نشرة “الإنسان والتطور”
الأربعاء: 28-1-2015
السنة الثامنة
العدد: 2707
قصة جديدة:
الصندوق
طالت الوقفة على السيدة الأنيقة المحجبة المنتظرة بجوار عمود النور وقد أظلم الشارع إلا حول العمود وهى تنظر فى ساعتها كل فترة، وحين شعرت بأنها لا تستطيع مواصلة الوقوف نظرت حولها وقررت أن تتحرك إلى طرف الرصيف وتجلس عليه فهو بارتفاع مناسب، وهى ترتدى سروالا متينا “جينز”، و”بلوزة” فضفافة، جلست على الرصيف لفورها وهى مطمئنة إلى سروالها الجينز للستر والتحمل، اقترب منها الصبى الأسمر وهو يحمل أشياء فى صندوق صغير لا يبدو أنه يبيعها، كان حول الثامنة، وبدلا من أن يطلب منها ما توقعته، جلس بجوارها على الرصيف على مسافة، لم يكن قذرا لكنه بدا مُنْهَكاً، وكانت ملابسه ممزقة، مدت ذراعها لتربت على كتفه صامتة، لكن كان كتفه الأقرب أبعد من متناول يدها، فردّتها إلى جوارها ولم تقل شيئا، نظر إليها الصبى دون استعطاف، وانتقل قليلا ناحيتها، محتفظا بمسافة معقولة، كان بريئا فى حركته شقيا فى نظراته، كان الشارع خاليا إلا من مارة متقطعين مسرعين يمضون فى عجلة، ولا ينظرون إليهما، لم تعرف لماذا هم مسرعون هكذا، كادت تسأل الصبى، ثم ترددت، ثم تشجعت وسألته:
– همّا مستعجلين على إيه؟
رد على الفور
– على قَضَاهم
قالت وهى مندهشة:
انت عارف يعنى إيه قضاهم؟
قال:
– طبعا عارف، أمى كانت بتقول لى كده كل ما استعجل
قالت:
ما سألتهاش يعنى إيه؟
قال:
– وهيا دى عايزة سؤال!؟
عاد الصمت إليهما دون اتفاق، لكنه تزحزح أقرب حتى كادت المسافة تتلاشى، مدت ذراعها هذه المرة فطألت كتفه الأبعد، فاقترب حتى التصق بها ومال برأسه عليها وترك نفسه وهى لا تصدق أنه نام بهذه السرعة، وقد وقع الصندوق الذى كان يحمله من يده، فمدت يدها وأرجعته إلى حجره لكنه لم يتسع له وهو نائم، فوضعته فى حجرها هى، ولم يدهشها أن علا صوت شخيره وهو نائم وكأنه ممدد فى داره.
نظرت فى ساعتها وهمت أن توقظه لكنها تراجعت وأخذت تتأمل وجهه الأسمر، نعم ليس قذرا لكنه ليس بريئا، تذكرتْ ابن اختها فى سنه، وشعرت بتعاطف مع الصبى المائل عليها أكثر.
مَرّ شرطى على دراجته البخارية من أمامهما بسرعة فائقة، ثم توقف فجأة بكابح علا صوته كأنه نباح كلب، بل عواء ذئب، ثم نزل سائقه ولفَّ حول “دراجته” وهو ينظر إليهما، فخافت، ماذا لو سألها عن ما لا تعرفه، لكنه أكمل دورته حول دراجته البخارية وعاد فأدرأها وانطلق بنفس السرعة.
نظرت فى الساعة مرة أخرى، ثم أخرجت ورقة وقلما ونظرت فى وجه الصبى وكأنها تقرأه، ثم راحت تكتب على الورقة، ثم طوتها وأرجعتها إلى موضعها، ونظرت فى الساعة من جديد، ثم إلى الصندوق فى حجرها وهمّت أن تفتحه، ثم تراجعت، يا ترى ماذا به؟ وهل يمكن فتحه؟ أم أنه مغلق؟ نظرت إلى وجه الصبى وخجلت من نفسها، هذا الوجه لا يحمل أى خطر، ولكن من أدراه ماذا به؟ وهل قال له من حمّله إياه عن محتواه؟
نظرت فى الساعة مرة أخرى واهتزت قليلا ثم كثيرا ثم ابتعدت فجأة حتى كادت رأسه تسقط منه فاستيقظ منزعجا ملتفتا إليها:
– إيه فيه إيه؟
قالت: ولا حاجة، خفت أن أتأخر
قال: تتأخرى على مين؟
قالت: يعنى…!
