إعادة قراءة فى مصطلحات شائعة
الانحراف الجنسى
لم يعد تعبير “الانحراف الجنسى” يستعمل هكذا فى اللغة العلمية، وخاصة فى التقسيمات الأحدث للاضطرابات النفسية (مثلا فى التقسيم العالمى العاشر1990 ICD 10 أو التقسيم الأمريكى الرابع DSM IV لا يوجد شيء إسمه الانحرافات الجنسية)، ومع ذلك ما زال هذا التعبير هو المستعمـل عند كثير من الأطباء النفسيين وخاصة عندنا هنا فى مصر (وفى البلاد العربية فى الأغلب)، والأهم من ذلك أنه هو هو المستعمـل عند العامة عادة ليشيروا به إلى انحراف ما نحو ما “ليس كذلك” (دون أن يحددوا ما هو “كذلك” لأنهم لم يحددوا أصلا ما هو “ذلك”)
ويبدو أن تعبير الانحراف هو المشكل الأساسى فى قراءتنا هذه، لذلك يجدر بنا أن نتذكر ابتداء كيف أن تعبير “انحراف” كان ومازال مشكلا ليس فقط فى الاضطرابات الجنسية، ولكنه مشكل بصفة عامة بالنسبة للاضطرابات النفسية جميعا، لأنه ما إن يذكر لفظ “انحراف” حتى يقفز تساؤل يقول: “انحراف عن ماذا؟” ثم بعد ذلك تلحقه تساؤلات أخري: “انحراف فى أى اتجاه: إلى أعلى أم أدنى؟ أم إلى غير ذلك؟”، وأخيرا “إنحراف بأى قدر إلى أى مدى؟”
فمازالت إشكالة تحديد ماهية السواء النفسى قائمة لم تحل حلا نهائيا، فنحن لا نكاد نعرف حدود ما يسمى بالصحة النفسية، ولن ندخل الآن فى نقاش حول الحد الفاصل بين السواء والمرض، وإنما سنكتفى بالتذكرة بأن تعريف الصحة بمفهوم “السواء الإحصائى” قد رفضه أغلب المشتغلين بالقضية، والمقصود بقياس الصحة النفسية بما هو “السواء الإحصائى “هو أن يعتبر الصحيح نفسيا هو الذى يماثل سلوكه سلوك أغلب الناس (أو على الأقل: يقترب كثيرا من ذلك)، فمثل هذا التعريف يكاد يعتبر الأشخاص المتميزين مثل العباقرة، والثوار، والمبدعين، مرضى حيث أنهم كلهم -تقريبا- يخترقون سلوك السواد الغالب ويختلفون مع ما يألفه معظم الناس، حتى يقودونهم إلى التغيير والتطور الإيجابي.
وعلى الرغم من تواضع المفهوم الإحصائى للسواء فإننا يمكن أن نصل إلى درجة تقريبية مساعدة لمثل هذا “النمط النموذجى”، مما يمكن أن يسمى “عادى” أو “فى حدود الطبيعى” أو “فى حدود المقبول“.(فى ثقافة /مجتمع بذاته) فلنأخذ مثلا نمطيا يصلح للوطن المصري، فالأرجح أن الشخص العادى فى مصر: “هو الشخص الذى يعمل، أويذهب إلى العمل، وله أسرة، ويخرج مع الأصدقاء أحيانا، ويشاهد التليفزيون عادة، وقد يقرأ صحيفة يومية (إن كان يفك الخط!!)
فإذا جئنا للسلوك الجنسي، فإننا حتى نتكلم عن الانحرافات الجنسية لابد أن نحدد ما هو النموذج السوى للممارسة الجنسية، بحيث يمكن أن نعتبر أى ممارسة أخرى انحرافا (عن هذا السواء)، وهنا تواجهنا صعوبة تطبيق النموذج الإحصائي، أكثر مما هو الحال فى تحديد نموذج السواء النفسى عامة، فالحق يقال: إنه لا يوجد نموذج واحد متفق عليه يحدد طبيعة وحدود السواء الجنسي، فثمة بعد أخلاقي، وآخر ديني، وآخر تناسلي، وآخر بيولوجي، وهكذا.
وكما أن الأديان تختلف فى تحديد الممارسة السليمة (المشروعة، الحلال) للجنس، فإن النظريات النفسية أيضا تختلف اختلافا ليس يسيرا.
