نشرة “الإنسان والتطور”
الأحد: 9-6-2013
السنة السادسة
العدد: 2109
كتاب: الأساس فى العلاج الجمعى (35)
غموض ما يحدث وما يبقى
كان الفرض الذى أنهيت به الحلقة السابقة يقول:
“إن ما يحدث فى العلاج الجمعى، فيظهر كنتيجة له فى نهاية مدة العقد المتفق عليها، وبعد ذاك: هو أغمض من أن يقدم فى ألفاظ، وأشمل من أن يحدد فى سلوك بذاته أو اختفاء أعراض معينة، مع أنه أقرب إلى الوعى، وأسهل فى الإقرار به دون وصفه حتى يبدو يقينا يصعب أن يـُـنسى أو يـُـتجاوز”
ثم جاءنى من إبن متميز فرنسى الجنسية المكتسبة مصرى الأصل والهوى والحضور، تدرب معى فى أوائل فترات اندفاعى نحو ما أنا فيه، جاءنى منه ما هو جدير بالتسجيل ضمن هذا السياق، مع أننى سجلته فى “بريد الجمعة” منذ يومين، هو د.رفيق حاتم استشارى الطب النفسى فى سان سباستيان فى فرنسا، وخريج دار المقطم للصحة النفسية ، قال:
بعدما قرأت تقديمك لعوامل يالوم العلاجية بحثت فى خبرتى فى العلاج الفردى الممتد فوجدت عاملا يصلح للاثنين وهو:
المواقف، الرسائل والأفعال الفارقة: أنه بغض النظر عن أسلوب العلاج: تحليلى، سلوكى، معرفى، دوائى …الخ تأتى لحظة بعينها فى تطور العلاقة العلاجية تحمل فيها الكلمة قدرة غير متوقعة للتأثير والتغيير، وأحيانا يكون موقفاً أو فعلاً بعينه. وأتصور أن الإطار العلاجى والوقت يمهدان الطريق لقدوم تلك اللحظة إذا ما ألزم الطبيب نفسه بتحمل معضلة المريض العاصية على الحل والعجز المؤقت ولم يتهرب من المأزق العلاجى والعلاقاتى.
بقدر ما يمكن تعلم نظريات مختلفة عن العلاج لا أعلم كيف يمكن نقل هذه الخبرة وأهمية لحظة الصدق هذه وكيفية توظيفها.
فرددت عليه قائلا :
ياه!!! يا رفيق!! كم أنا فرحان بأن تشاركنى محاولاتى الخائبة برغم اجتهادى المستمر، وكم أنا سعيد أن أشعر أن البنى آدم هو واحد مهما اختلفت الثقافات، وقد توقفت مصفقا عند تعبيرك“إلاطار العلاجى والوقت يمهدان الطريق لقدوم تلك اللحظة” هذا تعبير لا يقوله إلا “صنايعى” (فنان) حاذق يعرف معنى الانتظار، ويحترم قدوم اللحظة ويتحرك “فى” الزمن لا بجواره.
أما كيف يمكن نقل الخبرة فلابد من “معلم” و”صبى” و”زمن” وأنت أدرى،
أما كيفية التقاط لحظة الصدق وكيفية توظيفها، فهذا هو عمق الصنعة أكثر مما هو سر المهنة.
وهأنذا أكمل المحاولة والحوار قائلا:
مهما بدت المسألة مفاجأة بكل المقاييس، فإن النتيجة تبدو تستأهل، والاستمرار حتى بعد انتهاء العلاج يلوح واعدا، إذ يبدو أن الصعوبة والمفاجأة ليستا فى الطريقة أو فى الشروط أو فى الثمن المقابل، أنها فى المفاجأة، والجِدّة، والمخاطرة، والوحدة معاً!
لكن هيا نكمل ما بدأنا من إعادة عرض لعبة “أنا لو كنت أعرف إن الموضوع كده كنت……..” لنرى الإبداع التلقائى للشخص العادى مريضا ومعالجا وهو يتعامل مع لفطين غامضين “الموضوع” ، “كده”!، ثم نرى.
