نبذة: اشتراك فى مناقشة حول نظرية التطور (الداورينية خاصة) وتنبيه حاسم بعدم إدخال الدين فى هذا الجدال، لأن المسألة خارج نطاق التقديس، ويميل كاتب المقال من جدية إلى تحديد وجهة نظره من أن التهذية بالانقرا من قائمه، وأن وراثة العادات المكتسبة وذات الدلالة التطورية سلبيا وإيجاباً هو أمر مرجح.
الأهرام 6-10-2003
قضيـة التطور مسئولية متجددة
عاد الحديث عن التطور مع التركيز على نظرية داروين، عاد رفضا أو تحفظا أو شجبا (أو كل ذلك) من كل من د. أميمة خفاجة، وأ.د. عبد الخالق السباعى، (الأهرام 24 أغسطس 2003) جنبا إلى جنب مع الرأى الآخر، حيث رد عليهما: د. مصطفى إبراهيم فهمى، ردا موضوعيا، دفاعا وتحديثا. يحدث ذلك فى الوقت الذى تستعيد فيه النظرية عافيتها عبر العالم.
يتضمن المقالان الأولان استشهادات من القرآن الكريم خاصة. ثم يرد المقال الثالث بتنبيه صريح إلى خطأ ومخاطر هذا الأسلوب الذى يجتزئ الآيات الكريمة ليستعملها فى نفى أو إثبات ما هو نظرية علمية بشكل يهين الدين وهو يتصور الدفاع عنه، ويفسد العلم وهو يتصور أنه يدعمه. ما كان أسهل على د.مصطفى فهمى، لو لم يكن هو هو، أن يستشهد بالآية الكريمة التى تضع كلمة ‘سلالة’ بين خلق الله للإنسان وبين أنه من طين، (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين: المؤمنون 12)، مؤكدا أن كلمة’سلالة’ إنما تعنى تلك الحلقات المتتابعة من سلسلة التطور التى منها يتخلق الإنسان من أصله الطينى، وليس من الطين مباشرة (!). مثل هذا التآويل يرفضه العلماء الثقات وكذا الفقهاء الواثقون من دينهم بلا حاجة لدعم من خارج منهجه. هذا التمحك لا يضيف للقرآن مزية ولا هو يزيد العلم معلومة، لا هو ينفى نظرية التطور ولا هو يثبتـها.
ثم إن القضية تتناول أحيانا بشكل يدعو للأسى أو الضحك أحيانا. آنظر مثلا المعلومة التى تقدم للقارئ العادى لتقارن بشكل كمى جينات الإنسان بجينات الشمبانزى أو الغوريلا أو الفأر، وذلك بذكر زيادة 1% أو نقص 2% هنا أو هناك، المسألة ليست صفقة كيلو من اللحم يزيد جراما أو ينقص أوقية. إن واحدا فى المليون إذا أضيف إلى كيان يتخلق، قد يغيره إلى نقيضه، أو إلى ما شاء الله.
لم يحضر أحد تاريخ الإنسان وهو يتخلق، يستطيع الطبيب النفسى إذا تجرأ فعايش خبرة الجنون بوعى مسئول أن يعاين النكوص وجها لوجه ليس إلى المرحلة الطفلية فحسب، وإنما إلى مراحل سابقة من الحياة والأحياء. فى خبرتى العملية أكاد أرى مسيرة التطور أمامى رأى العين وأنا أواكب مرضاى أثناء تدهورهم البدائى، وعلى مسار استعادة مسيرة النمو بالعلاج.
وفى خبرتى الشخصية أستعيد دورات الحياة، وأنا أتخلق مع محاولات إبداعى المتواضعة. بل إنى أستشعرها كلما استيقظت حامدا: ‘الحمد لله الذى أحيانى بعد ما أماتنى وإليه النشور’.
ذات مرة تقمصت مريضا منسحبا حتى تقوقع، ثم اندفع يتنمر فيستأسد وهو يزأر رافضا محتجا.
تقمصه حتى قلت على لسانه (1978):
’.. فطفقت أجمع قوة أجدادى من بين خلاياى،… واستيقظ فى ابن العم النمر، ولبست عيون الثعلب ونمت فى جلدى بعض خلايا بصرية، مثل الحرباء أو الحية، وبدأت أعامل عالمكم، بالوحش الكامن فى نفسى، أرسلت زوائد شعرية، مثل الصرصور أو الخنفس، أتحسس ملمس سادتنا، ووجدت سطوحكمو لزجة..، تلتصق بمن يدنو منها، أو ملساء، تنزلق عليها الأشياء، أو يعلوها الشوك. فجعلت أدافع عنى، هربا من هربى، هربا من ‘همي’ و ‘شكوكى.
وكذبت، لا ترتفع حواجبكم، ولينظر أى منكم فى أوراقه، فى عقد زواج، أو بحث علمى يترقى به، أو ينظر داخل نفسه، إن كان أصيب ببعض الحكمه، وليخبرني: هل أنى وحدى الكذاب.
وتعجلت اللذة. أنت تؤجل يا سيد إذ أنك أتقنت الصنعة، تعرف أن السرقة لا تـدعى سرقه، إن لبست ثوب الشرع، والكذب تحول صدقا بالكلمات المطبوعة والأرقام، لكنى أمضى وحدى، وبلغة الأجداد الأصدق، لا أضمن شيئا مثلكمو فى مقتبل الأيام، إذ ليس لدى سوى ‘الآن’، فكما اغتلتم أمسى.. ألغيت غدى، واللذة عندى تعنى كل وجودى، هذا قانون الأجداد، تلتصق بنصف آخر، تبقي!’
الفائدة الحقيقية من التأمل فى مسيرة تطور الحياة هو أن نثق بقدرة الأحياء على قبول التحدى، وأنه على الإنسان أن يواصل تقدمه حالا ودائما، فلا يكتفى بعرض وجهات النظر أو اجترار الذكريات..
اليوم: 6 أكتوبر، وعلينا أن نعامله من هذا المنطلق.