ثم إن التاريخ يحكى لنا أشكالا وألوانا من الممارسة الجنسية كانت سائدة يوما ما، ومازالت كذلك فى بعض المجتمعات (البدائية أو الخاصة)، ثم أصبحت نادرة (أو حتى شاذة).
أما ما طرأ على الممارسة الجنسية فى العصر الحاضر، وخاصة ما أعلن منه فى الدول المتقدمة فإنه زاد، وتنوع، حتى فاق كل ما تركه لنا التاريخ من أشكال وألوان
ومادام تحديد ما هو “عادى” فى الجنس بهذه الصعوبة، فينبغى أن نحذر ونحن نطلق تعبير “انحرافات جنسية”على أى سلوك لا يروق “لنا”، أو لم نتعود عليه، أو لا نستطيع أن نعلنه.
ومن الناحية العلمية البحتة، فقد تمت التفرقة الواضحة بين الاضطرابات الجنسية التى يمكن أن توصف بـ”الإعاقة”، أو “عدم الكفاءة” عند الرجل (مثل اضطرابات الانتصاب عند الرجل impotence أو اضطرابات صعوبة الإستثارة عند المرأة – والتى كانت تسمى برودا جنسيا frigidity) وبين تلك التى توصف بأنها “انحراف”، بمعنى توفر الكفاءة، مع غرابة أو شذوذ أو عدم ألفة موضوع الجنس أو وسائله أو مثيراته أو أسلوبه.
وكل هذا هو ما نريد فتح ملفه فى هذه القراءة المحدودة.. ولكن دعونا نبدأ من البداية:
ظلت الممارسة الجنسية عند أغلب الحيوانات تمارس بهدف التناسل وحفظ النوع أساسا، فأنثى الحيوان لا تسمح باقتراب الذكر منها إلا لفترة قصيرة جدا (أحيانا ساعات، وأحيانا أياما حتى يتيقين التلقيح)، ذلك أن أنثى الحيوان([1]) تتقبل الذكر -فقط- وهى مهيأة تماما (بالتبييض) للحمل بمجرد التلقيح، وما إن يتحقق هذا الغرض (الحمل) حتى ترفض الأنثى الذكر طول العام، أو طول الوقت.
ومازال بعض غلاة الكاثوليك -مثلا- لا يسمحون بالجنس، أو يسامحون فى الجنس، للبشر، إلا لهذا الغرض أساسا (أو فقط) – غرض التناسل.
لكن الوظيفة الجنسية قد تطورت عند الإنسان بشكل تخطى هذه المحدودية البيولوجية (التكاثر) فأصبح الجنس يمارس لذاته، أو لما يصاحبه ويعنيه.
ومنذ أن أعاد فرويد للجنس موقعه المحورى فى السلوك الإنسانى عاد الانتباه إلى دور آخر للوظيفة الجنسية، وبقدر ما بالغ فرويد فى تأويلاته للسلوك البشري، وخاصة السلوك الجنسى عند الرضيع والطفل الصغير، فإنه قد أسيء فهمه إساءة بالغة حين قصروا تفسيراته على مفهوم الممارسة الجنسية الحسية، مع أن سيجموند فرويد وسع من مفهوم الطاقة المرتبطة بالجنس لتشمل كل “الطاقة الحيوية الجاذبة البناءة التواصلية” والتى أسماها “الليبيدو”Libido.
ومن نافلة القول أن ننبه أن فرويد لم يختلق هذا التوسع لما أسماه جنسا، وهو لم يكن صاحب دعوة لتوظيف الجنس فى مجال أوسع من التناسل، وإنما هو اكتشف ذلك من واقع الممارسة والاطلاع والمراجعة والإبداع (من قراءة التاريخ والواقع الإكلينيكى وذاته شخصيا)
ولم تأخذ الوظيفة الجنسية حقها فى التنظير الكافى لفهم دورها الإنسانى الجديد، ألا وهو دورها فى توثيق التواصل بين البشر، أساسا بين الجنسين، دورها كدافع تجاوز هدف التكاثر، ودورها كلغة دالة لها ما تفيده وتحققه. هذا على مستوى التظير، أما على مستوى الممارسة فإن الإنسان عبر مراحل تطوره، وحتى وقتنا هذا، راح يمارس هذا الدور وينظمه، ويبرره ويشكله، ويغلفه ويكشفه، ويخفيه ويظهره، فتجلى الجنس فيما يسمى “الحب”، والغرام، والهيام، والزواج، والعلاج، ولكن واقع الحال أن كل هذه التجليات لم تكشف عن وجهها الحقيقي، حيث أنها لم تعلن بلغة مباشرة أنها ليست إلا مظاهر لنشاطات الغريزة الجنسية فى محاولة الإنسان لكى يؤكد وجوده إنسانا من خلال حضور الآخر فى وعيه متغيرا فاعلا، متداخلا، راضيا مرضيا.