تحريك الوعى بما لم نتوقع!!
“لو كنت أعرف إن الموضوع كده كنت …….”
لا أحد، يمكن أن يجزم بما يجرى تماما أثناء العلاج الجمعى، سواء من المرضى أو المعالجين، لكن الذى يمكن التأكد منه بلا أدنى ريب هو أن ثم تنشيطا للتفكير النقدى وتحريكا للوعى، بل إن ما وصلنى من العلاج كان أوسع من دائرة العلاج نفسها ومن ذلك:
(1) إن المرض النفسى “كخبرة”، وليس فقط كعلامات وأعراض لم يدرس بطريقة كاشفة كافية حتى الآن.
(2) إن التعلّم من المرض النفسى هو ثروة بلا حدود: لمن يريد أن يعرف أكثر عن ماهية المريض، وماهية نَفْسِهِ كمعالج فى أية مرحلة من النضج، وماهية الإنسان وماهية الحياة على مسار التطور أو غير ذلك.
(3) إن العلاج الجمعى خاصة فى تركيزه على الـ “هنا والآن”، كما يجرى فى التجربة المتاحة فى (قصر العينى) كمثال، هو أمر آخر غير ما شاع عن كلٍّ من التحليل النفسى، ومعظم ما يسمى العلاج النفسى، وفى نفس الوقت هو لا ينفصل عن سائر أنواع العلاجات فى تكامل هادف متضفر ما أمكن ذلك.
(4) أن ما يسمى الذهان (المرض العقلى، وبالذات الفصام) هو الأقرب إلى تمثيل ما هو مرض نفسى فى هذه التجربة على وجه الخصوص، على مستويات مختلفة.
(5) إن تجربة الفصامى فى العلاج الجمعى هى إثراء خاص لمجموعة العلاج النفسى، كما أنها إضافة متجددة للمعالج الأكبر والأصغر على حد سواء.
(6) إن التدريب المنظم المُلزم الملتزِم يشمل تغيرا فى المعالجين يواكب التغير الحادث والمأمول فى المرضى، وليس فقط اكتساب مهارات مهنية مفيدة.
(7) إن الخبرة التى يكتسبها المتدرب (والمدرب) لا يمكن تحديدها مُسبقاً، كذلك التغير المحتمل الذى يحدث لهما وفيهما، وهو ما أشارت إليه اللعبة هنا بكلمة “الموضوع”.
(8) إن هذه الخبرة التى لم يكن يمكن تحديدها ابتداء بكلمات شارحة كافية هى إيجابية غالبا، برغم ما يحيط بها من حتم المخاطرة، وما تستلزمه من طرق باب المجهول مهما بدا مهدِّداً.
(9) إن مثل هذه خبرة المعِيشَة هى الأصل فى طرق التربية الصحيحة (بما فى ذلك العلاج كإعادة تربية وتأهيل).
(10) إن توصيل هذه الخبرة إلى من لم يعايشها فى خطوط عريضة واحتمالات قائمة، هو ممكن من حيث المبدأ، لكن يستحيل أن تنتقل بما هى إلا بممارسة حياتية مباشرة، لهذا النوع من التفاعل أو لما يماثله أو يوازيه بشكل أو بآخر.
(11) إن “الأصغر” أقدر على خوض مثل هذه التجارب، وهو أيضا الأقدر على تلقى معالم هذه الخبرة، ولو بقدر بسيط، لكنه حقيقى قابل للتنمية فى ظروف ملائمة.
(12) إن المشاركة الحقيقية من خلال حوارات مستويات الوعى ولو بالمشاهدة، تقوم بدور إيجابى فى التحريك واحتمالات إعادة التشكيل.
(13) إن ما يجرى من إعادة تشكيل الوعى أثناء العلاج عامة، والعلاج الجمعى خاصة هو نوع من الإبداع، ربما يستحق اسم “الإبداع النمائى الجماعى” الذى لابد يختلف تعريفه عن التعريفات الشائعة لما هو “إبداع”، وهو إبداع يقوم به المرضى معا، كما يقوم به كل فرد على حدة فى نفس الوقت.
