضرورة بريئة (جدا) كما نحب أن نتوهم،[28] وقد اكتشفت كاتيا – ولو بصورة مخففة- أمومتها فى تطور علاقتها بنيتوتشكا، وإن كانت هذه الأخيرة لم تستعمل أمومة كاتيا لها صراحة أبدا، بل كانت أمومة موقفية، بعض الوقت، وعموما فبدايات الغرام كانت حين قررت كاتيا أن تتبناها بشكل ما:
”..فاذا بكاتيا تقترب منى فجأة وتقول:
- لم يُربط حذاؤك جيدا.. دعينى أربطه ثم انحنت وأمسكت قدمى رغما عنى، فوضعتهما على ركبتيها وأخذت تربط الحذاء، ثم قالت وهى تلمسنى بأطراف أصابعها..، والعنق غير مغطى: دعينى أصلح ربط الوشاح”.
يبدو أن ديستويفسكى يؤكد لنا من بعد آخر (من طفلة أخرى) كيف أن الأمومة[29] هى جزء لا يتجزأ من الطفولة، بحيث إنها يمكن أن تكون منبعا جديدا لفيض زاخر من عواطف هامة بناءة، وعموما فإن الأدوار بين كاتيا ونيتوتشكا كانت تتبادل بحيث تأخذ دور الأم أى منهما حسب الحاجة، وكأنهما نغمتان مختلفتان تكمل بعضهما بعضا بالتناوب تارة وبالتداخل تارة
”تجرى الأمور هكذا: يوما تأمر وأطيع، ويوما آمر وتطيع، ويوما نأمر كلتانا وتتعمد إحدانا ألا تطيع فنتظاهر بالمخاصمة، ثم نسارع الى المصالحة” (ص:189، 190)
حول دور العدل فى التربية:
يكثر الحديث حول قيمة الحب والحنان والتعليم والتحفيظ فى التربية، ويندر حول قيم أهم مثل ” العدل” و”الوضوح” و”مساحة السماح- اليقظ المسئول”، وقد عرج ديستويفسكى فى هذا العمل إلى أهمية قيمة العدل وخطورة إهتزازها بما يستأهل الإشارة، رغم أنه فعل ذلك بطريقة مباشرة، مما يقلل من القيمة الأدبية للتناول، وقد ذكرت ذلك هنا لتأكيد رؤية الأديب، حتى للقواعد التربوية- رؤية واضحة وقائمة بذاتها، فهو - مثلا – يعترض على تذبذب المواقف التى تهز قيمة العدل:
(كاتيا) “فما كان مسموحا به أمس يصبح اليوم ممنوعا..، وهكذا الشعور بالعدل يَفْسد لدى هذه الطفلة بلا إنقطاع” (ص:160)
ثم يؤكد ديستويفسكى أهمية الشعور بالعدل فى التعلم الذاتى من الخطأ.
(كاتيا) “كان إحساسها بالعدل يسيطر على كل شئ، فما أن تدرك أنها على خطأ حتى تذعن لتأنيب ضميرها…” (ص:162)
(ولا يوجد تناقض بين تقصير الأهل فى تأكيد قيمة العدل، وبين تعويض الطفلة كاتيا لهذا التقصير بالتزام منقذ)
مثال آخر لما يعلمنا إياه ديستويفسكى حول هذه القيمة، هو أهمية العدل بمعنى “الحق المتساوى فى معاملة المثل”، وأن الشعور بهذا الحق، حتى ولو لم يستمر، هو بناء هام: (نيتوتشكا) “كان الحزن يمزقنى تمزيقا، ثم أخذت فكرة العدالة تذر قرنها فى نفسى الجريحة، وأخذ يجتاحنى شعور بالاستياء والاستنكار وخالجنى فجأة نوع من العزة” (ص:168، 169).
[أى سبق حقيقى: رغم المباشرة !!!]
التهديد بالترك… والاحتماء بالانزواء:
اذا ما كانت نيتوتشكا فى هذه المرحلة قد عوملت باعتبارها دمية رقيقة أساسا، وهى تحمل تاريخا زاخرا باهتزاز الضياع وآلام الترك (بالموت أو العدو أوالجنون)، فإن لنا أن نتوقع جذور”اللا أمان” غائرة تفسر تفَجُّـر العواطف الذى لا ينقطع، والذى يتبادل مع الانزواء السلوكى بعد الإحباط أو خوفا من الإحباط، كذلك هو يفسر الإقدام المندفع: “لهفة فى البقاء بجوار”، مع الحرص الشديد على الاسترضاء خوفا من الترك.
”وكانت أول فكرة راودتنى عندئذ هى أننى لن أنفصل أبدا عن كاتيا” (ص:144)
”وكان واضحا أنها تريد أن تفعل كل ما تستطيعه لإدخال السرور إلى نفسى، بغية أن تتخلص منى بأقصى سرعة ممكنة وعلى أحسن نحو” (ص:148)
وقد يصل الأمر فى تصعيد الخوف من “الترك” الى “السعى الى الترك”[30] مع شكر التارك أو مباركته[31] ولو بأمنية غامضة أو افتعال أسبابه ولعل الانزواء (والتجنب) هو أنجح الأساليب للانسحاب بعيدا عن هذا الاحتمال أصلا، وقد غلب هذا الأسلوب عموما فى هذا الجزء الثانى، ليس على نيتوتشكا فحسب، بل على غيرها لأسباب مختلفة، أما نيتوتشكا:
”فلما تذكرت أمى فاضت عيناى بالدموع، وانقبض حلقى ووددت لو أهرب، لو اختفى، لو اختبئ” (ص:126)
”ولكنى كنت من خوفى أن أزعجهم أوثر تجنبهم، والذى كنت أحبه أكثر من كل شئ آخر هو أن أنطوى فى ركن من الأركان لا يرانى فيه أحد وراء قطعة من الأثاث غارقة فى ذكرى ما وقع لى” (ص: 127) (لاحظ الانسحاب هنا من المكان والزمان معا).
أما غير نيتوتشكا فيكفى أن نشير الى ”المنزويات الثلاث” وهن عمات الأميرة: واحدة عذراء فشلت أن تستمر فى الدير، والثانية أرملة فى تدهور صحى مستمر والثالثة مسجونة فى ظاهر تقاليد مفرغة من أى نبض حيوى
”كان المجتمع الراقى كله فى المدينة يشعر أنه مضطر لزيارة المنزويات الثلاث” (ص:129)
ثم انظر كيف وصف ديستويفسكى جانبا من هذا الانزواء المتعالى بأنه مشوب بنوع من “الضجر الوقور”
حول الحبس الانفرادى كانزواء استعدادا للقاء:
إن دلالة عقاب نيتوتشكا بحبسها لمدة ساعات حبسا إنفراديا فى حجرة مخصصة لذلك كان يحمل فى طياته نوعا من الرضا بالحبس، وكأنه يحقق رغبة داخلية وجدت تعبيرا لها من خلال التصدى للعقاب باتهام نفسها بدلا من حبيبتها كاتيا، وهذا الانزواء كان يحقق بالإضافة تعميقا لشعور التضحية والقربان الذى قدمته والذى أرضى حبيبتها لدرجة السعادة بالفراق فى انتظار اللقاء المرتقب، ومرة أخرى – بالمناسبة- يفاجئنا ديستوفسكى واصفا مشاعر الطفولة بما لا نتوقع، حيث تصف كاتيا شعورا مكثفا نحو حبيبتها التى دخلت “السجن” بدلا منها (ثم نسوها أكثر من الساعات المقررة).
كاتيا: “لم يسعدنى أنك اتهمتِ نفسك، وانما أسعدنى أنك فى السجن نيابة عنى، هل تفهمين؟ قلت فى نفسى: إنها تبكى بينما أحبها أنا كل هذا الحب، غدا سأقبـّلها، نعم سأقبلها كثيرا.. والحق أنى لم أشفق عليك، لم أشفق عليك أبدا أبدا، ومع ذلك فقد بكيت” (ص:188)
ما أسهل أن يسارع ناقد “نفسى” يحكى لنا عن السادية واللذة الجنسية التى لا تتحقق الا بالتعذيب، وما أسطح ذلك وأغلطه، فالعاطفة هنا أقرب إلى الواقع الطبيعى من تصوراتنا الاستقطابية، كل ما فعله ديستويفسكى أن أظهرها كما هى (ربما عند أىٍّ منا) لا كما نحب أن تكون، وتجاوب الطفلتين مع بعضهما البعض للتكامل والتداخل هو التفسير المباشر لهذا الظاهر الذى يبدو وكأنه غير ما ألفنا، وفيما يلى بعض الفروض التى وصلتنى من ديستويفسكى فى هذا الصدد:
1- إن السجن لنيتوتشكا كان “أمانا” و “اختيارا” و “توحدا”.
2- إن كاتيا “ضمنت” حبيبتها فى متناولها لوقت محدد المعالم.
3-إن الطفلتين أكملتا مشاعر بعضهما البعض فى تكامل نغمى وكأنهما نفس واحدة.
4- إن هذا البعد الاضطرارى مع اليقين باللقاء الموقوت يعمق الغرام ويدعمه.
5- إن “عدم الشفقة” مع “عـِـظم الحب” فى أرضية باكية ينبه الى أن الشفقة فيها استعلاء لا ينفع فى مثل هذه المواقف الأصدق.
نقلة:
بهذه الإشارة التى تُظهر إلى أى مدى وصلت علاقة الطفلتين نستطيع أن نعلن أن الطفلة الدمية لم تعد كذلك، بل أصبحت الطفلة النغمة المتكاملة مع نغمتها الأخرى، فولدت نيتوتشكا ذاتها فى رحاب “صنوها” (وليس من رحم أمها)، ولدت من جديد، لتبدأ من جديد، ولو لم تتحقق هذه الولادة لما استطاعت أن تستوعب الأمومة الحقيقية التى أتيحت لها فى الجزء الثالث من هذا العمل، بمعنى أنه لو ظلت جرعة الحرمان بنفس حدتها، والتزام الأمومة بنفس الحاجة، ثم عرضت عليها أمومة تعويضية جديدة، لما استطاعت أن “تستقبلها” أصلا مهما كانت صادقة وغامرة، فما حدث من رأب فى الجزء الثالث كان بفضل ما تهيأ له من إعداد فى الجزء الثانى .
“الجزء الثالث: الطفلة الطفلة
(ثم الطفلة الأب)
دعونا نبدأ الآن بنهاية الفقرة التى أنهى بها ديستويفسكى الجزء الثانى:
“وهكذا وجدتنى فى ذلك المساء فى كنف أسرة أخرى فى منزل آخر بين وجوه جديدة، وانتزع من قلبى مرة ثانية، كل ماكان عزيزا على، كل ماكان قريبا إلىّ، لقد وصلت إلى هذا المأوى الجديد وفى نفسى غم عميق” (ص:197).
ولادة بكل معنى الولادة، انتقال من مأمن كادت تتضح معالمه وتثبت أركانه الى عالم مجهول زاخر، انتقال من” شئ يتخلق” الى” كيان يتحس، كان الانتزاع الأول من بيت الشقاء الى بيت التحف الذى دبت فيه الحياة مؤخرا، ثم جاء هذا الانتزاع الثانى من المأوى المحدد الى الجديد المرتقب، فكان أول تفاعل لهذا الانفصال الجديد هو هذا الغم العميق (وكأنه صدمة الولادة عند أتـُورانك: إذ هى فى حقيقتها صدمة الانفصال): فهى المراهقة: الولادة الجديدة.
الطفلة تعثر على أمها:
فجأة تجد نيتوتشكا نفسها مع أم بكل معنى الكلمة، بل إن هذه الأم الجديدة تتميز بأنها أيضا طفلة رغم سنها، طفلة لكنها تحمل من الأحزان والشعور بالمسئولية والقدرة على العطاء ما غطى احتياجات نيتوتشكا وأعفاها لفترة طويلة من تبادل الأمومة معها. ذكرنا قبل ذلك أن الذى يحدد الدور الوالدى هو التناسب بين الاحتياجات: والقدرات: والرؤية: بين كيانين متفاعلين (بغض النظر عن السن) أُم نيتوتشكا الجديدة (أو: الوحيدة) هى إبنة الاميرة من زواج سابق، وهى ألكسندرينا ميخائيلوفنا، ذات الثانية والعشرين عاما لا أكثر”.. ناعمة رقيقة ودودا، يظلل وجهها نوع من الألم الخبئ” (ص:196) ويبدو أن هذا الألم هو من مسوغات تعيين الأمومة، ولكنه لم يكن كافيا لإخفاء معالم الطفولة”، على أن الوقار والرصانة لم يكونا يوافقان ملامحها الملائكية الجميلة أكثر مما توافق الطفلة ثياب الحداد”(ص:196)- ومنذ البداية نكتشف أن ألكسندرينا هى أحدى مؤسسات “نادى المنزويات” العتيد “.. وهى لاتحب أن تزار أو تزور، بل تعيش حياة عزلة وانزواء” (ص:196).
وتغرى أمومة ألكسندرينا نيتوتشكا بأن تبدأ من حيث توقفت:
إعادة اعلان اليتم:
وكما اكتشفت نيتوتشكا يُتْمها بعد انتقالها من “نار الشقاء” الى “جنة الأشياء” حيث عاشت دمية دبت فيها الحياة أخيرا، فإن يـُتمها عاد يعلن نفسه مع هذه النقلة الجديدة وهى ترتمى فى أحضان أم جديدة أم حقيقة تعرض عليها التبنى (لا التملك).
“… وطوقتنى ألكسندرينا ميخائيلوفا بذراعيها، وسالتنى هل أحب أن أعيش فى بيتها، وأن أصبح ابنتها “(ص:196).
فتأملتها لحظة، وعرفت فيها أخت كاتيا:
“.. فاذا بى أرتمى على عنقها منقبضة القلب كأن احدا دعانى مرة أخرة بكلمة يتيمة” (ص:196).
تسلسل المشاعر هكذا إنما يؤكد على أن أمومة “كاتيا” المتقطعة التى أشرنا اليها حالا هى التى مهدت لتقبل أمومة ألكسندرينا.
المراهقة الولادة – ودور الأم: ولكن ثمة فروقا بين الأمومة الأولى والأمومة المطلوبة للمراهقة، فالغذاء فى المراهقة ليس لبنا، والتواصل الرمزى (الكلام) أصبح سياجا حائلا كما أصبح فى نفس الوقت حبلا سريا حسب الأحوال، والوعى بالحاجة إلى الأمومة شديد ومزعج ومعطل فى أحيان كثيرة.
“ارتميت فى أحضان هذه الأم الرؤوم” (ص: 200).
الأم فى المراهقة ليست منبعا فقط ( مثل أم الطفولة) ولكنها مصب أيضا (وأحيانا هى مصب: قبلا) – وهكذا يعلمنا ديستويفسكى مما كانته ألكسندرينا ومما فعلته، كانت “منبعا” للمعلومات والعواطف:
“… كانت تعلمنى أشياء كثيرة وافرة دفعة واحدة، فكان ذلك يدل من جانبها على حماسة حارة” (ص:208).
ثم كانت مصبا جاهزا لأنه مواكب للمجرى الأصلى طوال الوقت:
” كانت لى أما وأختا وصديقة، أو كانت بمثابة مصب لجميع ما اشعر به من عواطف الحب”.
والأم “المصب” هو ما يعنيه” الصمت المنصت”و”السماح المسئول” و”التقبل للتناقض” و”تحمل الغموض”، فليس معنى “المصب” مانبدى من ظاهر الاستماع المسطح والمبادرة بالتفسير( بما لا نعرف) وادعاء إعطاء الحرية والاستقرار الجامد على معتقدات ثابتة نحاول نقلها الى الجيل اللاحق، فهذا قالب ( نمثله رغم ادعاءاتنا) نصب فيه وجود أطفالنا (لا نتلقاهم) لنشكلهم على شاكلته، وليس مصبا نتلقى فيه اكتشافاتهم فنكتشف بها – معهم – بقيتنا!! ديستويفسكى يعلمنا ذلك ونيتوتشكا تعترف مباشرة – ربما أكثر من اللازم – بهذا الدور الذى قامت به ألكسندرينا، فتعلى به مقام “دور الأم”: “… هذا الحب الذى شاء أن يقوم بوظيفة نحوى إلى آخر درجاته، الى درجة حب الأم” (ص:219).
قامت أم المراهِقة هنا بدور ما هو “منبع” و” مصب” معا فهى مواكبة طول الوقت، وهى مشاركة حقيقية بمعنى التجدد والتعلم، وليس فقط التعليم والتفسير، وهذا ما كان:
“… إلا أننا أخذنا بعد ذهابه (ذهاب المدرس) نتعلم التاريخ – أنا وألكسندرينا ميخائيلوفنا – على طريقتنا الخاصة، فكنا نأخذ كتبنا، ونظل نقرأ أحيانا إلى ساعة متأخرة من الليل، والأصح أن ألكسندرينا هى التى كانت تقرأ، لأنها كانت تراقب ما نقرأ” (ص:211).
على أن القراءة ليست هى الحياة وانما هى إعداد لها بحساب دقيق:
” كنت من فرط محاولتى الفهم قد فهمت كثيرا عن الحياة، قبل أن ابدأ الحياة” (ص: 212).
ديستويفسكى هنا يميز بين فك الخط ومحو الأمية، وهو يؤكد ضرورة كل من التقدم “فى السن وفى الوعى معا” (ص:211) لأن مجرد التقدم فى السن وحده ليس نموا، وهو يشير إلى توظيف القراءة فى تعميق الوعى وفتح الآفاق وليس للإكثار من “المعلومات” والابتعاد بها عن الواقع، ولكنه فى كل هذا، وفى هذا الجزء الثالث جميعه قد لجأ الى “المباشرة” بإفراط (!!)، حتى أن القارئ ليكاد ينسى أنه يحكى على لسان مراهقة، وإنما على لسان أستاذ فى التربية، بل أحيانا كان يعطى دروسا فى العلاج رغم عظمتها فإنها تكاد تنفِّر من فرط صراحتها:
“وكثيرا ما كانت تدور بيننا مناقشات حادة فأحاول أن أبرهن بصراحة على صحة آرائى دون أن أدرك أن ميخائيلوفنا هى التى تقود خطاى فى هذا السبيل… الخ” (ص: 209).
ومع ذلك، ورغم المباشرة فقد كان يكشف عن مجاهل فى النفس قد تغيب عن النفسيين علماء وأطباء ومعالجين، فضلا عن العامة، ومن ذلك تأكيده على “عاطفة الاحترام” و”ضرورة الجِد”- الحقيقى – مهما آلَمَ، لقد شبعت نيتوتشكا شفقة ورعاية فى القصر الحزين الوقور، شفقة ورعاية مثل التى منحوها للتحف والعاديات والكلب ” فالستاف”، ولكنها عند ألكسندرينا حصلت على شئ آخر:”أقول أكثر جِـدًّا” (ص:209).
“لأن طفولتى البائسة كانت توقظ فى نفسها، فضلا عن الشفقة، نوعا من الاحترام”(ص:20.9).
الخروج من الطفولة:
خرجت نيتوتشكا من الطفولة إلى المراهقة (الطفولة الجديدة)، ولكنها اضطرت للقفز الى الأبوة المسئولة باختيار رائع، أما خروجها من الطفولة فلم يبخل ديستويفسكى أن يعلنه هكذا مباشرة (أيضا):
“… إن مشاعر جديدة تتكون وأنا أخرج من مرحلة الطفولة: صرت أبحث وافترض وأستنتج”.
يقولها هكذا وكأنه”جان بياجيه” الذى وصل إلى مثل هذا بعد عمر طويل من البحث والملاحظة، ويصاحب هذا الخروج من مرحلة الطفولة ثلاثة اتجاهات على الأقل:
أولا: الاقبال النهم على القراءة “المستقلة” والتى بلغت فى معايشتها لها ما جعلها تتصور أنها عاشت ما تقرأه من قبل:
” لقد كانت كل صفحة أقرؤها تبدو لى شيئا أعرفه “(ص: 217).
ثانيا: التمادى فى الخيال:
“كانت تضطرم فى نفسى نبوءة حقيقية تجعلنى أؤمن بمستقبلى..” ” إلا أن خيالى كما قلت كان يغلب اندفاعى فكانت جرأتى فى الواقع لا تتعدى أحلامى” (ص:217).
راح ديستويفسكى يعلمنا وهو يربط بين القراءة والخيال، ويستنتج منهما القوانين بشكل مباشر صعب فى آن مثل:
“أجد فيه قانونا نفرضه على الحياة الإنسانية، روحا واحدة هى روح المغامرة، قانونا مشتقا من قانون أساسى آخر هو شرط السلامة والخلاص والسعادة؟ لقد كنت أتحسس هذا القانون، وكنت أحاول أن أحذره بكل ما أوتيت من قوة، بكل الغرائز التى كان يوقظها فى نفسى الشعور بنوع من الحماية” (ص:217).
لابد من ملاحظة هنا أن الغرائز يسمح لها باليقظة تحت مظلة حامية من الحذر والوعى، وأن جدل – المغامرة óالسلامةً – هو أعظم ما يتم على مسار النمو الحقيقى. هذا التداخل الدقيق قد يمر على أى قارئ مرورا عابرا، أو قد يعتبره يتجازه ناقد أكاديمى، إلا أننى أكاد أجزم باختيار ديستويفسكى كل لفظة فيه بمنتهى المسئولية، فقط.. إن المباشرة مزعجة لدرجة عدم تصديقها إلا باعتبارها معرفة تقريرية لا تيارا للوعى الدرامى.
“هذا العالم (عالم الخيال) الذى ليس للشقاء فيه – إن وجد – إلا دور سلبى، دور مؤقت، دور لابد منه للتناقضات الممتعة” (ص:118).
ماذا تبقى ليعطينا درسا فى الجدل الحيوى بعيدا عن السرد الروائى؟ حتى لو تم على حساب السرد الروائى أحيانا.
ثالثا: الحياة الداخلية وتزايد السرية:
مع نمو الخيال الخاص، وتزايد القراءة المستقلة، ومغامرات الاكتشاف، تنبنى الحياة الداخلية كعمود محورى للذات، ليس شعوريا تماما، فهو ثروة خاصة يمسك بناصيتها صاحبها، يخفيها بخاطره، ويحافظ عليها من عيونهم:
“هذه الحياة: سرى المكنون، الخفى، أخشى عليه أن يُكتشف.. حتى لقد صرت أخشى أية نظرة يلقيها علىّ أحد مخافة أن ينفذ إلى أعماقى ويكشف سرى: وعشت حياة داخلية غنية” (ص:218).
هكذا يعلمنا ديستويفسكى أنه بقدر حاجتنا الى” الشوفان” فنحن نحتاج الى “السرية” و” الستر”، إننا يمكن أن نعد هذه الحاجة الى ” السرية” حاجة أصلية جديدة، وأن التوازن بين هاتين الحاجتين والتبادل بينهما (الحاجة إلى الشوفان فى مقابل الحاجة إلى التغطية – السر الخاص-) هو من أهم موازين الهارمونى الصحى، وأحسب أن هذا التوازن يساهم فى تحديد حركة الابتعاد والاقتراب من الآخرين، ومن ثم، فقد كان الابتعاد المتبادل بين ألكسندرينا ونيتوتشكا ضروريا:
” كان يلوح لى أنها تبتعد عنى بقدر ابتعادى عن الطفولة”(ص:219).
وترتب على هذا الابتعاد المتبادل أن أصبح لكل منهما سره الخاص:
” فلما أصبحنا سريين…. لم نتقارب بعد ذلك أبدا”(ص: 219).
الاضطرار للأبوة:
ابتعدت نيتوتشكا عن ألكسندرينا حذرة ثم تبرما : “حتى تطور حذرى منها الى تبرم ثقيل” (ص:219) ولكن ذلك لم يعن أبدا نسيان جميلها أو نسيانها أو التوقف عن التعاطف معها أو التفكير فيها ثم تحمل مسئوليتها لما آن الأوان. هنا يجدر بنا أن نشير الى مقاومة الوالدين – عادة – لهذه الخطوة الانفصالية نحو السرية، نظرا لصعوبة تصورهم أن الابتعاد والتبرم لا يعنى بالضروة الهجر والانفصال عنهما، وإنما هو يتيح حركة التقدم والتأخر بمرونة أكثر فأكثر لتحمل مسئوليات جديدة بقدرات جديدة، ليس فقط نحو أنفسهم وإنما أساسا نحو من تركوهم من الأهل تبرما وثورة معا. ديستويفسكى يعلمنا ذلك، لأن ابتعاد نيتوتشكا حتى الضجر دفع بنموها ووعيها إلى درجة اكتملت فيها رؤيتها لزوج أمها الجديدة، وخاصة بعد اكتشاف براءة المتهمة وإصراره على امتلاكها بمواصلة التأثيم المستمر واصطناع الرأفة والعفو.
لقد كان لنيتوتشكا زوج أم أولى “يافيموف” لم تستقبله إلا باعتباره أباها ولم تعامله إلا باعتباره إبنا لها، أما زوج أمها الجديدة المدعو بطرس الكسندروفيتش فهو لم يمثل لها من أول لحظة إلا “غريما خبيثا” بشكل ما:
“… قد أوحى إلى زوج الكسندرين ميخائيلوفنا من أول نظرة بشعور مؤلم لم تزده السنون الا تفاقما” (ص:201).
“وكان فاتر المزاج قليل الكلام لا يجد موضوعا للحديث حتى يخلو إلى زوجته، كان كأنما يزعجه وجود شخص آخر إلى جانبه” (ص:201).
هذا النوع من الشخصيات يبدو انطوائيا لأول وهلة، وهو كذلك، لكنه لا يحقق انطوائيته بالابتعاد وإنما باستعمال الآخرين من “الظاهر”، وتحديد أدوار من حوله بأساليبه الخاصة. هذه الشخصية، بذلك التعويض إنما تندرج تحت نوع من الشخصيات التوجسية الحذرة، وقد حددت هذا النوع من العلاقة الذى تمارسه مثل هذه الشخصيات تحت اسم الايهام بالذنب (التأثيم)[32]. على حد علمى لم يسبق وصف هذه العلاقة وصفا مباشرا حيث كان – ومازال – الشائع دائما هو ما يعرف بالشعور بالذنب، دون الاهتمام بدرجة كافية بالإذناب أو التأثيم الذى وصفه ديستويفسكى هنا بكل دقة:
1- “وكان زوجها يذعن لرغبتها أحيانا (فى سماع قطعة موسيقية وصلتها مؤخرا أو رأيها فى كتاب جديد قرأته… الخ) بل قد يمضى إلى أبعد من ذلك فيبتسم ابتسامة كريمة سمحة ! غير أن هذه الابتسامة كانت تزعجنى حتى أعماق نفسى (لا أدرى لماذا) كما كانت تزعجنى بدورها أوضاع الانقياد والذل من جهة الزوجة” (ص:203،104).
2- “… وينظر إلى امرأته الفزعة، على حين غرة، نظرة تعبر عن الرحمة والشفقة فأرتعد أنا – كأن هذه الشفقة تنصب على، وكأن شعورا بالعار يغشانى أنا أيضا“(ص: 204).
(لاحظ القدرة على الإيهام بالذنب… حتى لغير ذى شأن بالحادث الأصلى المقصود).
3- ” وكان الزوج – أخيرا – يضع لهذا الموقف حدا إذ ينهض من مكانه، ويبدو كأنه يحاول أن يخنق فى نفسه كل حنق وكل انفعال، ثم، بعد أن يدور فى الغرفة عدة مرات، فى صمت حزين، يصافح زوجته ويزفر زفرة عميقة، ويقول بضع كلمات موجزة مضطربة كأنه يحاول أن يواسى زوجته، ثم يترك الغرفة… فتنفجر ألكسندرين ميخائيلوفنا فى بكاء سخين، أو تغرق فى حزن رهيب لا ينتهى، وكان فى بعض الأحيان يدعو لها وهو يرسم إشارة الصليب” (ص: 204).
4- ثم يطفق أخيرا يبكى معها،إلا انها كانت تنتفض فجأة انتفاضة من تيقظ ضميره وشعر أنه ليس من حقه أن يُغتفر ذنبه (أنظر الى أى مدى دخل بداخلها)، كانت تهولها دموع زوجها، فإذا هى تزداد لوعة واضطرابا ونحيباً فترتمى على قدميه تسأله الغفران وسرعان ما يجود عليها به” (ص:205).
5- هذه الشفقة المتلبسة التى يشعر بها نحو زوجته المريضة[33].…. وهذا القلق الذليل من جانب ألكسندرينا ميخائيلوفنا (ص:206).
