يحيى الرخاوى طبيب نفسى
نشرة “الإنسان والتطور”
الأربعاء: 15-6-2016
السنة التاسعة
العدد: 3211
قصة جديدة (11يونيو 2016)
كان فى الأصل : حلوانى
هذه هى المرة الأولى التى يرى فيها المائدة وعليها كل هذه الأغطية هكذا، لا يدرى لماذا، ربما حرصاً على احتفاظ ما تحتها بحرارته حتى يأتى وقت الطعام، رفع أول غطاء من فوق أقرب الأطباق المغطاة جميعها، قبل أن ينظر إلى ما تحت الغطاء المرفوع راح يتلفت يمينا ويسارا حتى لا تراه، ثم عاد ينظر بتردد إلى ما انكشف عنه الغطاء، واطمأن بأن ما تحته هو مما يستأهل أن يُغطّى، وهو يفضله دائما هكذا، أعاد الغطاء بسرعة إلى موضعه، ونظر بطرف عينه إلى باب الحجرة، ولم يلمح أحداً قادما، فقرر أن يرفع غطاءً آخر ليرى ما تحته، لكنه عدَلَ وخرج إلى الصالة بسرعة.
وجد الجميع منهمكين فى أحاديث لم يتبين أيا منها، ولم يجد بنفسه رغبة أن يسأل أحدا، بل إنه خشى أن يسأل فيُدعى للمشاركة وهو لا يريد أن يشارك، ولا يعرف كيف يشارك فى هذا النشاط المَكْلَمى، وفضل أن يتسحب عائدا إلى حجرة المائدة يكمل حب استطلاعه، وحين عاود رفع نفس الغطاء بلا تردد هذه المرة لم يجد تحته شيئا اصلا، فاعتقد أنه أخطأ فرفع غطاء آخر ولم يجد شيئا أيضا، ثم راح يرفع الباقى واحدا وراء الآخر فوجد أنه لا يوجد تحت أى منها أى شىء، بلعها وهو فى غاية الدهشة، شكَّ فى نفسه لكنه سكت، وعاد إلى الصالة بسرعة، فلم يجد زوجته بين المتناقشين، ولم يجدها أيضا فى المطبخ، ثم تذكر أنها لم تكن دعوة للعشاء، بل لقاء حول الشاى، فحمد الله وطرد الظنون وإن كان لم يجد تفسيرا أشمل.
عاد إلى الصالة وإذا به يسمع صوتا غريبا آتيا من حجرة المائدة فنظر إلى المتناقشين وتأكد أن أحدا غيره لم يسمع الصوت لأن أحدا لم يلتفت نحو الحجرة، الصوت خليط عجيب من نقيق الضفادع الذى كان يرعبه صغيرا ليلا كلما اقترب من البركة قرب الدار الريفى المتهالك، ونفير عربة النجدة الذى ما زال يرعبه إلى الآن فى كل الأحوال، حتى لو كان هو الذى استدعى النجدة، فرك أذنيه مرتين وتأكد من الصوت وأنه يحمل تهديدا ما، والتفت حواليه إلى من فى الصالة، واطمأن لانهماكهم فيما هم فيه، توجَّه نحو الحمام مباشرة، وأحكم إغلاق الباب ثم نظر إلى النافذة الصغيرة، ووجدها أعلى من أن يطل منها على خارجها، وأضيق من مروره، شد السيفون وخرج بسرعة، وحين عاد إلى الصالة، وبرغم قصر المدة لم يجد أحدا، وحمد الله أنهم انصرفوا قبل أن يضطروه للمشاركة، وأيضا لأنهم لم يسمعوا الصوت الغريب المرعب، خلت الصالة إلا منه فترك نفسه يهبط داخل مقعد كبير وثير، وطأطأ رأسه ووضع كفيه على خديه وهو يتذكر السؤال الذى ألح عليه هذا الصباح، وأن عليه أن يختار: إما أن “يعيش”، أو أن “يستمر هكذا”، خرجت ابنته الصغرى من حجرتها ولمست ركبته حتى رفع رأسه، وقرّبها منه فى إحاطة حانية فسألته:
– مالك يا أبى؟
قال: لا شىء يا حبيبتى
قالت: لا، بجدّ: مالك؟
قال: مالى ماذا يا قطتى الصغيرة! أنا بخير لا تشغلى بالك، اذهبى الآن: (وأشاح بوجهه الناحية الأخرى)
قالت: لكن يا أبى انت تحتاجنى الآن
قال: إيش عرفك؟
قالت: أنا عارفة
قال: والله العظيم أنا بخير
قالت: إما أن تقول لى مالك، أو أنادى أمى
قال: اعملى معروفا، سوف اقول لك كل شىء
قالت: أرى عيونك تلمع يا أبى، ماذا بها؟
قال: ما هذا يا حبيبتى، ماذا تقولين؟ اذهبى واغسلى وجهك، فأنت ترين ما ليس موجودا
قالت: انت حر، يا أبى لكن إذا احتجت شيئا نادِنِى
قال: ربنا يخليكى يا حبيبتى
بعد أن اطمأن أنها أغلقت باب حجرتها، اكتشف أن وجنتاه مبللتان دون أن يشعر، مسح خديه وقام إلى الحمام وغسل وجهه ثانية ونظر إلى النافذة مغيظا، أحكم إغلاق الباب ثم حرك كرسيا بلا ظهر كان فى الحمام ووقف عليه ونظر من النافذة فتذكر أنه يسكن فى الدور الرابع، وقال: أحسن، ولم يعرف “أحسن” ماذا، ولم يبحث عن إجابة، وقرر أن ينتظر دون ما يدعو للانتظار، وقبل أن يخرج التفت إلى النافذة ثانية فلمح طائرا على حافتها، ليس صقرا وليس حمامة، هو أقرب أن يكون ببغاء، بل إنه قريب الشبه جدا من “فرحان” “غراب سونيا الساحرة” ابتسم، هو لا يخاف من سونيا لكنه يكرهها، ثم أراد أن يتأكد أنه ببغاء وليس غرابا، فقرر ان يختبر ما سمعه عن مثل هذا الطائر، فنطق اسم إبنه بصوت عالِ “مراد”، فسمع غمغمة قريبة من، “مراد” فَرِحَ وواصل: قال “هيكل” قال الببغاء بنفس الإضغام: “هيكل”، “بوتين:..بوتين”، لم يكن متأكدا ولم يكن منكرا، فأكمل: “السيسى” قال الببغاء: “السيسى”، بدأ يخاف وقرر أن يتوقف بعد اسمين آخرين فقد ثبت أنه بغباء فعلا، قال: “ترامب” قال الببغاء: “تْرامب”، قال لنفسه : آخر اسم سوف يكون مركبا حتى يتأكد نهائيا: قال: “نلسون مانديلا”، اختفى الببغاء فجأة دون أن يصدر أى صوت.
فرك الرجل أذنيه وهز رأسه واتجه إلى الحوض وشطف وجهه بماء حمد الله أنه كان باردا بدرجة كافية، وخرج دون أن يجفف وجهه، وإذا بالصالة قد امتلأت بمجموعة أخرى من أصدقاء ابنه وهو معهم ، وكانوا يتناقشون وكان صوتهم عاليا بدرجة كافية فاستطاع أن يميز بعض ما يدور أكثر مما كان الحال مع أحاديث المدعوين الذين انصرفوا، كان الشباب يتكلمون عن “السرقة” و”الفساد” و”الديمقراطية” و”الانتخابات”، و”حقوق الإنسان”، و”قانون التظاهر”، والتقط معالم حوار يقول بعضه أنهم قد أضافوا لحقوق الإنسان حقين جديدين هما “حق الـغــِش، و”حق الدَّشْ، فابتسم وقال لنفسه ها هم الشباب يأخذون الفرصة من أوسع أبوابها لإعادة بناء الوطن، تقدم منه أحد الشباب فجأة وسأله:
– قل لنا يا عمى مَنِ الأوْلى
قال بدون تردد: الأوْلى بماذا يا إبنى
قال السائل: الأوْلى بحكم مصر
قال بسرعة: أنا!