(14) إن التغير يحدث بالرغم منا إذا ما أتيحت لنا خبرات نشطة سواء كان هذا التغير مرصودا على المستوى الشعورى الفكرى لصاحبه أو لمن حوله أم لا.
(15) إننا نعيش عدداً من “المواضيع” بعدد من الطرق (“كده”!!)، أكثر مما نتصور، وأشمل مما يتاح لنا معرفته من خلال تعريفات جامعة مانعة أو ألفاظ مغلقة لامعة، لما نتصور أننا نعيشه تحديداً.
(16) إن تراكم الخبرات يتم حتى يصل إلى عتبة تغيـّر نوعى هو مؤشر دال مهما بلغت ضآلته وبعده عن الوعى الظاهر.
(17) إن الإسراع بالتفسير والتأويل ابتداءً هو أمر معطل – وقد يكون مشوِّها – للخبرة بشكل أو بآخر.
(18) إننا نفتقر إلى التفكير النقدى الذى هو أصل العملية الإبداعية (بما فى ذلك ما أسميه نقد النصّ البشرى).
(19) إن بعد الزمن ككيان “ماثل” هو أبعد عن طريقة تعاملنا مع الزمن العادى، أعنى: الوقت التتابعى الطولى.
(20) إن الوحدة المتناهية الصغر فى ما هو “زمن” هى شديدة الأهمية برغم أنها ليست فى متناول الوعى الظاهر طول الوقت.
وبعد
من خلال تطويرنا للألعاب أصبح فى إمكاننا أن نقرأ كل هذه الاحتمالات دون تشويهها بالتفكير المنطقى المختزل، وكأننا نفتح الباب لنوع رحب من المعرفة، لا نخنقه فى تعريف جامع مانع لكل لفظ، أو تحديد مسبق لكل مفهوم، وربما هذا ما سيوضحه استعمال كلمة “كده” بالذات فى اللعبة التى نستعين بها اليوم، وسوف نكتفى اليوم بعرض استجابات حالة مرضية هى حالة “هانيا” ليست سهلة :(1)
تعريف وتشخيص: هانيا (2)
هانيا آنسة عمرها أكثر من خمسين عاما بقليل، وهى تعمل بانتظام –بعد تحسنها وانتظامها فى المجموعة- عملا بشهادة متوسطة، وأعراضها ذهانية صريحة، وبالذات بالنسبة لوجود هلوسات سمعية واضحة ومحددة، ولها تاريخ طويل مع مرضها، وقبل مرضها، ومن بين ذلك انسحابها فترة ليست قصيرة نحو الرهبنة، ثم عودتها لعملها، وقد احتوتها المجموعة بالقبول والاعتراف والاحترام وعدم التسرع فى التخلص من هلوساتها، ولا حتى بالتعامل مع هذه الهلاوس على أنها خيالات مصنوعة، وقد استجابت هانيا لذلك بمواصلة اللّم وتعميق البصيرة بشكل أفادها وأفاد معظم أفراد المجموعة، وكانت علاقتها بالمعالج الرئيسى واضحة الإيجابية ربما لصعوبة حالتها التى مثلت تحديا قبله المعالج الرئيسى، فالمجموعة، فوصلتها الرسالة، فواصلت طريقها إيجابا لها وللمجموعة حتى النهاية.
سوف يكون الفرض على الوجه التالى:
أولا: استجابات أفراد المجموعة وهم يخاطبون هانيا
ثانياً: استجابات هانيا نفسها وهى تخاطب كل أفراد المجموعة.
ثالثاً: تعقيب محدود على الجزء ثانيا.
رابعاً: قراءة فى استجابات هانيا.