هذه الشخصية المؤثِّمـة وصلت إلى نيتوتشكا بكل أبعادها حتى شكت فى صدق” الحكاية” قبل اكتشاف” سر البراءة” فى الرسالة الرقيقة التى عثرت عليها صدفة فى أحد الكتب فى المكتبة، كل ذلك يحدث جنبا الى جنب مع نضجها وابتعادها بعالمها الداخلى عن ألكسندرين الأم، بما يصاحب ذلك من زيادة وعيها بالقراءة بعد أن شبعت جزئيا من أمومة مواكبة حقيقية مما هيأها أن تواجه هذا الزوج بكل قوته وقسوته وكأنها مسئولة عن ألكسندرينا، تواجهه كوالد حازم يعرف ما يقول وما يترتب على ما يقرر، بكل الصراحة تعلنه رغم خوف ألكسندرينا وتوسلاتها:
” لعلك أردت أن تبرهن على تفوقك، أن تسيطر على زوجتك، ولمن لماذا؟ لكى تظفر على ما يسكن رأسها من أشباح؟ لكى تسيطر على خيالها المريض؟”. الى أن قالت فى حزم الوالد المسئول:
“اعفنى من إيضاحاتك، ولكن انتبه، أننى أعرف حق المعرفة، أننى أقرأ حقيقتك فى نفسك، لا تنس هذا” (ص:283).
فلنعرف هذا تمام المعرفة، أن ديستويفسكى يقرأ حقيقة أنفسنا، وها هو يقرؤنا اياها، فهل نفعل؟. هكذا بدأت نيتوتشكا “أما” خائفة وانتهت”أبا” مسئولا مارة بدور الدمية فالطفلة فى رحلة يكاد لا يعرف مسالكها –هكذا- إلا هو، ومن يحاول معه، ومعنا.
لم أتطرق الى جوانب كثيرة من عطاء ديستويفسكى فى هذا العمل العظيم[34] مكتفيا بهذا البعد المحدود حول الطفولة وهوامشه الموجزة ولتأكيد جهلنا بماهو طفولة سأواصل عرض البطل الصغير فى ايجاز حتى نرى ما يمكن:
من قصة البطل الصغير
اللعب بالطفولة: والأطفال
يتكرر فى قصة البطل الصغير التى قدمنا موجزها فى البداية معنى هذا النداء المتحدى “ايها الكبار أنتم لا تعرفوننا”. تبدا القصة بهذا الاعلان:
“.. ولا شك أنى لم أكن إلا طفلا” (ص:581)
ظل بطلنا الصغير يرفض من البداية كل الميزات التى (المفروض أن) يتمتع بها الأطفال، لأنهم لا يعرفون (ربما مثلنا) حقيقة ما هو طفل وطفولة:
” كان يحرجنى، بل يهدنى هدا ما كنت أتمتع به من ميزات يتمتع بها الأطفال”(ص:586).
“الامتيازات التى كنت أتمتع بها قد أخذت تهيننى” (ص:587).
لنتأمل سويا هذا المنظر الذى يذكرنا بالمثل الصينى الذى يصف الأطفال وهم “يقذفون الضفادع بالحجارة وهم يمزحون ولكن الضفادع تموت جدا لا هزلا”. الكبار هنا هم أطفال المثل الذين يتعابثون بطفولة بطلنا الصغير الذى يمثل ضفادع المثل.
بعد دعوة للجلوس على ركبة الشقراء العابثة مما أدخل على نفسه الاضطراب والارتباك وهى تمسك بيد ضحيتها فى غباء عابث ثم لا تلبث أن تترك يده وتتحول عنه كأن شيئا لم يكن، لا تشعر بالإمساك ولا تشعر بالترك:
“مثلها مثل التلميذ الذى كان يلطم بقدمه رفيقا له أضعف منه من وراء ظهر المعلم، فما أن هرع المعلم نحو مصدر الضجة كالعقاب حتى تحول المعتدى عن ضحيته ساخرا، واصطنع هيئة من لم يفعل شيئا، وعاد الى كتابه مستغرقا فيه” (ص:590).
ثم هو يعلن رؤيته لهم أوضح وهو يصف قبلاتهم الباردة المعتادة:
“وهن يضرعن إلىّ بصوت واحد أن أفتح لهن الباب حالفات أنهن لا يردن بى سوءا وأنهن لا يرغبن إلا فى إغراقى بالقبل، وهل هناك تهديد أشد هولا من هذا التهديد؟”(ص:606).
الشـئ الخام يتكون باستمرار: الفطرة النامية.
يوجد فى الأطفال شئ خام، شئ يتكون، شئ أكيد وجوده، ولكنه ليس أيا مما نصفه به، هو الحياة، أو مشروع الحياة، أو سر الحياة، ليس البراءة أو السذاجة أو سرعة الانفعال، هو أقرب الى “غريزة الدهشة” و “حفز النمو” و”الخوف من الخطوة التالية” و”الحزن الخفى”، ومن أعجب العجب أن أطباء النفس وعلماءها لا يحبون أن يعترفوا بحزن الأطفال مباشرة، وهم يميلون الى أن يترجموه إلى “التبول اللا أرادى” أو “الخوف من المدرسة” أو “صياح الفراق” أو “هزال الجوع”. بطلنا الصغير هنا يبحث ليتعرف على “هذا الشئ” ويواصل وصف “ذلك الحزن”، ربما يفعل ذلك بأثر رجعى حين يتذكر كيف : “.. كانت هذه العواطف جميعها تجرى تحت سطح الشعور من نفسى” (ص:594)، وهو يعلننا أنه: “.. وكنت بعد كل هذه الأحداث التى وقعت أشعربضيق وأتمنى أن أصعد إلى غرفتى لأتامل على مهل، ولأرى المشاعر التى كانت تزدحم فى نفسى بشئ من الوضوح” (ص:617) فهى تحت الشعور، ولكنها قريبة.
عن ذاك “الشئ” يقول البطل الصغير:
“… غير أن هناك شيئا ما، شيئا لا يُعرف ولا يحدد كنت أخشاه وأرتعش فرقا متى تصورت أن ينكشف، كنت أجهل حتى ذلك الحين هل يجب اعتبار ذلك الشئ حسنا أو سيئا.. هل يجب اعتباره مدعاة فخر أو مدعاة خزى.. هل يجب اعتباره أمرا محمودا أو أمرا مذموم، وهأنذا أكتشف منذ برهة – على ألم وعذاب – ان هذا “الشئ” مضحك ومعيب، وشعرت فى الوقت نفسه بغريزتى أن حكما كهذا الحكم خاطئ غير انسانى… وكنت عاجزا عن الاعتراض على هذا الحكم القاسى”(ص:606-607).
هكذا يسير بنا ديستويفسكى من التغميض الى التنوير إلى اليقين، ثم يعود الى التشكيك فالتراجع العاجز، ومن السهل أن نتصور أن هذا الشئ هو تسحب الغريزة الجنسية من الداخل ومحاولة إخفائها فى نفس الوقت، لكن الأمر يبدو أكثر تعقيدا وتداخلا، فالشئ هنا هو” الداخل غير المسمى” الدافع للإقدام الرافض للتعرى فى نفس الوقت، وهو يشمل الجنس والاستطلاع والعدوان جميعا.
يحب طفلنا السيدة (م)، وحين يشك بعد دعابة قارصة “أنهم” عرفوا سره، يكاد يتيقن أنه هو ذاته لا يعرف هذا السر، وحين يدمغه بالعار يعود فيرفض كونه عارا ومعيبا، ولكنه لا يستطيع أن يدعم رفضه بدفاع مناسب.
” إننى منذ تلك السن كانت تجتاحنى عاطفة لا تعليل لها فى نظرى، وكان شيئا مجهولا لا عهد لى بمثله يمس قلبى ويحرقه”(ص:586).
عواطف الأطفال وتميز “هذا الشئ”:
إحين يكون هذا “الشئ” “السر” وهو “المزيج الداخلى على وشك التميز؛ والارتباط بالعالم الخارجى فإنه سوف يتشكل تدريجيا فى عواطف متنوعة لكنها غير منفصلة تماما، وهى متبادلة بالضرورة، ولسوف أطرق باب بعضها فى عجالة بحيث نصاحب رؤية ديستويفسكى المنيرة لهذا الجانب الغامض من وجودنا، والذى نزيده تجهيلا بما ندعى معرفته عنه, ومع أن نفس الخطوات هى ما نتابعها فى نمو الطفل أثناء سنيه الأولى، أى من اللاتميز(الشئ) إلى التميز، إلا أن الأمر فى المراهقة (أو قبلها) يأخذ شكلا آخر إذْ يتدخل عامل الوعى بما يحدث فى عملية التطور والنمو، وسأكتفى هنا ببعض العواطف الواردة فى النص مما يحتاج الى إيضاح لما جاء حولها وإليكم بضعة أمثلة:
1- غريزة (عاطفة)- الدهشة:
نادرا ما يخطر بببالنا أن الدهشة غريزة، علما بأنها أم الغرائز لأنها الدافع الذى نكتشف به العالم، وهو دافع بقائى مثل الجنس والعدوان، بل إنه دافع قبل الجنس والعدوان حيث التصرف خطوة مبدئية ضرورية تحدد موضوع الجنس والعدوان عادة، ثم إنها هى الدافع الذى سيظل يرتقى حتى يمثل الدافع الى المعرفة فى أعلى صورها فى شكل البحث العملى والإبداع عامة، وربما يرجع إهمالنا لها لخوفنا منها بعد أن وصلت حياتنا إلى كل هذا الركود، ووصلت معتقداتنا إلى كل هذا الجمود. لكن ديستويفسكى يذكرنا أن هذا لا يصح؛ وهو يتكلم عن “الشئ” ربما لنربطه بحديثه عن الاستطلاع والدهشة:
” لست أفهم شيئا من هذا النهم المضحك إلى الاستطلاع، كل ما أتذكره أن مشاعرى فى ذلك الصباح قد أثرت فى نفسى وأغرقتنى فى دهشة غريبة” (ص:603).
2- غريزة (عاطفة) العدوان:
يبدو أن ديستويفسكى كان له موقف خاص من العدوان فى مرحلة تطوره الباكرة التى نحن بصددها، فهو فى هذا العمل يخافه حتى لا يراه إلا محَّورا بشكل أو بآخر[35]، وهو يرسمه خارجا عن الطفولة أصلا (فالستاف ونيتوتشكا)، وهو يجعله عدوانا مضمرا فى شكل أمنيات القتل (يافيموف ونيتوتشكا: تجاه أمهما)، وحين واجهه فى البطل الصغير جعله فى شكل مداعبات قاسية وإهمال جارح من جانب “الشقراء” القاسية أساسا، أما فى شكله الصريح فقد أورده فى مشاعر الحصان[36] وخدم الإسطبل أساسا (وكلاهما عبر عن صاحب الحصان بطريق غير مباشر):
“وكأن مشاعره ( صاحب الحصان) كانت تنتقل الى خدم الاصطبل الذين كانوا يشعرون بزهو شديد لأنهم سيفرضون على المشاهدين حصانا قادرا على أن يقتل إنسانا بغير سبب” (ص:609).
أما الحصان فهو:
“مثله مثل الشرير الذى لا سبيل الى إصلاح خلقه والذى يعتز بما يقارف من أعمال أجرامية” (ص:609).
3- حزن الأطفال:
حزن الأطفال، هو – كما أشرنا – شعور خفى متداخل، ثم إننى لا استطيع أن اعتبر الحزن بالذات من الغرائز الأولية مثل الدهشة والعدوان، هو عاطفة مركبة بالضرورة، وهو يتعلق بمحاولة الاقتراب والانسحاب من الاخر معا، وبتفاعل معين نحو صورة الذات يصل إلى مستوى الشعور، وسوف نحاول أن نرصد حزن بطلنا الصغير سواء الذى شعر به هو ذاته، أو الذى رآه فى الآخرين.
أما كيف واجه بطلنا الصغير حزنه شخصيا فنسمعه معاً:
(أ) “فى بعض الأحيان أعتزل المجتمع بتأثير حزن مبرح” (ص:586).
(ب) “.. شعرت بقلبى ضعيفا مقروحا فى قسوة فكنت أسكب دموع العجز..، أنى مهتاج النفس أغلى استياء وغضبا لا عهد لى بمثلهما من قبل، ذلك أن هذا الحادث[37] كان أول حزن كبير أصابنى” (ص:607).
(جـ) “وقفت على درجات المدخل متألما من هذه المصيبة الجديدة أنظر حزينا كئيبا الى موكب العربات” (ص:608).
(د) ” وكنت على وجه الخصوص حزينا حزنا رهيبا، مازلت أتذكر ذلك”(ص621).
“الطفل يحزن”، هكذا يعلمنا ديستويفسكى، وعلينا أن نتعلم منه ونراجع عبث معرفتنا عن الحزن عامة وعن حزن الأطفال خاصة. (وصوف سنرجع الى مناقشة ذلك). بطلنا الصغير يرصد الحزن فى الآخرين، ولا يرصد حزنا (أو غيره) إلا من يعرف ويعايش ما يرصد، ومن أمثلة ذلك:
(أ) إن عينيها الواسعتين المتلئتين نارا وقوة حزينتان (ص: 592).
(ب) إن هذا الخوف الغريب يسكب على وجهها الهادئ هدوء عذراء إيطالية، ويضفى عليه أسى وكآبة يبلغان من القوة أن الحزن يتسرب الى نفس من ينظر إليها ويتأملها(ص:592) ” ألم أقل ذلك؟”
(جـ) ” كانت ذاهلة، وكان يبدو عليها الحزن والتفكير”(ص:599).
وقد كان بطلنا يرى الدموع ويصنفها كمن يرسم لوحة الحزن من داخل:
(د)”… لقد كانت متجمدة شاحبة كمنديلها، وكانت تترقرق فى عينيها دموع كبار” (ص:6.2).
(هـ) ” وها هى ذى ترفع نحو الذين يحيطون بها وجها صغيرا ساذجا متوحشا ترتعش فيه دمعتان صغيرتان كالبللور” (ص: 615).
الذى يستطيع ان يحزن، وان يلتقط الحزن هكذا، يستطيع أن يلتقط عكسه، والبلادة (وليس الفرح) هى عكس الحزن (والفرح معا)، وقد ذهب بطلنا الصغير يصفها بكل دقة فزوج محبوبته من هؤلاء الذين:
“لا يقومون بعمل البته بل يقضون أوقاتهم فى فراغ ولهو ويملكون فى مكان القلب قطعة من شحم” (ص: 596)
“إن جلودهم أسمك وأغلظ من أن تتقبل مثل هذا الامتحان أو مثل هذا النقد” (ص: 597).
عودة الى المباشرة:
لا ينسى ديستويفسكى – للأسف – عادته المزعجة فى توجيه دروس التربية والعلاج، فهو يحكى لنا هنا – أيضا – مايشبه الموقف العلاجى التحليلى
“ولكن هذه الفتاة كانت صموتا مغلقة رغم أن من المستحيل أن يجد إنسانا أكثر منها تجاوبا مع الآم الآخرين”….. “لأنها كلما أمضت حبا أمضت ألما”.. “لا تأذن لنفسها أن تشمئز أو تنفر من الشر مهما يكن بشعا”(ص: 593).
الفروسية والأبوة:
مر بطلنا الصغير بتجربة يرجع جزء منها للصدفة، والآخر للحب والمغامرة، حين ركب حصانا جامحا لمدة ثوان، لعله يستطيع من خلال هذه التجربة أن يبلغ محبوبته” ماهو”، فتمنع عنه الضحك وتأخذ مغامرته بمنتهى الجد[38]
“لا تضحكوا أيها السادة، فالأمر جد ليس فيه ما يضحك” (ص:615).
هى محبوبته، وهى راعيته، وهو فارس، وقد أتيحت له فرصة رد الجميل حين وقعت منها عفوا “رسالة” تسلمتها من حبيها المسافر وهو يودعها، فالتقطها هو وأعادها اليها – بعد يوم من الانشغال الرهيب – مخفيها فى باقة من الورد كأنه لم يرها، وهو فى ذلك التحايل والحزم والرعاية والعطاء الصامت قد أخذ دور الفارس الكبير وهو دور الأب القوى الحانى، ولم ينس ديستويفسكى فى هذا الموقف المكثف أن يربط بين الأنغام والمشاعر، كما أنى تصورت أن الباقة التى جمعها فارسنا ووضع فيها الرسالة لم تكن سوى مشاعر بطلنا الصغير وقد تجمعت جميعها فى هذا التعيين الماثل. ومثل أى أب حان حقق رسالته فى صمت، ورضى بنصيبه من الفراق يسعد بطلنا الصغير بسعادة محبوبته وهو من الألم فى حال.
“لقد تبدد ألمها كالدخان، واعترانى أنا احساس مؤلم عذب قبض صدرى، كان يشق على نفسى أن اخفى عواطفى” (ص:228)
وبانتهاء واجبه الأبوى الفروسى معا، مع معايشته آلامه العذبة، يرجع الى مسيرة نموه فيكتشف أن الشئ الذى بدأ به ما زال لم يُكشف:
“… ولكن نفسى كلها كانت تفيض أسى شجيا ممتعا فى آن واحد، كانت نفسى تهتز بشعور واضح ونبوءة بينة، وترتعش فى انتصار خائف فرح معا و تنبض نبض جريح” (ص: 229).
ثم
“ودفنت وجهى فى يدى واستسلمت بلا مقاومة لأول اكتشاف من إلهام قلبى، استسلمت للتنبؤ الغامض بطبيعتى… لقد انتهت طفولتى فى تلك اللحظة”. (ص: 229).
وتقفل القصة بنفس الطريقة.. فى “لحظة”،
دائما “لحظة”.
تعقيـب
وقفة للمراجعة نحاول فيها أن نتذكر عدة أسئلة سبق طرح بعضها تقول: هل هذه هى الطفولة؟ كيف كتبها ديستويفسكى؟ وكيف رآها إلى هذا العمق قبل أن يكتبها؟ أهى طفولته هو أم طفولتهم هم؟ ومن هم؟ وهل هم من نسج خياله تماما؟ وإلى أى مدى ينطبق هذا الخيال على واقع الأطفال لدرجة أن يعتبر النص الأدبى مرجعا يقف على قدم المساواة إن لم يفق الملاحظة العلمية؟ وهل لديستويفسكى وضع خاص يجعلنا نأخذ منه دون غيره؟ وماعلاقة الأدب عن الأطفال بما يسمى الأدب للأطفال؟.
سبق أن اجبت على بعض هذه التساؤلات فى المقدمة، ولكن يبدو أن ذلك يحتاج إلى بعض الإيضاح والمراجعة حتى بعض التكرار بعد رحلتنا هذه مع النص:
لنبدأ من الآخر للأول:
أولا: إن ما يمسى أدب الأطفال ليس له علاقة مباشرة بهذه الدراسة (أو بالأدب عن الأطفال عامة). لا نيتوتشكا ولا البطل الصغير بقادرتين على مخاطبة الأطفال، وإنما هو أدبُ يخاطب الأطفال الكامنة فى كيان الكبار، وللأسف فإن ما يسمى أدب الأطفال هو محكوم فى النهاية – وخصوصا فى أيامنا – هذه بتصوراتنا الساذجة عن الأطفال، وليس بحدسنا المباشر لطفولتنا وللطفولة من حولنا[39]، ورأيى أن الأساطير القديمة (غير التربوية – هكذا يسمونها) والحواديت وما كان يسمى بالأمثلة (لا يعنون بها المثل والحكم المختصرة) كل ذلك هو نوع من أدب الطفل المناسب الذى تحاربه الآن كل وسائل التربية والإعلام نتيجة للجهل والخوف والتسطيح جميعا، وليس هذا مجال الخوض فى ذلك تفصيلا.
أما الأدب عن الطفولة فهذا لا يكاد يندرج – ايضا – تحت ما يسمى تيار الوعى، لأن الوعى هنا رغم أنه وعى “الرواى” إلا أن المقابلة بالواقع تنفى أن الطفل فى هذه السن يمكن أن يكون هذا الرواى الذى يصف من تفاصيل تكاثيف العواطف وحاجات الطفل وآداب التربية وقواعد العلاج ما لا يمكن لطفل كائنا من كان أن يصفه، فأى طفل هذا الذى يمكن أن يقول: “كانت تهتز بشعور واضح ونبوءة بينة، وترتعش فى انتظار خائف فرح معا”؟ لكن هذا الطفل العاجز عن هذا الوصف إنما يعيشه هذه الخبرات بنفس هذه الدقة كاملة عميقة نابضة، ليصفها دوستيفسكى بكل ما حقيقتها وتفاصيلها، اذن فهو تيار وعى ديستويفسكى “وليس تيار” وعى الطفل الواقعى أو المتخيل؟ المنهج الفنيومينولوجى هو المنهج الذى يوضح كيف ذلك.. المبدع يكون مبدعا بقدرته على التقاط أى شىء، وكل شئ من مختلف الأعماق حتى ليصبح هوهو، ثم هو قادر على هضمه، ثم إعادة افرازه، تنظيما جديدا قادرا على الانتقال للآخر، بغض النظر عن مدى قدرة الموضوع قيد الإبداع على الإلمام بذاته وطبقاتها، أو رصدها، أو وصفها,.
ذكرت فى الفصل الأول اجتهادى الخاص بالنسبة لديستويفسكى فيما يتعلق بحالة الصرع التى كانت تعاوده، وكيف حيث أن الوجه الايجابى لهذا المرض هو الذى سهل عليه رحلات “الداخل والخارج” حتى اكتسب هذه القدرة الفائقة التى سمحت له أن يعيش شخوصه حتى يعطينا كل هذه الرؤى.
ملاحظات خاتمة
إن انبهارنا بديستويفسكى عامة لا ينبغى أن ينسينا أنه كتب هذين العملين فى بداية ابداعاته عامة، وأن ثمة ملاحظات قد وردت فى الدراسة بشأن الإفراط فى المباشرة، والنصائح،مثل شرح قواعد التربية، مما كان يقلل من مستوى التشكيل الأدبى فى أكثر من موقع.
كما تجدر الإشارة إلى إفراطه المبالغة فى التعبير عن العواطف وخاصة بالبكاء (من كل الأطراف) وكذلك بالأحضان والإغماءات. قد يصح أن نواكب الداخل بكل التفاصيل فنفيض فى عرض تكثيفاته وتراكماته وعلاقاته، ولكن أن يترجم هذا الداخل دائما – أو غالبا – الى تعبيرات درامية مفرطة الوضوح بهذا الشكل فهو أمر غير صحيح وهو يسطح أكثر منه يعمق. وقد يرجع بعض ذلك الى طبيعة ديستويفسكى وطبيعة عواطفه، شخصيا وطريقة تعبيره عنها (ويمكن فى ذلك الرجوع الى خطاباته الى شقيقه مثلا وهو فى المنفى).
[1] – الكتابة الأولى لهذه الدراسة ظهرت فى مجلة الإنسان والتطور – عدد أكتوبر 1982.
[2] لا أمنع نفسى من أمل فى قارئ يتقن الروسية والعربية بنفس القدر”المتذوق” فيحدد لنا حقيقة ما ذهبنا اليه، وبُرجع الفضل لذويه، وخاصة ما وصلنى من دقة المترجم وصدق إبداعه
[3] – استعملت فى المسودة لفظ “أجهض” ولكنى عدلت عنه الى “بتر” بعد أن أكتشفت أن عمر الصبى عند البتر كان أثنى عشر عاما.
[4] – وسوف نعود – غالبا – لدراسة هذا التركيب فى أعمال لاحقة لديستويفسكى
[5] – سأطلق على زوج أمها صفة والدها طوال الدراسة لأنها الصفة النفسية التى استقبلتها نيتوتشكا فحكت عنه بهذا الاسم دون غيره وخاصة فى الجزء الأول.
[6] – الفريد أدلر رائد مدرسة علم النفس الفردى
[7] – يحيى الرخاوى دراسة فى علم السيكوباثولوجى: ص 193،529
[8] – تكرر هذا الرمز بالذات فى حرافيش نجيب محفوظ تكرارا مؤكِّدا لما ذهبنا اليه.
[9] – مقدمة الجزء الثانى من الأعمال الكاملة – ربما بقلم المترجم – صفحة 12 – المؤسسة المصرية العامة للتأليف والنشر. دار الكاتب 1967
[10] – يحيى الرخاوى – 1981 – حالات وأحوال – (ص 50 – 62) الإنسان والتطور – المجلد الثانى – عدد ابريل (ص 52).
[11] – المقدمة: ص 23
[12] – الأعمال الأدبية الكاملة لدوستويفسكى – دار ابن رشد – 1985
[13] – يبدو أن ديستويفسكى قد وعى بحدس فائق معنى هذا الالتصاق” الحسى” للطفل فقد كرره فى أكثر من موقع مع اختلاف التعابير والظروف: مثلا: فى البطل الصغير” .. وكدت ابكى وأنا اشد نفسى اليها من فرط ازدحام المشاعر” (البطل الصغير 618) – يبدو أن هذا الالتصاق الحسى يذكرنا “بحماية الرحم” قبل لذة الالتحام الجنسى( الذى قد يكون هو ذاته رمز للحماية الرحمية بالالتحام متبادلا مع الولادة فى إيقاع المضاجعة).
[14] – قد يشير هذا الاختلاف النوعى فى الادراك الى نوعى الادراك الذى وضعتها فى عمل سابق” دليل الطالب الذكى فى علم النفس” أحدهما سلبى “تصلنى من الخاريج” والآخر ايجابى “أفكر واحلم” رغم أن غلبة الإدراك الجديد هنا اصطبغت بقيم “الوالد” المختزنة الجاهزة داخل نيتوتشكا (بقية ص67).
[15] – رغم فضل “إريك بيرن” فى التنبيه الى هذا التنظيم التركيبى، فقد تعمدت الا أذكره تحديدا، خوفا من التمادى فى التسطيح والاختزال اللذين لحقا بنظريته”التحليل التفاعلاتىTransactionl analysis”، كذلك فان التنظيم التركيبى قد تتعدد فيه الصور الوالدية وغيرها الى ما لا نهاية بما ينبهنا الى الحذر أكثر فأكثر من التقسيم الثلاثى المشهور فى هذه النظرية.
[16]- سأعود اليها فى أعمال لاحقة.
[17] – onset of the onsetدراسة فى علم السيكوباثولوجى ص 168،358،430
[18] – مع أن أغلبنا – مع التربية النمطية – ينساها أو يتناساها حتى ينساها.
[19] – دراسة فى علم السيكوباثولوجى (ص 361) “الذى يحدث هو أنه بعد هذه اللحظة يبدأ الطفل (أو الشخص الناضج فى خبرات النمو أو المرض اللاحقة) فى تحديدها كان قبل ذلك مما لم يكن بهذا الوضوح، وهذا ما اسميناه “سبق التوقيت” أى انه يعطى بداية سابقة لأحداث جارية، أو ماضيه، سابقة لما كان – وكنا – نحسب لها قبل هذه اللحظة”.
[20] – من هنا يمكن اعادة النظر فى وجه الشبه (الذى أشار اليه الكسندر سولوفييف) بين يافيموف هنا وبين كرايزلر( بطل هوفمان) أوشخصية جامبارا(بلزاك) – لا من حيث وجود عقدة نقص نتيجة للفشل ومحاولة تعويضها ولكن باعتبار دلالة ما ترمز إليه الآلة الموسيقية الغامضة أو الساحرة عند الثلاثة، ومن الحاجة الى التواصل الأنغامى الأعمق، وهذا ماجعل كرايزلر وهو شبه مجنون “سحر” بآلة “شيطانية”، وجعل جامبارا يطوف أوروبا كلها يحاول أن يخلق موسيقى جديدة ثم يعجز عن أن يجد من يفهمه فيهوى الى ” الجنون” المشكلة إذن عند كل هؤلاء (وربما عند نجيب محفوط فى حديثه عن أتغام أناشيد التكية فى الحرافيش هى فى اعلان عجز اللغة السائدة(اللفظ) أو الممكنة(هنا: الكلارينيت) عن تحقيق وظيفة التواصل الحامية ضد الجنون، ومن ثم يظهر دور الالة الشيطانية، أو الموسيقى الجدية، أو الكيان المعشوق…. الخ.
[21] – يمكن أيضا مقارنة مونودراما بارتيك زوسكند (مؤلف العطر) بعنوان الكنترباس، فى علاقة الخارج بالداخل، بالآلة الموسيقية ذات الدلالة الخاصة.
[22] – ما بين لأقواس هو إضافة للنص لتوضيح ما ذهب إليه الفرض النقدى فى هذه الدراسة.
[23] – مازال ما بين الأقواس مضافا للنص المقتطف من المتن.
[24] – فقد حلت صورة بطرس الكسندروفيتش محله فى رحلة محاولة نيتوتشكا أن تسبر حقيقة داخله(ص: 241).
[25] – وتنشأ بين الفتاتين عاطفة هى حب الفرد فردا من جنسه هى الحب المثلى الذى يحدثنا عنه فرويد:ص13
[26] – يحيى الرخاوى – 1981 – حالات وأحوال –(ص 50 -62) الانسان والتطور – المجلد الثانى عدد ابريل .
