الاهرام: 6/9/2004
قـراءات أخرى للنجاح والفشل
بدأ تقليد ما يسمى الألعاب الأولمبية سنة 776 قبل الميلاد، كانت الفكرة هى البحث عن تنافس أرقى، فكان على كل ولاية أن ترسل أفضل رياضييها ليتنافسوا على شرف الإله زيوس بديلا عن الحرب. لكن هل نجح ذلك؟ وإن كان قد نجح قديما هل ينجح الآن؟ حروب اليوم تبدو أقل قسوة بينما هى أقل فروسية، وأخبث حيلا، وأخفى وسائل، وأعم إبادة. لم أتابع أوليمبياد أثينا لأسباب شخصية، لكننى شاركت الجميلة نهلة رمضان فى أحزانها وأحزان من حزنوا لها ومعها، كما تابعت فرحتنا بإنجاز كرم جابر وزملائه، وإن كنت قد رفضت أن يكون فى ذلك ما “كسر نحس صفر المونديال”. ما علاقة هذا بذاك؟ الأول إنجاز فردى رائع، وراءه تدريب مثابر، والثانى إعلان عن مدى قدرة نظام دولة ما على تنظيم جماعى محكم، يصلح لاحتواء حركة مئات الألوف من جماهير العالم مع بضع مئات من اللاعبين…إلخ.
منذ قديم، وأنا أراجع مسألة استعمال الجسد لغير ما خلق له، حتى لو سمى ذلك إعجازا أو إنجازا، كما أراجع مسألة التنافس ومجالاته ومعناه وفائدته، ظللت دائما أتحفظ على فكرة تنافس الأحياء على مبدأ البقاء للأقوى – برغم انتمائى للفكر التطورى. إنما البقاء للأنفع لنفسه ونوعه وللحياة تناسبا وتناغما مع نبضها على مختلف المستويات: حتى مطلق اتساع الكون الأعظم سعيا إلى وجه الحق تعالى.
كنت – ومازلت- أنهى مرضاى عن لعبة كمال الأجسام، متضمنة رفع الأثقال، حتى لا يزداد تمركزهم على أجسادهم فذواتهم، دون الناس والطبيعة والكون الممتد. أتحفظ أيضا على الملاكمة والمصارعة لعجزهما عن استيعاب إيجابيات غريزة العدوان الرائعة فى إبداع فائق. (العدوان والإبداع :الكاتب: “الإنسان والتطور” يوليو1980).
ما كان يشدنى – رغما عنى – فى الألعاب الأولمبية، هو منظر الصغيرات الفاتنات الرشيقات وهن يرقصن فى الهواء رقصات الإعجاز الجميلة فى تنافسات ألعاب القوى، لكننى وجدتنى بعد الانبهار والاستغراب أنزعج انزعاجا بالغا أن تصل بنا شهوة الفرجة والتنافس أن نستعمل أجساد هؤلاء الصغيرات بمثل هذا الامتهان القاسى، يبدأ تسخير الصغيرة منذ سن الثالثة لتكسر الرقم القياسى فى سن الثامنة عشر بواحد على ستة عشر من الثانية- مثلا !! ما معنى هذا؟ ما جدوى هذا للفتاة نفسها، وليس لمدربها ولا لوطنها، من أجل ماذا؟ بديلا عن الحرب؟ لا يا شيخ؟ !!
قرأت ما أسموه مأساة فشل نهلة رمضان، وأنا أستمع لجسدها وهو يقول لكل هذا أن “لا”. احترمت هذا الفشل احتجاجا على التشويه والاستعمال والفرجة المفرغة من غايتها. على الناحية الأخرى: خشيت أن تخدعنا فرحتنا بالإنجاز الفردى لكرم جابر وزملائه عن عموم سلبياتنا “الجماعية” فى الإنتاج والإبداع والتعليم والعمل والرياضة.
الجسد البشرى ليس أداة لغيره، ولا هو البنية الأساسية لعمل المخ، ولا هو نقيض الروح. منذ خلط صُهَيب الإيمان بلحمه ودمه، حتى إنجازات العلم المعرفى الأحدث الذى يتكلم عن “الفلسفة منغرسة فى اللحم الحى” (لاكوف)، والجسد مشارك فاعل فى عملية التفكير والمعرفة والوجدان والإبداع جميعا، هكذا تكلم جسد نهلة حين فشل، وكذا تكلم جسد جابر بالتفوق الجميل. مع أنه مازال إنجازا فرديا للأسف.
قراءات أخرى لازمة عن علاقة الإنجاز الأولمبى بالاقتصاد بالإنتاج بالإبداع. الولايات المتحدة جاءت أولا ثم الصين، الأرجح أن نفس الترتيب هو كذلك فى الاقتصاد والإنتاج و الإبداع، مع اختلاف النظام السياسى.
نحن نحتاج إلى تحديث معنى التنافس بما يليق بمسيرة وآمال الانسان المعاصر فنعرف أين وكيف نستلهم من جديد ما هو: “وفى ذلك فليتنافس المتنافسون”.