أولاً: استجابات أفراد المجموعة:
رفيعة: يا هانيا أنا لو كنت اعرف ان الموضوع كده كنت هربت من الدنيا
فايقة: ياهانيا أنا لو كنت اعرف ان الموضوع كده كنت إتعلمت منك اكتر
مديحة: ياهانيا أنا لو كنت اعرف ان الموضوع كده كنت اتمنيت إنى أنا أساعدك
أسماء: ياهانيا أنا لو كنت اعرف ان الموضوع كده ماكنتش حبيت حد
د.يحيي: يا هانيا لو كنت اعرف ان الموضوع كده كنت شكرتك بجد اكتر ما شكرتك
(لم يشارك كل من د. مى، د. شريف، محمود اللعب مع هانيا)
ثانياً: استجابات هانيا:
هانيا: يا دكتور يحيى لو كنت اعرف ان الموضوع كده كنت حبيتك اكتر
هانيا: يا فايقة لو كنت اعرف ان الموضوع كده كنت حاولت اساعدك
هانيا: يا دكتور شريف لو كنت اعرف ان الموضوع كده كنت جيت بدري شويه
هانيا: يا دكتورة مى لو كنت اعرف ان الموضوع كده ما كنتش سيبتك
هانيا: يا مديحة لو كنت اعرف ان الموضوع كده كنت ساعدتك
هانيا: يا رفيعة لو كنت اعرف ان الموضوع كده كنت اشفقت عليكي
هانيا: يا أسماء لو كنت اعرف ان الموضوع كده كنت حاولت اساعدك
هانيا: يا محمود لو كنت اعرف ان الموضوع كده كنت فرحت بيك
هانيا: يا هانيا لو كنت اعرف ان الموضوع كده ما كنتيش اتجننتي (3)
****
ثالثاً: تعقيب لاستجابات المشاركين مع [هانيا]:
رفيعة: يا هانيا أنا لو كنت اعرف ان الموضوع كده كنت هربت من الدنيا
يبدو هنا كيف تتأكد بعض آثار جرعة الرؤية عند رفيعة، وما يستتبعها من الشعور بالمأزق الحقيقى فى العلاج، الذى إذا ما صبرنا عليه وأتيحت الفرصة تحدث بعده نقلة نوعية إيجابية عادة، إعلان رفيعة لهذا الحل الهروبى، وفى آخر جلسة يمكن أن يكون تعرية لحل سابق لم يعد يصلح “بعد أن عرفت أن الموضوع كده“، ولعلها تعنى أنها كانت ستهرب من هذه المعرفة أكثر من أنها تقصد هربها من الدنيا، لأنها –فى المجموعة- وبعد أن “عرفت أن الموضوع كده”، أصبحت أكثر مبادرة وأشرس ثورة، وألزم انتظاما برغم الألم والصعوبات
فايقة: يا هانيا أنا لو كنت اعرف ان الموضوع كده كنت إتعلمت منك اكتر
نلاحظ أنه قد يكون أمرا عاديا أن تستفيد فايقة من الطبيب الكبير، وأن تقول كلاما كثيرا للطبيب المساعد، لكن الذى يحتاج إلى وقفة هنا هو موقفها هذا من هانيا، وهىأصعب حالات المجموعة من حيث التشخيص والأعراض، لكنها أهم الحالات من حيث الحضور، والتفاعل
فقد كانت هانيا مثالا صريحا لتركيب بشرى تفسّخَ وتعّدد، ثم أتيحت له فرصة أن تُقبل كل وحداته معاً، فحضرت جميعها للتفاعل دون عجلة فى محاولة ضمها كما سيأتى حالا، وكان من الواضح أن الطبيب المدرِّب يستفيد للمجموعة من عملية اللأم التى تجرى مع هانيا، على غرابة الأعراض، وقد كان حضور هانيا النشط بكل أعراضها الذهانية، يشجع بقية أفراد المجموعة أن يقللوا من دفاعاتهم، حين يصلهم أنهم أفرطوا فى استعمالها خوفا من تفسخ ثبت أنه لا يخيف إلى هذه الدرجة إذا ما عومل كما عاملته هانيا فى المجموعة. (4)
مديحة: يا هانيا أنا لو كنت اعرف ان الموضوع كده كنت إتمنيت إنى أنا أساعدك
فرق بين طلب مديحة المساعدة من فايقة (5) واستعدادها لمساعدة هانيا، ربما لأن مديحة مرت بتجربة ذهانية، فهى ترى أن هانيا، برغم حضورها وحركتها الضامة النمائية واحتوائها لأعراضها، تحتاج لدعم حقيقى أكثر، فغلب على ظنى صدق رؤيتها لهانيا وأنها مازالت فى حاجة إلى مساعدتها. لكن نلاحظ أيضا أن المسألة مازالت فى مستوى التمنى ولا توجد فرصة لاختباره فنحن فى آخر الجلسة.