[27] – لعل ذلك يذكرنا برفض العقاد اعتبار أن آفة شاعرنا الحسن ابن هانى(أبى نواس) هى الجنسية المثلية، بل (أنظر الفصل الأول)..
[28] – سألت ذات مرة أحد الأصدقاء المهمين جدا عن طفولته، وهو سوى متميز ثقافيا واجتماعيا، فأجابنى بحسم قاطع: ليس لى طفولة / وقد أعلن ديستويفسكى مباشرة مدى جهلنا بما هو “طفل” فى قصته البطل الصغير كما سيأتى ذكره.
[29] – الوالدية عموما – انظر أيضا الجزء الثانى البطل الصغير.
[30] – هذا الموقف المعقد قد ظهر فى الجزء الأول فى علاقة يافيموف بزوجته أساس.
[31] – أول من بارك من تركه كان الطفلة(الأم) نيتوتشكا وهى تطمئن(فى نفسها) أباها وهو يعدو منها تاركا اياها(ص:89). ثم عاد موقف قريب من ذلك فى الجزء الثالث والكسندرين تعبر عن مشاعر الهجر(ص:257،258):
” كان من حولى فى الماضى أشخاص آخرون، الا أنهم هجرونى جميعا، لقد تبددوا كلهم كما يتبدد السراب، وانتظرتهم كثيرا منذ ذلك الحين، لم أفعل شيئا غير الانتظار طوال حياتى كلها.. ليباركهم الله” (انظر بعد)
[32] – دراسة فى علم السيكوباثولوجى ص 285
[33] – كالعادة: لم يكن مرض ألكسندرين مرضا محددا، وإن كان ديستويفسكى لم يتركها دون نوبات كالعادة أيضا:” ودامت الأزمات العصبية بعد الإغماء ساعتين”.
[34] – مثلا: وصف ديستويفسكى العواطف والانفعال فى تراكمها وتبادلها وتناقضها وصفا يطالبنا باعادة النظر فى كل ما نعرفه عن العواطف والانفعال راجع على سبيل المثال: غم يافيموف وضجره حتى الهياج(ص:39)، التبادل بين الحزن والخوف(ص:115)، الجرأة والألم- الجرأة = النبيلة(ص:50،49)، الخوف من الخوف(ص:240)، تواكب الألم والسعادة(ص:69) تواكب الحياء والتوسل(ص:81) القلق الأصم(ص:86) الفرح الرقيق(ص:140) اللطف المفطور(ص:145) الدهشة لحد الخوف(ص:146) استقبال الكراهية(ص:131) تجهيل العواطف(ص:167) الخوف العذب(ص:170) كآبة القلب ومشاعره الأخرى(ص:175) الشفقة المتلبسة والقلق الذليل(206). وكذلك سبق ديستويفسكى فى وصف الحيل النفسية مثل حيلة تكوين رد الفعل reaction tormation(ص:274) أو التسامى(ص:275) أو الاسقاط(ص:280).. وقد أرجع لكل هذا فى العمل الشامل الأخير، وقد لا أفعل .
[35] – استطاع ديستويفسكى بعد ذلك أن يواجه العدوان ويصوره بكل وضوح وصراحة وبنفس العمق والروعة ( الجريمة والعقاب – الأخوة كرامازوف… الخ).
[36] – الحادث الذى تدور حوله القصة كان فى محاولة ركوب حصان بكر لم يسبق ترويضه من فارس شاب عزف عن ذلك فى آخر لحظة، ثم من بطلنا الصغير فى اندفاعةٍ بطولية غرامية غير محسوبة، والإشارة هنا الى المضيف صاحب هذا الحصان:
[37] – حادث التفكه على السيدة(م) باتهامها بعلاقتها بهذا الطفل البطل ومحاولته اليائسة الدفاع عنها أمام موجة الضحك القاتل .
[38] – قارن أهمية أخذ عواطف الأطفال وآلامهم مأخذ الجد فى علاقة نيتوتشكا بالكسندرين ميخائيلوفنا
[39] – فى دراسة نقدية لاحقة، قمت بمقارنة بعض قصص هانز كريسيتان أندرسون للأطفال مع شعر (رجز) أحمد شوقى لهم (وجهات نظر عدد مارس 2005)- كما قدمت بنقد قصص أخرى لأندرسون (بائعة أعواد الكبريت الصغيرة) (روز اليوسف – مقالات الإنسان- 25-11-2005) التى من خلالها نتعلم ماهية الموت ليس فقط عند الأطفال، بل للكبار أيضا.
حركية العلاقات البشرية جدلا وامتدادا
فى الإخوة كارامازوف
إستهلال:
لا يصلح ما قلته يوما عن نجيب محفوظ، مع ديستويفسكى، من أنه “خذ من ديستويفسكى ما شئت لما شئت” . بل لعل العكس هو الصحيح، إذ أنك لا تستطيع أن تفـر مما أراد ديستويفسكى أن يقحمك فيه بإبداعه المتميز، ورغم أن ديستويفسكى يلح إلحاحا شديدا، ومباشرا أحيانا كثيرة فيما يريد أن يقوله، أو ربما أن يكونه، يصلنى أنه لم يستقر أبدا على ما يريد، وأنه صدق م نفسه فى ذلك. وهذا طيب لأنه ينفى عنه تهمة أنه خطيب فى جمع، أو أنه ملاحَـق بفكرة واحدة مكرره يريد أن يوصلها.
فى حدود ما قرأت له حتى الآن أستطيع أن أحدد ما وصلنى عن بعض المواضيع أو الهواجس أو القضايا التى تلح عليه، فيلح بها علينا، هذا من حيث المحتوى، لكن القضية مع ديستويفسكى ليست قضية محتوى أو موضوع، وإنما هى قضية تركيب. أهم ما يميز تركيب[1] ديستويفسكى (حتى علمى به الآن) هو ذلك البركان الثائر المتواصل من المشاعر والرؤى، والذى يتكثف أحيانا فى شكل صـرْعة مرضية، ثم يتدفق أحيانا أخرى فى شكل إبداع إنفعالى متلاحق، وهو يحاول أن يضبط قوة دفعة ليخرجه من ثقب إبرة فى شكل إطناب حكى يطول حتى يمكن أن نمله أو ربما نرفضه، وقد يصبـرنا عليه أننا نلتقط فى كم الكلام المتواصل ما يعيننا عليه، نلتقط إشراقةً غير متوقعة، أو بهر رؤية كاشفة، أو سبر غور سحيق، وأحسب أنه يلتقطها معنا (وهو يكتب أو وهو يقرأ ما كتب) فى أحيان كثيرة، إذن فهو لا يفرضها علينا كما قد يتراءى لأول وهلة.
قبل أن أعرض قراءتى لهذه الرواية الملحمة أود أن أقدم بعض الملاحظات الواجبة [2].
1- من حيث المبدأ، قد يجوز أن نربط بين بعض محتوى روايات الكاتب وبعضها، لكن ينبغى أن ننتبه دائما إلى أن الإستشهاد على ديستويفسكى من ديستويفسكى روائيا.. لابد وأن يؤخذ بحذر شديد، فلو أن المسألة تكرار وتعديل لنفس الأفكار لما كان ثمة داع لمواصلة الإبداع أصلا، فالاستشهاد هنا مسموح به بالقدر الذى يترك لكل عمل استقلاله، ثم يسمح بتحديد إجتهادى لاحتمالات التلاقى وتفـرقات الإختلاف، وكذلك لحفز تكثيف الرؤى وتطويرها.
2- إلى درجة أكبر، لا ينبغى الربط، بين إبداعه وبين كتاباته -شخصا- فى مجال آخر، بأسلوب آخر، (فى الصحف أو فى خطاب خاص) أو على الأقل ينبغى ألا يكون هذا الربط بطريقة الاستنتاج التدليلى المباشر، بمعنى أن نثبت ما جاء على لسان أحد الأبطال بقول جاء على لسان المؤلف فى صحيفة أو رسالة فى سياق آخر لغرض آخر، ذلك لأن لكل كتابة مستواها وخطابها وحدودها بحيث ينبغى أن نفترض التناقض تكاملا، أكثر مما نفترض الإتفاق تدليلا وإثباتا، وإلا لماذا تتعدد الكتابات؟ ولماذا الإبداع أصلا؟ وبتعبير أخر: إذا كنا نؤكد فى ناحية أننا لا نستطيع أن نفصل ذات الكاتب (ذواته) عن إبداعه، فإنه على الجانب الآخر لا يمكن أن نختزل ذات الكاتب إلى ظاهر حياته أو أحداث يومه أو مُعلن آرائه فى صحيفة أو مجلس أو حزب سياسى. وعلى ذلك فعلينا أن نأخذ المصادر المختلفة لآثاره، إذا لزم أن نستوعبها أصلا، باعتبار أنها أبجدية متفرقة، نصيغ نحن منها جملة أو قصيدة النقد الإبداعى.
3- وبالنسبة للترجمة: لاشك أن ثمة اختلافا بين الإنجليزية والفرنسية، والعربية والروسية، ولا أظن أنه حتى بالرجوع إلى الروسية يمكن حسم هذه القضية، فديستويفسكى يكتب بروسية قديمة نسبيا، وهو يكتب بروسية خاصة مثل أى مبدع متميز وأكثر، وينبغى أن نعيش اللغة لا أن نتلمس أطراف ألفاظها، ثم إن قارئ العربية يختلف مع قارئ لغة أخرى وهما أمام نفس النص، ولا يحسم بينهما تعريف معجم، بقدر ما ينبغى استلهام جملة الفقرة بل جملة النص فى تحديد روح اللغة وإيحاءاتها[3].
عموميات مبدئية من وحى كارامازوف:
توقفنى – مرة أخرى- عموميات مبدئية ألتقتطها جديدة على، وقد فسَّرتْ لى بعض ما عجزت عن تفسيره من قبل.
أولا: تراجع النوبات والحمى: نتذكر أولا صْرع ديستويفسكى وأثره فى كتاباته، وعلاقة ذلك بالنقلات المفاجئة، وعلاقته بوعيه بالزمن فى وحدة تصل إلى أجزاء الثانية، وكذا علاقته بإدخال ما هو صرع، وإغماء، ونوبة وحمى فى نسيج رواياته بشكل مفرط [4]، نتذكر ذلك لنتبين أنه فى هذا العمل الحالى الذى بين أيدينا قد أقل من الصرع والمصروعين والمغمىعليهم وأهل الحمى، لكنه زاد فى الخطابة والإطناب والاسترسال التفصيلى الفضفاض.
ثانيا: تفسير الاطناب: حين رحت أتقمص شخوص هذه الرواية بالذات وهم يسهبون فى الكلام والمناقشات والمناظرات إلى درجة تكاد تصبح ممجوجة، ضقت ذرعا به وبهم، وقلت إن صح هذا فى الحديث عن الدين، أو عن السياسة، فهو لا يصح فى الحديث عن الحب طول الوقت، ولكن فى نفس الوقت لم أجرؤ أن أحذف – متلقيا – ما رأيت أنه ينبغى حذفه من كل هذا اللت والعجن، ثم إننى حاولت أن ألتمس عذرا بالفارق الزمنى (أكثر منذ أكثر من قرن) واختلاف طبيعة إيقاع الحياة، حيث، الانتقال بالخيل، والإضاءة بالسماور… الخ، لكن هذا التفسير، رغم صحته، لم يغننى. فاخترت أن أضع تفسيرا آخر أكثر جسارة يقول:
إن أسلوب ديستويفسكى، حين يتحول منه الحوار إلى مقال يكاد لا يصلح أن يكون من النوع الذى يدور حقيقة وفعلا بين متحاورين عاديين فى الفعل اليومى، وخاصة إذا كانت المسألة ليست مناظرات عقلانية كما تبدو فى ظاهرها – وإنما هى رواية قبل كل شئ. إذن فهذا النوع من الكتابة المرسلة والحوار التفصيلى لايصلحان أن يكونا تداعيا حرا مما نقابله فى الحكايات المسماة باسم “تيار الوعي” (أو تيار اللاوعى)، ثم إن هذا النوع من الحكى ليس مونولوجا داخليا فقط، ولا حتى هو ديالوج داخلى تماما، وإن كان أقرب ما يكون إلى هذا وذاك، لولا إعلانه فى شكل حوار مباشر، ومتواصل لا ينقطع. لكل ذلك قدرت أن هذا المستوى من الحكى يجرى فى عمق الطبقة الأولى من الوعى، فلا هو كلام مثل كلامنا اليومى العادى، ولا هو تيار غامض يجرى فى عمق وعى آخر، وإنما هو تكبير مجهرى للحظة مكثفة من حوار واع موجود فى عمق نفس مستوى الوعى الظاهر بشكل مكثف أشد التكثيف، بحيث تستغرق اللحظة الواحدة عشرين صفحة مثلا متى تم التكبير، وديستويفسكى قادر على استخراج هذه اللحظة، ثم فردها بكل هذا الحكى المسلسل.
يلاحظ – أيضا- أن هذا الحكى هو شديد الترابط واضح المنطق بعكس الحكى التلقائى أو الحر المسترسل، وهذا ليس – فى ذاته – ضد عمقه، ولا هو، فى نفس الوقت، كافٍ أن يجعله حكيا منطقيا واعيا مباشرا على السطح. وبتعبير آخر: إن هذا هو ما يدور فى خلد الواحد منا ولا ينطقه، فجاء ديستويفسكى يعرضه هكذا بكل هذه الإفاضة وكأنه حوار أو مونولوج مباشر.بهذا فقط تحملت مثل هذه الحوارات [5].
ثالثا: استعمال الأقواس
لاحظت أن استعمال ديستويفسكى للأقواس له من الوظائف والدلالات ما لا يكفى فيه تصنيف واحد، كأن نضعه تحت ظاهرة “تعدد الأصوات” مثلا، فالأقواس عنده تعنى أيا من، وأحيانا كلا من:
1- جملة اعتراضية.
2- رؤية سبقية.
3- صوت داخلى.
4- موقف للراوى.
5- إلتقاط أنفاس.
6-… وغير ذلك.
رابعا: الزمن:
تصورت واستقبلت علاقة ديستويفسكى بالوحدات المتناهية الصغر من الزمن، فهو كثيرا ما يحسب زمنه باللحظات [6].
”لبثت ثلاث ثوان أو خمسة أتفرس فيها” [7]
”غرس أسنانه فى لحم الإصبع بكل ما أوتى من قوة لمدة ثانيتين”[8].
”وقرع الباب ولكن الجواب لم يأت رأسا وإنما تأخر عشر ثوان”[9].
بل منذ اللحظة التى راودتنى فيها نية النطق بهذه الكلمات، بحيث لا يمضى ربع ثانية إلا وأكون…”[10] الخ.
ولاننسى أن أحداث الرواية برمتها لم تستغرق سوى أيام (بالإضافة إلى الرجعات التصويرية – فلاش باك)، فالزمن عنده متناه فى الصغر، مكثف بالأحداث، وفى نفس الوقت قابل للمرونة الممتدة بالتصوير البطئ واختراق المستقبل معا.. إلى ما بعد كل مدى.
خامسا: الواقعية
حين نتكلم عن الواقعية،[11] فإننا لا نعنى واقع الناس، أو واقع الأشياء أو واقع الأماكن، بقدر ما نعنى قدرة الكاتب الخاصة على ألا يكون منغلقا على ذاته المتميزة الظاهرة، أى قدرته على أن يستعمل ذاته “مرصدا للواقع”، وفى نفس الوقت ”مصهرا للواقع”، ثم على أن يكون فى النهاية “مصدرا للواقع” المبدع مسقطا على الواقع الواقع (ليغيّره غالبا).
هكذا لا تصبح الثلاث عشر درجة فى منزل راسكولينوف فى الشارع الفلاني/ هم هم كذلك إذا وصفهم فى إبداعه، حتى لو أراهم لزوجته رأى العين [12]– حتى لو صرّح هو بذلك، أو أقنع نفسه بذلك.
إذن فكل هؤلاء الشخوص هم ذوات دوستويفسكى شخصيا. وخاصة أسرة كارامازوف – بعد أن التقطهم فكـانـهـم، فتخلقوا منه به، فكانوا هكذا واقعا جديد.
سادسا: هل حقا أنها الأفكار تتجسد؟
ديستويفسكى صاحب وجهة نظر سواء وهو ضد الدين أو وهو شديد التدين، سواء وهو من الأحرار الاشتراكيين أم المحافظين الإصلاحيين، ولا شك أنه يريد أن يوصـل هذه الأفكار للناس الناس، وكأنها قضيته الأولى والأخيرة. ليكن.
ولكن الإشكال بعد ذلك يكمن فى قضية لاحقة، وشديدة الأهمية، وهى:
هل هو يبدع لذلك أو أنه يبدع بالرغم من ذلك؟. أظن أن الأخيرة هى الأصح. وكأن مسألة ماذا يريد أن يقول هى مسألة تالية، وأن المهم هو أن يدع نفسه (بكل تواجد مستوياتها) تقول ما يقول. وأحسب أن هذا هو الذى يوحـد بين الشكل والمضمون بطريقة أو بأخرى.
فهو – إذن – لا يجسد الأفكار فى أشخاص ، وإنما هو يوظف الأشخاص (أشخاص ذاته: الحقيقيين المختلفين والمتعددين) فى توصيل رسالة متعددة الجوانب لمن يريد أن يعيشها معهم، وبتعبير آخر: إن القول بأنها “أفكار تتجسد فى أشخاص”، ينبغى أن يتعدل إلى أنهم: “شخوص يحضرون بماهم: وجدانا مفكـرا ماثلا حيا متحركا”[13].
والفرق ليس سهلا، وليس قليلا.
سابعا: ليس مدحاً أن يكون عالما نفسيا [14]
لا أعتقد أن وصف ديستويفسكى بأنه عالم نفسى أو طبيب نفسى هو مدح بأى صورة من الصور، بل لعل العكس هو الصحيح أى أنه ربما يكون ذمّا[15]. ديستويفسكى يرى النفس – واقعا – قبل وبدون وبالرغم من كل ما هو علم نفس، (علم نفس صحيح أم زائف).
ثامنا: دوائر العائلات
استطاع ديستويفسكى فى هذا العمل الضخم أن يحرك ثلاث دوائر متماسة متقاطعة معا، تمثل ثلاث عائلات: عائلات كارامازوف، وإيليوشا، وكوليا، ثم وضع - فى وضع التماس الهامشى- ثلاث عائلات أخرى بدقة حاذقة، هى: عائلات كاتيا، وجريجورى، وهوخلاكوفا. هذه الدوائر الست كانت تلتقى وتتماس وتتداخل وتتباعد بشكل مثير متشابك معا.
تاسعا: وجه الشبه مع حالنا فى مصر الآن
استشعرت – بشكل ما – وهو يتكلم عن روسيا، الأرثوكسية، والكنيسة الدولة، والدولة الكنيسة كأنه أحيانا ينشر مقالات تصلح أن تنشر اليوم فى صحيفة الأخبار، أو مجلة أكتوبر، أو حتى الأهالى – وقد خلصت من ذلك إلى أننا أقرب إلى ما هو روسيا (وليس الاتحاد السوفيتى) منا إلى أوربا وأن إسلامنا “فى مصر (الإسلام التلقائى الممارس يوميا) يمكن أن يكون ذا نكهة قبطية روسية بشكل ما (إن صح التعبير). وعلى ذلك: فإما أن المشاكل أزلية تتكرر، وإما أننا متخلفون عما ينبغى أن نكونه قرنا وبعض قرن.
عاشرا: دقة التعبير وعمق الرؤية:
دعونى أرص أمامكم بعض الفسيسفاء التى تناثرت فى الرواية هنا وهناك لترينا أى عمق وصل إليه ديستويفسكى فى وصفه الذات البشرية ظاهرا وباطنا. دقة التعبير-كما استعملتها هنا، لا تعنى جمالا فى الأسلوب، لكنها تعنى أكثر: تمكّنا من الأعماق، وهو تمكن يحذقه ديستويفسكى من أول لمسة إدراك، فيرصد أعماقنا بمجهر شديد الحساسية، ثم يتمادى فى العزف على أوتار الداخل والخارج حتى يتمم هذه الجزئية من اللحن باستطراد يكشف ويتكشف فيفاجئ ويحرك – هذا فى أغلب الأحيان وليس فى كل الأحيان، وقد يخرج من الوصف بتعميم لقضية الإختلاف عن المجموع تصعيدا، أو بتفصيل أنوثة التثنى فى إصبع القدم الصغيرة، ثم نفاجأ بأنه يصف الشخصية برمتها.
لنبدأ بمقتطف دال:
“لأن الإنسان الشاذ ليس حتما – ليس دائما – ذلك الذى يبتعد عن القاعدة… حتى لقد يتفق أن يحمل فى ذاته حقيقة عصره بينما يكون الناس، جميع الناس من معاصرية، قد ابتعدوا عن القاعدة إلى حين كأنما دفعتهم عنها ريح هبت عليهم على حين فجأة” [16].
هو إذ يبدأ بالتأكيد على رفض السواء الإحصائى لا يساير مقولة أن العبقرى (أو الشاذ) هو الذى يبتعد عن القاعدة بمعنى أنه سابق لعصره، أو أنه الناضورجى كما أسماه لى يوسف إدريس ذات مرة، وإنما هو يؤكد أنه هو الممثل الحقيقى لعصره، وبالتالى يكون المجموع هو الذى ابتعد لظروف ربما تتعلق بتعثر مسيرة تطوره – (تطور المجموع – فيكون الفرد، هذا الفرد، هو الأكثر تمثيلا لعصره).
ثَمَّ مقتطف آخر بعيدا عن التجريد يرينا كيف يدخل ديستويفسكى إلى وصف الشخصية من مدخل التأكيد على حيوية جزئية بدنية كما ذكرنا حالا.
”إن فى جسمها (جروشنكا) نوعا من تثن تراه فى الساق أيضا، وتراه حتى فى الأصبع الصغير من قدمها اليسرى” [17]
ثم انظر قوله:
“فيه استعداد للإصابة بمرض السل”[18]
وكأن هذا الاستعداد فى ذاته يصلح وصفا لتقاطيع وجه إنسان!! ثم يُلحق
“متزوج امرأة عاقرا..” وكأن هذا وذاك يظهر فى السلوك مباشرة حتى يميزه.
ثم انظر وصفه لنظرة عين آخرين مثل
”يثبتان عليه أعينهما، بل يغرسانهما فى لحمه غرسا مثل الحشرات تمص دمه” [19].
ثم قوله:
” شاحبة الوجه قليلا، لها عينان توشكان أن تكونا سوداوين على سطوع شديد وحركة قوية” [20].
ثم أنظر دقة التعبير عن عجزه ثم تصوير الثراء الداخلى بالعجز عن تصويره:
”… لقد فهم الأب بائيسى- فيما يبدو- “لا فهما كاملا والحق يقال، لكنه فهم فيه كثير من نفاذ البصيرة للحالة النفسية التـى كان عليها أليوشا”[21].
“ولكن يجب علـىّ أن أعترف مع ذلك بأننى لو أردت أن أشرح على وجه الدقة معنى تلك الدقيقة الغريبة المبهمة فى الحياة الداخلية التى عاشها بطلى الذى أحبه كثيرا، والذى مازال فى ريعان الشباب لكان صعبا على كل الصعوبة” [22].
ثم فى تجسيده لصور الذاكرة:
“إن طفولتى تنبثق أمامى، حتى يخيل إلى أننى اتنفس كما كنت أتنفس فى طفولتى بذلك الصدر الصغير صدر الطفل الذى لم يتجاوز الثامنة من عمره” [23].
وعن سمردياكوف
”ولكنه سيظل محتفظا فى قرارة نفسه بالمشاعر التى تجمعت له أثناء استرساله ذاك فى أحلامه، وهى مشاعر عزيزة عليه أثيره عنده، يجمعها فى نفسه طوال حياته على نحو لا يدركه بل ولا يشعربه، وهو لا يدرى طبعا لماذا يفعل ذلك” [24].
ونلاحظ هنا كيف أنها مشاعر- وليست أفكارا.
الرواية:
لم أستقر أبدً على كيف يمكن أن أقدم هذا السفر الضخم، قارئا بحروف مكتوبة، أى ناقدا بشكل ما. سوف أحاول الدخول على ثلاث محاور الأول: تساؤلات، والثانى: موضوعات، والثالث أشخاص.
برغم استحالة الفصل – طبعا – ورغم احتمال التكرار – بداهة – إلا أن هذا هو الممكن حاليا.
أولا: تساؤلات
الرواية تثير تساؤلات بلا حصر، وهى لا تثيرها لكى تجيب عليها، ولكن لكى نظر فيها نحن دون إلزام بالإجابة أيضا، من هذه التساؤلات الأساسية مثلا :
- هل تمثل هذه الرواية مرحلة نضج لديستويفسكى، (خاصة وأنه كتبها قبل وفاته بعام واحد)؟.
- وهل هى تتميز بوضع خاص بين رواياته؟.
- وهل الحل الذى عرضه (فناء الذات الفرد فى المجموع بالحب الفعـال، ثم الأمل فى المستقبل) هو المخرج الذى توصـل إليه بعد رحلة حياته، أم أنه مازال يواجه التحدى فى الوجود الأزلى رغم كل ما يلوح فى الرواية؟
- وما هى الكارامازوفية، ومن هو الراوى ؟
نبدأ من الآخر
ماهى الكارامازوفية؟
من خلال هذه الأسرة: أسرة كارامازوف يقدم لنا ديستويفسكى النفس الإنسانية / الحياة / الآن، أساسا وكأنه يفعل مثلما فعل أفلاطون حين أخرج الذات البشرية ووضعها فى جمهورية، ومازال الناس يناقشون جهوريته على أنها جمهورية وليس على أنها النفس البشرية. ذلك أننى استقبلت كل أفراد عائلة كارامازوف ليس باعتبارهم مراحل متلاحقة فى حياة ديستويفسكى، وإنما باعتبارهم صورا لحياة آنية حية داخلة وخارجه (داخلنا وخارجنا) بزخمها وجدلها وتناقضاتها وولافها.
إن ديستويفسكى هنا يعرض – من خلال أسرة كارامازوف - بانوراما الحياة بما يشمل العلاقة بالحياة، لعله يجسد ما هو حياة فيه أساسا، وهذا لايعنى أن أفراد الرواية مصنوعون لأداء دور، وإنما هم حاضرون لتحقيق أوجه الحياة كما تتبدى فى حركة مكوناتها: ”أفرادا- فى واحد/ الكل”. لعله من المفيد أن أشير إلى ضرورة النظر فى كيف تكرر لفظ الحياة، بل وبالذات، “حب الحياة”، على لسان أفراد الرواية عامة، وأسرة كارامازوف خاصة، اللَّـِّذى منهم، والمعقلِـن، والمتدين، والصرعى. وإذا قلنا الحياة: فإن ثمَّ طولا، وثمِّ عْرضا. هذه الرواية بعكس روايات الأجيال تقدم لنا الحياة بالعرض أكثر مما تقدمها بالطول، فالأحداث كلها – كما قلت – لم تستغرق سوى أياما (لم أتمكن من عدها بعد، بل إنى لم أرغب فى ذلك.) ومع ذلك فهى ليست رواية آنية تدور فى اللحظة، وإنما هى تدوِّر اللحظة، وتحدد أغلب توجهاتها، وتترحل فى أعماقها، ثم تنطلق منها إلى ما بعدها حتى أبعْد البعد (سوف يتذكر هذا التعبير، سوف يتذكرون لون الوجه…. الخ)
ما هى الكارامازوفية بعد هذا؟
هذا بعض ما وصلنى على أية حال:
1/ هى “حب الحياة”، وأرى أن تصنيف الكارامازوفيين إلى حسى، ومفكر، وملاك.. حتى بواسطة الكاتب نفسه، هو تصنيف سطحى، (سأرجع إلى نقده فى حينه) وبالتالى: فإن القاسم المشترك الأعظم بينهم بغض النظر عن ظاهر موقفهم ومحتوى فكرهم هو “حب الحياة”
” إننى أحب الحياة إننى أسرف فى حب الحياة حتى لأخجل من ذلك”[25]. (قالها ديمترى فى موقف قبيل الإنتحار)
2/ وهى اندفاعة الجموح
”مندفعا ذلك الإندفاع الجامح الذى يتميز به آل كارامازوف”[26]
3/ وهى ” الشهوة – البساطة”:
لأليوشا: “… أنت واحد من هذه الأسرة تاما كاملا.. ولابد أن تؤمن بأن للعرق وللوراثة أثرا رغم كل شئ، أنت شهوانى من جهة أبيك بسيط من جهة أمك” [27].
