نشرة “الإنسان والتطور”
السبت 29-5-2021
السنة الرابعة عشر
العدد: 5019
قصة قصيرة
صمــــت (1)
ـ1ـ
أخذ مكانه لأول مرة فى القاعة المهيبة التى لم يعتد الجلوس بمثلها، تلفت حوله فوجد الحائط مزداناً بالصور الجليلة وقد تحددت فى أسفل كل صورة الفترة الزمنية التى شغل فيها صاحب كل صورة رئاسة هذا المجلس، أخرج ورقة بيضاء كان قد أعدها وأمسك القلم يدون ملاحظاته، وإذا بالأمور تتلاحق بشكل لم يتوقعه، رفع يده وفتح فمه وقد دوّن ملاحظاته ببطء المبتدىء، لكنه لم يستطع أن يلاحق ما يجرى بأى سرعة مناسبة، مالَ، وهَمَّ، وتنَحْنَحَ، وكاد أن يشير بيده وهو يتعجب للأحاديث الثنائية الجانبية، وحين تصور أن العميد يعطيه الكلمة سمع أصوات المقاعد تتحرك، والأجساد تنتصب، فأدرك أن الاجتماع قد انتهى. نظر إلى الورقة أمامه فجذب نظره أن ما تبقى فيها من بياض أكثر مما سود فيها من ملاحظات، لملم أوراقه ووضعها فى حقيبته ورفع رأسه نحو الحائط وهو ينظر إلى الصور معاتباً صف الشوامخ، وأخذ يتابع الضحكات السعيدة بالانصراف وما لا يدرى. حـَسِبَ أن الأصوات تزداد بـُعداً كلما اقترب من أصحابها، فكتم صرخة غريبة لم يسمع مثلها داخله أبدا.
ـ2ـ
ذهب إلى مكتبه، وبلا استدعاء دخل عليه الفرّاش العجوز ووجهه ينضح بالألم، ومن ورائه دخل زميله الشاب ووجهه أقل ألماً وأكثر غيظاً، بدا العجوز وكأنه يهم بالكلام، لكنه التفت إلى زميله الشاب قبل أن ينطق وكأنه يدعوه أن يقول هو، لم يستجب الشاب وازداد غيظه، فازداد الكهل ألماً، وطال الحوار الصامت بين المتألم والمغيظ .
خرجا كما دخلا.
قال لنفسه: ما هذا؟ ماذا جرى؟
ـ3ـ
لابد أ ن يقول لها رأيه بصراحة وليحدث ما يحدث، ما كل هذا القَذَى فى عينيه؟. قبيحٌ هذا الرداء على الرغم من كل ما دفع فيه، وعلى الرغم من اسم الحائك الشهير، ورغم القماش المستورد من جوار رسول الله مع غنائم آخر عُمرة. نظر إلى ساعته فوجد أنه لم يبق إلا نصف ساعة، مسافة الطريق، تردد نظره بين المرأة والمرآة، فجعل يتابع تدريبات الحركات المياسة والرصينه معاً، ولمسات العطر تستقر خلف الأذن. لماذا خلف الأذن بالذات؟ هزت رأسها فتصورت أن “فورمة” الشعر قد استقرت أكثر، فراح يسخن العربة استعدادا للانطلاق، فخيل إليه أن صوت الموتور أعلى من المعتاد، ثم تبين أنه لم يضع المفتاح ولم يدر الموتور بعد، فبدا له وجهه فى المرآة الجانبية أكبر من حجمه وكأنه يبتسم،
مع أنه كان فى حال.
ـ4ـ
نظر ابنه فى عينيه وهو يهم بالخروج، قالت له عينى الصبى: مالك يا أبى، فربت على رأسه فى هدوء وهو يـُحكم إخفاء رقّته التى كادت تذيبُه، تذكر أن الولد كان قد طلب منه أمس طلباً ما، يحتاج إلى نقودٍ ما، فدس يده فى جيبه وأعطاه ما تصور أنه يكفى.
ومضى مسرعاً قبل أن ينكشف.
ـ5ـ
زادت الحكاية حتى لاحظها الناس من حوله، لم يعد يبدأ، ونادراً ما يرد، كلمة أو اثنتين لا أكثر، خاف على نفسه خشية أن تكون الحكاية أكبر من مجرد خيبة أمل.
فقرر فى ذلك أمراً. يستشير طبيبا نفسيا، لِمَ لا؟
ظل جالساً فى حجرة الانتظار أكثر من ساعة يتأمل الوجوه الضاحكة والعابسة والملساء، وتعجب أن أغلب الجالسين يتكلمون كثيراً، وبصوت مرتفع، وحين جاء دوره تظاهر بالذهاب إلى دورة المياه.
وانصرف لا يلوى على شىء.
ـ6ـ
سمع صراخاً من خلف الباب فاختلطت لديه معانى الاستغاثة والألم واللذة، توقف قليلاً عن مواصلة صعود الدرج وود لو يستطيع المساعدة بشكل ما، كان على يقين أنها امرأة، فى حال، وهو لايعلم شيئا عن هذا الحال، ثم وهو لا يملك إزاء ذلك شيئاً، وقبل أن يواصل التفكير هدأ الصوت تدريجياً حتى اختفى تماماً، فلم يدر هل كان ذلك بسبب انتهاء الشجار أم الاستغراق فى النوم عقب ذروة الشهوة.
واصل صعود الدرج، وقبل أن يختفى خلف الباب خيل إليه أنه يسمع صوت بكاء رضيع وقد اختلط بزغرودة منفردة، فراح يتذكر أشياء شديدة البساطة كان قد نسيها تماماً، تذكرها بكل التفاصيل التى لم يكن يتصور أنه رصدها بهذه الدقة.
أخذ يردد بكل وعيه فرِحا:
“أهكذا؟؟
على الرغم من كل شىء؟؟”
[1] – يحيى الرخاوى: نشرت هذه الفصة فى كتاب “هيا بنا نلعب يا جدى سويا مثل أمس” (2000) – منشورات المحروسة – القاهرة.