أسماء: يا هانيا أنا لو كنت اعرف ان الموضوع كده ماكنتش حبيت حد
إذ لم يتبين هنا ما يميز هانيا تحديدا كما أن نفس الكلمات قالتها لزميلة أخرى، وكأن المسألة تخص خبرتها الشخصية، وإدراكها بعد كل هذا العلاج، صعوبات وربما زيف ما يسمى “الحب الثنائى التنافسى” كما خبرته قبل المجموعة غالبا.
د.يحيي: يا هانيا لو كنت اعرف ان الموضوع كده كنت شكرتك بجد اكتر ما شكرتك
لعل كل ما سبق شرحه بالنسبة لهانيا (الفصامية!!!!) ودورها الإيجابى فى حفز البصيرة، وكسر الهيبة مما يسمى الجنون، (بالنسبة لكل أفراد المجموعة وللمعالجين أيضا)، ثم مواصلتها الحضور والّلم، كل ذلك يفسر هذه الاستجابة من المدرب، هذا لقد تمرستُ على ممارسة هذا الموقف (شكر المريض) على تحسنه باعتبار أنه أعطانى أنا شيئا بهذا التحسن، وذلك تأكيدا على دوره الإيجابى فى عملية العلاج، فهو شكر موضوعى يتجاوز المجاملة، وقد تأكد هذا عندى – كما اظهرته اللعبة- فيما قامت به هانيا طوال عمر المجموعة.
رابعاً: قراءة فى استجابات هانيا
هانيا: يا دكتور يحيي لو كنت اعرف ان الموضوع كده كنت حبيتَك اكتر
سبقت الإشارة إلى نوع حضور هانيا الإيجابى رغم التشخيص الصعب، (هو: فصام بارنوى وأمرى إلى الله) وذلك بعكس الشائع بين الأطباء والعامة عن الفصام، (أنظر ما ذكرناه عن هانيا عند لعبة فايقة معها مثلا، وفى تقديم الحالات “يومية الثلاثاء 7-10- 2008 (1 من 4)” أما علاقتها بالمعالج الرئيسى فلم تكن طرحا مبالغا فيه كما نتوقع لكن يبدو أنها استجابة لقبوله التحدى وضمها إلى المجموعة برغم السن والتشخيص والإزمان وأن ذلك وصلها باعتباره سبب النجاح فى تحقيق الانتصار فى التحدى.
هانيا: يا فايقة لو كنت اعرف ان الموضوع كده كنت حاولت اساعدك
المساعدة التى تقدمها هانيا ليست بالنصائح أو بحسن النية، بقدر ما هى بالحضور والتعاون والتعرى الضام، ولعل هذا ما أقرته فايقة وهى تلعب معها حين قالت “كنت اتعلمت منك” مقارنة بما قالته فايقة للباقين.
هانيا: يا دكتور شريف لو كنت اعرف ان الموضوع كده كنت جيت بدري شوية
نتذكر أن تاريخ هانيا المرضى طويل جدا وخطير جدا، بقدر ما أن مرضها جسيم، ومع ذلك فإن تجاوبها وتغيرها فى المجموعة كان رائدا ومفيدا لها وللآخرين، وقولها للدكتور شريف “كنت جيت بدرى شوية ” يؤكد موضوعية ما قالته للدكتور يحيى، الذى نرجح أنه يشير إلى علاقتها بالمجموعة أكثر من اعتماديتها على فرد بذاته، وأيضا هو يذكرنا بقول مديحة للدكتور يحيى “كنت اتمنيت أشوفك من زمان”، بما فسرناه أنه إشارة إلى العلاج أكثر منه إلى فرد بذاته.