وأريد أن أنبه ابتداء أن هذه التجليات التواصلية النابعة من الغريزة الجنسية ليست تساميا بها كما يبدو لأول وهلة، ولكنها توظيف واقعى مباشر لها كما سنرى حالا.
ثم لا بد أن نقر ونعترف أن العلاقة بالآخر صعبة إلى درجة الاستحالة أحيانا وقد ظلت الغريزة الجنسية تقوم بدورها الدوافعي، وتحقق لذة شديدة التميز وافرة الجذل، إلا أنه لا الدافعية، ولا الرشوة باللذة يمكن أن يؤديا وظيفتها التواصلية ما لم يتما من خلال لغة حوار عميق، يقول، ويعيد، ليحقق تشكيل وعى الإنسان الفرد من خلال حضوره فى وعى آخر وبالعكس.
نعم، لا يقوم الجنس فى ذاته بوظيفة التواصل إلا إذا أصبح لغة لها أبجديتها القادرة على عزف لحن الإنسان فى سعيه لتأنيس وجوده وهو يضطر لـلتنازل عن دعة وحدته تخلصا من- أو عجزا عن دفع – ثمن آلامها، فيروح يحاور آخر على مستوى يتجاوز التجريد، ولا يسجن فى الرمز إذ يستعمل الجسد فى أرقى تجليات حضوره، وهو الممارسة الجنسية.
قيل وكيف كان ذلك؟
نبدأ من البداية:
إذا نحن عرفنا الجنس عند الإنسان كما هو عند الحيوان باعتباره وظيفة لحفظ النوع لا أكثر، فإن كل ما لا يهدف للتناسل (حفظ النوع) يعتبر انحرافا، والعجيب أن بعض المذاهب فى بعض الأديان (غلاة الكاثوليكيين كما أسلفنا) يمكن أن يتبنى هذا الموقف حتى عند الإنسان، من حيث أنه يستبعد الجنس للجنس كنشاط إنسانى نفسى مستقل عن وظيفته التناسلية.
من كل ذلك يمكن أن نخلص إلى خلاصة تقول:
إن الجنس نشاط، بيولوجى (غريزي)، جعل أساسا فى التاريخ الحيوى لحفظ النوع، وهو مخاطرة قديمة بين الذكور، حين كان التناسل من نصيب الذكر الأقوى دون غيره، لضمان أجيال قادمة أقوي، وكانت اللذة الشبقية الفائقة هى الدافع الذى يبرر للذكر معركة التفوق للحصول عليها، ثم يبرر للأنثى أن تسمح له بالاقتحام لـلتلقيح والتناسل.
ثم إنه لما صار الإنسان إنسانا اختلفت أساليب التنافس، واختلفت أسباب البقاء، واختـلفت وسائل تحقيقه، لكن ظلت البيولوجيا تحافظ على دافعيتها، وعلى رشوتها اللذية فى نفس الوقت، فلماذا تـــم ذلك؟
فرض فرعي:
لكى يتحمل الإنسان آلام وصعوبة التواصل بينه وبين إنسان آخر، تحولت الغريزة الجنسية، بشكل مباشر، وغير مباشر، لتكون دافعا إلى مواصلة السعى فى اتجاه الآخر، بدءا بفرد من الجنس الآخر، يتواصلان ليحققا نوعية “الوجود معا”، أى ليؤكدا كينونتهما فى حالة وعى تبادلي، يميز الإنسان خاصة، أملا فى أن تمتد هذه المهارة الأعمق- مهارة التواجد معا لهما معا- إلى سائر الأفراد من الجنسين، حسب مختلف السياقات.
