نشرة “الإنسان والتطور”
السبت: 15-8-2020
السنة الثالثة عشرة
العدد: 4732
قصة قصيرة
لا أعرف! (1)
(1)
قالت له: “كان علينا مِـنْ هذا بماذا؟” (كان علينا من ده بإيه؟) ،
قال: “هى فرصة نخدم فيها البلد”.
قالت:” أية بـلد؟” ،
قال:” ماذا تقولين؟ بلدنا: “مصر!”.
قالت: ” ما لنا نحن بالسياسة !؟، ألم نكن نخدمها بما نحن فيه؟ هذه البيوت المفتوحة بالآلاف، كل هذه المشروعات الممتدة طولا وعرضا؟ هل نحن ناقصون؟،
قال:” نعم، ثم أردف: “ربما”.
قالت: “نعم؟” أم “ربما؟”،
قال بيقين واضح: “بل: نعم”.
قالت: “ناقصون ماذا؟”،
قال: لا أعرف.
(2)
قال: له السكرتير الذكى المهذب، الذى كاد يصبح صديقا: “لقد اتصلتْ أمس، وقلت لها إن معاليك ليس عندك وقت كاف”،
قال: بغيظ مكتوم، وهو يتذكر فضل وعيوب الذكاء المهذب: “كافٍ لماذا؟”،
قال: “كاف لمقابلتها”. سأله: “ومن قال لك أننى ليس عندى وقت كاف؟
“قال السكرتير بدماثة صديق: “جلسة مجلس الشعب بعد غد، وهناك ثلاثة استجوابات ساخنة، لقد اتصلوا بنا وأوصوا بالاستعداد جدا، لأن الأمور اختلفت جدا، يقولون إنها – الأمور- أصبحت لا تُحتمل. سأل وكأنه يكلم نفسه: “لا تُحتمَلْ!؟ من ذا الذى لم يعد يحتمِل؟ يحتمِـل ماذا؟”
قال السكرتير: لا أعرف.”
(3)
فى صباح عطلة مسروقة خطفا، ليست بالضرورة فى نهاية الأسبوع، جلس فى شرفة قصره المطل على الخليج مباشرة، وراح يرتشف الرشفة الثالثة وهو يستعيد حوار السياسة، وحوار الاستجوابات، وقال لنفسه: صحيح، “كان علىّ مِنْ هذا بماذا”؟. الأمواج تبدو كأنها تتسحب فى اتجاه واحد بعيدا عنه، لا أحد يعرف – غير الله- كيف يحاور هذا الخليج حتى يكاد يسمع هسهسة أمواجه تهمس إليه أنه ليس وحيدا تماما، لا أحد يعرف رقة مشاعره، وأنه ليس مجرد ثرى يكتنز ويستغل، الله وحده هو الذى يعرف كل شىء، يعلم السر وأخفى، يعلم من يحب ومن يكره، ومن يصاحب ومن ينافق، يعرف أحواله حتى فى السرير وفى الحمام، كما أنه يعرف رصيده فى الداخل والخارج، ثم إنه حليم ستار، فلا الحكومة ولا زوجته تصلهما أية تفاصيل من التى يعرفها سبحانه، ثم إنه – جل شأنه- يعرف ما يدور فى صدره حتى وهو يقابل المسئولين الأجانب، وهو يتكلم بلغات أجنبية كثيرة مثل أهلها، وأحسن حتما من صديقه أستاذ الأدب الإنجليزى، ربما لذلك – وياليت زوجته تفهم – هو الأحق بالوزارة !. ليس سياسيا من لا يجيد اللغات.
دخل عليه السائق العجوز واقترب منه فى أبوة حانية، وسأله “هل أُعد الإفطار الآن؟. أجابه وقد بدا حزينا غائصا فى نفسه، يكلمها أكثر منه يرد عليه: “لا أعرف”.
(4)
كان قد صرف السائق وقرر أن يقود السيارة بنفسه مثل زمان ولولا امتلاء المثانة بما لا يطاق لما أوقف العربة فى هذا الظلام. ما هذا؟ مَنْ هذه؟ ملابسها ممزقة وهى ترتجف برغم حرارة الجو حتى ليلا، لم تفزع ولم تبك أو تعترض حين حملها للسيارة، ولا هو خشى على ملابسه من قذارتها، أحس بلفح كالنار وهى ترتجف على صدره، لعلها الحمى، الأضمن أن ينقلها إلى المستشفى فورا دون المرور بقسم البوليس، ثم إن الأغلب أنهم لن يصدقوا أنه بمركزه هذا قد فعل ذلك، وقد يظنون به الظنون، أو يتهمونه بالادعاء أو الخـَـرَف.
قالت له الممرضة – التى لم تعرفه والحمد لله – إنه يستحيل أن تقبل طفلة هكذا بدون عنوان، وبدون إقرار الأهل. قرر فجأة أن يتصرف معها كما اعتاد سابقا أن يتصرف مع الموظفين المسهلاتية، أفهمها أن ما “بالظرف” هو لشراء بعض الأدوية الناقصة للطفلة، وأيضا قد ينفعها للوصول إلى أهلها. دست الممرضة الظرف فى جيبها بسرعة وهى تؤكد له أنها سوف تعمل اللازم، ودعت الله أن يوقف له أولاد الحلال جزاء عطف قلبه الكبير الذى يحس بالناس هكذا: كبارا وصغارا. سألها – دون أن يعرف اسمها- عن موعد نوبتجيتها القادمة، (ربما للاطمئنان أو المتابعة من بعيد).
فأجابت أنها: “لا تعرف”.
(5)
قال لزوجته: بحسم إنه فعلا قد قرر الاستقالة هذه المرة. ابتسمت ابتسامة أقل سخرية من كل مرة،
وقالت: “ما الجديد إن شاء الله؟”،
قال: تيقنتُ أخيرا أنها لعبة لا تنفعنى،
قالت:” ألم أقل لك؟”،
قال:” ومع ذلك فقد تضاعفت استثمارات شركاتنا دون أية تدخلات منى، يبدو أن شركات الوزراء تتنامى تلقائيا بمجرد أن يدخل صاحبها الوزارة”،
قالت له:” ومع ذلك تستقيل!!!؟؟!”،
قال: “نعم، آن الأوان”،
قالت، ولكنك منذ دخلتها وأنت تستقيل يوميا، وفى كل مرة تقول إنها ليست ككل مرة، فمتى يكون قرارك النهائى؟
قال: “لا أعرف”.
****
[1] – نشرت بجريدة الدستور بتاريخ: 5 – 6 – 2006.