هذا الإنشقاق من أسخف ما وقع فيه ديستويفسكى، سواء بأن يجعل الشهوة فى مقابل البساطة، أو بأن يلصق هذا بأبيه وذاك بأمه – لكنه يبدو أنه قد تدارك ذلك حين جمع هذه الصفات معا دون تميز: نقرأ ما قاله راكيتين لأليوشا:
“هم أناس شهوانيون، أناس طماعون، أناس بسطاء” [28].
4/ وهى الطفولة الجامحة: ولكن أين تقع الطفولة فى هذه القضية: هل هى فى شهوة الإندفاع، أم فى سذاجة البساطة؟ يقول ديستويفسكى فى موقع آخر:
“إن القساة الضوارى أصحاب الأهواء الجامحة، من أمثال آل كارامازوف- كثيرا ما يحبون الأطفال” [29]
ولنا أن نتساءل لماذا يحبون الأطفال: أهو بديل؟ أهو إسقاط؟ أهو تفعيل؟[30].
ربما يكون الكارامازوفى هو الطفل مضروبا فى أبعاد مستعرضة بالعرض بدلا من أن ينضج بالطول.
5/ وهى القوة الخام، التى تنحط – أو تتفجر:
” مندفعا ذلك الإندفاع الجامح الذى يتميز به آل كارامازوف” [31]
” قوة آل كارامازوف، قوة الحطة والخسة فى آل كارامازوف” [32]
يصاحب هذا الجموح والاندفاع أحيانا حب التدنى والقدرة على تحمل ذلك
” فحين أسقط فى الهوة أتدهور تدهورا تاما”.
“.. فإذا بلغت القرار من هوة الدناءة والخسة طفقت أترنم بنشيد: ألا فلأكن منحطا سافلا”[33].
لكنها ليست دائما قوة الحطة والتدنى، هى قوة أساسية جوهرية، أقرب الطرق لظهورها هو طريق التدنى، لكنها قد تظهر خاما غير مميزة:
”فما إن فتح عينيه حتى أحس فى نفسه بسيل خارق من القوة، فأدهشه ذلك كثيرا، وماهى إلا لحظة حتى نهض عن سريره بوثبة واحدة” [34].
إذن هى ليست قوة الحطة والخسة فحسب، لكنها قوة (فطرية بيولوجية) خام تظهر فجأة بلا اتجاه وبلا تفسير، وعند الاستيقاظ بالذات، وهذا ما أسميته أحيانا: عنف ضخ الوعى. 0تذكر الوجه الإيجابى للصرع!!!)
6/ وهى “الصلابة الذاتية”:
الكرامازوفيين يعترفون أنهم غير قابلين للإصلاح.
“فهل أصلحنى ذلك؟ كلا ثم كلا، لأنى كارامازوفى”
7/ ثم هم “المحتفظون بالبدائية المستقلة الجافة” (الحشرة المتوحشة).
الأمر قد يحتاج إلى عودة للنظر فى العلاقة بين الطفل، والقوة الخام، وتلك الحشرة الموصوفة بدقة متحدية؟ خاصة وقد لعبت الحشرة دورا خاصا فى هذه الرواية فكانت ترمز عادة إلى اللذة الحسية المجردة، والصلبة فى آن، مع تأكيد ضمنى على تفرد بلا آخر.
” فيك أيضا تحيا هذه الحشرة” [35] “… هى الحشرة المفترسة الكاسرة”.
ونلاحظ هنا أن الحشرة لا تعنى مجرد الفطرة الحيوانية[36]، لكنها قد تأتى من الخارج/الداخل
”فاعلم أن حشرة أخرى قد لدغتنى فى تلك اللحظة فى القلب من جسدى.. هى الحشرة المفترسة الكاسرة” [37].
ووقفة هنا تستأهل أن نتذكر أن الحشرة فى الواقع العيانى ليست عادة جامحة ولا مندفعة، ولاهى متوحشة مفترسة عامة، فحشرة ديستويفسكى ليست داخلنا العدوانى الذى يصور عادة فى شكل حيوان كاسر كما اعتاد الناس أن يعبروا عنه، أو كما اعتاد أن يظهر فى الأحلام. (وسأرجع إلى ذلك فيما بعد).
إذن فالكارامازوفية هى زخم الحياة فى نبضها الفطرى بقوة الإندفاع والوعى، بما يصاحب ذلك من محاولات التعويض والإنكار والإزاحة والتسامى، وإلى درجة أقل: السمو.
من هو الراوى؟
عجيب أمر الراوى فى هذه الرواية: من هو؟ من أى منطقة يحكى؟ كيف يصل إلى هذه الأعماق وبأى عين يرصد هذه الخلجات عن جزء من الثانية هنا أوهناك؟ وكيف سمح لنفسه أن يتخطى الرصد إلى التحليل، بل إلى الحكم على أعمق المشاعر وأدق التناقضات؟
- هل هو مواطن مشاهد قاص من هذه البلدة؟
- هل هو أليوشا متفرجا (ذات مفارقة متأملة)؟
- هل هو الكاتب المبدع حالة كونه خالقا أو متألها يعلم السر وأخفى؟
- وأين موقعه (كرسيه) الذى يسمح له بكل هذه المرونة والرصد؟.
- هل هو وعى فائق فرضِىّ أو هو وعى فائق فِعِلْىّ، ( ذات تكاملية هى ديستويفسكى نفسه حالة كونه يرصد ذواته) من الواقع المرصد/ المصهر/ المصدر؟
الأرجح عندى أن الفرض الأخير هو الأقرب للصواب، ولكن لابد من إثبات ذلك، بتفصيل لاحق (ليس فى هذه الدراسة).
من هو بطل الرواية؟
لماذا سبق ديستويفسكى بتقرير أن أليوشا هو بطل الرواية؟ هل هو تورط مبدئى لم يستطع أن يفى بحقه؟ أم أنه حلم شخصى وتقمص باطنى.. لم تسعف تلقائية الإبداع فى تحقيقه؟ أعتقد أن الأولى أن يكون البطل هو إما فيدور، وإما إيفان، بل إننى انتهيت إلى أن الأرجح أنه سمردياكوف ولكنه ليس أليوشا على أية حال.
ثانيا: قضايا
(1) الأبوة، وقتل الأب:
لا تُـذكر رواية كارامازوف إلا وتقفز مسألة قتل الأب على السطح، لكننى لم أر أولوية لهذه المسألة هكذا، لما يلى:
أولا: لا يوجد فى الرواية أب بالمعنى الوظيفى والنفسى أصلا، ففيدور كارامازوف (الأب البيولوجى) كان: إما فردا متفردا مستقلا تماما، لذّيا متمركزا حول ذاته، وإما إبنا ضعيفا محتميا، بأى أب ممكن ، آباؤه كان أغلبهم من أولاده: : فهو إبن أليوشا أصغر أبنائه، وإبن جريجورى الخادم، وأحيانا إبن ديمترى ونادرا إبن إيفان.
ثانيا: إن ما أثير طول الرواية هو ظهور الرغبة فى التخلص من الأب- كفضلة نافرة نتيجة ذاتويته وانفصاله، من هنا نفهم رغبة القتل من خلال “تفعيل” الواقع، وكأنها تحصيل الحاصل، أو الإزاحة المنطقية، اللهم إلا فيما يتعلق بمعركته التنافسية مع ديمترى، أما قتل الأب بالمعنى الأوديبى أو بمعنى صراع الأجيال فهو أمر آخر يتطلب حضور أب قوى جاثم ممثلا للسلطة معيقا للنمو، وبالتالى حافزا على اختراقه، مثيرا لرغبة المحيطين المبهورين للتخلص منه، ولو بالقتل، أما هذا الأب المتنحى أصلا، الإبن دائما، الطفل لاهيا، فهو أبعد من أن يبرر قضية قتل الأب بالمعنى الأوديبي
ثالثا: حتى وإذا دخلنا من مدخل التنافس على الأنثى الأم، نجد أن جروشنكا لم تمثل أمـا أبدا، فلم يكن التنافس عليها هو تنافس أوديبى بمعنى أن ثمة أما حاوية وأبا قادرا مخيفا.، وإنما كان تنافسا غريميا متكافئا غالبا.
رابعا: إن الذى قتل الأب فعلا هو إبن مشكوك فى بنوته، وكان السبب المعلن للقتل أبعد ما يكون عن عقدة قتل الأب، وهو السرقة، مع احتمال استجابة لرسالة غامضة مقتِحَمة من إيفان.
من أضعف مواقف الرواية أن كشف ديستويفسكى عن هذه العلاقة الإيحائية قبيل انتحار سمردياكوف كشفا مباشرا ومكررا، وكان الأفضل أن تكون المسألة- إذا توافرت مقوماتها- بمثابة الجنون المُـقْحـم Folie impose (مِنْ إيفان فى سمردياكوف) وهو ما يمكن تناوله بطريقة أدق تشكيلا وأعمق إبداعا.
أخيرا: الأب هنا ليس له أية علاقة بالمقولة الفرويدية من أن الأب هو الله بشكل أو بآخر، وبالتالى فلم يمثل إلحاد إيفان، أو حتى سمردياكوف قتل الأب الإله – مع أن المشلكة الدينية والإيمانية كانت ماثلة، بل ملحة، طول الوقت، حيث كان الله – طوال الرواية – إما حاضرا، وإما مستغاثا به، وإما مخَتَرعا أو متهما أو ملاما بالإضافة إلى الشكّ والنفىْ.
إذن لم تكن عقدة الرواية برمتها هى قتل الأب، وإنما كان أصل الإشكالية هو انعدام حضور الأب أصلا، بالإضافة إلى قلب الأدوار ليصبح الأب إبنا.
للأمر بعد آخر وهو جماعية وعى الناس بالرغبة فى، والموافقة على، ”قتل الأب”، كجزء لا يتجزأ من مسيرة التطور، يظهر هذا بالألفاظ فى حوار ليزا مع أليوشا.
- “الناس جميعا يستحسنون أنه قتله”.
- ”هم مفتونون بذلك مفتونون، صحيح أنهم يصيحون قائلين أن ذلك فظيع، ولكنهم فى قرارة أنفسهم مفتونون، وأنا نفسى مفتونة أنا أول المفتونين”
جاء هذا عقب حوار فى الصفحة السابقة (يقول):
أليوٍشا:
- ثمة ساعات يحب فيها البشر الجريمة.
ليزا – جميع البشر يحبون الجريمة”.
لعل هذا الحوار يوحى أن استقبال النقاد لقتل الأب فى كارامازوف وتركيزهم عليه كان إستجابة لما فى أنفسهم أكثر مما كان حادثا فى الرواية.
(2)- آباء.. وآباء:
تعددت صور الآباء فى الرواية تعددا مزعجا:
- بدءا بالأب زوسيما.
- ثم الأب أليوشا
- ثم الأب جريجورى (أب للجميع: ديمترى، فسمردياكوف، وأب فيدور بالذات، وللأخوين الباقيين حسب الحاجة).
- ثم الأب الطفل إيليوشا (فهو أب أبيه الكابتن سينجريف)
- ثم الأب كوليا. وهو أيضا والد أمه.
كما نلاحظ – مارين عبورا – تبادل أدوار الأب بين الأخوين إيفان وأليوشا.
أتقن ديستويفسكى رسم ”هذه الزحمة الأبوية” وهو يتجاوز السن والميلاد، وهو يحسن رسم التفاصيل بما لا يدع مجالا للشك فى طبيعة الجانب الإيجابى من الأبوة، وهو العلاقة الراعية الحانية المسئولة (الأبوية) بغض النظر عن مَـنْ أكبر مِـنْ مَـنْ سنا، وقد طغا هذا الجانب غالبا على ما يرصد باعتباره السمات الأساسية للأبوة بما يصاحبها من إثارة التحدى وجدل الإنفصال وصعوباته، فلم نر أبا من هؤلاء الآباء وهو “يمتلك” أو “يسيطر” أو ”يمنع الاستقلال” بالشكل المألوف، اللهم إلا فى بعض التنافس العادى مثل تنافس إيليوشا مع أليوشا، أو كوليا مع أليوشا وهو تنافس الإخوة أكثر منه تنافس الأب مع الإبن.
الإثنان اللذان لم يقوما أصلا بدور الأب إلا فى أقل القليل هما فيدور الأب الحقيقى ، وديمترى الطفل الجامح.
(3) الأم (الأمومة)
إذا كانت هذه هى كيفية ظهور دور الأب، فإن الأم لم تظهرظهورا جليًّا صحيحا أبدا، فهى إما غائبة، وإما متوارية فى ظلمة علاقة خافتة، وإما مشوهة عاجزة، وإما ملتِهمه مدّعية.
فلنعدد الأمهات بشكل متعجل أيضا:
1- أم الإخوة الكارامازوفيين التى لم تظهر بجلاء إلا استنتاجا
ا- الأم أديلائيد: هاربة إلى زوج طفيلى، ثم هاربة منه بالموت.
ب- الأم صوفيا: دمية، هشة بكل معنى الكلمة – يخطفها المرض مبكرا.
2- أم ليزا، السيدة هوخلاكوفا، حيزبون سطحية، لم نر من أمومتها إلا عاطفة مهترئة، وشفقة قاسية.
3- ثم أم كوليا، وهى أم مضحية فى ظاهر الأمر (لم تتزوج من أجل كوليا)، لكن عواطفها كما ينعتها إبنها هى من “عواطف العجول” (فى الأغلب).
4- لم يتبق إلا أم إيليوشا وهى أم معتوهة تماما، ليس نتيجة لتخلف ذهنى بقدر ماهو نتيجة لتدهور عقلى ظاهر، وإن كان ديستويفسكى قد لعب بعتهها بقدرة العارف أين وكيف يمكن أن يعثر على بؤر الحكمة ودلالات الفطرة فى وسط زحمة وتشوش العته.
على أنى لم أجد لتهميش دور الأم فى هذه الرواية الذى دلالة خاصة، لا فى قضية الكارامازوفية، ولا فى قضية الدين والإيمان، ولا فى أية قضية محورية أخرى، وإن كان ثمة دور لصورة الأم كما وردت فى كارامازوف فهو دور يعلن الأهمية التى نستنتجها من أثر الاختفاء أو الإنكار لما لا ينبغى أن يختفى أو يُنكر، فربما تعمد ديستويفسكى أن يظهر الإيجاب من واقع تجسيد آثار السلب، تجسيدا بما هو… وليس بمعادلة مسطحة، بمعنى أن اختفاء الأم، أو انتحارها، أو سطحيتها، أو بلهها كانت وراء الدوافع التى شكلت نوع العلاقات الأسرية التى ظهرت فى الرواية، سواء كانت علاقات حب أَخَوى يعوض فقدان الأم وطفولة الأب، أو كانت تماسك القهر والذل فى عائلة إيليوشا، أو كانت الوحدة والتعويض فى حالة كوليا.
أقوى موقف أموى وصلنى، كان نهاية أديلائيد أم ميتيا، فقد وصلنى فيه احتجاج قوى، وانسحاب موقوت مدروس وكأنه هو هو انتحار الفتاة الرومانسية ، فى الخلفية: حين ناداها الجرف الجميل للعودة إلى الرِحم الأرض (ما دامت الحياة هكذا!!) فاستجابت بانتحار متناغم- هكذا استقبلتُ موت أديلائيد بعد هربها.
(4) الأخّوة:
ثمَّ نوعان من التآخى ظهرا طوال الرواية:
1- أخوة الدم، وهى الأخوة الحارة جدا بين الاخوة الثلاثة[38].
2- أخوة الرأى أو العقيدة أو الهدف أو أخوة ألفة الائتناس بالحوار.
أما عن أخوة الدم فقد كانت شديدة الحرارة والترابط، والتقارب، والحركية برغم الاختلاف الجوهرى فى ظاهر الطباع، وفى عمق المعتقد وطبيعة التدين والموقف من الله، وفى طبيعة العلاقة بالحسيات والحياة، وفى توجه الغايات، وفى منبع ومسار النشأة. كانت دوائر التماثل تعلن تارة، وتمارس دون إعلان تارة أخرى، كما كان تبادل الأدوار واضحا، والتصارع جاهزا وقريبا من أول اعترافات إيفان لأليوشا شعرا فنثرا، حتى نهاية الرواية وترتيب هرب ديمترى بواسطة أليوشا وإيفان.
الأمر الجيد الآخر الذى يؤكد هذا الحب الأخوى، بل ويعطيه نكهة متعالية، هو أننا لم نلاحظ أى تقارب بين الشقيقين أليوشا وإيفان أكثر من التقارب بين كل منهما (وخاصة) أليوشا مع الأخ غير الشقيق ديمترى، وحتى شبه الجفوة بين ديمترى وإيفان كانت بسبب تنافسهما على حب كاتيا، أو بمعنى أدق بسبب ألعاب كاتيا التحتية، وليس بسبب ضعف الأخوة.
تفسير العلاقة الأخوية الحارة
ثمة أبعاد محتملة تفسر تلك العلاقة الحميمة والحارة بين الكارامازوفيين ، ومن ذلك:
1- إن الوالد الطفل جمعهم حوله بتنازله عن أبوته لهم، فأصبح كل منهم مسئولا مستقلا بشكل أو بآخر، وبالتالى تبنى كل أخ أخويه (مع اعتبار أن ديمترى كان أقل ظهورا فى هذا الدور)
2- إن حركية وعيهم، خاصة وهى تدور حول الدين والإيمان وجذب حركة الأرض إلى السماء وبالعكس، كانت حركية نشطة لدرجة أدت إلى هذا التقارب الأخوى الحار .
3- إن وجود أليوشا (بدفع مبدئى من الأب زوسيما ثم بتلقائية إنسانية ذاتية وليست دينية فحسب) وجود أليوشا المحورى الجاذب هذا إلى وسط الحركة الودية الأخوية هذه – كان له دلالة خاصة فى جع الشمل فى حوار حى طول الوقت.
4- إن التشابه فى الإيقاع والإندفاع (الكارامازوفية عامة) مع الاختلاف فى المواقف الفكرية مثلا حول الدين وقضايا الوجود والناس، كان أبعث على الحفاظ على حيوية العلاقة تجاذبا وتنافرا معا…
5- وبالتالى فإنه بعكس المألوف فى الأسر العادية المدعية الحب الأخوى – كان ثمة حوارا معلنا وخفيا يجرى طول الوقت، بغض النظر عن محتوى الحوار: اتفاقا أو اختلافا.
العلاقة الأخوية الحارة هذه لم تظهر مسطحة مثلا فى إعلان “أنا أحبك، أنت تحبنى..فقط” ولكن فى الرؤية والفعل طول الوقت.
أما الرؤية فمثالها:
أليوشا: “أحبك يا إيفان. ديمترى يصفك بأنك قبر أما أنا فأقول إنك لغز، ولم أستطع أن أحل هذا اللغز حتى الآن” [39].
وأما الفعل فقد وصل إلى أن مجرد وصول الأخ أليوشا قد حال دون إنتحار أخيه ديمترى.
”… إلهاما مباغتا، قلت لنفسي” هناك إذن إنسان أحبه أنا أيضا”
” وهذا هو ذلك الإنسان، هذا هو الإنسان الذى أحبه هذا هو ، إنه أخى الأصغر” [40].
وعَدَلَ عن الانتحار.
أما أخوة الرأى أو العقيدة أو الدين – فلم تظهر نتيجة اتفاق فى كل ذلك، أو أى من ذلك، وإنما كانت دائما نتيجة لصدق الحوار وعمقه واستدامته، فقد ظهرت فى أرضية موقف أليوشا عامة، ونصائح زوسيما، ثم فى أغلب العلاقات الحوارية بغض النظر عن السن أو الموقف الاتفاقى أو الاختلافى مثل: علاقة أليوشا وكوليا وعلاقة أليوشا وإيليوشا، وقد أسميتها أخوة – وليست صداقة – قصدا، باعتبار أنى أرجع بها إلى جذور طبيعتها حيث الندية والحوار وتبادل الرعاية هم الصفات التى تجعل من الانسان أخا.
5- أشكال ودلالات الإنتحار:
لم يكن الانتحار قضية جوهرية، طوال الرواية، بقدر مالم يكن القتل كذلك، رغم كثرة ذكرالقتل والتلويح به حتى لكأنه وشيك، ولكن ظهور الانتحار-كلما ظهر- كان له دلالاته الخاصة والدقيقة، وأشير إلى بعض ذلك فيما يلى:
أ- يلاحظ فى موت الفتاة الرومانسية، التى جاءت على ذكر زواج أديلائيد من فيدور، يلاحظ سهولة القرار وشاعرية الموقف، فالانتحار هنا ليس رفضا للحياة، ولا هو مجرد “منظرة” رومانسية، وقد زاوج ديستويفسكى هنا بين الدرامية (التشبه بأوفيليا) والجـديه حتى النهاية (ماتت فعلا).
قرأت أيضا فى هذا الانتحار لمحة أخرى شديدة الدلالة على طبيعة الانتحار، وهى ارتباط الإنتحار بالجمال، وبالعودة إلى حضن الطبيعة ، وقد اتضح صدق ودقة هذا الربط بما أعطاه ديستويفسكى للجرف من قوة النداء الملزم:
”حتى أنه فى وسع المرء أن يتصور أنه لو كان هذا الجرف الذى اختارته منذ زمن طويل متحمسة له أشد التحمس، لو كان أقل جمالا وروعة، ولو كان فى مكانه شاطئ منبسط عادى مبتذل، إذن… لأمكن ألا يقع حادث الإنتحار”[41].
ب- علاقة الفتاة الرومانسية بهذا الجرف الجميل الداعى إلى حضنه، هى تقريبا عكس علاقة إيفان بأخيه أليكسى، تلك العلاقة التى منعته من الانتحار. هذا ما يشير إلى دقة ديستويفسكى فى إلمامه بماهية العلاقة بالموضوع. وعلاقة ذلك بالانتحار، بمعنى أنه يستحيل الانتحار إلا إذا أُعْـِدَم “الموضوع” (الآخر) تماما قبل الاقدام على فعل الانتحار ولو بجزء من الثانية، فبعد أن نادت الشجرة إيفان (ربما فى مقابل نداء الجرف للفتاة الرومانسية)، وتجهز الحبل الصناعى(المنديل والقميص).. “نعم قررت أن أنتحر” إذا به يلقى أخاه فيتغير كل شئ، (أكرر: “قلت لنفسي” – هكذا أكمل إيفان – هناك إذن إنسان أحبه أنا أيضا. وهذا هو ذلك الإنسان هذا هو الإنسان الذى أحبه. هذا هو. إنه أخى الأصغر” [42]. وعاد إلى الحياة.
الجرف فى حالة الفتاة الرومانسية ليس موضوعا وإنما هو رحم جاهز للإمتصاص فالتلاشى. ولكن أليوشا فى حالة إيفان هو موضوع وأى موضوع.
جـ- انتحارات ديمترى (الأفكار والدفعات) عامة كانت دفعات نزوية إنفعالية غير محسوبة، وقابلة للمراجعة بسبب أو بدون سبب.
”وكنت حاملا سيفى فى تلك اللحظة فسللته وودت لو أغمده فى صدرى”[43].
“أتراك تظن أنى سأنتحر لأننى لن أستطيع أن أجد ثلاثة آلاف روبل أردها إلى كاترين؟… الخ”[44].
د- فكرة الانتحار عند جروشنكا كانت عابرة وعادية.
“قد هجرها الرجل الآخر، الرجل الذى محضته ذلك الحب كله… وقد فكرت أن ترمى بنفسها إلى الماء… فأنقذها ذلك العجوز، أنقذها”[45].
ليس هذا انتحارا.
هـ – ثم يأتى انتحار سمردياكوف ليحتاج وقفة خاصة، فهو يعلن إعدام الموضوع الذاتى والخارجى فى آن – فهو عدم يذهب إلى عدم، بل ربما من بعد آخر هو عدم يكاد يتخلق من جديد بتحقيق عدميته (أنظر بعد – سمردياكوف)
6- العلاقة بالموضوع (جدل “الآخر”):
من هذا المدخل (الانتحار – العدم – الآخر) نتبين دقة إلمام ديستوفسكى بمعنى العلاقة بالموضوع، الأمر الذى يكاد يغمُض على كثيرين من المشتعلين بالطب النفسى، بل وبالتحليل النفسى أحيانا، حين يتصورون أن الموضوع هو شخص “حقيقي” فى الخارج، فى حين أن ديستويفسكى يلتقط بمنتهى المهارة” ما أستطيع صياغته فى ألفاظ تقول:
إن الموضوع هو شكل ومحتوى (معا) لحركة مرنة بين الداخل والخارج، ولابد من وجود علاقة موضوعية حتى يمكن تحريك وجود “داخل حى”. حدْس ديستويفسكى يلتقط ذلك، وهو يصفه مرة باعتبار أنه ذكرى صورة أم، ومرة على أنه لحظة حضور فى وصف أليوشا أيضا
“تلك الدقيقة الغريبة المبهمة من الحياة الداخلية التى عاشها بطلى الذى أحبه” [46]
ومرة على أنه حضور واعد، لكن بداياته تملأ الداخل الآن”
“ولتصبح إنسانا آخر، يكفيك أن تظل طول حياتك تفكر فى هذا الإنسان الآخر”[47].
إذن فالعلاقة بالموضوع تتمثل فى وعى ديستويفسكى بشكل فاعل موظف (قبل ميلانى كلاين وجانترب [48].. الخ) وهو يستطيع أن يميز بين الموضوع الحقيقى والموضوع الذاتى بشكل محدد. كما أنه أحاط بأبعاد الموضوع فى الداخل والخارج بشكل قوى متميز، وفى الفقرات التالية نركز على الموضوع البشرى أساسا:
أول حضول صريح للموضوع بالداخل كان له وظيفة وقائية، هى الوظيفة المانعة للانتحار وقد تجسد ذلك واضحا فى لحظة لقاء أليوشا بإيفان التى أشرنا إليها حالا.
مثال آخر: نجده فى صورة أم أليوشا داخل أليوشا، تلك الصورة التى أشرنا إليها أيضا والتى تكرر استدعاؤها، وهى التى ظلت ماثلة له، وهو يؤكد حضورها المالئ لوجوده، بما لا يمكن معه أن تعتبر مجرد صورة، أو ذكرى داخلية بالمعنى البديل.
الاتجاه الإيجابى، وهذا هو الأرجح، لأنه تمادى فى وصف البراءة حتى وصف بطله بالعجز الكلى عن المكر وهو يبتعد عن “الكلام قلة الأدب”[49].
لكن ديستويفسكى عاد يؤكد إيجابية هذا الموقف وأنه ليس أبدا عدم مبالاة، فقد سمح هذا الموقف “الموضوعى” – من أليوشا لوالده – أن يطمئن إليه بالتالى يقول الوالد فيدور لابنه أليوشا: “أنت الإنسان الوحيد فى هذا العالم الذى لم يتهمنى ولم يُدِنّى…”[50].
يذكرنا هذا الحديث عن عالـَـم شخوص الداخل بالتأكيد على رفض مقولة أن الشخوص عند ديستويفسكى هم أفكار تتجسد، لأننا من هذا الضوء على الموضوع الداخلى يمكن أن يتضح لنا كيف أن الذوات هى التى تحضر فى أفكار[51]. الحد الفاصل بين الفكرة والشخص والصفة، يخفت أو حتى يمحى حين نقترب من الموضوع الداخلى / الخارجى معا.
ديستويفسكى يتقن وصف الموقف الشيزيدى (حيث “لا موضوع”-بمعنى الهرب من الموضوع كلما لاح.. أو إنكاره أو ابتلاعه.. ألخ) يتقن وصفه إتقانا هائلا كلما اقترب من وصف إيفان عامة، بل إنه بلغ من حذقه فى هذا الصدد أن جسـد هذا الموقف فى أقوال شخص ثانوى لم يظهر فى الرواية أصلا وهو الطبيب الذى جاء ذكره على لسان الأب زوسيما “يقول الطبيب الشاكى للأب زوسيما.
“ولكننى لاحظت فى كل مـرة أننى كلما ازددت كرها للبشر أفرادا، ازدادت حرارة حبى للإنسانية جملة”[52].
ثم يستطرد:
”… لقد أرتضى أن أصلب فى سبيلها (الإنسانية) إذا بدا ذلك ضروريا فى لحظة من اللحظات، ومع ذلك لو أريد لى أن أعيش يومين متتاليين فى غرفة واحدة مع أى إنسان لما استطعت أن أحتمل ذلك، .. فمتى وجدت نفسى على صلة وثيقة بإنسان آخر أحسست بأن شخصيته تصدم ذاتى وتجور على حريتي”[53].