وقد وجدت أن هذا الفرض يبرر تعميم فرويد لوظيفة ما هو “ليبيدو”. كما وجدت أنه يمكن أن يثبت ليس بتحقيقه، وإنما بتصور نفيه، بمعني:
إن لم يكن الأمر كذلك، (أى إن لم يصح هذا الفرض)، فما لزوم هذا الدافع الجنسى طول الحياة، طول الوقت، إذا كانت ممارستان لكل زوجين كافية لاستمرار النوع للحفاظ على هذا العدد الحالى من البشر؟
ثم هاهو التلقيح الصناعى يقوم باللازم وكأنه يذكرنا بإمكان الاستغناء عن الجنس بعد توفر العدد الكافى من بنوك الحيوانات المنوية “السوبر ذكية” “والمبدعة” والتى ربما تصرف (الحيوانات المنوية) مع ضمان يتعدى العمر الافتراضى لإنسان المستقبل فى أحسن أحواله. !!! إلخ، ثم تنجح تجارب الاستنساخ المبدئية فيتحول العرض إلى إمكانية توصيل الأطفال – صورة طبق الأصل ـ إلى المنازل دون حاجة إلى ذكور، وربما دون حاجة إلى إناث حتى مستقبلا!!)، ويتمادى الأمل المرعب الخطير إلى إمكانية إنتاج نوع من البشر “سابق التجهيز”، فما لزوم غريزة الجنس إذن؟
من هذا الموقع الحرج يمكن أن نخرج باستنتاج تال يقول:
إنه إن لم تكن للوظيفة الجنسية هذا الدور التواصلى لحفز الإنسان أن يواصل السعى إلى الآخر، فهى سوف تنقرض، أو ترتد لا محالة([2]).
ثم نخطو خطوة متأنية لننظر للإشكال من بعيد متسائلين:
هل التواصل الحقيقى العميق بين البـشر هو بكل هذه الصعوبة التى تحتاج لكل هذه الدافعية، وهذه الرشاوى اللذية ؟
وقبل أن نحاول الرد نقول: لا بد من الاعتراف ابتداء، ومكررا، إن الإنسان لا يكون إنسانا لأنه حيوان ناطق أو حيوان ضاحك، أوحيوان اجتماعى أوحيوان مفكر، ولكن يكون الإنسان إنسانا إذا هو مارس وجوده فى رحاب وعى بشرى آخر يمارس نفس المحاولة.
ويحتاج هذا التعبير الأخير إلى إيضاح فنقول:
إن الوجود مع الآخر ليس مجرد امتلاك، أو استعمال ظاهري، أو سد حاجة عابرة، مع أن كل هذا وارد، ولكنه ليس هو ما يميز الإنسان تحديدا
إن التواجد مع الآخر هو “إعادة التخلق “من خلال احتواء وعى مخالف ثم الانفصال عنه مختلف التشكيل نتيجة لصدق الحوار على مستويات متعددة (مستوى الجسد = الجنس، مستوى الوعى = التواصل، مستوى الامتداد= الإيمان معا، مستوى التشكيل = الإبداع المنجز + التلقى المبدع..إلخ) وواقع الحال يقول إنه يكاد يستحيل، فى حالة “الوعى الفائق” أن نفصل أيا من ذلك عن غيره، وإن غلبت إحدى هذه التجليات عن الأخرى حسب اللحظة والقدرة و السياق
فما أصعب كل ذلك
وما أحوجه لدافعية قصوي، ولمكافأة لذيــة مناسبة، نرى أنها تتمثل فى الوظيفة الجنسية أساسا.
إعادة تعريف الانحراف الجنسي
واضح أن هذه المغامرة بوضع هذا الفرض الذى يحدد تطور الوظيفة الجنسية، يعرضنا لأن نزعم أن أى ممارسة دون ذلك، ما لم تكن تمهيدا لذلك أو طريقا إليه، هى نوع من الانحراف الجنسى بشكل أو بآخر.