قال: يعنى إيه؟
قالت: إنتَ مالك؟
قال: آه صحيح!
جاءت عربة ملاكى متوسطة وتوقفت قبالتهما مباشرة وفتح قائدها الباب الخلفى، فالتفتت إلى الصبى فلم ينبس، فقامت بسرعة، ودخلت من الباب المفتوح وراح الصبى يلوّح لها.
قال السائق:
– أمرك يا هانم، تأخرت
قالت:
– ولا يهمك
قال:
– أنا تحت أمرك
قالت:
– اعمل اللى قالولك عليه
قال:
– ما قالوش لى إلا على الموعد والمكان
قالت:
– انت معانا ولا معاهم؟
قال:
– أنا مع ربنا
قالت:
– إمال أنا مع مين؟
قال:
– إيش عرفنى!
قالت:
– ما هو أنا كمان مع ربنا
قال:
– كل الناس بيقولوا كده
قالت:
– بس ربنا عارف اللى معاه من اللى مش معاه
قال:
– حِلِّينى!
أمرته أن يقف فجأة، فتوقف فجأة جدا دون مناقشة، حتى كادت تنكفئ على وجهها، ونزلت بسرعة وهى تقول دون تفسير:
– مع السلامة
انصرف السائق بالعربة دون تلكؤ، ولا حتى استغراب، مع أنها كانت تتوقع غير ذلك، نظرت إلى نهاية الشارع فلمحت الصبى قادما مع أنه كان حيًّا غير الحى، وشارعا غير الشارع، أسرعت الخطى حتى وصلت إليه فإذا به ليس هو، لكنه يشبهه بما يفسر خطأها، حيته فى طيبة فرد بأطيب منها، ولمحت بيده الصندوق مثل الآخر، ولم تتردد أن تسأله فى ما فاتها فى المرة الأولى وكأنه هو:
– إيه اللى فى الصندوق اللى معاك ده؟
قال:
– إيش عرفنى
قالت:
– جبته منين؟
قال:
– من الراجل
قالت:
– راجل مين؟
قال:
– إيش عرفنى؟
سمعت صفارة من التى تصدر عن الصبيان حين يضعون أصابعهم فى فمهم ينادون بها بعضهم بعضا فانطلق الصبى حاملا الصندوق ناحية الصوت عدوا دون أن ينظر إليها، لكن عربة “بوكس” اعترضته وحملته إلى داخلها حملاً، وقبل أن يعود السائق إلى مقعد القيادة هرولت نحوه تسأله عن ما فعل وما سبب ذلك، فسألها الضابط:
– انت تعرفيه؟
قالت:
– طبعا
قال:
– يبقى تركبى معانا،
وشدها شدا إلى داخل العربة وهى تصرخ.
لم تستغرق الإجراءات فى القسم طويلا، وثبت أن كل شىء تمام، وكان العساكر قد أخذوا الصندوق وفتحوه، وراحوا يلتهمون ما به فاستنتجت أن ما به هو بعض بقايا موائد الأثرياء، وتسارعوا فى سباق الأكل وكأنهم لم يأكلوا منذ أيام.
انصرفت المرأة من القسم، وهى تمسك يد الصبى وهو يتركها تفعل، وهو يحمل بيده الأخرى الصندوق فارغا، سألته:
– أنت ساكن فين؟
قال:
– إيش عرفنى
قالت:
– ما تعرفش حتى ساكن فين؟
قال:
– ما تسألى الظابط، أنا قلت له كل حاجة
قالت:
– طب والصندوق؟
قال:
– ماله؟
قالت:
– ماعدش فيه حاجة
قال:
– مش مهم
قالت:
– هوّا كان فيه أكل؟
قال:
– امال حيكون فيه إيه؟
قالت:
– طب وانت حاتعمل إيه؟
قال:
– حابات جعان
قالت:
– والراجل؟؟
قال:
– هوّا يتصرف
قالت:
– وحاتقوله إيه؟
قال:
– حقول له على اللى حصل
قالت:
– طب دلوقتى حاتروح فين؟
قال:
– حاروح مطرح ما جيت
وانفلت من يدها يعدو بأقصى سرعة
آخرجت لفافة المناديل الورق من حقيبتها ووجدتها فارغة، فاضطرت أن تمسح خدودها فى كمها وهى تحاول أن تكتم نشيجها حتى لا يرتفع منها.
ولم تعرف إن كانت تبكى على نفسها، أم على الصبيّين، أم على مصر.
واستغفرت ربها،
وحمدته،
وأكملتْ،
وفى نظراتها تحدٍّ بغير حدود.