أليس فى هذا معنى سارترى أن الآخرين هم الجحيم؟ وأيضا أليس هذا المعنى هو قريب لمعنى المثل المصرى الشائع “أحب الناس واكره طبعهم”؟
الفقرة التالية أوضحت علاقة أخرى بالموضوع، نهملها أو ننكرها علاقة نتجنبها فى الأغلب، مع أنها جزء لا يتجزأ من حركية العلاقة بالموضوع. الكره يمثل هذا الجانب الآخر للقضية: الكره علاقة قوية عكس الشائع من أنها علاقة سلبية، لكن يبدو أن هذا ليس واضحا تماما لديسيتويفسكى، حيث لاحظت أنه يعتبر الكره سلبيا معظم الوقت، وهذا من مآخذ الإستقطاب الذى يقع فيه ديستويفسكى كثيرا وليس دائما، قد رجحت أن ذلك ربما يرجع إلى نوع مسيحيته غالبا[54].
وقد أعطى ديستويفسكى وهو يتجول فى الرواية هذه العلاقة الشيزيدية حقها فى الوصف التفصيلى، وهو بقدر ما وصف أشكالها تطرق إلى بدائلها ونقائصها.
أ- فهو يعلن الحاجة الصريحة للاعتمادية على الآخر لحما ودما، وخاصة إذ تتعرى هذه الحاجة صراحة بتأثير الخمر، ولكن بانتقائية دقيقة
“ففى تلك اللحظات إنما كان يجب أن يوجد على مقربة منه فى المبنى الملحق على الأقل…. رجل يمكن أن يحميه عند الحاجة”…
“مـمن يحميه؟ من إنسان مجهول..، ولكنه رهيب خطر.. كان لابد له حتما فى مثل تلك الساعات من أن يوجد على مقربة من كائن آخر”[55]. وكان فيدوركارامازوف يعنى بذلك الخادم العجوز جريجورى.
ب- بقدر ما يدرك ديستويفسكى أهمية وصدق هذه الاعتمادية -يستطيع أن يرصد نوعا آخر من العلاقة وهى “العلاقة الالتهامية” وهى علاقة شيزيدية أيضا:
”إن تلك الوغدة جروشنكا.. فى وسعها أن تزدردك لقمة واحدة”.
جـ- وإذا كانت “الثقة الأولى”[56] التى ظهرت فى أليوشا كانت ذات علاقة بأمه وصورتها التى ظلت تحل فى وعيه فتملؤه، فإن اللا-ثقة[57] التى ظهرت من البداية فى سمردياكوف امتدت لتعلن أنه:
“وهو لا يحب أحدا على كل حال”. وهذه اللا-ثقة تؤدى إلى القسوة مع انتفاء الموضوع”.
وكان – سمردياكوف – أثناء طفولته يجد لذة كبيرة فى أن يشنق قططا ثم يدفنها بعد ذلك محتفلا بدفنها احتفالا طقوسيا كبيرا “[58].
من هنا جاء تحفظى على اعتابر سمردياكوف مجرد أداة لوعى إيفان البغيض، بل لعله قد قتل فيدور كارامازوف الأب كما كان يقتل القطط ثم الكلاب لا أكثر (ولا حتى بسبب السرقة)- ثم هو راح يقتل إيفان باتهامه أنه القاتل الحقيقى، – ثم هو يتخلص من النقود، تخلصا مكافئا للانتحار، ثم هو يقتل نفسه بنفس السلاسة، ولكن مع ظهور احتمال خلاص وتطهـر فى آن. (أنظر بعد)
إنتحار سمردياكوف له وضع خاص. فهو ليس يأسا، ولا جذبا، ولا رومانسية درامية، ولكنه أقرب ما يكون إلى التخلص من الموضوع كما ألمحنا سابقا. وإذا كان أليوشا، رغم انطوائيته قد نفى عنه ديستويفسكى أنه حالم منطوٍ، أى نفى عنه شيزيديته بشكل ما، فإن كلا من إيفان وسمردياكوف كانا يمثلان التراوح بين اللاعلاقة والعلاقة التوجيسية الشديدة، وهو الموقف “الشيزيدى / البارنوي” معا[59].
د- كأن ديستويفسكى هكذا يعرض لنا بصراحة شبه مباشرة مشكلة الثقة الأساسية، فى مقابل التوجس الأساسى.، Basic trust versus Mistrust [60] إذ يعرض أليوشا فى مقابل سمردياكوف.
أما موقع ديمترى وإيفان على متدرج الثقة: اللا-ثقة فهو أقل وضوحا، وإن كان يمكن أن نضع ديمترى فى موقف أقرب إلى الثقة من إيفان، دون إبداء أسباب
كذلك غير واضح لماذا التقط أليوشا الثقة الأساسية من أمه، وهو الأصغر دون إيفان. هل يا ترى يرجع ذلك إلى أن الطفل الأكبر، ناتج علاقة زوجية من هذا النوع، (هرب اختطافى، فتسليم ذليل، فكراهية رافضة)، هو الذى يكون الَمسقط الأهم لمشاعر الإحباط والإهمال والإنكار؟ وبالتالى ينمو جافا فارغا؟ ثم يأتى الطفل الثانى الأصغر بعد أن يكون الأكبر قد امتص كل مصائب الإسقاط والاستعمال، يأتى الأصغر فيقوم بدور الطفل الحقيقى، فيحظى بقدر كاف من “الشوفان” “والدفء” ومن ثَمَّ بالقدر المناسب من الثقة الأساسية.
هـ - ثم لا أعرج كثيرا إلى سائر العلاقات فى الأبعاد المختلفة والمحتملة، لأن ديستويفسكى قد عرض بانوراما من العلاقات لم ينس منها حلقة واحدة ناقصة، لكننى أشير بوجه خاص إلى علاقة كوليا بأمه، حيث أصبح كوليا مستهدَفا لعواطفها الفجة السطحية التى أسماها “عواطف العجول” وليس حب الأم، فكان ما كان. لم يكن كوليا موضوعا لحب أمه فى ذاته، بل أصبح بديلا وملجأ واعتذارا ضد أية علاقة جديدة ناضجة محتملة يمكن أن تنشئها الأم مع مدرس كوليا مثلا.
7- الحب وأنواعه:
العلاقة بالموضوع تظهر بوجه خاص تحت لافتة أخرى وهى لافته الحب. رصد ديستويفسكى فى الإخوة كارامازوف ضروبا من الحب تدل على تمكنه من سبرغور هذه المنطقة بنفس الدقة، وإن كانت المباشرة فى وصف أنواع الحب كادت تصبح صارخة فى بعض الأحيان.
نستعرض بعض أنواع الحب- بعد مقدمة لازمة- كما وردت فى الرواية:
مسألة الحب والعشق والغرام عند ديستويفسكى مسألة معقدة متداخلة وجوهرية، إذ أن ديستويفسكى يقدم فى معظم أعماله ذلك النوع من الغرام والهيام اللذان يميزان أغلب اندفاعات أبطاله، وهو نوع لا أستطيع – مثلا – أن أصفه بالرومانسية أو بالعشق، وإنما قد يصح أن أصفه بهما معا، هو حب فيه السهد، والهجر، والعواذل، والصد، والخيال والاندفاعات، والهرب، حب ساخن منطلق، لا يمكن أن يتصف بالنضج. ديستويفسكى يسهب فى وصف هذا النوع من الحب: حتى تحس بحرارته تلفح وجهك من بين الكلمات، لكنك سرعان ما تضيق بها حين تنقلب الحرارة إلى جو قائظ، أو لسع لهيب، وهو لا يقصر هذا النوع على العلاقة بين رجل وامرأة، (وإن كان هذا هو محور هام جدا فى كل رواياته) وإنما هو يصفه “هكذا” بين طفل ووالده، أو بين شيخ ومريده، أو بين أخ وأخيه، وهو لا يتردد فى أن يقـَّبل أى من هؤلاء حبيبه فى شفتيه، وأن يتغزل فيه، وأن يضحى من أجله، من أول الأطفال فى نيتوتشكا نزفانوننا حتى مذلون مهانون، حتى الإله والشيخ فى كارامازوف.
المرأة عنده لها حضور خاص، وعنده نموذجان غالبان للمرأة، محبوبتان كلتيهما عادة، وقد ظهرتا هنا فى صورة جروشنكا وكاتيا، وفى الأبله فى صورة أنا ستازيا وبنت الجنرال.. وهكذا. أنا لم أستقبل شخصية جروشنكا (ولا أناستازيا) باعتبارها “المومس الفاضلة”، ولكن باعتبارها جمال الحياة الدنيا جنسا حيا متكاملا مجسدا فى هيكل بشرى نابض [61] – ومع ذلك فديستويفسكى لم يركز على الجنس – جنسا لحما ودما – باعتباره الدافع الحقيقى وراء هذه العلاقة العاطفية المتوهجة، (مهما بدى سلوك جروشنكا أو أناستازيا) بل إنه يكاد يتجاهل الجنس حتى نشك أصلا أنه يحدث فى أى مرحله من فيض الإغواء والإغراء، والكر والفر، التى يصف بها العلاقات. جروشنكا : لا هى طفلة فقط، ولا هى إغراء فقط، ولا هى نضج فقط، ولا هى جمال فقط، ولا هى جاذبية فقط، ولا هى طيبة فقط لكنها بعض كل ذلك (فى حين أن أناستازيا الأبله كانت كل ذلك).
والآن إلى بعض أنواع الحب:
- الحب الغرام ربما يصلح له لفظ العشق أيضا: وهو نوع هذا الحب الذى وصفتـُه الآن. هذا النوع عادة متعدد الأطراف، فلم يوجد – فى علمى – حب بهذا الدفع والحرارة والإصرار والتضحية والهجر والود والإقبال والشوق إلا وكانت له أطراف عدة، وهذه الأطراف تتجمع. حول امرأة بذاتها، لها صفات أناستازيا أو جروشنكا (أنظر الفقرة قبل السابقة).
- الحب الفعال (وهو يرادف ما يسمى بالأجابية Agape أو المحبة المسيحية): وهو يقع فى أقصى الناحية الأخرى، وهو حب “يقتضى جهدا، ويتطلب صبرا، وهو بالنسبة لبعضهم كالعلم يجب تحصيله”. “- إن الحب الفعال شى قاس رهيب إذا قيس بالاحلام التى يحملها المرء عنه” [62].
- حب الرب: وهو الذى يصفه: زوسيما وهو يحدَّث هوخلاكوفا (أم ليزا)
“فى اللحظة التى ستلاحظين فيها مذعورة أن جميع جهودك ضاعت سدى بغير جدوى فتتصورين أنك ابتعدت عن الهدف بدلا من أن تقتربى منه، ثقى أنك فى نفس اللحظة نفسها تكونين فى الواقع قد بلغت الهدف، وسترين بوضوح ما أحدثه حب الرب فى نفسك من معجزة” [63].
ديستويفسكى يتكلم عن حب الرب بلهجة أخرى فيها الابتهال والقسم.
“اللهم.. لا تحكم علـى لأننى أحبك يا رب، اللهم إننى خبيث دنئ، ولكنى أحبك، وحتى فى الجحيم إذا أنت أرسلتنى إلى الجحيم، سأظل أحبك”.
وما بين الحب الفعال والعشق الرومانسى (إن صح التعبير) نجد أنواعا مختلفة من الحب مثلا:
- حب الإخوة: وهو نوع خاص هنا جدا لأن الاخوة وكلهم كارامازوفات – كما ذكرنا – لم يحبوا بعضهم هكذا لأنهم إخوة وإنما لأنهم كارامازوفات، وقد أشرنا إلى ذلك من قبل، وخاصة الدرجة التى جعلت حب أخ لأخيه يحول دون الانتحار، بل ويعطى طعما مستمرا للحياة.
من أول لقاء بين الأخوة، وربما لأنهم كارامازوفيين كان الاستعداد للإندفاع فى حب بعضهم، والخوف من الإقتراب من بعضهم البعض، يجريان فى نفس اللحظة.
“كان أليوشا ينتظر بقلق غامض تخالطه خشية، اللحظة التى يقرر فيها أخوه أن يقترب” [64].
ويمكن أن نتتبع هذه العلاقة الأخوية وهى تدعم مرة من ناحية الأب زوسيما، و هو يقول لأليوشا:
“إبق قرب أخويك الأقرب واحد منهما، بل قربهما كليهما” [65].
أو حتى من الأب المتخلى وهو يقول لايفان.
“… هل تحب أليوشا”- ثم يكرر الأب “يجب أن تحبه” [66].
ووجه الشبه، حتى مع ظاهر التناقض كان قريبا من وعى الإخوة، وقد صرح به أكثر من مرة مثلا فى حوار ديمترى مع أليوشا، حين يعترف أليوشا ” بل لأننى مثلك”
فيستبعد ديمترى
” أنت؟ أنت مثلى؟ ألا إنك لتبالغ قليلا…” [67].
- حب الذات (أو صفاتها) مُسْقَطاً على الأخر:
(أ) كانت (كاتيا) صادقة كل الصدق فى قولها.
“…، إنه لا يحب جروشنكا الحقيقية، بل يحب حلمها هى بها، يحب الوهم الذى قام فى ذهنها عنها”.
(ب) ثم رؤية ديمترى:
“لا… إنها لا تحبنى أنا، وإنما تحب نبل نفسها وأريحية قلبها وشهامة روحها [68].
(جـ) “أوه ميتيا، لقد أحببت هذا الرجل (الكابتن) مع ذلك، أحببته أم كنت أحب حقدي؟ لا بل أحببته هو أوه نعم هو هو، أكذب إذا زعمت أنى ما أحببت إلا حقدى.
- الحب بالإنعكاس اللحظى الحاضر الماثل:
”وما إن رأى ميتيا صاحبته جروشنكا حتى شعر بغيرته تتبدد وتزول… ولكن ما إن غابت جروشنكا عن عينيه حتى عاد يتصور فيها جميع حقارات الخيانة ودناءاتها دون أن يشعر أثناء ذلك بأى ندم أو عذاب ضمير” [69].
هذا النوع من الحب هو عكس الحب الحالم، وله علاقة ما بغياب أو خفاء الموضوع الداخلى.
- حب المجرد أو المطلق: مثل حب الإنسانية، وقد سبق الإشارة إليه باعتباره بديلا عن حب الموضوع الواقعى الحى، [إلا أن ظهوره فى سياق آخر قد أوحى إلىَّ أنه قد لا يكون دائما تجريدا فكريا.
”أصبح يحب الإنسانية من جديد حبا صادقا لا تردد فيه” [70].
نلاحظ أن الحركة الطازجة التى صاحبت إعادة النظر هى التى تبعث فى هذا الحب المجرد نبضاً ما.
- حب الحياة: حب الحياة كما قدمه ديستويفسكى هنا هو حب موضوعى حى متدفق، ليس مرادفا لحب الانسانية المجرد، وهو صفة أساسية من الكارامازوفية، ويصل حب الحياة إلى درجة قصوى تُخْجِلُ صاحبها الكارامازوفى متى وعى بها.
حين يصف ديستويفسكى حب الحياة، يكاد يؤكد على طبيعتة المباشرة النابضة بلا تجريد ولاتبرير:
” وعندى أن على كل إنسان فى هذا العالم أن يتعلم حب الحياة قبل كل شئ لا محاولة فهمها؟”[71].
برغم أن فرويد قد وضع اللذة فى مقابل الواقع، كما وضع الحياة فى مقابل الموت ثم كاد يقارب، إن لم يرادف بين اللذة والحياة، إلا أن ديستويفسكى هنا راح يفرق بين حب الحياة، واللذة، وخاصة تلك اللذة التى أشار إليها إيفان، والتى تتبقى من الحياة بعد الثلاثين (بعد أن ينطفئ حبها)، وذلك فى حديث إيفان عن الحد الفاصل لذلك التغير عند هذه سن.
” صحيح أن الإنسان لا يبقى له بعد الثلاثين شئ غير اللذة”
وهذه مبالغة لايمكن أن نعممها، فهى لا تصف إلا موقف إيفان، لأنه لو سار النضج مساره الطبيعى فإن التحام اللذة بالمعرفة بحب الحياة يضطرد بإنتظام.
- الحب التكفيرى: وهو الذى تحدد فى حكى إيفان: عن القس الذى راح ينفخ فى فم المتشرد يحييه ويرد إليه الروح.
“.. وإنما هو يلزم نفسه به (بهذا الفعل) إلزاما باسم حب لا يشعر به، فكأنه قد قام بهذا العمل بدافع التكفير عن ذنبه، فهو يعاقب نفسه على افتقادنا المحبة.”[72].
- الحب الكره:
” هو ذلك النوع من الكره الأهوج الطائش الذى لا تفصله عن الحب الجامح المجنون إلا شعره”.
- الحب اللاحب:
”إنك لا تحبين أخى ديمترى – لأنك تخيلت حبا مصطنعا لديمترى”[73].
- الحب المذلة
– إنك لاتحبين إلا ديمترى… وستحبينه مزيدا من الحب على قدرما سيذلك.
وبعد:
فبالرغم من هذا المعجم المفصل لأنواع وتقسيمات الحب، إلا أننى لم أجد فى نفسى سماحة التلقى، ولا فرحة الدهشة كلما راح ديستويفسكى يفتى فى هذه المنطقة، وتقديرى تفسيرا لذلك أنه كان رازحا طول الوقت بين قطبين: دفق غامر يفيض عليه فى إتجاه العشق الحار المتفجر، وشوق هائل إلى ممارسة محتملة للمحبة المسيحية التى أعتقد أنه عجز – شخصيا – عنها فراح يصورها وهو يسعى لها بكل هذا الإلحاح والشطط، وفيما بين هذا وذاك راح يحكى، أكثر منه يعايش الأنواع الأخرى بهذه الصورة التى اشتملت على درجة عالية نسبيا من العقلنة.
8- “التعدد” بمستوياته:
أن يكون هناك صوتان داخليان أو أكثر، هذا أمر وارد وهو متواتر فى كثير من الأعمال الروائية، لكن ديستويفسكى كان يقدم هذا التعدد بطريقته الخاصة، فهو ليس تعدد أصوات فحسب، بل تعدد إدراك، وتعدد نزعات إلخ، إذن: فهو تعدد ذوات كما أشرنا ابتداء فيما يتعلق جزئيا بالأقواس وتوظيفها، ثم نشير هنا إلى طبيعة تقديم التعدد وفنياته.
أ- فأحيانا يحضر هذا التعدد فى صورة ملاحظة موضوعية لتناقض أو تذبذب سريع مثل موقف فيدور بعد موت أديلائيد.
“فأخذ يركض فى الشوارع رافعا ذراعيه إلى السماء صائحا بأعلى صوته: الآن حررت عبدك يارب، “ذلك مارواه بعضهم، ولكن فى رواية أخرى أنه حين علم بالنبأ أخذ ينتحب انتحاب طفل صغير، فإذا رآه الرائى أخذته به شفقة، وقد تكون الروايتان كلتاهما صحيحتين”[74].
ب – وأحيانا يظهر التعدد فى صورة احتمال أو ترجيح ” نصف مزاح”
” أعلم أنك لم تمزح إلا نصف مزاح “[75].
3- وأحيانا ما يعرض التعدد صريحا مباشرا من خلال بصيرة ذاتية حادة
”إن فيدور بافلوفتش “المهرج الماكر العنيد الذى يعرف كيف يكون صلبا فى بعض شئون الحياة على حد تعبيره، كان ضعيفا إلى أقصى درجات الضعف فى شئون أخرى من شئون الحياة” [76].
وقد استقبلت هذا الوصف ليس بمعنى المزاج المتقلب ولكن بمعنى البصيرة فى التعدد، التى تظهرها أكثر فأكثر لأنه موقف استجابة انتقائية، خصوصا إذا تابعنا الفقرة التالية فيما يتعلق بالخوف والاعتمادية
جـ- وقد تصل حدة هذه البصيرة فى التعدد أنها تصف مراجعة الداخل واكتشاف احتمال التصنع بأنه نتيجه ليقظة “شخوص أخري” أسماها “الجواسيس على قلب الإنسان”.
“إيفان: “تلك تفاصيل لم يكن من الضرورى أن أرويها لك على كل حال ويخيل إلى أننى زخرفت قولى قليلا حين وصفت لك تلك الصراعات كلها.. تبا لجميع الجواسيس على قلب الإنسان” [77]“.
وتبدو البصيرة فى التعدد أكثر حدة وحين يصف ديستويفسكى يصف الضابط سينجريف
”.. وفى نفسه ترى وقاحة قصوى، ولكن يرى فى الوقت نفسه جبنا شديدا، وهذان أمران يدهش المرء اجتماعهما..”
… أوقل بتعبير أدق إن هيئته هيئة رجل يشعر برغبة قوية فىأن يضرب، ولكنه يخاف خوفا قويا من أن يضرب هو نفسه.
وكذلك فى نبرات صوته نوعا من سخرية متبذلة هى تارة شريرة خبيثة، وهى تارة أخرى خائفة وجلي”.
ونحن إذ نتلقى هذا الوصف بإدراكنا المألوف عن المنطق واللغة يمكن أن نتكلم – عن تقلب المزاج، ولكن تصور معى (مثلا) أن السخرية هذه -شخصيا- هى “ذات” لها صفات.
ديستويفسكى قادر على ذلك بل وهو قادر على التعامل مع أجزاء الجسم باعتبارها ذوات مستقلة كما نفعل أحيانا فى العلاج الجمعى الجشتالتى حين نعمل دراما صغيرة بين “قدم يهتز” وبين صاحبها.. إلخ يقول ديستويفسكى:
“وكانت عينه اليسرى كأنها تقول: “مادمت ذكيا هذا الذكاء كله فيجب أن تفهم سبب ابتسامتى” [78]
ويبلغ إدراك ديستويفسكى لهذا التعدد بصورته التركيبية المباشرة حين يعلن مباشرة كيف تلقى ديمترى كلمات القاضى فى ظروف وصفت بأنها شديدة الصعوبة، ثم إذا بالطفل “الولد الصغير” يقفز فى داخله….،” إلخ!.
”وحين نطق القاضى بهذه الكلمات الأخيرة “… أحس ميتيا فجأة أن هذا “الولد الصغير” سيمسكه من ذراعه فينتحى به جانبا ويستأنف معه حديثه الأخير عن” النساء الصغيرات”. هل يتصور أحد أية خواطر غريبة شاذة يمكن فى ظروف كظروف هذه اللحظة أن تومض فى ذهن الإنسان ولو كان هذا الإنسان مجرما يساق إلى التعذيب” [79]
أليس “هذا الولد الصغير” هو الطفل الداخلى فينا حقيقة وفعلا.
ثم تعدد آخر فى الكلام الداخلى والخارجى معا
“ارتعد إيفان غضبا وتمنى لو يصيح قائلا “إمض أيها الجرف… أأنا من يكون صاحبا لرجل أبله من نوعك؟ فما كان أشد دهشته حين رأى نفسه يخاطبه بطريقة تختلف كل الاختلاف عن هذه الطريقة” [80]
9- الايمان والتدين:
من أسخف ما وصف به إنجاز ديستويفسكى فى هذا العمل (كارامازوف) هو أنه يحاول إثبات وجود الله، ومن أسطح ما استشهد به المسطحون هو ذلك القول الذى تكرر طوال الرواية من أنه “إذا لم يكن الله موجودا، فكل شئ مباح” وكأن مجرد وجود الله هو الذى لا يجعل كل شئ غير مباح، والمتدينون التجار – سامحهم الله – يروجون لدينهم بطريقة التسويق فى سوق المواشى، أو إعلانات التليفزيون، وهذا كله إستهانة بالدين، وتسطيح للعمل، أما كيف قرأت وعى ديستويفسكى بالدين والإيمان من خلال هذا العمل فإليكم ما كان:
1- أكاد أستطيع أن أعمم قائلا: إنه لم يظهر فرد فى الرواية صغيرا أو كبيرا لم تمثل عنده قضية الإيمان ووجود الله (وليس فقط الدين) محورا خطيرا وأرضية متفجرة.
لا الأب: الشهواني/ الفيلسوف/الطفل.. المنحل الوحيد.
ولا إيفان: الملحد المثقف المتألم المحتج الجاف المنسحب.
ولا أليوشا: المؤمن الراهب الطيب المسامح الشاك قليلا.
ولا ديمترى: المندفع اللذى.
ولا إيليوشا ابن الكابتن سينجريف
ولا أبوه.
ولاإخوته.
ولا أمه.
ثم ها هو سمردياكوف يعرى القضية منذ البداية، ويجردها من أى ليونة أو تقريب، ثم يعيشها بعنفها، ويدفع ثمنها كاملا غير منقوص، ويتركنا دون أن نتركها مرغمين، وهو يعلن بيقين مباشر أن الله ثالثها (هو وإيفان)…، … وينتحر.
2- كانت قضية الإيمان تزدهر فى وعيى – كمتلقٍ- كلما بعدنا عن الدير والرهبان والشيوخ والكتبة، كما كان وعيى يتسطح ويكاد يُـفرغ منها – إلا قليلا – كلما أفرط الكاتب فى الخطب والوصايا والوعود والتفسيرات.
3- كان التناول الفكرى لقضية الله/الإيمان تناولا حيا يـُـرى ويعاش لدرجة أنه يتجاوز الإقناع المنطقى، رغم أنه ملئ بأفكار الإقناع المنطقى، وكان الحد الفاصل واضحا بين معايشة القضية: مثلما يفعل الأب فيدور الذى يعلن كفره بالآخرة، وفى نفس الوقت يمارس كل تحفظات ومخاوف واستغفار ودعاء المتدينين، وبين الحديث فيها مثل حديث سمردياكوف بالذات (أكثر من إيفان) الذى وصفه فيدور فى هذا الموقف أنه “يجمع آراء ويراكم أفكارا”.
4- نجحت المحاولة التبشيرية لديستويفسكى فى إظهار الجانب النفعى للإيمان من ناحية، لكن الأهم من ناحية أخرى أن نرى كيف نجحت محاولته فى إظهار إستحالة الإلحاد التام بمعنى حضور الله فى جدل الوعى الشخصى والكونى . هذا كما أننى أعتبر أن محاولته قد فشلت فى إظهار علاقة الدين بالأخلاق ودوره فى الحيلولة دون الجريمة رغم إلحاح تكرار عكس ذلك.
5- إلحاح مقولة أن الحب الفعال (المحبة، (agapeهو الحل، كان إلحاحا مسيحيا شديدا لدرجة تغرى باغتراب مثالىّ، وبرغم وعى ديستويفسكى بتصنيفات الحب ودرجاته، وبرغم إصراره على نوع الحب الذى هو الحل، وهو ما أسماه بالحب الفعال، إلا أن المحصلة فى النهاية قدمت هذا الحل مغتربا عن الطبيعة البشرية بشكل أو بآخر، وخاصة بعد أن تمادى فى السماح بهذا الاستقطاب المخل : ما بين الملائكية وبين ما هو حشرة منفصلة تماماً، حتى لو ألحق ذلك بسهم يشير إلى طريقٍ ما نحو التكامل.
6- برغم أن الرواية قد اشتهرت بأنها قتل الأب (الأمر الذى تحفظت تجاهه منذ البداية) إلا أن ديستويفسكى لم ُيظهر الله فى صورة الأب، على قدر رصدى، وبالتالى هو يناقض أو يهمل المقولة الفرويدية اللاحقة كما ألمحت سابقاً.
7- كان التناول الساخر لمسألة استعمال واختراع الله أعمق وأكثر دقة من محاورات النفى والإثبات بالمـنـطـقة والبرهان.
فيدور:
”أما أنا فلا مانع عندى من أن أعتقد بوجود الجحيم ولكن شريطة ألا يكون لها سقف” [81].
إيفان
”خسارة… لا يعلم أحد ماذا كان يمكن أن أصنع به ذلك الذى اخترع الله أول من اخترعه، إن الشنق قليل عليه” [82].
ثم أنظر أليوشا نفسه حين يقول ردا على أبيه.
”فيدور – لولا الله لما وجدت المدينة.
أليوشا – لا… ولما وجدت خمور أيضا” [83].
فأليوشا هنا هو الذى يلمز.
أو انظر زعم فيدور لسمردياكوف، أن المسألة مسألة وقت للتفكير.
”.. إن خفة العقل وحدها هى التى جعلتنا جميعا غير مؤمنين، ذلك لأن وقتنا لا يتسع للتفكير فى الله، فنحن أولا… والرب ثانيا قد ضن علينا بالساعات فجعل يومنا 24 ساعة فقط”[84].
هذه سخرية مزدوجة، وكأن المسألة- مسألة الإيمان – تحتاج إلى تدريب فكرى ونظريات مثل حل تمرين هندسة أو حل لغز كلمات متقاطعة، وفى نفس الوقت هى ليس لها من الأهمية ما تستحق معه التقديم لتحتل ساعة من الأربع وعشرين ساعة العادية.
8- كان فى عمق المؤمن “أليوشا” شك واضح، وفى عمق الملحد “إيفان” توجه إيمانى وشوق إلى وجه المطلق لا يعرف كيف يهرب منه.
