نشرت فى الدستور
19/3/1997
كتابة للتحريك لا للبلاغ
منذ أمسكت القلم، وسمح لى أهل السماح أن أقول قولى هذا ومثله، وأنا أحاول أن ألقى حجرا فحجر، أو حتى حصاة فى لجة الماء الساكن أو الآسن، وهذا بعض ما أفعله أحيانا وأنا أمارس مهنتى، حيث وجدت أن بداية الحركة للتغيير (فى عملية العلاج) هى تعتعة الوعى الثابت حتى يمكن تحريكه نحو التطور والنماء، وأيضا وجدت أن استعمال المهدئات الجسيمة بجرعات مفرطة طول الوقت تجمد حركة الوعى تماما، صحيح أن الأعراض تختفى لكن الهمود يسود،لابد إذن أن نبقى على درجة من الحركة والحفز بما يحافظ على حيوية البنى آدم، فلا يصبح “روبوتا” ضاربا تعظيم سلام طول الوقت، تحت اسم “الصحة النفسية” والعياذ بالله.
وقد استعرت هذا اللفظ “التعتعة” من الحسن بن هانىء (أبو نواس) وهو يقول: وما الغرم إلا أن ترانى صاحيا: وما الغنم إلا أن تعتعنى الخمر’ وبما أن الخمر حرام قطعا – أليس كذلك؟ – فقد استخرت الله ورحت أتعتع وعيى ووعى الناس بالتساؤل والمراجعة، ولم لا؟ ماذا لو؟ ماذا لو لم؟ ومن قال إن البديهية الفلانية صحيحة؟ بل من أدرانا أن البديهية بديهية من أصله؟ وكنت أعرف تماما أن سيدنا سقراط العظيم حين حاول ذلك مع شباب أثينا وهو يتمشى وهم حوله، حوكم بتهمة إفساد الشباب وإثارتهم، لكننى كنت – ومازلت مطمئنا- أن هذه التهمة لن توجه إلى مثلى، ربما لأننا نعيش عهد سيادة القانون، عصر الديموقرطية غير الأثينية، وربما لأنى منوفى (على كبر) ناصح أنتقى الألفاظ التى تنجينى، وربما لأن شبابنا فاسد من أصله فهو لايحتاج إلى مزيد من الإفساد، أو ربما لأن شبابنا (على الجانب الآخر) جامد مثل الأسمنت المسلح، لايمكن تعتعته.
ثم على فكرة: فإن التعتعة هى تحريك رقيق، وأحيانا تحريك خفى يحاول أن يهز المسلمات، ويرفض التسويات الخبيثة، كما يفقس الميوعة الرخوة، ولابد أن تكون جرعة التعتعة متوسطة لأن التعتعة إذا زادت تصبح ملخا، ثم تفسخا، ثم لاقدر الله تناثرا، والفن بالذات: الفن الحقيقى، هو أنجح وسائل التعتعة، أعنى فن التحريك والمواجهة، لا فن التحريض أو فن الدغدغة. وفى كل خير، ولنا عودة.
وهذا القدر اليوم من التحريك هو دعوة هادئة لكنها عنيدة، لإعادة النظر فى كل شىء، نعم أعنى فى كل شىء، فعلا كل شىء بما فى ذلك جدوى هذا الكلام وما وراءه.
أليست المسألة تعتعة.
(ملحوظة: مسئولية نتائج التعتعة على من يسمح بتعتعة وعيه، لا على من يتعتعه !!).