نشرة “الإنسان والتطور”
الأحد: 14-6-2020
السنة الثالثة عشرة
العدد: 4670
اعتذار
أقدم هذا الاعتذار وأنا محرج أشد الحرج مع أنه خطأ غير مقصود طبعا، وهو خطأ السكرتارية عندى، لكن لابد أن أتحمل مسئوليته لأنه ينبغي علىّ أن أقوم بالمراجعة الأخيرة، ولن أقول هذا الخطأ بالتفصيل وعلى من لاحظه أن يسامحنى أو أن يكتب لى يستوضحه.
المهم أنه ترتب على هذا الخطأ أن توقف نشر بقية ترحالاتى الجزء الثالث “ذكر ما لا ينقال” وأيضا توقف نشر روايتى الطويلة “المشى على الصراط” الجزء الثالث “ملحمة الرحيل والعوْد” حتى أراجع الأمر بدقة أكثر، وحتى يسامحنى أصدقائى وصديقاتى الطيبون.
سوف أبدأ اليوم نشر ما اعتبره “قصة قصيرة” وهو من أقل أعمالى قربا إلىّ، حيث لم يكن أبداعا خالصا بل كان غالبا مزيجا من القصة والمقال السياسى وكان غالبا متعلقا بالمناسبة التي نشر فيها، وأعتقد أن هذا النوع من الكتابة يسمى أحيانا “القصة المقال” أو “المقال القصة”، مع أن قصة اليوم لا تنتمى إلى هذا النوع!!
عذرا مرة أخرى وإلى أن نعود للرواية والترحالات بعد ترتيب الأمور وسلسلة “التتابع” أطلب السماح والعفو.
قصة قصيرة
الراكبة والصبى (1)
توقف القطار، ونزلت الراكبة ضمن النازلين. تلفتتْ يمينا مرة، ثم يسارا مرتين، كانت تحمل حقيبة سفر متوسطة، شدت مقبضها فخرجت عجلاتها الصغيرة تحتها، دفعتها أمامها وهى تسير نشطة بخطى سريعة جهة اليمين، رافعة رأسها لا تتلفت، ولم تكد تمضى بضع خطوات حتى استدارت نصف دائرة لتصبح متجهة إلى عكس اتجاهها الأول، وهى لاتتلفت أيضا، بدا أنها لا تبحث عن أحد، سارت فى الاتجاه المعاكس حوالى ضعف الخطوات الأولى، فتقدم منها الصبى وهو يعرج وراح يعرض عليها شيئا، أو أشياء لم تهتم أن تتبينها أصلا، صرفته برقة، لا شاكرة ولا ساخطة، فانصرف الصبى لا راضيا ولا غاضبا، لكنه قبل أن ينصرف عاد وبحلق فى وجهها ونظر أكثر فى اتجاه عينها اليمنى، ثم جرى بعيدا.
أطلق القطار صفارته، أو نفيره، مؤذنا بقرب التحرك إلى حيث أتى، وأعلن ناظر المحطة ما يؤيد ذلك، قفزت الراكبة إليه وركبته وهى ترفع حقيبتها إلى أعلى، حاول عامل القطار أن يساعدها، فأبت شاكرة نصف نصف، وما أن بدأ القطار فى التحرك، وقبل أن يتسارع أكثر، قفزت الراكبة منه فجأة وحقيبتها أمامها، فاصطدمت هى والحقيبة بالصبى صاحب الأشياء، تعثر الصبى حتى انكفأ نحو القطار، وقبل أن ينزلق تحته أمسكت الراكبة بذراعه بسرعة وشدة، وجذبته إليها فاستقر فى حضنها أواستقرت فى حضنه، شهق الصبى متلاحقا خائفا وتجمّع حتى كاد يتكوم فى حجرها، وحمدت هى الله وهى تقربه منها ولا تكاد تصدق.
جلسا على مقعد الانتظار الحجرى متجاورين جدا، من أين لهما كل هذه الطمأنينة بعد ما حدث، ركن هو الصندوق بجواره، كما ركنت هى حقيبتها الناحية الاخرى، مر أمامهما خلق كثير، كانت تلتفت إليه كلما لاحظت مارا أو مارة بعينها، وهو كذلك: امرأة منقبة بدينة (غالبا) تسير بسرعة نشطة، ولا تتعثر، برغم أنها غطت حتى عينيها، شاب أطلق شعر رأسه الأسود الناعم حتى انساب على كتفيه، لكنه شاب، مجند فلاح جدا وضع “مخلته خلف ظهره وهو يجر وراءه بقجة ضخمة تحوى ما لم تسعه المخلة، طفل يعدو وهو يبكى ليلحق بأمه وهى لا تكاد تسمعه، كانت الابتسامة السؤال تعلو وجه الراكبة أو وجه الصبى فيلتفت أحدهما للآخر دون تعليق.
وضعت الراكبة ذراعها حول كتف الصبى البعيد، فمالت رأسه عليها وكأنه على وشك أن يغفو، لكنه لم يفعل، وظلا كذلك حتى جاء القطار التالى المتوجه إلى حيث أتت.
قبّلت الراكبة رأس الصبى وهى تهم بمغادرة المقعد، وقد أشاحت بوجهها بعيدا فلم ير الدموع فى عينيها، قبـّل هو يدها ووضعها على صدغه ثوان، وأشاح بوجهه هو الآخر لنفس السبب، فانسلـّت منه وركبت بخفة أسرع.
ظل يلوح لها حتى اختفى القطار، وهى ترسل له قبلاتها فى الهواء.
وضع الصبى يده على الصندوق بجواره، وقال لنفسه، وكأنها تسمعه: لماذا؟؟؟
عدلت الراكبة من وضع الحقيبة بجوارها فى المقعد الخالى، وردّت وكأنها سمعته: هكذا !!!
[1] – نشرة “الإنسان والتطور”: 7-9-2010