9- تحركت قضية الإيمان أحيانا، بل كثيرا، بغير تحديد لأبعادها ومحتواها، وإنما فى إتجاه محدد.يقول فيدور عن الشيخ وعن بيرون
“… لقد قال جازما قاطعا وهو يتحدث إلى الحاكم شولتز: أنا أؤمن، ولكن لا أدرى بماذا” [85].
10- وقد تمنطق ديستويفسكى حتى أثبت أن المعجزات لا ُتْثبِت الدين إلا عند المتدينين فى حين أن الإيمان هو الذى يستدعى المعجزات.
11- وفى نفس الوقت بدا فيدور شديد رفاهية الحس، حتى أن رواية معجزة تافهة (من بطرس ألكسندروفتش فى عشاء عابر) قد كلفت فيدور إيمانه!! أنظر كيف هو صادق مع الكلمة، وكيف يمكن أن تضر خطب الجمعة إياها بإيمان المؤمنين.
12- ثم إنه أشار إلى فضل وموضوعية عدم الحسم وخاصة بالنسبة لإيفان مع التأكيد على أن الإيمان فطرى “قانون القلب”: يقول له الشيخ زوسيما:
” أنه إذا لم تتوصل لحسمها إيجابا لن تتوصل إلى حسمها سلبا، وذلك بسبب قانون فى قلبك تعرفه حق المعرفة. وذلك هو بعينه عذابك” [86].
وقد تَوافَقَ هذا القول مع يقينى الشخص أن الايمان أساسا هو – أو يهدف إلى – تفعيل – او تخفيف – تحقيق تنظيم بيولوجى أساسى، هو لحن الفطرة البشرية الفردية فى جولها مع اللحن الكونى الممتد. هذا المنطلق هو الذى يجعل الإلحاد مستحيلا بيولوجيا، وإن كان التفكير الإلحادى غير ذلك.
13- والواقع أننى لم أتبين موقع الخلود فى قضية الدين كما عرضها ديستويفسكى – وخاصة بالمقارنة بها كما عرضها محفوظ فى الحرافيش[87] فقد اعتبر إيفان الخلود (على لسان رواية بطرس ألكسندروفتش) أنـه.
“… فإذا كان قد وجد أو ما يزال يوجد على هذه الأرض شئ من الحب، فليس مرد ذلك إلى قانون طبيعى، بل إلى سبب واحد هو اعتقاد البشر بأنهم خالدون” [88].
هذا هو الذى وصفه فيدور فى هذا الموقف أنه “يجمع آراء ويراكم أفكارا”.
”بل سرعان ما سيفقد البشر كل قدرة على مواصلة حياتهم فى هذا العالم، أكثر من ذلك أنه لن يبقى شئ، يعد منافيا للأخلاق. وسيكون كل شئ مباحا [89]… الخ.
إذن فقضية كل شئ مباح هى متعلقة بالخلود، بمعنى ارتباطه بالعقاب والحساب وليس بالله ووجوده، اللهم إلا إذا كان الإعتقاد بوجود الله هو الخطوة نحو الإعتقاد بالخلود أى بالحياة الآخرة – إذن فالخلود غالبا عند ديستوفسكى (هنا) عكس نجيب محفوظ (فى الحرافيش)، هو خلود واحد عيانى فيما بعد الموت، وكأن الخوف من الآخرة (وليس من الله ولا من مخالفة الطبيعة) هو الدافع لاتخاذ الموقف الأخلاقى المانع للجريمة.
لكننى ألمح عمقا آخر وإن لم يكن قد أخذ موقفا متميزا، ألمحه مثلا فى قول أليوشا: “… إن الخلود موجود فى الإله” [90].
14- ثم إن أليوشا قد صرح فى حديثه مع ليزا مباشرة، أنه
- “راهب.. ومع ذلك قد لا أكون مؤمنا بالله” [91].
15- وأخيرا مناقشة إيفان (الملحد!!!)، كانت شديدة الوضوح سليمة المنطق.
”.. سأقول لك فورا أننى أسلم بوجود الله دون مناقشة أخرى، ولكننى أحب أن تلاحظ مايلى: إذا كان الله موجودا، وإذا كان قد خلق الأرض فعلا، فهو إنما اتبع فى هذا الخلق… قوانين هندسة إقليدس [92].
لكنه تمادى فيها إلى درجة المغالطة “لست أسلم بوجود الله فحسب، بل أسلم أيضا بحكمته العليا وبغاياته [93].
ثم أعلن أن سبب إلحاده هو افتقاده العدل، وعدم فهمه مبررا للقسوة على الأبرياء.
” لست أرفض الله، ولكننى أرفض العالم الذى خلقه ولا أريده”.
ثم أؤمن بانسجام أبدى علينا أن نذوب فيه. أؤمن بالكلمة التى يتجه إليها الكون “الكلمة التى هى الله” وهلم جرا إلى غير نهاية.
ولكنه يفاجأ بأن كل هذا التسليم والإيمان لم يقم عدلا ولم ينقذ طفلا.
”ولهذا السبب (تعذيب الأطفال) ترانى أتنازل عن الإنسجام الأعلي”[94].
”إن الثمن المطلوب للانسجام باهظ جدا.. لذلك أسارع بتسليم بطاقتى” [95].
إذن فإيفان لم يلحد – رغم بداياته المنطقية – إلا احتجاجا على ظلم الطبيعة وظلم الناس ومن ثم افتقاده للقانون الموضوعى العادل.
16- وأخيرا: أين الجنة فى هذا العمل ؟
”إن كلا منا يحمل فى نفسه جنة مدفونه إن هذه الجنة قائمة فى نفسى وإن تكن مختبئه، وحسبى أن أريد، حتى أجعلها تنبجس منذ اليوم فأحتفظ بها طوال حياتي” [96].
وبعـد
فعرض الدين والإيمان والله والخلود والجنة بهذه الأبعاد المتداخله، وهذا الحوار المتصل كان من أهم ما قام به ديستويفسكى فى هذه الرواية تحريكا لوعى التوجه نحو الهارمونى المنتظر، لكن أن يكون الإيمان فى النهاية أو الدين هو ما يمثله أليوشا أو زوسيما فهذا أمر يحتاج إلى وقفة للأسباب التالية:
1- رغم إعلان شك أليوشا العابر (وأحيانا زوسيما)، فسرعان ما يبدو هذا الشك من المؤمن مثل أليوشا وزوسيما أشبه بالمناورة التكتيكية وليس بالموقف الوجودى، إلا أن “الحب” كان جاهزا، والسماح كان غير مميز ولا هو محـرك لمقابله بشكل حيوى، وهو مرتبط بفعل واقعى موضوعى بدرجة أقل مما تقنع، ثم إنه ليس ماثلا فى أكثر من طبقة من طبقات الوعى.
2- موقف أليوشا-المثل الأعلىلما هو دين وإيمان كما يرى ديستويفسكي- بالنسبة لعائلة إيليوشا كان-عندي- موقفا أقل من آلامهم بشكل أو بآخر.
3- خطبة – بل خطب – زوسيما كانت أطول من أن تُحْتمَلْ، أو تصل كما يريد لها.
4- النهاية الجنائزية للرواية تعلى من شأن “البَعْد” وليس “الآن” بشكل واضح.
5- الحل يبدو فرديا، ولا يبرر ذلك إلا رضاء ديستويفسكى أنه يكفى أن يكون ثمة إنسان واحد يعرف الحقيقة لينصلح الكون.
10- النهاية:
بعكس كثير من نهايات محفوظ، فإنى أجد نهايات ديستويفسكى شديدة الإتقان رحبة التفتح، وفى هذا العمل كان من البديهى أن تكون النهاية متعلقة بموت إيليوشا، وليس بهرب ميتيا، الذى تركنا ونحن غير متأكدين أنه سوف يتحقق أصلا، وكان كل هذا الألم، والأمل، المتعلقان بموت ميتيا هو الأرضية الحقيقية التى ينثر فيها ديستويفسكى بذور إبداعه وأزمة وجوده معا، ومع أنى ربطت بين كلمة الكتاب التى اختارها ديسوتويفسكى من إنجيل يوحنا[97] وبين موت إيليوشا إلا أننى وجدت أنها مقابلة تضعف النهاية لا تقويها، ثم إنى لمحت هتاف الأولاد “مرحى كارامازوف” وليس مرحى “أليوشا” وكأنه مقصود، من حيث أن ما يحمينا ويحافظ على أملنا هو الكارامازوفية بمعنى “حب الحياة” وليس هذا الجانب الواحد منها الذى يمتلكه “أليوشا”.
11- هوامش أخرى
(1) المرأة والأرض والحياة: شئ واحد؟
تكرر ذكر المرأة/الحياة بشكل مباشر “إننى أحب المرأة أحب المرأة وخاصة إذا كانت المرأة هى الحياة “جروشنكا.”.
ثم استقبلت علاقة الإثنين بالأرض استقبالا مرادفا
ميتيا “…. إننى أحب المرأة.. ما المرأة؟ هى ملكة الأرض.. “.
وحب “الحياة/ المرأة/ الأرض” بهذا العنف الحساس هو من أدق العلاقات التى يلحقها حزن حى، فهو يعقب مباشرة:
“أشعر بحزن ياهوراسيو أشعر بحزن شديد”
(2) الصورة والذاكرة المستقبلية:
هذا هامش سبق الإشارة إليه، ولكنى أركز هنا على أمرين:
(1) إن الذاكرة عند ديستويفسكى تكاد تكون دائما مصورة حية (ذاكرة أليوشا عن أمه مثلا)
(2) وأنها تُعْلن ابتداء كذخيرة حاضرة مستدعاة مستقبلية.
ب- “ومن بين ذكريات تلك الليلة ذكرى صغيرة ستظل تنبجس… الخ[98].
(3) وعن الطفولة:
وهذا أمر يحتاج إلى بحث خاص أيضا كنت قد بدأته [فى نيتوتشكا نزفانوفنا] (الفصل الثانى) وأتمنى أن أؤجله هنا حاليا إلى أن أعود إليه لأكمله مجتمِعا ضاما إيليوشا إلى كوليا من هنا، إلى هيلين من مذلون مهانون، إلى من يظهر فى “المراهقون”… الخ وقد يصل الأمر - حسب توقعاتى- أن أستخرج من آراء ديستويفسكى نظرية تربوية صالحة.
(4).. وعن الحيوانات:
لابد أن علاقة ديستويفسكى بالحيوانات علاقة ذات دلالات هامة ، فلا يكاد يخلو عمل له من كلب أو كلاب (مذلون مهانون)، أو حمار (الأبله)، وهو يستعمل الحيوانات فى حركية داخلية حتى ليكاد المتلقى الصادق يتلمسها داخل ذاته، وفى العمل الحالى ركز، وكرر إستعمالا خاصا لما هو “حشرة” فتجاوز بها الاستعمالات الأسبق.
لن أتطرق كثيرا إلى موضوع الكلب برزفونة أو بديله هنا مع أن له علاقة بشكل مباشر بالموقف السادى لسمردياكوف الذى سيأتى ذكره تفصيلا. لكن موضوع “الحشرة” واستعمال ديستويفسكى لها هنا بهذا الشكل هو الذى يحتاج منى إلى وقفة. وقد استعمل ديستويفسكى لفظ حشرة بلا تمييز، ثم استعمل لفظ “بقة”، ثم ميز نوعا محددا من الحشرة المتوحشة فى الداخل والخارج.
وبالإضافة لما سبق ذكره فى المقدمة حول هذه النقطة أقول:
لست أدرى أى حشرة متوحشة قفزت إلى ذهنى وأنا أركز على ما تمثله حشرة ديستويفسكى من حسية، أحسب أنها حشرة صلبة صغيرة قارضة، وليست سامة، شئ أقرب إلى الخنفساء، لكنها أصغر حجما وأحد أسنانا، شئ لابد أن يطرقع وأنت تفعصه، ثم هو لا يموت، فهل هذا ما أراد ديستويفسكى أن يوصله لوعيى..متلقاي؟ لعله كذلك.
فى تصويرى هذا التصور لما هو حشرة تصورتها الممثل الفعلى لحياة حسية بحته، حياة منفصلة عن الوعى، وعن الوجدان، وعن الفكرة، وعن الهارمونى، بل وعن الحياة، فصغتها هكذا:
الحشرة هنا هى : حياة الموت حسا منفصلا كجسم غريب، نيزكا شاردا على وشك السقوط عشوائيا حيث لا يدرى.
وكأنى بديستويفسكى يقول:
إذا انفصل الحس اللذة عن الوعى عن الوجود، عن الكل، عن الحياة، عن الكون، فهو ليس إلا حشرة بهذا الوصف الذى وصفنا.
وحين خاطب إيفان أليوشا قائلا
“فيك أيضا تحيا هذه الحشرة… إنها تغلى فى دمك وتهب العاصفة فى نفسك”[99] وقرأتها مباشرة وكأنها مرادفة للذة إذ ألحق بذلك:
”ذلك أن اللذة شر من زوبعة” بل شر من عاصفة”[100]
لكن ما لم أفهمه هو أن يردف بعد ذلك حديثا عن الجمال فيقول:
”الجمال شئ رهيب مخيف، هو رهيب لأنه لا يـُـدرك ولا يُفهم، لقد ملأ الله الأرض ألغازا وأسرارا. الجمال هو شطآن اللانهاية تتقارب وتختلط، هو الأضداد تتحدد ليحل بينها الوئام والسلام.”
فكيف يلحق كل هذا الوصف الرائع للتكامل بهذا الوصف للحشرة، وكيف يرى اختلاط الأضداد بعد كل هذا الذم فى الحشرة والتحذير منها؟ هل كان يدعونا بطرق خفية إلى الانتباه أنه من خلال الوعى بهذه الحشرة فينا، وليس بإنكارها، يمكن أن نواصل السعى إلى هذا الجمال الشىء الرهيب المخيف شطآن اللانهائية: حيث الأضداد تتحدد ليحل بينها الوئام والسلام!!؟
ثم إنى رفضت أن يكون القطب المقابل للحشرة هو الملاك.
لكنه للأسف وضع “الله فى الملاك” بنفس قدر الانشقاق الذى وضع فيه “اللذة فى الحشرة”.
هذا من أصعب ما رفضت، وإن كنت أعتقد مخلصا أنه اضطر لهذا الإستقطاب بشكل ما، لأسباب لا أعلمها، لأن بقية السياق يشير إلى عمق رؤيته للولاف وللحركة المحتوية لهذا الاستقطابالجدلى الرائع بشكل ما.
5- ثمَّ إغراء للمقارنة
إن الحدس الإبداعى الأصيل يلتقى مع غيره دون حاجة إلى إثبات سبق أو تأكيد مقارنة، يصح هذا أكثر فى الإبداع الجماعى فى الأسطورة والمثل العامى، كما يظهر بين إبداع الكاتب ونفسه، وإبداع الكاتب وغيره من معاصريه وغير معاصريه، ولا أظن أنه يفيد كثيرا أن أدخل فى تفاصيل مقارنات (خاصة مقارنات التفضيل) بصفة عامة، أو بصفة خاصة – لذلك سأكتفى هنا ببعض الإشارات العابرة لاحتمال مقارنات ممكنة:
(أ) احتمال مقارنة بين فهم دوستويفسكى لفكرة برج بابل الذى أراد البشر أن يشيدوه بلا إله، كما يحاولون ذلك الآن، لا ليرتفعوا من الأرض إلى السماوات بل لينزلوا السماء إلى الأرض، وبين مئذنه جلال صاحب الجلالة فى ملحمة الحرافيش لمحفوظ الحرافيش.
(ب) نص ديستويفسكى فى هذا المتن على عدة مقارنات مباشرة مثل انتحار أوفيليا وانتحار الفتاة الرومانسية، وبين مسرحية شيللر، وسفر بيرون..، فى القصيدة التى اخترعها إيفان إلخ.
(جـ) أغرانى هاتف ما أن أتذكر فلة وهى تعمل فى غرزة الحرافيش حين قرأت أن جروشنكا كانت قد عملت بعض الوقت لحساب فيدور فى خمارته .
(د) قفز إلى ذهنى تشبيه جريجورى لابنه الذى هو خطأ من أخطاء الطبيعة، – “لأنه “تنين”، “نتيجة أنه اختلط الأمر على الطبيعة”. بما جاء فى مائة عام من العزلة وخوف زوجة جوزيه أركاديو الكبير أن تلد إنسانا بذيل. وأيضا بولادة تمر بنوى فى سوق السمك (العطر رزوسكند)
(هـ) كذلك يمكن مقارنة أبله ديستويفسكى نفسه بكثير مما ورد فى هذا العمل، وكأن أليوشا هو تطور الأبله وكذلك يمكن – مقارنة أناستازيا مع جروشنكا، وحتى منظرحرق النقود فى المدفأة فى الأبله، مع منظر عرض النقود على الضابط سينجريف (والد إيليوشا).
(و) بل إن فكرة أن تجسيد “داخل” إيفان فى سمردياكوف (كما صورته ناقدا) قد ذكرتنى بصورة دوريان جراى ، وأيضا بالمعنى الذى عرضته فى قراءتى لابنة ريان: حيث تجسد المدرس فى القسيس، والضابط (اللذة) فى الأبله (البدائية).
(ز) أشرت سالفا إلى مقارنة “حشرة” ديسويفسكى هنا، بالقراضة “غرينوى” فى العطر، لباتريكزوسكند.
6- أراء فى الفلسفة والأخلاق والسياسة تستحق وقفة .
أ- نقد موقف المثقفين
” بل مثقفين أدعياء يحملون فى أنفسهم” مشكلات عميقة لا تحل”…. إن جوهر تفكيرهم هو ما يلى: من جهة أولى يستحيل التسليم ومن جهة أخرى يستحيل عدم الإنكار”[101]
أهمية هذا المقتطف هو أن ننتبه لوعى ديستويفسكى أنه إذا كان قد طرح الرأى ونقيضه على لسان شخوصه أو حتى على لسان نفس الشخص (إيفان مثلا)، فإنه لم يفعل ذلك مثل هؤلاء المثقفين الذين عراهم بهذا التعبير.
ب- وعن فلسفة الجمال.
”الجمال هو شطئان اللانهاية تتقارب وتختلط”
جـ- عن حق الحكم على آخر بأنه لا يستحق أن يعيش.
”هل تعتقد أن من حق كل إنسان أن يعـين… أولئك الذين ما يزالون يستحقون أن يعيشوا وأولئك الذين يجب أن يزولوا؟” [102]
د- وعن احترام الغباء، وعلاقته بالحكمة
قل لى: “لماذا تعمدت أن تبدأ الحديث بيننا على أغبى نحو ممكن”
- أولا لأننى أحببت أن أجارى عادات الناس… وثانيا: لأن المرء يكون أقرب إلى الحقيقة حين يكون غبيا. إن الغباء يمضى نحو الهدف”. [103]
وقبل أن أختتم هذا الهامش أذكر نفسى والقارئ أنها ليست آراء ديستويفسكى، وإنما هى رؤاه على لسان شخوص مختلفين وأننى بالرغم من رصدى لتحيزه لفكرة معينة، إلا أننى رصدت وستقبلت فى نفس الوقت مساحة السماح التى تركنى أتحرك فيها، وكم المسام التى فى جدران بنايته الضخمة.
ثالثا: أشخاص
ثم ننتقل إلى المحور الثالث، وأستسمح القارئ أن أركز كثيرا، أو تماما تقريبا (!!) على أسرة كارامازوف.
فيدور كارامازوف
هو رب هذه العائلة الأكبر، هذا هو التعريف الرسمى، لكن حضوره لم يكن كذلك أبدا، اللهم إلا فى استيلائه على الأموال بحق وبدون حق ، وعلى كـلٍّ، فقد اختلفت صور حضوره: باختلاف الواصف، ومرات باختلاف الموقف، ومرات حسب مزاج الراوى، ومن ذلك:
1- فحين يصفه الآخرون، بما فى ذلك الراوى، فى نزواته وصبواته يبدو مستهترا، منافقا، وصوليا، طفيليا، منحلا، فى حين أنه حين يحضر، ويحاور، ويصف نفسه: يبدو فيلسوفا حائرا، متحديا، وطفلا أيضا.
2- لم يكن أبا إلا فى نادر الندرة، مثلا حين ينصح أحد أبنائه أن يحب الآخر.
- “إيفان: هل تحب إليوشا. – أحبه. – يجب أن تحبه” [104].
3- كان منافسا عنيدا لمعظم الأبناء فى كثير من المواقع، ينافس ديمترى، فى حبه جروشنكا، وينافس إيفان فى الإلحاد.
أما علاقته بأليوشا فكانت تتراوح بين الحب البنوى (باعتبار أليوشا أباه)، والاحترام للاختلاف، والنصح الأبوى بالصدفة البحته، والائتناس به أغلب الأوقات. كان باطنه ظاهرا بلا حرج، وهو يتمادى فيما يفرضه عليه، وخاصة فى مسألة التهريج، فيقلبها إهانة لذاته، وكأنها ليست هى هو، يغيظ بذلك الآخرين (ما أمكن ذلك).
4- وكان مصرا بوعى ومسئولية على الخلاعة حتى نهاية العمر
ولكنه أيضا:
5- كان فنانا تلقائيا يرسم حياته بطريقة مكثفة متعددة الحضور، (راجع الموقف المزدوج لتفاعله عند وفاة زوجته الأولى سواء انتحابه الطفلى، أم باستعادته حريته) وهو موقف شديد العمق والدلالة .
ثم نلاحظ ذلك أيضا فى تلك النقلة الفنية حين تذكر أليكسى أمه وزار قبرها بمساعدة جريجورى فتأثر، فاندفع إلى الدير ليهب ألف روبل لتتلى الصلوات على زوجته الأولى وليس على أم أليوشا.
لإبداع فى هذا الموقف يتمثل فى تلقائية التكثيف وجمال المفاجأة المزاحة بعيدا عن التفسير المسطح أن هذا نتيجة عدم تركيز أو نسيان.
كان فيدور حاد البصيرة لما هو فيه، “أنا ِِكْذبُ يحيا…”
وفى نفس الوقت” إننى أكره الكذب” إلخ
- كما كان شديد الحساسية أيضا، وخاصة حين يشرب، ويحتاج لمن يؤنسه، ويراه.
- وكان صاحب موقف سياسى:
”أما روسيا فهى بلد قذر حقير..: أو قل إننى لا أكره روسيا بمقدار ما أكره هذه العيوب، وربما كرهت روسيا أيضا”.
- وكان محبا:
كان يحب أليوشا.
بل وأعلن لإيفان أنه يحبه ليس أقل من أليوشا.
وعلاقته بميتيا تظهر وكأنها تنافسٌ كاره، ولكن، ربما لولا جروشنكا، لكانت من نفس النوع السهل المحب. وحتى سمردياكوف، كان يحبه.
” لا يدرى أحد لماذا، رغم أن الفتى كان متوحشا معه كتوحشه مع سائر الناس” [105].
أما موقفه من الدين فيمكن إيجازه كما يلى:
1- كان متدينا حدْسيا عاديا، بشروطه.
2- لا يعوقه شعور بالذنب أو خوف من نار أو طمع فى جنه.
3- كان ساخرا ناقدا فنانا، يريدها نارا بلا سقف لتلتقطه الشياطين..
ديمترى
1- إفتقد ديمترى منذ البداية الأم والأب، وماتت أمه بلا ذكرى (مثلما هو الحال بالنسبة لذكرى أليوشا عنها) ولم ير أباه، أو لم يعرفه إلا بعد بلوغه سن الرشد.
2- ظلت الرواية: ترسمه عكس إيفان تماما. “إن من الصعب على المرء أن يتصور إنسانين بينهما من قوة التنافر ما بين هذين الأخوين” [106].
لكن هذا هو الظاهر فحسب.
3- ففى مناقشة مع راكيتين.
“أنظر إلى هؤلاء الشهوانين الثلاث”. وكأنه جمع إيفان فى شهوانيته مع ميتيا وفيدور… على قدم المساواة.
4- فهو لم يكن – هكذا – يمثل اللذة فحسب كما جاء فى المقدمة، والفصلان المتعاقبان للاعترافات يشيران إلى نفس العمق الذى يتناول به قضايا الوجود والوعى. أنظر إليه وهو يقول: (ذلك اللذي!! يقول)
”لقد أحببت المجون حتى فى العار، لقد أحببت القسوة، … ألست بقـة؟ ألست حشرة خبيثه؟” [107].
وفى نفس الوقت هو الذى يقول:
”إن المصير الفاجح الذى كتب على البشر يعذبنى تعذيبا شديدا لأننى أنا نفسى واحد من هؤلاء الأشقياء البؤساء” [108].
بل أنظر إلى حيرته الوجودية وهو يحاول أن يعاهد الأرض.
”لابد أن يقطع للآلهه القديمة” “أم الأرض” “عهدا إلى الأبد”
“إننى أسير فى الليل دون أن أعرف أأنا أغوص فى الوحل والعار أم أتقدم نحو الضياء والفرح، ذلك هو بعينه البلاء” [109].
ثم إنه يتمتع ببصيرة تكاد تقترب من بصيرة أبيه.
ونلاحظ عموما أن عمق البصيرة يتناسب مع أحد متغيرين: ضعف الكف (فيدور – ديمترى) أو حدة التفعيل (acting out إيفان، أليوشا)
(عن كاتيا) “هى لا تحبنى أنا، وإنما تحب نبل نفسها وأريحية قلبها وشهامة روحها”.
”إلا أن البلية هى أننى لن أنتحر، لن أنتحر الآن على كل حال” [110] (ويتكرر أن يهم ولا يفعل).
” وأيضا..، هو يعلم كيف يستسلم لإهانة نفسه بوعيه مثل أبيه “وإذا جاء عشيقها يزورها اختبأت فى الغرفة المجاورة، وسأنظف أحذية أصدقائها”[111].
ثم إعلانه المتكرر (سبب الورطة البوليسية) أنه سيقتل أباه، لم يكن إلا وعيا بداخله، وليس تهديدا قابلا للتحقيق.
“إن رجسا كريها يتهيأ هنا (كان الرجل الذى يشير إليه إنما يوجد فى هذا المكان بعينيه).. رجس ينضج ويتخمر و يمكننى أن أكبته”[112].
لكن السجن بدأ يلمه، فأصبح – بعد أن انفرد بنفسه فى سجنه! – يغار من الكابتن صديق جروشنكا القديم.
بل إنه ولد من جديد فى السجن “لقد ولد فىّ كائن جديد، الحق أنه كان موجودا منذ الأزل، ولكن ما كان له أن يظهر لولا تلك الكارثة” [113].
” لا تستطيع أن تتصور رغبتى المحمومة فى أن أوجد وأن أعرف”[114].
”ولعلنى لم أندفع للشراب، ولم أقاتل الناس وأنقاد للعنف إلا لأن تلك المعانى كانت تغلى فى داخلي” [115].
أما موقفه من الدين: فهو متدين عادى، أقرب إلى تدين أبيه دون سخرية ثائرة.
”أحلف لك يا أليوشا.. أحلف لله صادقا صدق وجود الله، وصدق أن يسوع المسيح ربنا… الخ” [116].
وهو يفسر عذاب الأطفال (تدينا)- بأن كل الناس تدفع ثمن ذنوب كل الناس، (بالمقابلة بإيفان الذى دفعه رفضه لعذاب الأطفال أن يرد البطاقة لله ويتنازل عن التدين أصلا).
وهو ناقد عادى للإلحاد: أنظر قوله لراكتين: “إنك إذا أنكرت الله تنتهى إلى زيادة سعر اللحم أنت نفسك فتربح بالكوبك روبلا..” [117]
إيفان
إيفان له دور أساسى ثابت معظم الوقت، ملتحف بعناد جاف، يتحدى بألم شخصى، مرهق، ثم هو يقتل بأداة غير ذاته، يقتل من باب تحصيل الحاصل، ووأد الحياة.
وديستويفسكى يصفه منذ البداية بدقة مفرطة.
”متجهم، وليس خجولا”[118]
”مشغول البال دائما بشئ ما، بمسألة نفسية لعلها خطيرة“[119]
وهو ليس مجرد كاتب مقال، بل هو مفكر، يعانى عذابا كيانيا (إيمانيا) ويحب أن يعبث بعذابه.
يقول عنه ميتيا أنه قبر، فيرفض أليوشا ويقول إنه لغز، وهو يعترف بالخلود فى الإله، ويؤمن فى خطوة منطقية مبدئية، -رغما عنه- ولكنه بعد أن يرى الظلم، وأذى الأبرياء، يرجع بطاقته متنازلا عن الله والدين، وعن أمل التناغم الأعظم.