هانيا: يا دكتوره مى لو كنت اعرف ان الموضوع كده ما كنتش سيبتك
هكذا تتأكد علاقتها بالأطباء الثلاثة بنفس الحرارة والموضوعية تقريبا، كما يلاحظ أنها بدأت بالأطباء الواحد تلو الآخر دون أن تفصل بينهم بأية مريضة زميلة.
هانيا: يا مديحة لو كنت اعرف ان الموضوع كده كنت ساعدتك
حضور هانيا الإيجابى معظم فترات المجموعة كان تلقائيا بدون إعلان أو كلام، وثَمَّ فرقٌ بين تمنى مديحة مساعدة هانيا وبين حسم هانيا للمساعدة ربما ضمن التفاعلات النشطة التى تلقى هانيا بنفسها فيها طواعية، بالصورة التى سبقت الإشارة إليها.
هانيا: يا رفيعة لو كنت اعرف ان الموضوع كده كنت اشفقت عليكي
أنا عادة أرفض فكرة الشفقة وأعتبرها من المشاعر الفوقية التى قد لا تفيد، بل وقد تؤذى، لكن ما وصلنى من هانيا –بصراحة- من قولها هذا هنا كان أقرب إلى رؤية حجم العناد والثورة والألم معا عند رفيعه، فأدركت أن هذه شفقة من نوع آخر، لا أعرف كيف (ربما تحيزاً لهانيا)
هانيا: يا أسماء لو كنت اعرف ان الموضوع كده كنت حاولت اساعدك
تعبير “حاولت اساعدك” غير تعبير “كنت ساعدتك” التى قالته لمديحة، ربما هانيا قد قدرت صعوبة حالة أسماء فى ظروفها التى تمر بها والتى أشرنا إليها عدة مرات حالا،
هانيا: يا محمود لو كنت اعرف ان الموضوع كده كنت فرحت بيك
لم أفهم كيف تفرح هانيا بمحمود وهو بكل هذا الصمت طول الوقت برغم يقين الجميع بانتباهه ومشاركته صامتا، هل يا ترى كانت فرحة إصرار المجموعة على مشاركته، وقبوله بينهم برغم صمته؟ ربما، أم هى فرحة أنها أدركت أنه وهو يحمل نفس التشخيص (دون أن تدرى) يمكن أن تكون له فرصة مثل فرصتها، وبالتالى يمكن أن يتحسن مثلها؟ ربما.
هانيا: (مخاطبة نفسها) يا هانيا لو كنت اعرف ان الموضوع كده ما كانتش اتجننتي
يبدو أنه قد أمكن من خلال التفاعل مع هانيا على مدى عمر المجموعة وقبول الجميع تقريبا لكل مستويات حضورها وغير ذلك مما سبق ذكره، كل ذلك ساعدها أن تقبل هلوساتها على أنها حقائق داخلية، واقع آخر، وهو الأسلوب الذى يتبناه قائد المجموعة بشكل موضوعى، لا بتقريب مجازى، مما لا يحتمل الشرح هنا، كما يبدو أن ذلك قد ساعدها أيضا على أن تتعايش مع أعراضها باعتبارها حقائق الداخل (وليست مجرد حقيقتها الشخصية المتخيلة)، ربما وصل الأمر من خلال العلاج إلى تحريك ما يقابل ذلك عند بعض الأفراد العصابيين فى المجموعة، بل وعند المعالجين أحيانا،
وقد تحقق لى من خلال كل ذلك بعض فرض يقول:
إن تفكيك مفردات “الجنون” (كما أسمته هى) ثم قبولها ثم إعادة ترتيبها، هو الحل الأمثل للتعامل مع هذه الخبرة الممزقة المفسخة، حتى أن بعض من يمر بمثل ما تمر به هانيا يقول أحيانا فى نهاية المجموعة أو أثناها أو حتى قبل ذلك، “ياخبر ! ! دانا بالشكل كده مش حاقدر اتجنن تانى”!!!، وهذا يؤكد فرض أن الجنون هو اختيار من عمق ما أنظر نشرة (زخم الطاقة، والإيقاع الحيوى، واختيار الجنون “1-2”)، ونشرة (زخم الطاقة، والإيقاع الحيوى، واختيار الجنون “2-2”)، اختيار ولكنه اختيار لا يتبين صاحبه أنه اختياره، إلا بعد اكتساب بصيرة، من نوع بصيرة هانيا هنا
إن ما وصلها – وربما وصل لكثير من أفراد المجموعة – يعلن بشكل مباشر من خلال قولها هذا أن جرعة البصيرة التى أتاحتها المجموعة هى “ماكنتش اتجننت”، هى جرعة تبدو موضوعية، وحامية، وربما وقائية.
