نشرة “الإنسان والتطور”
الأربعاء : 5-11-2014
السنة الثامنة
العدد: 2623
قصة قصيرة
إنـّّـه الهواء
-1-
تقدّم إليه الرجل الذى لا بد أن يكون “ساعيا” أو مثل ذلك، تقدم إليه يعطيه مظروفا مغلقا، بنّيا، لا هو بالفاتح ولا هو بالقاتم، وليس عليه طابع بريد، لكنّ خاتما غير واضح كان يكفى أن يصل بالرسالة إلى صاحبها ـ فلا بد وأن تكون من جهة حكومية ـ فهى تحوى، إذن، مطالبة أو إخطارا أو إنذارا.
خفق قلبه بشدة، وصمم ألا يفتح المظروف أصلاً وقال لنفسه ما معناه :
” لست أنا”
-2-
تذكرها وهى تغلق الباب خلفها بحركة لم يعتدها من قبل، كانت تقول له قبل خروجها: إنها أخيرا أفلحت أن تواجهه ببعض ما كان ينبغى أن تقوله له منذ ثلاثين عاما، وكان قد قال فى سره وهو يتأملها دون أن يميّز كلامها (صورة دون صوت): ملعون أبو الحرية والنقود، ثم قال أيضا: ملعون أبوالحرية والنقود والخمر، ثم أضاف بعد فترة ليست قصيرة، فترة لا تصلح للإضافة بل لبداية كلام جديد، لكنه أضاف وهو يبلع ريقه بصعوبة: ” .. والجنس أيضا”، ثم جمعها جميعا هكذا :
“ملعون أبو الحرية والنقود والخمر والجنس أيضا”
-3-
ملأ الكوب الفارغ إلى ثلاثة أرباعه بالماء المثلج (نصف نصف). قال وهو يتأمله فى يقين مندهش، إن تداخل الألوان هكذا، حتى يصير الماء شفافا هكذا، هو السر الذى لا يوصف، أما طعمه ورائحته فهما كل شىء حى.
وأخذ يرتشف الماء من الكوب ببطء وبصوت: رشفة .. رشفة: هكذا.
-4-
ردّ ابتسامة الطفل غير الموجود فى ركن الغرفة وقد خيّل إليه أنه يغمز له بإحدى عينيه، لكنّه أحس بالغيظ يملؤه حين لم يستطع التأكد إن كان قد لــعّبَ للطفل حاجبيه وهو يرد ابتسامته أم لا، ثم إن الطفل راح يواصل لعبه غير مبال وقد خبأ نصف رأسه وراء الملاءة المدَلاّة التى كان قد شبك أحد أطرافها فى مشبك النافذة نصف المفتوحة، فى حين أن طرفها الآخر كان مشبوكا فى مقبض النافذة الأخرى التى ما زالت مغلقة، والطرف الثالث فى عامود السرير ليظل الطرف الرابع حرا طليقا يسمح بأن يختبئ الطفل وراءه.
كان الطفل يؤجل أن تضبطه “دادته” بسرعة فى لعبة ” المسّاكة”. هو يخفى أنه يحبها فوق الوصف ويريد أن يستمتع بخياله وهو ينتظر اللذة التى يتمتع فيها بدفء بدنها وهى تحمله على ظهرها.
-5-
قال وكأنه يعلن قرار إنهاء الحرب:
الآن، والآن فقط عرفت تحديداً ما أريد، وهكذا أستطيع أن أرسم كل خطوات المستقبل القريب والبعيد بمنتهى الدقة وكل التفاصيل، صحيح أننى تأخرت كثيرا، لكن ذلك كان لازما لأن القرار الذى أتانى الآن، فقرّرته، كان يستلزم كل ذلك الوقت، فعليه يتوقف مصير اللحظة، وقال:
اللحظة هى كل شىء
-6-
انصفق الباب خلف ذلك الشخص الأول الذى كان قد أتى بالخطاب البنّى الذى لم يكن عليه طابع بريد، والذى كان عليه خاتم حكومى غير واضح.
عاد نفس الشخص الذى هو فى الأغلب “ساع” أو مثل ذلك، يفتح الباب فى تردد حذر، ثم أطل برأسه دون أن يدخل، وكان وجهه ممتقعا وهو يعتذر مؤكدا:
“آسف سيدى… لم أكن أقصد” ..”إنه الهواء”.