أمه ماتت – أيضا- ولكنها لم تترك له ذكرى ولا صورة (مثل أليوشا) وأبوه نسيه ثم أنكره صراحة (فضلا عن ممارسة الإنكار فعلا ظاهرا) وربما كان هذا الإعلان للرفض والإنكار هو الأقسى والأخطر من الرفض ذاته، أو هو بُـعد مضاف ومستقل نوعيا، ذلك أن الترك الجسدى قد يستعاض عنه بصورة داخلية مثلما حدث لأليوشا، وإنما الأكثر إيلاما هو الطرد المعنوى:
” أما إيفان فإننى لا أعترف به إبنا لى، من أين جاء هذا الوبش؟ إنه ليس مثلنا، إن له نفسا غير نفوسنا”[120].
ومع هذه العلاقة النافرة الخاصة (والتى سنـرى أعتى منها وأقسى بين سمردياكوف وإيفان) لابد أن نبحث عن وجه الشبه بين الأب فيدور والإبن إيفان (مع أن المتوقع لأول وهلة أن يكون الشبه بين ديمترى ووالده) . يأتى تأكيد وجه الشبه بين إيفان وأبيه ِِمْن من؟ من سمردياكوف، يقول:
”إن هذا الأبله قد ساق ملاحظة شائقة يمكن أن يفاخر بمثلها رجل أذكى منه…” بين جميع أبناء فيدور بافلوفتش لا شك مما يشبهه سائرهم، هو إيفان فيدروفتش” [121]
فهل هذا صحيح؟ ولماذا
أظن أن هذا يشير مباشرة أن الكارامازوفيه إذا تعقلنت، ولم يحلها التفعيل سلوكا سيكوباتيا عادة، إذا لم يحدث ذلك انقلبت إلى هذه الصورة الواقعية الشاكة الشيزيدية التى يمثلها إيفان؟.
ثم إن إيفان – أيضا- يحب الحياة (كارامازوفيا) ولكن بطريقته:
وهو الذى شرح الشيزيدية، والخوف من الاقتراب بمنتهى الدقة [122]
وهو الذى عبـر عن نوع الألم وصعوبة المشاركة.
وقد وصلنى حبه للأطفال – كظاهرة كارامازوفية عامة – أكثر مما وصلنى من أليوشا.
”ولكن الأطفال يمتازون على الأقل بأن المرء يستطيع أن يحبهم عن قرب مهما تكن وساختهم ودمامتهم”.
مهم جدا أن نتذكر أن إيفان (وليس ديمترى) هو الذى ذكر حكاية الحشرة، وهذا مناسب لأن الشيزيدى هو الذى يستطيع أن يدرك كيف أن وجوده ينفصل - كجسم غريب- عن هارمونية الكون: الإيمان.
وكذلك نذكر هنا أن مثالية إيفان تبدو فى نوع العدل الذى يطلبه، وهو نوع من العدل يلغى الصراع ولا يواجهه، ليتجاوزه مثل:
”أريد أن أرى الوعلة بعينى مستلقية أمام الأسد فى هدوء وسلام، وأن أرى الضحية مرتدة إلى الحياة تعانق قاتلها”- (!!!) [123].
وهو يرى أن الانتظار حتى يتكشف سر العالم هو القاعدة التى تقوم عليها سائر الأديان وبالتالى، (“وأنا امرؤ مؤمن”) هو ينتظر بدوره أن ينكشف سر العالم، لكن اعتراضه ينصب على أنه أثناء هذا الانتظار لاكتشاف سر الكون والالتحام بانسجام محتمل، سيسرى الظلم، ويقهر الضعيف ويشوه الطفل، وتصل قمة فلسفته فى قوله “إننى لا أجحد الرب، ولكنى أعيد إليه بطاقتي” [124].
ومع ذلك، وبعد أن كفت السماء عن بذل الضمانات، فهو يكاد يقر:
”أنه لا قيمة بعد الآن إلا ليقين القلب دليلا وبرهانا”.
هذه القصيدة هى إيفان “شخصيا”.
وهى تعلمه إيماناً شديداً وراسخاً.
وهى إعلان لاستحالة حل المشكلة الوجودية بإعطاء الحرية من الرب (شخصيا) لأن الإنسان سوف يتنازل عنها لصالح السلطة الدينية أو أى سلطة.
وكانت إرهاصات إيفان بالحكم الشمولى الدينى أساسا (والذى أخذ محتوى شيوعيا بعد ذلك فى روسيا (وغير روسيا) شديدة الدلالة فى قوله:
”وستحررهم من القلق” [125].
ثم يعترف إيفان بأن الدين مخدر الشعوب.
” فقد أقر ضرورة الكذب على الناس وتضليلهم. وخداعهم، بغية السير بهم إلى الموت وإلى العدم “سيرا واعيا، ولكن مع ترك أوهامهم لهم فى الطريق” [126].
ثم هو يرى الحل الصوفى الذى لا يصلح للعامة بوضوح فى شكل:
”… ثمرة تفاهم واتفاق، وأن يكون نوعا من جمعية سرية أنشئت من زمن طويل للمحافظة على السر وإخفائه عن أنظار الضعفاء والبؤساء وتأمين سعادتهم بذلك”.
ومع كل هذا المنطق البالغ، الوضوح فإن التعاسة هى الثمن.
صحيح أنه لا يؤمن بالله، ذلك كل سره، ولكن أليس هذا عذابا بالنسبة إلى رجل مثله ألاّ يؤمن، وما ذنبه فى ذلك بعد كل هذا الصدق واليقين لاختياره، اختيار إيفان الموت حيا، حتى كأنه هو شخصيا الموت.
أما عن رؤية أليوشا لموت إيفان، بل لإيفان الموت، فإنه يذكرنى بقول صلاح عبد الصبور فى ليلى والمجنون على لسان ليلى “.. يا ويحيى أحببت الموت” وحين يتجسد الموت فى إنسان شقى ما زال يفكر ويبرر ويدافع عن موته ويصر عليه، لابد أن يثير رحمة وألم شخص يحبه، وخاصة وهو عاجز عن أن ينقذه، وقد كان هذا هو أليوشا، أنظر إليه وهو يذكره بالحياة:
”وبراعم الربيع الغضة، ماذا أنت صانع بها؟ والقبور العزيزة عليك .. كيف ستعيش إذن؟ وأين ستجد القدرة على أن تظل تحب؟ [127].
وإيفان رغم هذا الموت يستشعر القوةال كارامازوفية، وهو يسخرها دون أن يدرى فى تأكيد الموت.
”إيفان – فى نفسى قوة سوف تستطيع أن تصمد
أليوشا – أية قوة.
إيفان – قوة آل كارامازوف.. قوة الحطة والخسة.
(وقد أشرنا قبل ذلك إلا أن صفة الحطة والخسة هذه ليست هى كل الكارامازوفية، برغم حضورها الواضح متى لزم الأمر)
ثم ها هو يعبر عن أقوى عاطفة أخوية، إذْ يستمد الحياة من أخيه (الموضوع البشرى الحقيقى).
”إسمع يا أليوشا، إذا بقى فى نفسى من الحياة ما يكفى لأن أحب براعم الربيع النضرة، فسوف يكون هذا بفضل ذكراك..، سوف يكفينى فى ساعات الكمد واليأس أن أتذكر أنك مازلت تحيا فى مكان ما، حتى أسترد حب الحياة فورا” [128].
ونلاحظ هنا كيف أن أليوشا قد أصبح موضوعا داخليا/خارجيا جيدا، وأنه بذلك اخترق ويخترق شيزيدية إيفان ضد كل العوائق.
وحين استشعر إيفان أليوشا كموضوع يقترب، أعلن ضرورة الابتعاد، بقدر إعلانه -كما ذكرنا حالا- روعة الطمأنينة المحتملة (عن بعد)..
“والأفضل ألا تكلمنى بعد الآن قط” [129].
ثم ينسحب إيفان داعيا إلى الوحدة مع سبق الإصرار.
”سوف يكون وحيدا من جديد” [130].
وحين يرى إيفان نفسه جسما غريبا أملسا قبيحا، فإنه يرى سمردياكوف، فهو يرى نفسه فيه: قبيحا متحديا، فينزعج.
”كيف يمكن أن يقلقنى هذا الجرو؟” [131].
فيكره نفسه، إذ يكره سمردياكوف.
إن العداوة التى يشعر بها نحو هذا الإنسان تشبه أن تكون بغضا ومقتا.
وبعد ذلك فإن حوارات إيفان مع سمردياكوف حول كيفية إيحائه له بالقتل كانت من المباشرة بحيث سرقت منها هذه اللمسة الإبداعية التى تصـور الداخل فى شكل خارج ماثل (قارن نقد الكاتب لفيلم إبنة ريان) [132].
لعل التعاسة والفهم اللذان ظهرا فى وعى إيفان وصفه علاقته بسمردياكوف هما تماما ضد الحزن الذى كان يعانية أليوشا كلما اقترب من صدق (داخل) الآخر، حزن الأول (إيفان) هو عدم الشيزيدى ووحدته، وحزن الثانى (أليوشا) هو آلام تفعيل الداخل الحى فى حضن الواقع.
يأتى إعلان إيفان بأنه لا يطيق الأنبياء ولا الصرعيين، ثم كراهيته الخاصة للذين يرسلهم الرب، بمثابة رؤية تؤكد درجة العقلنة بالذات فى مواجهة الأعماق المتفجرة صْرعا أو أنبياء أو رسلا.
وإذا كان سمردياكوف هو صورة دوريان جراى الإيفانية إذ ينظر فى مرآة مقعرة، فإن الشيطان الذى زاره فى كابوس مرضه كان انشقاقا على مرآة مسطحة بنص الحوار، فكان هو هو المرة تلو المرة، والفرق بين التفعيل العشوائى، وبين الانشقاق الدفاعى هو أنه فى التفعيل يتجسد الداخل (سمردياكوف) بكل حاجته وعنفه كما هو، أما الانشاق فهو حضور طولى يمثل أحد جوانب أو أحد وجوه العقل الممنطق عادة وهو ما يمثله زائر إيفان الشيطان الذى هو هو.
“أنا.. أنا وحدى الذى أنطق بهذه الأقوال لا أنت” [133].
لكن إسقاطا آخر يـظهر هذا المسخ الداخلى مُـسْقطا على ديمترى هذه المرة فى سجنه، مسقطا تارة باتهامة (أو تصديق اتهامه بالقتل)، وتارة بوصفه بالمسخ مباشرة، فحين تثور الكراهية على الكل، يعلن إيفان لأليوشا أنه “سوف أكرهك الآن من جديد، إننى أكره المسخ كذلك، لا أريد أن أنقذ المسخ، ألا فليعفن فى السجن” [134] (يعنى أخاه ميتيا).
لا أعرف أين أضع آمال أو رؤية أليوشا فى نهاية إيفان، فهل صدق حين قال:
”إن الله الذى كان إيفان يرفض أن يؤمن به يفرض نفسه الآن على وجدان إيفان؟” [135]
لمجرد احتمال أنه سيذهب لمحاولة انقاذ أخيه ديمتري؟
أم أنها كانت مجرد. دعوة هداية من أليوشا كالمعتاد؟.
خلاصة القول:
إن إيفان لا يمثل الإلحاد، لسبب بسيط هو أنه عجز عن أن يلحد حقيقة وفعلا حتى النخاع، مع أن فكره كان يمثل قـلق الالحاد طول الوقت.
”أليوشا”
أليوشا ليس بطل الرواية، وهو ليس مشروعا ثوريا قادما فى جزء رابع، وهو ليس مثاليا شيزيديا انطوائيا. بصراحة: عجزتُ أن أتعاطف معه إلا فى حدود، لكننى لم أرفضه، ولم أستبعد احتمال تطوره ولكن دعونا نبدأ من البداية.
- تمتع أليوشا، ربما فى غفلة من الظروف الواقعية القاسية بجرعة مناسبة من الثقة الأساسية، وديستويفسكى يعرف بدقة بالغة – كما ألمحنا- كيف أن الشيزيدية/ الجسم الغريب، هى النقيض، الصريح للتكوين النابض: الثقة الأساسية Basic trust ، فهو ينتهز فرصة تقديم شخصية أليوشا ليعلن ويحدد هذا الفرق.
“لقد كان صموتا، لا عن شك وحذر طبعا، ولا عن خجل أو وجل ولا عن تجهم فى الطبع والمزاج.. أبدا… بل بسبب شئ خاص فى نفسه بسبب اهتمام داخلى..” [136].
ولنقف هنا عند كلمة “داخلي” وليسمح لى القارئ أن أتقدم خطوة نحو شرح عالم الداخل والخارج، دون استعمال اللغة السائدة مثل اللاشعور والشعور وما أشبه.
فإذا كان فيدور الأب يسمح لداخله أن يكون خارجا، فهذا وجه لتكامل سهل، وإن تحدى وتدفق فى عنفوان فطرى، مع إصرار أنه “هو هذا”..-“هكذا، “ومن يعجبه”..!!.(وإللى عاجبه!).
وإذا كان ديمترى هو فيدور الأب من حيث سهولة إخراج داخله طازجا فجا مثل أبيه، مع فارق الإلتزام النسبى والوعى بسوء غير ذلك، والأمل فى تكامل ما…، فهو أيضا كذلك، إنسان له داخل ببوابة مروحية، لكن مفاصلها أقوى.
أما داخل إيفان فهو سحيق مشوه، غير مسموح له بالظهور الصريح فى فعل سهل، فهو يخرج من ثقب إبرة العقل، بحساب شامل مقلوب، حتى يمكن القول أنه مثل عفريتة الصورة، لكنه غير قابل للتحميض أصلا، وبما أن العفريتة لا تظهر حقيقتها واضحة إلا إذا حُمـِّـضت، فهو داخل- رغم التأكيد على وجوده – إلا أنه لا يظهر – فقط نرى تأثير وجوده المختفى على ظاهر جاف يكاد يتشقق.
أما أليوشا فله داخل آخر، داخل حـى مرن نابض، ملئ يمتلئ، وفى المتناول، كل إنسان له داخل، لكن يبدو أن هذه المسألة تحتاج إلى تصنيف جديد. أنا لا أعنى بالداخل هنا” لا شعور” مكبوت أو مرموز له.. إلى آخر هذه الرطانة التحليلية، ولكنى أشير إلى مساحات وحركة، وتماسك وامتلاء، ومرونة وجفاف، وتناغم، وتشقق.
فيدور: داخله متواضع لا يملأ كل وجوده، قريب، متحرك، ليس متماسكا لأنه متفجر، يملؤ وعيه الظاهر بسهولة وينحسر عنه بنفس السهولة، وفيدور يستسلم له: لا هو وصى عليه، ولا هو يريد أن يوجهه أو يحوره، ولا هو ينكره أو يخجل منه.
ديمترى: داخله قريب أيضا، وسهل أيضا: هو متدفق مهدد، لكن ديمترى – بعكس فيدور كما ذكرنا – له موقف من هذا الداخل، يدفنه غالبا، – ربما حتى “يتخمر كبتا” غصبا عنه، ويريد أن ينتصر عليه، لكنه لا يستطيع، وهو يأمل أن يتكامل به، ولو فى نقطة ما فى مستقبل غير منظور.
إيفان: داخله بعيد حتى الفراغ، موصى عليه، مشوه، قد يكون فى المتناول بعد عمليات صعبة جافة لا تسمح بخروجه أو الإشارة إليه إلا من ثقب إبرة عقل وصى ومنطق ساخط، ونظام جاف.
أما إيليوشا: فداخله حى متماسك، ليس متجانسا بمعنى الواحدية، وإنما هو ممتلئ به متحرك معه مطمئن إليه، وهو قلق أيضا عليه. ينميه فى عناد المتحفظ دون شك أو تراجع، يتحاور به وبخارجه معا، ويعطى للزمن مساحة تستوعبها حركته، فيتنامى الحوار..
كما أشرت سابقا، فإن أليوشا التقط أمه فى لحظة رضا كونى، فملأت داخله، ونمت بهدوء، وعادت تملؤ وعيه، وتهدهده كلما احتاج إليها، وهى كموضوع داخلىّ حى، هى المسئولة عن يقين حياته الداخلية، كما أنها المسئولة عن توجه مساره إلى موضوعية متصاعدة.
هنا أقف لأركز على أهمية نوعية هذه الرسالة التربوية – نفسيا – مهما قصرت لحظتها، وعلى ضرورة نقائها، وعلى دقة نوعيتها مقارنة بكم من الحضور الجسدى الفاتر، أو مقارنة بحضور غائب كلية، وديستويفسكى يدرك – بذلك- أن الحياة بداية ثم تنمو، وهذه البداية هى بذرة واحدة أو عدة بذور، ثم مناخ متوسط، وأرض مهيأة..
ويبدو أن ديستويفسكى يعرف ما أعنيه “بالداخل هذا” حين يقول عن أليوشا.
”ولكن يجب على أن أعترف مع ذلك بأننى لو أردت أن أشرح على درجة من الدقة معنى تلك الدقيقة القريبة المبهمة من الحياة الداخلية” [137] التى عاشها بطلى الذى أحبه كثيرا.. لكان ذلك صعبا علـىّ كل الصعوبة.
وقريب مما ذهبت إليه هنا أيضا ما يشير إليه ديستويفسكى بقوله:
”ألا فاعلموا أن ذكرى مشرقة مقدسة، يحملها المرء فى نفسه منذ طفولته هى خير تربية وأفضل تهذيب، ورَبَّ ذكرى مضيئة واحدة كهذه الذكرى تكون كافية لخلاصنا لو لم يبق فى قلوبنا أى شئ سواها”[138].
مع كل هذه التفرقة التركيبية بين أفراد أسرة كارامازوف من حيث الداخل والخارج، فإنهم جميعا يحملون نفس زخم الحياة وإرادة التغيير، وحفز الاندفاع، وفيض الحركة، وتدفق الوعى.
فمن أين يا ترى جاء هذا الفرق، وهم يحملون نفس الجينيات – تقريبا – ويعيشون فى نفس البيئة.
ليس لزاما أن أعرف، ولا أن نعرف، وإلا تَّعسفْنا فى الأغلب.
ولكن أنظر إلى ديستويفسكى وهو يصف الثقة الاساسية Basic trust حالة كونها مسقطة على العالم الخارجى.
”لعل هذا الفتى (أليوشا) هو الإنسان الوحيد فى العالم الذى يمكنك أن تتركه وحيدا بلا مورد فى وسط مدينة كبرى لا يعرفها، ثم إذا هو لا يهلك من الجوع والبرد… إنه سيدبر أموره عندئذ بأيسر طريقة.. فسـرعان ما سيأخذه أحدهم فيطعمه ويسكنه.” [139]
لم أستقبل هذا إطلاقا على أنه تسليم ولا سلبية، لكنه الوصف الحدْسى الرائع لما يمكن أن يكون نتاج ثقة أساسية لا نعرف مصدرها حتى مع تأكيدنا على صورة الآم وهى تملؤ الوعى، إلا أنه من الصعب تصور أن ذلك يكفى، لعلها مجرد عينة.
لكن ديستويفسكى سرعان ما يفسد رؤيته لهذه الثقة الأساسية بأن يضفى عليها الصفات الملائكية.
”رغم أنك بما لك من عفة وطهارة لم تتسخ يوما بهذه الأشياء كما لا يمكن أن يتسخ بها ملاك” [140].
هنا يسقط ديستويفسكى فى الاستقطاب، ومع ذلك فهو يبدأ بنقد شديد لما يزعمه متخصصوا النفس حين يواجهون بشخص مثل أليوشا، فينفى مستنكرا، ومن البداية ، ما يمكن أن يتبادر لمتعجل منهم بمجرد أن يلتقط المظهر الخارجى لأليوشا، فهو يقول ابتداء وكأنه يخاطبهم :
” إنه ليس واحدا من أولئك الحالمين الصفراء وجوهم، الضعيفة صحتهم الضاوية أجسامهم… إنه مراهق فى التاسعة عشر من عمره فياض العافية شديد المهابة مورد الخدين.. مضئ النظرة..”
وهكذا سمح لى أن ألتقط بدورى أن هذه القوة ليست قوة ظاهرة بقدر ما هى تناسق دال.
ويعقلنها ديستويفسكى بلا مبرر عندما يصف إيمان أليوشا كناتج فكر.
” إنه منذ فكر تفكيرا عميقا فاقتنع بوجود الله وخلود الروح، قال لنفسه على نحو طبيعى تماما إننى أريد أن أعيش للخلود وإننى أرفض التسويات وأنصاف الحلول” [141].
هذا يضع علامات استفهام على طريق نمو أليوشا الإيمانى، فالسن صغيرة والحلم غالب.
”فقد جاء إلى مدينتنا فى ذلك الوقت مفكرا حالما، ربما للاستطلاع وحده، ربما ليرى هل يعطى كل شئ أم يعطى روبلين فحسب.” [142]
وهو يعترف بكارامازوفتيه، باندفاعيته وزخم حيويته (ليس فقط نحو جروشنكا وإنما أيضا نحو كاتيا)، بل إن استجابته لليزا فيها اندفاع مشابه من الناحية الأخرى – ، كل ذلك رغم أنه الفتى المحب الملتزم الوالد.
وأليوشا يتبنى والده بشكل أو بآخر، ويعلق الحكم، ولا يدمغه مهما فعل.
ثم هو يتمادى فى عقيدته أنه محبوب بلا قيد ولا شرط ولا سبب، وهذا أحد أسباب تحفظى على مسيرة نموه.
ورغم أنى رفضت أن أقبل أليوشا بطلا للرواية، إلا أنى أعترف أنه كان البؤرة التى تتجمع فيها إشعاعات حب أفراد الأسرة فردا فردا، بل حتى حب معظم أفراد مجتمعه من الكبار والصغار على حد سواء.
ولم أغفل رغم كل شئ النوبة الوحيدة التى أصابته – مثل أمه – التى قد تشير إلى درجة ما من الهشاشة، إلا أنها لم تتكرر، ثم إن الضعف البشرى هذا يدفعنا إلى احترام متواضع.
وهو يبدى نضجا أو حتى كهولة قبل الأوان “اللهم اشملهم برحمتك، اشمل برحمتك جميع أولئك الذين لقيتهم فى هذا النهار لأنهم، أشقياء..” [143]
سمردياكوف
إذا كان لازما أن ننتقى لكل رواية بطلا (وهو لم يعد لازما)، فالبطل لا يكون بطول فترة حضوره فى الرواية، ولا بأهمية وتعدد علاقاته، ولا بمساحة ظهوره، وإنما – عندى – أن البطل هو الذى يتميز بدلالته المحورية فى الأصالة والمثول فى عمق العمل الإبداعى.
من هذا المنطلق فإننى أكاد أعتبر سمردياكوف هو البطل – دون أليوشا.
أليوشا لم يتحقق رغم كل هذا الحضور العملى الإيجابى (بالحب الفعال) على أرض الواقع، لكنه ظل فى وعيى وحتى الآن وعدا ممكنا مجهولا، هو أفق يلوح وليس طريقا يوصّـل. ليس معنى هذا أنه ضعيف أو مثالى أو انطوائى حالم كما حذر ديستويفسكى من مثل هذه الأحكام، بل أحسب أنه لم يُختبر بمعنى الإنشقاق للإلتحام، والانسحاب للبسط، والجدل للولاف، افتقدت كل هذا – فتراجعتُ عن تقمصه، أو قل: صعبَ علىّ تقمصه. احترمت أمل ديستويفسكى ومحاولاته، وتوقفت حذرا من هذا الوجود الفنى الخاص- واعتبرت أليوشا – فى مجمل حضوره وليس فى كل حضوره وعدا، لا بطلا ولا ملاكا، وذلك فى حدود قوله فى نهاية الرواية.
“ولتصبح إنسانا آخر، فى رأيى أنه يكفيك أن تظل طول حياتك تفكر فى هذا الإنسان الآخر، وأن يظل هذا الإنسان الآخر ماثلا أمامك حيثما وجدت أينما هربت…. الخ.”[144]
ليكن، وليظل أليوشا هذا الانسان الآخر القادم… ليس إلا…
أما سمردياكوف فهو البطل عندى، لأنه حقيقة عارية، تلخص وتحدد بشاعتنا حين ننفصل عن الطبيعة والكون، ونخضع لظاهر اللفظ ومنطق الهرب – فمنذ ولادته، والإعلان يتلاحق بأنه جسم غريب، فقد جاء بديلا عن طفل آخر أخطأت الطبيعة فى حسابات صنعه (ابن جريجورى) ، وقد جاء من أب مجهول لم يثبت صراحة أبدا أنه فيدوركارامازوف، ومن أم بلهاء “ناستازيا بتروفنا”[145] وهى ليست بلهاء فقط بل إنها منفصلة هى أصلا عن الطبيعة، رأيت ذلك فى وصفها بأنها نفثه من نفثات جهنم”، فهى أم لم تحتمل حضوره ابنها، فانسحب – مات، جفّ- بمجرد أن لفظته، ورغم الفرصة النادرة التى كان يمكن أن تنشئه بقدر من الثقة أكبر مما حصل عليه سائر الاخوة الثلاث للعلاقة التعويضية التى جعلت جريجورى وامرأته يتبنيانه، رغم ذلك، فإنه أبى أن يتلقى ما تلقاه ميتيا أو أليوشا، إذ يبدو أن شذوذه وتفرده وانفصاله عن الطبيعة منذ البداية قد تغلبا فى نهاية الأمر، أو لعل ما أعطاه جريجورى وزوجته من أبوة وأمومة كانا من نوع غير غائر الاختراق بسبب غلبة شفقة مشكوك فى نقائها، إذ قد تتضمن حقدا لا شعوريا باعتباره بديلا مقحما، بديلا لابن من دمها ولحمها واختفى خطفا – لعل.
تبدو صفات ما أسميته “الجسم الغريب” [146] المنفصل عن الطبيعة صفات صريحة مباشرة فى وعى ديستويفسكى وهو يورد الوصف تلو الوصف لهوية سمردياكوف منذ طفولته.
ولعل أصدق وصف لهذا الانفصال هو أنه ” شديد التوجس دائم الصمت لا لأنه خجول، فهو فى الواقع جرئ جسور حتى ليظهر عليه أنه يحتقر جميع الناس” [147].
ثم يأتى الصرع ليؤكد مع كل نوبة مزيدا من الانفصال – وليس كل صرع مؤد لهذا النوع من الانفصال، بل لعل العكس هو الصحيح فإن الصرع أساسا بسط مكثف لطاقة الحياة حين لا تجد متنفسا إبداعيا، فهو صمام أمن بديل، لكنه أحيانا ما يكون إجهاضا متكررا لاحتمال نمو أو إبداع، وهو بذلك – كما هو عند سمردياكوف يؤكد هذا الانفصال عن الطبيعة، ولا يؤدى إلى وظيفته الصمام أمنية، ولا الإبداعية، وأحسب أن صرْع سمردياكوف – هو عكس صرع الأبله الذى حافظ -بصرعه- على تواصله مع الطبيعة الفجة.
ثم تأكدتْ حالة سمردياكوف كجسم غريب من مظاهر قسوته “ضد الحياة” منذ طفولته، فهو يشنق القطط ويرتل عليها بطقوس غريبة يفعل ذلك بسخرية حدْسية من طقوس الدين والحياة الآخرة. فإذا تذكرنا طبيعة القطة وعدم استسلامها لمثل هذا النوع من العبث القاتل، زاد إدراكنا لأبعاد الصورة المتخاصمة مع الحياة فى صراع قاس، وموقفه من الكلاب ووضع دبوس فى لقمة لكلب ضال، وتعليم إيليوشا ذلك بما ترتب عليه، هو أقسى وأصعب من هذا الموقف الكامل لـ – شنق القطط، وهو أدل – عندى – على انفصاله عن الطبيعة.
ثم تأتى نقلة فى نوعية الانفصال حيث يستبدل بالحياة القراءة، فنرى منذ البداية موقفه الساخر الناقد لكل ما يقرأ، بل إننا نرى كيف أن عيانيته كانت أقوى نقدا للتجريد عامة، فالرواية كذب لم يحدث، والتاريخ تلفيق، والشعر سخف وحماقة وتصنع
ديستويفسكى هنا يعـرى أزمة انفصال المثقفين بهذه الصورة الفنية الصعبة، بعد أن عـراها بوصف مباشر.
وسمردياكوف هو صاحب موقف خاص حاد حتى فى السياسة رغم اللمزات التى تثار حول ذكائه – ولنتذكر هنا مواقف سياسية متجاوزة مثل رأيه فى إلغاء الجيش مثلا.
أما عن حياته اليومية فقد قام بها كما ينبغى لمثله أن يفعل متميزا، وتحدد دوره فى التزام قوى، دون أن ينمحى فى طاعة مائعة، أو يختبئ فى أرضية مظلمة، وبالتالى اعتمد عليه فيدور فيما اتفقا عليه، وتحددت الأدوار فيما بينه وبين من نشأ فى كنفهما والدين بديلين: جريجورى وزوجته.