ومن البديهى أن هذه مبالغة لا يمكن التسليم لها
ولكن، حتى إذا تنازلنا عن الشكل المطلق لهذه العلاقـة فإن الاعتراف باحتمال صدقها ملزم بالسعى نحوها، أو على الأقل بوضعها فى الاعتبار ونحن نعيد النظر فى ماهية الانحراف الجنسى قائلين:
يعتبر انحرافا جنسيا كل استعمال للجنس، دون الوفاء بمواصفاته الإنسانية الأحدث أو فى غير ما يؤدى وظيفته البشرية
ولنبدأ ببعض صور ما كان يسمى انحرافا من قديم:
(1) فالجنس الذى يكون الألم فيه أكثر من اللذة، بحيث يصبح – فى النهاية-فعلا طاردا لا جاذبا لمن يمارسه هو انحراف. (الماسوشية)
(2) والجنس الذى يحل فيه الجزء أو الرمز محل الشخص كله، مثـلما يحل عشق كعب القدم (أو الحذاء، أو بعض الملابس الداخلية) محل الافتتان بالجسد كله فالشخص كله، يعتبر انحرافا (الفيتيشية أو التوثين)
(3) والجنس الذى يتحقق مع غير البشر (مثل الجنس مع الحيواناتZOOPHYLIA ، أو الجثث NECROPHILIA، أو مع الأطفال الصغار PEDIPHILIA، لا يؤدى وظيفته التواصلية السالف الإشارة إليها، وبالتالى يعتبر انحرافا
(4) والجنس الذى لا يحتمل أن يحقق وظيفة التناسل ويكتفى بوظيفة التواصل يعتبر انحرافا (أنظر بعد: الجنسية المثلية)
(5) والجنس الذى لا يرتبط بآخر إذ يلغيه أو يستعمـله مسقــطا عليه ذاته لا أكثر (أى أنه يصبح نوعا من الاستمناء من خلال آخر) يعتبر انحرافا
(6) والجنس الذى يمارس عن طريق القهر بأنواعه ضد كل مستويات الإرادة يعتبر انحرافا ( يشمل ذلك القهر الشرعى بوثيقة زواج، والقهر العضلى والإجرامى بالاغتصاب، والقهر السلطوى والمادى بالرشوة والدعارة، والقهر الشرعى بوثيقة زواج، والقهر العاطفى بالحب (عذرا، لم أستطع أن أشرح كل ذلك وهو يحتاج لعودة تفصيلية).
(7) والجنس الذى يمارس منفصلا عن لغة الجسد، وكأنه مجرد وسيلة ميكانيكية مبرمجة لخفض التوتر يعتبر انحرافا
إعادة النظر فى تطور محاولة تبرير وتشريع الجنسية المثلية:
ظلت مسألة ممارسة الجنس مع نفس النوع (وهو ما يسمى الشذوذ الجنسي) تمثل لى تحديا لا حل له، وأحسب أن ما ذهبت إليه حالا من توظيف الجنس للتواصل أساسا، وليس للتناسل إلا نادرا، هو خليق أن يزيد هذا التحدى حتى أكاد أفقد توازني، وكأنى أوقعت نفسى بما ذهبت إليه إلى احتمال فهم جديد لمسألة الشذوذ الجنسي، فهم يحمل نوعا من السماح لم أتصور قبوله يوما،
ولكن دعونا ننظر بهدوء فى الجارى عند من تقدموا فى هذا الطريق مراحل صريحة:
فقد وصل الأمر فى الدول الغربية ألا تعتبر هذه الممارسات الجنسية المثلية انحرافا أصلا، تحت زعم يتفق تماما مع ما ذهبنا إليه، زعم يقول (مع شيء من التكرار): إنه مادام الجنس عند الإنسان هو “لغة”، و”دافع”، و”تواصل” أساسا (وتناسل أحيانا) فلماذا يعترض أمثالى على أن يحقق الجنس أغلب وظائفه (فيما عدا التناسل الذى لم يعد الجنس البشرى فى حاجة إلى الحرص عليه طول الوقت لحفظ النوع)، وكأن هذه الممارسة المثلية تؤكد -بشكل أو بآخر- الوظيفة التواصلية للجنس دون اشتراط اختلاف النوع.
ذلك أن التواصل وظيفة بشرية بين إنسان وإنسان أيا كانا (رجل *مع* رجل أو امرأة *مع* امرأة، إمرأة *مع* رجل دون تمييز)، وهى وظيفة صعبة كما أشرنا، لذلك فهى قد تحتاج إلى تلك الدافعية البيولوجية والرشوة اللذية (إلى آخره)، فإذا أضيف إلى ذلك مدى الحرية التى يتمتع بها الفرد فى تلك المجتمعات، فإننا يمكن أن نفهم مدى السماح الذى وصلوا إليه، وبرروا به هذا السلوك (إذا كان هذا هو تبريرهم).
