كتاب: الأساس فى العلاج الجمعى (42): “موت” الكلام و”إحياؤه”: فى “العلاج الجمعى” (2 من 2)

نشرة “الإنسان والتطور”

الأثنين: 1-7-2013

السنة السادسة

 العدد: 2131        

 كتاب: الأساس فى العلاج الجمعى (42)

دروس من مجموعة المواجهة (4): (4) Encounter Group

مقتطفات من “جماعة المواجهة” (4)

“موت” الكلام و”إحياؤه”: فى “العلاج الجمعى” (2 من 2)

فى العلاج الجمعى يتم التواصل على أكثر من مستوى، عبر أكثر من قناة وحتى الكلام الذى أشرنا أمس إلى احتمال أنه أصبح – فى صورته العادية المغتربة غالبا – أضعف من أن يقوم بوظيفته- هذا الكلام هو هو إذا واكب قنوات التواصل الأخرى فإنه تدب فيه حياة أخرى، ومع التركيز المتواصل على “هنا والآن” تصبح رويدا رويدا كل كلمة مسؤولة عن ما خرجت لتأديته، حتى تكاد تختفى حروف العلة.

قنوات أخرى للتواصل:

ولكن من حق أى شخص أن يتساءل أنه إن لم يكن الكلام هو الوسيلة (القناة) الأمثل للتواصل بين البشر، فى العلاج وغير العلاج، فما هى الوسائل والقنوات الأخرى؟

لا، ليست لغة الإشارة هى البديل كما أسلفنا، فهى ليست إلا رموز حركية ، فى العلاج الجمعى نركز على لغة العيون دون قصد معين، الأمر الذى جعلنى أغير عنوان الفصل الثانى فى “فقة العلاقات البشرية” إلى “قراءة فى عيون بشرية” بديلا عن الاسم الذى استعمل من قبل (وهو “لعبة السكات”)، وقد عنيت بهذا التعديل أن أشير إلى أننى أقدم لغة أخرى ربما أكثر ثراء وعمقا وصدقا من الكلام اللسانى بالألفاظ.

العيون البشرية فى هذا السياق لم تكن عيون مرضى بوجه خاص، ولم تكن أيضا عيون أشخاص محددين فى عالم الواقع الملموس، أنا لم أقرأ عيون المشاركين تحديدا، بل استلهمت من صدق ما وصلنى منها ما أكملت به قصائدى دون أن أعنى شخصا بذاته.

لم يقدم لنا فرويد وسيلة للتواصل العلاجى أفضل من الكلام، أو بصراحة غير الكلام، حتى حدسه التفسيرى، وشرحه التأويلى كان يستمده من الكلمات، بل إن وضع التداعى الحر والمريض مستلق على أريكة العلاج و المحلل يجلس خلفه بعيدا عن التقاء نظراته، كان نفيا عمليا لأى احتمال لاستعمال أية وسيلة أخرى غير الكلام، وبالذات لغة العيون، الوضع شديد الدلالة من حيث أنه وضع تجنب التقاء النظرات، حتى وصف “بيرلز” (أحد رواد العلاج الجمعى) فرويد، ربما مازحا، بأنه كان مصابا بعرض تجنب التحديق  Gaze Avoidance وبالتالى كان يخشى أن تلتقى نظارته بنظرات المريض، ومن ثم أصر – وأوصى- أن يجلس المحلل خلف المريض أثناء التداعى الحر.

‏لغة الاختراق‏ بالنظر (البحلقة الكاشفة)  (1)فى ‏عمقها‏ ‏وثباتها‏ ‏هى لغة‏ ‏خطيرة‏ ‏ومهدِّدة‏ ورائعة، ‏وقد استعملتُـها مؤخرا (منذ سنوات) أثناء الفحص الإكلينيكى التعليمى فى الكشف عن كثير من طبقات النفس التى لم تكن فى متناول الكلمات:

الحزن مثلا حين تصفه الكلمات بالاكتئاب أو “الدِّبْرِشَن”، أو حتى “الهم” أو “الزهقان” أو “الغم”، ليس هو الحزن الذى اكتشفته من خلال خبرتى فى هذا الصدد. حين أسأل المريض عن حزنه الخاص جدا، الدفين فعلا ، أو عن حقه فى الحزن، أو عن متى سمح لنفسه بالحزن، أشترط عليه ألا يسارع بلصقه بسبب معين، وألا يتحدث عنه بالألفاظ، أسأله كل ذلك وعينىّ تُواكبُ ألفاظى، محاولا مشاركته بالنظر، رافضا – لى وله – أن ننطق حرفا، ولمدة دقائق قد تطول أحيانا (نادرة) إلى أكثر من نصف ساعة صامتين تماما، من خلال هذا التواصل فى الـ “هنا والآن” تتكشف الطبقات التى نتعارف من خلالها على نوع آخر من التواصل، ثم لعل وعسى…..

أصعب من ذلك تكون الخبرة والمشاركة حين نقترب من إشكالة “الألم”، أعنى الحق فى الألم النفسى “معا”، وعن الحرمان من الحق فى الألم، ثم نصمت وندع عيوننا تتكلم، وهكذا.