وبعد
نؤجل التعقيب النهائى حتى نعرض استجابات أحد الأطباء المتدربين غدًا.
[1] – على من يريد أن يعرف كل الاستجابات معا أن يرجع للنشرات الأربع السابق نشرها فى (نشرة 7 – 10 – 2008 (1-4)، نشرة 8-10-2008 (2-4)، نشرة 14-10-2008 (3-4)، نشرة 15-2008 (4-4). بعنوان “مِنْ آخر جلسة علاج جماعى لمجموعة عمرها عام”
[2] – الاسم مستبدل وكذلك أية معلومة تظهر شخصيتها.
[3] – نلاحظ أنه لا د.مى، ولا د. شريف ولا محمود لعب مع هانيا، مع أنها (كما سنرى لاحقا)، كانت تمثل تحديا رائعا وتفاعلا نشطا مع كل أفراد المجموعة، وبصراحة أنا لم أنتبه إلى هذا التجاوز إلا وأنا أكتب التعليق الآن، وقد رجعت إلى التسجيل فتأكدت أنهما كليهما لم يلعبا مع هانيا، فرجعت إليهما شخصيا وسألتهما عن سبب ذلك، فلم يعطيا تفسيرا، اللهم إلا أن الدكتور شريف قال: ربما لأنها حضرت متأخرة فلم تكن موجودة أثناء اللعبة ولقد لعبنا أنا و”مى” فى البداية، إلا أنى أخبرته أنه بمراجعة التسجيل تأكدت من وجود هانيا من البداية، وحتى الآن لم أجد تفسيرا لذلك.
هذا علما بأننى وسائر أفراد المجموعة عادة نذكِّر أى عضو يلعب بمن نسى أن يلعب معه، فأعترف أنا هنا أننى لم أجد تفسيراً لماذا لم أقم بتذكيرهما الواحد تلو الآخر بهذا السهو.
أما محمود فهو لا يتكلم أصلا ولا يشارك إلا بالانتباه كمتلقى.
[4] – اضطررنا اضطرارا لذكر تشخيص هانيا “فصام بارانوى”، مع كل ما ظهر منها وعن طريقتها من إيجابيات على مسار العلاج، لكننا ينبغى أن ننبه فى هذا الصدد إلى ما يلى:
أولا: أنه لايجوز تعميم ما حدث معها ولها على أنه صفات أو تركيب أى فصامى.
ثانيا: أن مسار علاج الفصامى يختلف اختلافا جذريا حسب نوع العلاج، وحتى فى هذا النوع حسب حالة المريض ومرحلته وفرص تفاعله.
ثالثا: أنها مثل كثير من المرضى كانت منتظمة على علاج العقاقير المناسبة مع ضبط الجرعة بالطريقة التى تلائم هذا العلاج والموجودة فى الموقع فى مكان آخر “استعمال العقاقير فى العلاج النفسى” فى صورة شرائح Power Point
[5] – نص استجابتها أثناء لعبها مع فايقة لم تنشر هنا الآن، أنظر إن شئت نشرة 15-2008 (4-4).