ضحك بعض من سمع إجابته، وتقدم واحد منهم وقال:
– نحن نتكلم جِدا يا عمّى، مـَن الأوْلى، جمال عبد الناصر أم محمد على باشا
قال دون تردد:
– نعطيهما الفرصة بالتبادل، سنتين وسنتين، ثم نرى
قال شاب ثالث:
– يا عمى، يا عمى! نحن نتكلم جِدَّا
قال الرجل:
– وهل أنا أمزح!؟
قفز “مراد” ابنه وسطهم وكأنه يريد أن ينقذه بإبعادهم عنه وهو يقول:
– أنا أسف يا أبى، والله العظيم إنهم يحبونك
هدهد على كتف ابنه وقال: وأنا أيضا أحبكم وأعذركم
قال شاب جديد: ألست معنا يا عمى أنه قد آن الأوان ليكون لنا دور فيما يجرى؟
قال الرجل:
– ماذا يجرى يا إبنى؟
قال الشاب: كل هذا الذى يجرى
قال الرجل: وهل منعكم أحد؟
قال شاب آخر كان يتابع:
– وهل دعانا أحد وقصَّرنا؟
قال الرجل:
– وهل أنتم تحتاجون دعوة
قال أكثر من واحد: طبعا
سأل الرجل: دعوة مِنْ مَنْ يا ابنى
قال واحد: دعوة والسلام
قال الرجل: أنا شخصيا “ما ليش دعوة”
قال: عدت تمزح يا عمى، نحن نتكلم جدا وأنت تقلبها “قافية”، نحن نريد أن نعمل شيئا فعلا
قال الرجل: أكثر مما عملتم؟!
قال شاب: عملنا ماذا؟
قال الرجل: كل خير، كل خير
تدخـَّل الابن مرة أخرى وهو يسحب والده برفق بعيدا ويعتذر له من جديد
تقدم شاب بسرعة قبل أن ينصرف الابن متأبطا ذراع أبيه وقال:
قل لنا قبل أن تنصرف، قل لنا بجد: ماذا ترى؟
قال الرجل: أرى؟ أنا؟ أنا رأيتُ فيما يرى …، والله يا ابنى أنا لم أعد أفرق بين ما “أراه” وما “أحلم به”.
قالها وانصرف مسرعا وهو يخشى أن يسألوه عن ما رآه فى حجرة المائدة أو فى الحمام: أهو حلمٌ أم علم، فهو لا يعرف الإجابة.
دخل إلى حجرة المائدة من جديد ووجد الأغطية قد عادت تغطى الأطباق غير الموجودة تحتها، راح يقاوم أغنية تدور فى رأسه غصبا عنه وهو يتلفت خشية أن يسمعها الشباب، أغنية هو يحبها ولا يصدقها لكنها ظلت تطارده: “اللى بنى مصر كان فى الأصل حلوانى” حاول أن يبعدها فلم يستطع، استدعى قولا منغما كان قد لصق فى قاع رأسه منذ شاهد عادل إماما وأحمد مظهر يرددانه فى فيلم لا يذكر اسمه، وهما يثقبان السقف للسرقة أو للهرب، لا يذكر، كانا عادل إمام يدندن “أنا من طنطا واحب أعيش أونطا…أوانطا” وربما كان مظهر يردّ: “أوانطا”، وهكذا ظلت الأغنية والأرجوزه تتبادلان فى رأسه دون أن تغلب إحداهما الأخرى: “اللى بنى مصر كان فى الأصل حلوانى”….. “أنا من طنطا وأحب أعيش أونطا”، “اللى بنى مصر كان فى الأصل حلوانى”….. “أنا من طنطا وأحب أعيش أونطا”…….
أسرع الرجل إلى فراشه ليوقف المباراة، وطالت نظرته وجِلاً إلى حافة النافذه ثم قام وأغلق الشيش، وعاد واستلقى ثم أغمض عينيه وسحب الغطاء على وجهه وهو يخشى أن تطلع له الساحرة سونيا من تحت السرير، أو حتى من تحت الغطاء.