ولكن هل نقبل نحن هذا التبرير هكذا على إطلاقه، أو على علاته ؟
لا شك أن الأمر يختلف، ليس نتيجة لغلبة الموقف الدينى والأخلاقى عندنا عنهم، فهذا أمر فيه نقاش، وإنما أساسا احتراما للطبيعة البشرية، بدءا بالنظر فى التركيب البيولوجى (والتشريحى ضمنا). إذ لا يمكن تصور إقرار ممارسة ما، جنسية أو غير جنسية، لا تتفق مع طبيعتنا الجسدية، ذكورا وإناثا، فكل من الرجل والمرأة له تركيب تشريحى نفهم من خلاله، بطبيعته، أنه مهيأ للاقتراب التكاملى مع شريكه من الجنس الآخر، أما الممارسة الجنسية المثلية، فهى تتم من خلال مواضع تشريحية غير مهيأة لذلك، أو هى تستعمل وسائل صناعية تعويضية أو مساعـدة لا يمكن إقرارها على أنها “جزء من تقدم التكنولوجيا ‘، لأنها تحل محل الفطرة السليمة، وتشوه الطبيعة السوية.
ولوتمادينا فى فهم “معنى” الغاية الأولى (ولوتاريخا) من الجنس، وهى التناسل فالتكاثر، إذن لأدركنا أن هذه الممارسات، إذا عممت وشرعت، هى فى النهاية ضد الحياة لأنها ضد”حفظ النوع”، ولا توجد ممارسة طبيعية تحظى بالسماح لدرجة أن يتصدى الناس للدفاع عنها وتبريرها على الرغم من أنها -بطبيعتها- ضد الحياة وضد استمرار حفظ النوع.
لذلك لا بد من الاجتهاد الأعمق لقراءة معنى ظهور هذه الممارسات – على شذوذها- فى تلك المجتمعات – على تقدمها، ونعرض اجتهادنا على الوجه الآتي:
يبدو أن الإنسان بدل أن يرتقى بالوظيفة الجنسية من التكاثر إلى التواصل، فى مسارها الطبيعي، بدءا بالتدريب مع فرد من الجنس الآخر، يبدو أنه انحرف بها (بالوظيفة الجنسية) إذ راح يستعملها استعمالات أدنى من توظيفها للتناسل، وأبعد عن وظيفتها للتواصل. ودعونا نورد هنا بعض الاجتهادات لما آل إليه حال الجنس مما قد يبرر هذا الانحراف المتزايد إلى ما يسمى “الجنسية المثلية “
وفيما يلى بعض الصور السلبية التى آل إليها تشويه واختزال الوظيفة الجنسية فى حياتنا المعاصرة
1- ممارسة الجنس باعتباره نشاطا يباع ويشتري، بمقابل مادى تحكمه آليات السوق، وبذلك انضم إلى النكسة الكمية الاستهلاكية التى “تعلن نهاية التاريخ”، (بالمعنى السلبى بعد إذنكم ) ذلك النظام الذى طغى واكتسب شرعية أكبر من حجم نفعيته وخاصة بعد الفشل المرحلى لسوء تطبيق البديل الاشتراكى (فى المال واالجنس على حد سواء)
2- ممارسة الجنس باعتباره جزءا من صفقة اجتماعية دينية بشكل أو بآخر (بالذات لإنشاء والحفاظ على استمرار المؤسسة الزواجية) صفقة حلت محل الصفقة التناسلية البيولوجية من جهة، ومحل صفقة التواصل البشرى الأرقى المختار المتجدد -بين الجنسين- من ناحية أخري
3- ممارسة الجنس للتناسل دون توظيفه للتواصل (بعض ما أشرت إليه مما بلغنى عن بعض غلاة الكاثولكيين).