إذا انتقلنا إلى حكاية الداخل، ورحنا نتساءل عن داخل سمردياكوف، هل كان، وهو بكل هذه الفجاجة له داخل أيضا؟ الإجابة فورا أنه “نعم”، بكل تأكيد. – بل إن سمردياكوف هو داخل فقط – مثل الجورب المقلوب، إن ما وصلنا منه ظاهرا ليس إلا داخل متخثر مجمد، مثل كوم الزجاج المكسور المتناثر رغم تقاربه وكأنه كتلة واحدة. بألفاظ أخرى: سمردياكوف هو داخل فقط حـل محل الخارج تقريبا أو تماما، بحيث لم يعد إلا هو: كتلة متداخلة فى بعضها، تتراكم فيها المشاعر (والأفكار) حتى تصل بالتراكم – وليس بالتفاعل – إلى عتبة الانفجار فتتفجر عمياء إلى غير وجـهـه، أو إلى وجهة بعيدة سرعان ما يكتشف أنها لاتعنى شيئا، لأن الداخل بلا خارج لا ينتمى ولايتوجه، “إنه يجمع أراء ويراكم أفكارا” [148]، ولعل هذه المشاعر والأفكار التى تراكمت فى نفسه خلال سنين أن تدفعه ذات يوم إلى أن يهجر كل شئ على حين فجأة، فيمضى إلى القدس حاجا ينشد الخلاص (بلا خلاص طبعا) أو تدفعه، لا تدرى لماذا، إلى أن يشعل النار فى قريته فيحرقها، وقد يفعل الأمرين معا.
أليس هذا هو كومة الزجاج المكسور المتراكم الذى تجمعه شحنات سلبية جاهزة لإرسال شرارات أو انفجارات الأذى، بقدر ما هى معرضة للتناثر فالانجراح؟
وبرغم أن ديستويفسكى قد ألحق هذه الفقرة بتشبيه سمردياكوف بآخرين، وهو من أسماهم “الحالمين من شعبنا” إلا أننى أعتقد أن هذا التعبير ليس دقيقا تماما (الحالمين). فهذا ليس موقف الحالم بل هو موقف الجسم الغريب، المنفصل، أو موقف الإنسان “الإناء” الممتلئ بلا ترتيب، المتنوع المحتوى المتفجر بلا قيادة، المنزلق بلا واقف حركة.
وجه الشبه بين سمردياكوف وبين إيفان قد سبق الإشارة إليه، وأعيده هنا فى إيجاز: إذا كان سمردياكوف ليس إلا داخلا فقط (فى صورة خارج زائف كاره منفصل متفجر) فإن إيفان خارج فقط (وهو هو نفس الشئ) حيث أزاح داخله إلى بعيدا عن التناول، والاثنان قد حققا ذلك بلعبة العقل والحساب القاسى وعدم الاستسلام إلا لما هو ممكن التحقيق فى حدود منطق متين لا ينكر أحد سلامته، وهو ما سماه سمردياكوف بالذكاء.. كما ذكر مرارا أنه يلذ للمرء أنه يتحدث مع رجل ذكي”. ولكنه ذكاء ذو بعد واحد.
مشاعر البغضاء والكراهية والاحتقار والرفض التى كانت تتفجر صريحة واضحة كلما التقيا، لا تحتاج إلى تعليق أكثر من إعادة أنها تعلن أن كلا منهما يرفض نفسه فى الآخر، لأن ليس لأى منهما آخر أصلا.
على أننا حين نقول ان سمردياكوف هو داخل فقط فإننا نعنى أن داخله قد اقتحم حتى احتل الخارج وحل محله، وبالتالى فإن ما كان منتظرا منه سلوكا اجتماعيا طبيعيا خارجا، قد اختفى داخله بدوره ليصبح الداخل الكامن الجديد، وهو الذى اقلقه حتى قضى عليه، كذلك حين نقول إن إيفان لم يعد إلا خارجا فقط، فإننا نعنى أن داخله قد أزيح بدرجة لم يعد معها يوضع فى الحسبان اللهم إلا انقضاضا فى غير أوان، أو تهديدا بغير فاعلية، أو تسليما بانهيار لم نره كاملا أبدا.
موقف سمردياكوف من الدين موقف ناقد واع، فهو معتقِد نفعى (غير مؤمن) رافض فى آن، وهو إن وصفوه بالزندقة أو الإلحاد أو التجديف إلا أنه لم يكن تماما كذلك، بقدر ما كان يحاول أن ينجو بذاته المغلقة من معركة ليس له فيها ناقة ولا جمل “حتى لا يسلخ مرتين” وأكثر.
ومع ذلك فقد وُصف – خطأ أو مصادفة – بالإيمان لمجرد أنه لم يعترف بالإلحاد إلا هربا من موقف بذاته، ولكن الوصف لم يكن بلا شروط أو تمييز، إنه إيمان، بدقة إنه “إيمان ليس روسيا البتة”[149].
لكنه فى النهاية يستدعى الله دون توقع، ليتحدى به إيفان أى يتحدى نفسه، وذلك حين يعلن لإيفان شامتا، وهو يعترف له ويتهمه فى آن: أن ثالثهم هو الله – “إن الله حاضر بيننا الآن، ولكن لا تبحث عنه لأنك لن تراه” [150].
هكذا يعلن سمردياكوف مباشرة – فى النهاية وبيقين مفاجئ – فشل انفصاله – انفصالهما – عن الطبيعة
“ولعل لحظة انتحاره هى اللحظة الوحيدة التى تعلن نجاحه فى إنهاء هذا الانفصال بالعودة إلى الطبيعة” [151]
شخصيات خارج العائله
من البديهى أننى لم أعرج على كل من ظهر فى الرواية أحكى كيف وصلنى، ومن هو، ولماذا، لذلك سوف انتقى بعض الشخصيات الأخرى، مرة بقصد نسبى، وأيضا كيفما اتفق، لتكتمل الصورة، وإن كنت أحيانا اهتممت بالشخصيات الثانوية بغير اسم أكثر من اهتمامى بشخصيات الرواية، مثل الطبيب الذى اشتكى للأب زوسيما، أو مثل الفلاح الذى ناقش كوليا، وهكذا.
1- جروشنكا
حضور جروشنكا يبدو مثل أناستازيا الأبله، لكن أناستازيا كان يمكن اعتبارها “بطل” الأبله، لأن حضورها كان محوريا غامرا، أما جروشنكا فرغم الطيبة والجمال والليونة والذكاء والسماح، فقد ظلت تسير بجوار أبطال الرواية الحقيقيين، تطل لتختفى، وتغرى لتنسحب، كما أن ثمة إشارات قد تدل على أن عمر جمالها وذكائها وحضورها قصير، وتحديد سن الثلاثين يحتاج نفس الوقفه التى حدد بها إيفان نفس السن لانتهاء الأمل وانطفاء الحياة إلا من اللذة.
“.. على أنها لو رآها خبير فى جمال المرأة الروسية لتنبأ بأن هذه الرشاقة النضرة الربيعية فى جسدها فى نحو الثلاثين من عمرها، وأنها ستثقل وستسمن وأن عضلات وجهها ستتهدل..وأن…، أى أن جمالها عارض ليس له غد” [152].
من أطرف مايتميز به ديستويفسكى فى وصف مثل هذه الشخصيات أنه يمتدح أخلاقهم أو يرسم صعوبتهم، ثم هو بعد تمهيد وتلميح يفاجئ القارئ – ضد كل ما توقعه، وما أوحى إليه به – أن أحدا لم ينل من هذه المرأة شيئا جنسيا، أو هكذا ينبغى أن نعتقد، لأول وهلة، اللهم إلا بالنسبة للكهول الذين يتبنون منذ البداية، وحتى هؤلاء الكهول، فهم كهول!!!.
2- إيليوشا:
أنا لا أعرف علاقة اسم أليوشا بـ إيليوشا وربما من الأفضل ألا أعرف – وقد بدا لى أن إيليوشا المهان والده، المذَل بفقره، المقاتل بمرضه، هو نقيض آخر لأليوشا، ولكنه ليس نقيضا بمعنى أنه عفريتته أو داخله (مثل الحال التى صورناها بين إيفان وسمردياكوف) ولكنه نقيض بمعنى الوقوف على الطرف الآخر يرسم الشقاء المتألم – فى مقابل الحب الفعال، وهو يرسم المذلة التى لاعلاج لها فى مقابل الطمأنينة بغير أسباب .
ولم أجد تفسيرا مباشرا حتى الآن لهذه المقابلة.
ثم إن ثمة وجه شبه حقيقى فى أن كلا منهما تبنى أباه وإخوته بشكل أو بآخر، وأن كلا منهما كان محور أسرته، وأن كلا منهما كان عضوا محوريا فى مجتمعه، كلا على شاكلته.
3- كوليا:
استقبلت كوليا على أنه – مشروع إيفان آخر- لكن كوليا له أم “سيطر عليها” فأجل إنفصاله عن الكون وهو يريد أن يقفز فوق عمره، ثم إنه – أكثر الله خيره!!. ليس عنده إعتراض على الله رغم علمه – متفضلا: “أن فكرة الله ليست إلا افتراضا..” !!!!! الخ.
دلالة حادث مغامرته بالنوم بين قضبان القطار قد تشيرإلى نوع العنف الذى تتضمنه روح المقامرة، إحدى مناطق ديستويفسكى المفضلة.
4- كاتيا:
لم يكن دور كاتيا خافتا إذا قيس بدور جروشنكا، فجمالها حاضر، وقوتها شديدة حتى أنها لتثق فى تحريك كل شئ حسب إرادتها ” يكفى أن أشاء كى أسحر حتى جروشنكا”، ولعل ذلك قد ظهر منذ البداية وهى تضحى فى سبيل والدها، وما يكون يكون، ثم فى إزكاء التنافس عليها بترتيب منها، فتمادى كبرياؤها، واحتد حقدها بلا حدود، ولنذكر أنها هى التى تقدمت لخطبة من تريد، ثم يصل غرورها إلى درجة التأله لفظا:
”هل يخجل أمام الله من الإفضاء إليه بأموره، والاعتراف بسره فلماذا يخجل منى؟”
زوسيما:
كان حضور الأب زوسيما حضورا ثقيلا على نفسى – رغم طيبته – سواء وهو يرسل الحكمة تلو الحكمة – رغم رصانتها – أو وهو يحكى عن ذكريات أخيه، وتراكم هذا الثقل حتى ضبطت نفسى متلبسا بالشماته فيه حين فاحت رائحة جثته، بالمقارنة بالرائحة الزكية التى فاحت من جسد إيليوشا فى النهاية، فهل قصدها ديستويفسكي؟
ولكن كل هذا لا يمنعنى حتى من أن أرصد هنا استفادتى من بعض ما يستأهل الوقفة مثل قوله “إياكم والتسويات مع الرب”.
ليزا: (وأمها: السيدة هوخلاكوف)
لم يكن حضورهما ثانويا، وإن كان حضورا تافها، وقد أعجبنى من ديستويفسكى بالنسبة لهما أنه أتقن رسم التفاهة حتى أعطى ليزا الحق فى أن تصاب بنوبة تعلن هشاشتها، وقد بلغ من إتقان هذه الصورة أننى لم أتأثر من منظر الدم المحبوس تحت إظفر إصبعها الذى حشرته قصدا فى الباب وهو يوصد، ولم أتعاطف مع عجزها.
أليس هذا فى ذاته إبداعا.
ديستويفسكى يتعامل مع التافه بنفس العمق الذى يتعامل به مع الأغوار تصعيدا وتوليفا !!!.
خاتمة
لا يمكن أن تفى هذه المحاولة بعرض كل ما وصلنى من إضاءات عن النفس البشرية، وأعتقد أننى راجع إلى هذا العمل مرة ومرارا، خاصة حين أحتاجه للمقارنة بين أعمال ديستويفسكى وبعضها، أو بينه وبين مبدعين آخرين.
من يدرى؟
[1] – وأنا أفضل هنا أن أستعمل تعبير تركيبى بدلا من تعبير بنيوى، لأننى لست واثقا من مدى تطابق ما أريد مع درسة بذاتها تحمل هذا الاسم (البنيوة).
[2] – تعقيبا على ما جاء فى تقديم الندوة الثقافية لجمعية الطب النفسى التطورى – شهر سبتمبر 1991 تقديم د. أنور إبراهيم – د. سعاد موسى عن الاخوة كارامازوف.
[3] – أمثلة لاختلاف الترجمة [ أ- “سخف”
الإنجليزية Senselessness والفرنسية Incoherence
[ ب- لها عينان توشكان أن تكونا سوداوين على سطوع شديد وحركة قوية
الإنجليزية: Had a lively black eyes
والفرنسية:
Les xeux un peu pale tres vifs et presque noire
[ جـ – إنك تتكلم.. كأنك لا تملك وعيك كله
بالانجليزية
As if you are not yourself وبالفرنسية.ه une sorte de folie
[ د – “لا تشعر بالخزي”
بالانجليزية Don’t” distress yourself
وبالفرنسية Ne vous inquitez pas
[ هـ – ” الشهوانيون” -
بالانجليزية The Sensualist
وبالفرنسية Les luxurieux
[ و- “الاخوة يتعارفون”
بالفرنسية Les freres font connaitre
وبالانجليزية The brothers make friends.
[4] – وقد أشرت إلى كل ذلك من قبل فى دراساتى السابقة
[5]- كنت قد صغت نفس هذا الفرض فى القراءات الأولى لديستويفسكى على الوجه التالى: ليس هذا الحكى تيارا للوعى، أو تداعيا للاوعى، كما أنه ليس خيالات مسترسلة فى الوعى الظاهر مباشرة، ولكنه نقطة مكثفة ، فى لحظة شديدة القصر، فى عمق تجمـع الوعى الظاهر ثم تجرى عملية بسط وتكبير لهذه اللحظة بالحركة البطيئة، فى شكل حوارات عادية ممنطقة ممكنة الحدوث إذن: فهو واقع حقيقى عميق و مباشر، تجمع، وتكثف، فَرَصَدَهُ الكاتب، فَبسَطَهُ فسَلْسَلَهُ: هكذا.
[6] – وإن كان الدروبى يترجمها خطأ فى بعض الأحيان إلى الدقائق فيخلط أحيانا بين ما هو لحظة moment وما هو دقيقة minute
[7] – ص 25. جـ1
[8] – ص 394 جـ2
[9] – ص 434 جـ1
[10]- ص 282 جـ1
[11]- سبق أن أشرت إلى ذلك بصفة عامة وعند نجيب محفوظ بصفة خاصة
[12]- هذه بعض ما رواه – مقتطفا أقوال ديستويفسكى نفسه – الدكتور أنور إبراهيم فى تقديمه للندوة التى قدم فيها نقد هذا العمل.
[13] – تأكد ذلك لى مؤخرا بعد متابعاتى أكثر فأكثر لكل من (1) العلم المعرفى الأحدث (2) الجسد شريكا فى المعرفة (3) التعدد اللامحدود لوحدات الوعى أكثر من مجرد تعدد مستويات الوعى فى ما يسمى حالات الذات… من كل ذلك صار تعاملى مع الأفكار باعتبارها كيانات أوضح فأوضح.
[14]- من مقتطف لا أذكر نصـه، ذكره د. أنور إبراهيم فى الندوة السابقة أن ديستويفسكى رفض وصفه بأنه عالم أو محلل نفسى – ذاكرا أنه إنما يمـد يده لواقع حاضر فيصفه لا أكثر.
وقد سرنى من هذا المقتطف استعمال الواقع فى سياق نفى التهمة النفسية وكأنهما نقيضان – وأحسب أن هذا هو ما أحاول أن أفعله وأنا أنفى عن نفسى تهمة النقد النفسى.
[15]- لابد هنا أن أعبر عن مأزق شخصى حين أمارس حقى فى الإبداع، فقد تأتينى الفكرة طازجة مبتكرة، لكننى أعرف – لاحقا – أنها فكرة سابقة، وقد تكون علمية، أو شبه علمية، فإذا بى فى حيرة حقيقية: هل أثبتها وهى قد جاءتنى قبل أن أكتشف أنها علم أو ما شابه، أم أتنكر لها لأنفى عن نفسى تهمة وصاية العلم على الحدس الإبداعي- ويظلمنى النقاد حين يتصورون أن نقطة البدء هى من العلم إلى الإبداع فى حين أن الإبداع هو الأصل – وهذه الظاهرة هى بعض ما أسميته “ظاهرة القراءة السابقة Deja lu حين كنت أذاكر الطب النفسى لأول مـرة، فأقرأ بعضه وكأنى قرأته قبل ذلك.
[16] – ص 14 جـ1
[17] – ص 26. جـ1
[18] – ص 5.3 جـ 2
[19] – ص 555 جـ 2
[20] – ص 1.2 جـ 2
[21] – ص 261 جـ 2
[22] – ص 261 جـ 2
[23] – ص 169 جـ1
[24]- ص 278 جـ1
[25] – ص399 جـ2
[26] – ص 613 جـ2
[27] – ص 178 جـ1
[28] – ص 178 جـ1
[29] – ص 68 جـ2
[30]- سأكرر استعمال هذا اللفظ “تفعيل”Acting out وهو تعبير من التحليل النفسى يعنى إخراج محتوى اللاشعور /الداخل بشكل مباشر إلى ظاهر السلوك.
[31]- ص 613 جـ2
[32]- ص 115 جـ2
[33] – ص 234 جـ1
[34] – ص 14. جـ1
[35] – ص 235 جـ1
[36] – حضر لى تشبيه باتريك زوسكند لجرينوى بطل “العطر” منذ ولادته “بالقراضة” بما يحتاج إلى مقارنة تفصيلية، خاصة حين نشير إلى الالحاد النشاز باعتباره نيزكا منفصلاً
[37] – ص 248 جـ1
[38] – لا أخفى أنى افتقدت الأخت البنت اللهم إلا فى عائلة إيليوشا، ومع ذلك لم يكن ظهورها كاف- فى حين أن كاتيا وأختها لم يكن لهما أخ- وبالتالى لم أستطع أن أتقدم خطوة نحو سبر غور دور الأخت بالذات عند ديستويفسكى فى كارامازوف، وإن كان أكثر وضوحا فى روايات أخرى، لكنه يظل باهتا أيضا.
[39] – ص 49 جـ2
[40] – ص 339، 34. جـ1
[41]- وقد ظهرت صورة مشابه فى حادث مشهور فى مصر فى الثمانينات فى حالة م. ع (قاتل والده أستاذ الجامعة ووالدته المذيعة) حين قطع هذا الشاب حوالى ثلاثمائة كيلوا متر بعد قتل والديه، لينفذ الإنتحار فى حضن صخره يحبها، وسبق أن صادقها وحوارها، على شاطئ رأس البر-كذلك كتبت ذلك شعرا إثر انتحار مريضه عزيزة عليه من سطح المستشفى. ثم فى حادث انتحار آخر صورته شعرا فى قصيدة اليمامة والهدهد:
نظرتْ للأرض الرحم الأم، ناداها الهدهد، فتذكرت العش المجدول، طارت مثل يمامة، تبحث عن صدر وليف لم يولد أبدا، وتهادت فى زفة عرس… الخ (وانتحرت).
[42] – الإنسان والتطور “الموسوعة” إنتحار
[43] – ص 521 جـ1
[44]- ص 261 جـ1
[45] – ص 552 جـ3
[46] – ص 261 جـ2
[47] – ص 552 جـ3
[48] – ص 35 جـ1 ونذكر هنا أمرين: الأول: هو علاقة مدرسة العلاقة بالموضوع بروادها من ميلانى كلاين إلى جانترب، بهذه الرؤية الداخلية، والتى لم تأخذ حقها فى التطبيق الفعلى حيث تركز الأمر على الموضوع الخارجى، والثانى هو رحلة الصوفى حتي”يرى وجه الله” فى الداخل الخارج. لذلك وجب التنويه.
[49] – ص 48 جـ1
[50] – 57جـ1
[51] – حتى أننى ذهبت لاحقا إلى مدى أن أفترض أن الأفكار (الحقيقية) هى ذوات (بيولوجية) وليس العكس، صحيفة روزاليوسف اليومية 13 ، 27 يناير 2006 وما بعدها من أعداد.
[52]- ص 127 جـ1 وقد فضلت استعمال لفظ شيزيدى ترجمة للفظ Schizoid وذلك بدلا من اللفظ الشائع وهو شبه الفصامية لأن ما تعنيه كلمة “شبه” ليس صحيحا، فبالرغم من أن ثمة علاقة بين الفصامى، والشيزيدى، فإنها علاقة نقيضية فى معظم الأوقات أى أن الشيزيدى هو عكس الفصامى سلوكيا، رغم أنه الشيزيدى يستهدف أن يكون فصاميا أكثر من غيره.
[53] – 2.6جـ1
[54]- والأب زوسيما يروج لحل هذا الموقف الشيزيدى بما أسماه الحب الفعال (الذى سوف يأتى تعريفه فى مكان آخر).
[55] – 2.6جـ1
[56] – Basic trust
[57] – Mistrust
[58] – ص 271جـ1
[59]- استعمال كلمة شيزيدى schizoid أفضل من استعمال الترجمة “شبه فصامى” لأن، كما أن تلام الموقف الشيزيدى مع الموقف البارنوى … اكمل (يحيى)
[60] رغم أن إريك إريكسون لا ينتمى إلى مدرسة العلاقة بالموضوع إلا أن موقفه كرائد لمحاولة التوفيق بين ما هو بيولوجى وما هو إجتماعى، ورسمه الدقيق لعصور الانسان الثمانية وإعادة الولادة، يظل هذا وذاك فى الإطار المرجعى الذى استلهُم منه رؤيتى للعلاقة بالموضوع وخاصة فى المرحلة الأولى للتطور التى أسماها إريكسون الثقةَ الأساسية فى مقابل اللاثقة Basic trust Vs Mistrust وعلى أى حال سوف يأتى ذكر ووصف العلاقة بالموضوع مرة ثانية، وأنا أصف الداخل/الخارج من خلال عرض الشخصيات وخاصة شخصيتى أليوشا وسمردياكوف.
[61] – ربما أقرب صورة قفزت إلى ذهنى مع وضوح الفارق (الرمزى) هى “أنس الوجود” فى ليالى ألف ليلة لمحفوظ.
[62] – ص 129جـ1
[63] – (وهذا قريب أيضا من جوهر مثلنا العامى: إعمل الطيب وارميه البحر) وأحسب أنه أقرب ما يكون إلى الحب فى الله. وإن كنت أتصور أن الحب فى الله – هو تعبير أدق لمثل هذه العلاقات التى يعرضها ديستويفسكى عن حب الله.، إن حرف “فى” هنا له دلالته الخاصة.
[64] – ص 170 جـ1
[65] – ص 171جـ1
[66] – ص216 جـ1
[67] – ص343جـ1
[68] – ص 255 جـ1
[69] – ص 345 جـ2
[70] – ص19.جـ1
[71] – ص 52جـ2
[72] – ص65 جـ2
[73] – ص 423جـ1
[74] – ص 24 جـ1
[75] – ص 154جـ1
[76] – ص251جـ1
[77] – ص251جـ1
[78] – ص124 جـ2 العلاج النفسى الجشتالتى هو نوع من العلاج الجمعى الذى يعتمد على مبدأ هنا والآن وعلى حضور أكثر من وعى، وعلى ألعاب الدراما الصغيرة وتبادل الأدوار، ومنها أن تعتبر بعض أجزاء الجسم شخوصا ممثلة لذوات داخلية كاملة
[79] – ص 617 جـ2
[80] – ص123 جـ2
[81] – ص56 جـ1
[82] – ص 296 جـ1
[83] – ص 269جـ1
[84] – ص287 – 288 جـ1
[85] – ص 297 جـ1
[86] – ص155 جـ1
[87] يحيى الرخاوى قراءات فى نجيب محفوظ “الإيقاع الحيوى ودورات الحياة” فى ملحمة الحرافيش . الهيئ العامة للكتاب سنة 1990 (أحمد تراجع جدا)
[88] – ص152جـ1
[89] – ص 153جـ1
[90] – ص295 جـ1
[91] – ص30 جـ2
[92] – ص 61 جـ2
[93] – ص61-62جـ2
[94] – ص 81 جـ2
[95] – ص82 جـ2
[96] – ص 193 جـ2
[97] – الحق الحق أقول لكم: إن لم تقع حبة الحنطة فى الأرض وتمت، فهى تبقى وحجدها، ولكن إن ماتت، تأتى بثمر كثيرا (إنجيل يوحنا، الاصحاح الثانى عشر، 24).
[98]- ص 139 جـ2
[99] – ص235 -236 جـ1
[100] – ص236 جـ1
[101]- ص 182 جـ1
[102] – ص 314 – 315 جـ1
[103] – ص 63 جـ2
[104] – ص 296 – 297جـ1
[105] – ص277 جـ1
[106] – ص 71 جـ1
[107] – 238 جـ1
[108] – ص 234 جـ1
[109] – ص 255 جـ1
[110] – ص 261 جـ1
[111] – ص 262 جـ1
[112] – ص345 جـ1
[113] – ص 184 جـ3
[114] – ص 185 – 186 جـ3
[115] – ص186 جـ3
[116] – ص 256 جـ1
[117] – ص 187 جـ3
[118] – ص38 جـ1
[119] – ص 7. جـ1
[120] – ص 383 جـ1
[121] – ص 412 – 413 جـ3
[122] – (مثلا من ص 63 – 66جـ1)
[123] – ص 80 جـ2
[124] – ص 87 جـ2
[125] – ص 107 جـ2
[126] – ص 112 جـ2
[127] – ص 114 جـ2
[128] – ص 116 جـ2
[129] – ص 117 جـ2
[130] – ص 119 جـ2
[131] – ص 121 جـ2
[132] – نشر النقد فى الأهرام سنة 1972.
[133] – ص 284 جـ3
[134] – ص 323 جـ3
[135]- ص 324 جـ3
[136] – ص 45 جـ1
[137] – ص 261 جـ2
[138] – ص 576 جـ3، هذا، وقد تذكرت قصيدة قديمة بعنوان: شظايا لؤلؤة ، كتبتها تشير إلى هذا الامتلاء الداخلى الغامض الذى لا يصلح له أى إسم، مهما كان الإسم شائقا أو رائعا ( النبض حسى لوعتى..إلخ)، ولكنه هو كل شئ وهى بعنوان: شظايا لؤلؤة أقول فيها:
لا، لم أبح بسرها، وما نقضت عهدها، وما عشقت غيرها، صغيرة ومبدعة، تنير قلبى فى ظلام الصومعة، ألمحها أحسها، ألمسها، أدسها، أذيبها، أذوب فيها، وبها، أكونها، تكوننى، فأستكين فى دعة، فى دفئها، يذوب ثلجى تمّحى مخاوفى، فتبعد الغيلان تختفى، أمد كفى ألمس الأجنة النجوم، فتحمل الرياح حبة اللقاح لؤلؤلة من ظهر لؤلؤة، خبأتها عنهم جميعا فى حنايا كبدى، ألبستها الأسماء أقنعة: [النبض، حسى، لوعتى، الوهج، فكرى، منتهاى، قبلتي] تبسمتْ فى سرها، تحسستْ حبلَ الوريد كفـُّـها.
[139] – ص 5. جـ1
[140] – ص 57 جـ1
[141] – ص6. جـ1
[142] – ص 62 جـ1
[143] – ص 352 جـ1
[144] – ص 552 جـ3
[145]- ص 447 جـ1
[146]- فى نفس القصيدة: شظايا لؤلؤة ذكرت هذا التشتت فالانفصال إلى ما هو جسم غريب حيث يتحول الوجود الوعى البشرى إلى كتلة متنافرة من الأجسام الغريبة (النيازك) نتيجة الافتقار إلى الآخر إلى العلاقة إلى الموضوع إلى الموضوعية قلت فى نهايتها:
لما تساقطت – كعهدها – الشهبْ، وصارت الشموس فوقها نيازكا، جفت قناة وصلنا، تخثر الكون النغمْ”.
[147] – ص 271 جـ1
[148] – ص 291 جـ1
[149] – ص 287 جـ1
[150] – ص 255 جـ3
[151]- قفزت إلى ذاكرتى قصيدة أخرى بعنوان:الجناز والجنين (ديوان س البيت الزجاجى والثعبان)، تشير إلى تفسيرى الآن لما يمكن أن يتضمنه انتحار سمردياكوف:=
= ونعى الناعى، أن الإنسان الميت مات، من زمن مات، والدفنة سرا، خلف ظهور القتله، لا يحمل نعش الميت قاتله، الميت مات، لكن شهادة دفنه، لم تختم بعد، يقضى العصر الملتاث: أن التوقيع يتم بخط الميت، والميت يرفض أن يعلن موته، ……والجثة فى غرفة نوم العذراء المومس، يملأ وجه الميت أحشاء الحارة، يعلن وسط الجمع الحاشد، لن أتركها إلا حيا!!
[152] – ص 327 جـ1