إطالة النظر بجدية سَلـِسِلة تعمّق النظر تلقائيا، وهى تكشف دون استئذان عادة، وهذا ما يحدث غالبا فى العلاج الجمعى من خلال التنبيه على الجزء الأول من القاعدة الأساسية أعنى “أنا – أنت” (وتكملتها: “هنا والآن).

 فى البلاد المتحضرة، على ما أسمع، تعتبر “البحلقة” نوعا من الوقاحة، فلا يجوز لك أن تطيل النظر فى راكب أو راكبة فى حافلة عامة (أتوبيس)، هذا بالنسبة للنظر إليها عشوائيا بأية صورة، فما بالك لو كان النظر فى غور العينين مباشرة، أعتقد أنك (هناك) سوف تحول نظرك فورا، أو تتفقان على موعد دون كلمات، أو تلعنك فى سرها، أو جهرا.

****

تعالوا نكتفى اليوم بالانصات إلى الشعر ثم نرى:

نبدأ باستعادة كيف أن الصمت فى العلاج الجمعى يساعدنا على الالتفات إلى قنوات التواصل الأخرى، خاصة بعد أن نعلن بشجاعة موت الكلام إذا تمادى فى الاغتراب، فينلقنا الصمت إلى احتمال إحياء الكلام هكذا:

يالاّ ‏ ‏نلعب‏ ‏يا‏ ‏جماعة‏: ‏لعبة ‏”‏هُسْ”.‏

فتَّــح‏ْْ ‏عينَـكْ‏ ‏بُصْ‏،‏

إنْ‏ ‏كنت‏ ‏شاطـرْ‏ ‏حِـسْ‏.‏

‏ “‏أنا‏ ‏مين‏؟‏”!!

‏ ‏ما‏ ‏تقولش‏ْْ.‏

‏ ‏مجنونْ‏‏؟

‏ ‏ما‏ ‏تخافشْ‏.‏

جرّب‏ ‏تانىِ، ‏مِا‏ ‏لأَولْ:

‏… ‏راح‏ ‏تتعلم‏ ‏تقرا‏ ‏وتكتب‏ ‏من‏ ‏غير‏ ‏ألفاظ‏:‏

مش‏ ‏بس‏ ‏عْــنيكْ‏،‏

‏ ‏تدويرة‏ْْ ‏وِشــّـكْ

وسلام‏ ‏بُـقَّـكْ ‏عَلَى ‏خَدّكْ‏،‏

والهزّه‏ ‏ف‏ْ ‏دقنكْ‏،‏

وكلامِ ‏اللون‏: ‏

اللون‏ ‏الباهت‏ِ ‏الميّتْ‏،‏

واللون‏ ‏الأرضى ‏الكـَلـْحـَان‏،‏

واللونِ ‏اللى ‏يطق‏ ‏شرارْ‏،‏

واللون‏ ‏اللى ‏مالوش‏ ‏لونْ‏،‏

وعروق‏ ‏الوشْ‏،‏

والرقبهْ‏،‏

وخْطوط‏ ‏القورة‏ْْ،‏

وطريقةْ‏ ‏بَلْعَكْ‏ ‏ريـقــكْ

تشويحة‏ْْ ‏إيدك‏ْْ…‏

إلى ‏آخرُهْ‏ْ.‏

لما‏ ‏حانسكت‏ ‏حانحسْ‏،‏

أو‏ ‏نِعلن‏ ‏موتنا‏.‏

وخلاصْ‏!‏

‏…‏

أوْ ‏يمكن‏ ‏لما‏ ‏نْـحس‏،‏

نقدر‏ ‏نبتدى ‏ماِ‏لأول‏ ‏؟

 ومع طول التواصل بكل القنوات الممكنة يعود للكلام نبضه، ويحتوى معناه وكأنه أحيى من جديد:

 ‏اللفظ‏ ‏قام‏ ‏من‏ ‏رَقْدِتُـه‏.‏

ربك‏ ‏كريم‏ ‏يِنْفُخْ‏ ‏فى ‏صُورْتُه‏ ‏ومَعْنِتُه‏.‏

يرجع‏ ‏يغنى ‏الطِّير‏ ‏عَلَى ‏فْروعِ‏ ‏الشَّجَرْ‏.‏

ويقول‏ “‏يارب‏”،‏

وتجيله‏ ‏ردَ‏ ‏الدعْوَهْ‏ ‏مِنْ‏ ‏قَلْبُه‏ ‏الرِّطِبّ‏. ‏

……

ألفاظ‏ ‏بتهِزّ‏ ‏الكُونْ‏،‏

وبتضرب‏ْْ ‏فى ‏المَلْيَانْ‏،‏

وتغّير‏ ‏طَعْمِ‏ ‏الضِّحْكَةْ‏،‏

وتشع‏ ‏النُّورْ‏ ‏مِا‏ ‏الضَّلمَهْ‏،‏

وبتفضَحْ‏ ‏كِدْب‏ ‏السَّاكِتْ‏،‏

وبْتِفْقِسْ‏ ‏كل‏ ‏جَبَانْ‏.‏

 

 

[1] – لم أجد مقابلا بالفصحى لكلمة “البحلقة” حتى كلمة التحديق لم توصل لى ما أريد.