5- ممارسة الجنس لـ”خفض التوتر” ليس إلا (يقاس ذلك -ضمنا- بالمسافة بين الشريكين بعد الانتهاء منه، هل هما أقرب أم أبعد، ففى حالة اقتصار وظيفته على خفض التوتر تكون المسافة أبعد عادة)
6- ممارسة الجنس ليؤدى بعض وظائفه النفسية المنفصلة كلية عن التواجد البشرى التواصلي، كأن يستعمل لتأكيد الذات، أو استعادة الثقة، أو الشعور بالتفوق، أو ممارسة الخضوع الاعتمادي، دون أن ينتقل أى من ذلك إلى لغة جسدية حوارية ممتدة مع الآخر
7- ممارسة الجنس كنوع من الطقس الوسواسى القهري.
8- ممارسة الجنس ثمنا للحفاظ على فرص تربية الأولاد معا، باعتبار أن الأسرة مازالت هى الوحدة الاجتماعية القادرة على إنتاج جيل صحيح (يجرى هذا شعوريا أو لا شعوريا)
10- ممارسة الجنس لأغراض جانبية (ثانوية ) مثل تزجية الوقت (بعد انقطاع النور أثناء مسلسل تليفزيوني)، أو بالمصادفة (مثل الأرق الطارئ فى ليلة باردة) أو تحت الوعى (مثل الممارسة قبيل اليقظة استجابة لانتعاظ صباحى فسيولوجي)
11- ممارسة الجنس بالصدفة المختارة، مثل لقاء رجل وامرأة فى صحراء البادية (الأمر الذى ما زال يمارس فى بعض صحارى الخليج، حين يتم اللقاء الجنسى إذاالتقى رجل وامرأة فى البادية دون تعارف ودون كلام، والنسخة المتحضرة لهذا الطقس هو ما يجرى فى إيطاليا وفرنسا مثلا، إذ قد تتم الدعوة فالاستجابة فى مطعم، أو على رصيف شارع حين يحدث ما يسمى “التماس” بالنظرات من خلال لغة عيون سريعة ومختصرة وحاسمة، فيقوم الرجل أو المرأة وينتقل إلى جوار من تبادل معه النظرات، أو يغير السائر على الرصيف اتجاهه، ويعود مع شريكه أو شريكته فى نفس الاتجاه، ثم يعودا معا (أو ينطلقا معا من المطعم) وقد تخاصرا ليتم اللقاء الجنسى فى مسكن أحدهما، وقد يفترقان دون أن يعرف أيهما رسم الآخر، ودون مقابل طبعا غير اللقاء. ملحوظة أذكر كيف انتهى فيلم آخر تانجو فى باريس بعد كل ما كان والبطلة تجرى وراء مارلون براندو صائحة: ما اسمك ؟).
كل هذه الممارسات وغيرها إنما تعلن بشكل مباشر وغير مباشر أن الوظيفة الجنسية تشوهت وخرجت عن مسارها
وأكاد أتصور أن الجنسيين المثليين قد أدركوا -بوعى حاد أو مضمون- كل هذه التشوهات التى لحقت بالوظيفة الجنسية، وبالتالى عمدوا -بوعى أو بدون وعى أيضا- إلى تأصيل وظيفة الجنس التواصلية بغض النظر عن نوع من يتواصل معه، ذكرا كان أم أنثي.
فإذا كان هذا هو الحل (الجنسية المثلية هى الحل!! – كما يبدو أحيانا أنه كذلك فى قطاع متزايد فى بعض المجتمعات الغربية – أى إذا رجحت كفة التفاهم والتواصل مع نفس الجنس دون الجنس الآخر فنحن أمام الاحتمالات التالية:
(1) إما أن تضمـر الوظيفة الجنسية نتيجة لإساءة استعمالها واختزالها، وتشويهها، وتصادم أدائها مع التركيب التشريحى (تطوريا) ([3])
(2) وإما أن يتغير الجنس البشرى إلى نوع لا نعرفه، نوع قد يستغنى تماما (بالتناسخ والهندسة الوراثية مثلا) عن توظيف الغريزة الجنسية فى التناسل، كما قد يتم تحويرها -تطوريا- إلى ما يحقق هدف ووسائل أدائها الجديد، مما لا نعرف
(3) وإما أن ينقرض الإنسان كلية إذ يثبت أنه قد اختلت حساباته -تطوريا- فيتمادى فى نوع من الانحرافات السلوكية المتعارضة مع الطبيعة، والمتناقضة مع مسيرة و قوانين التطور غير المعروفة لنا لا تفصيلا، ولا شمولا ولا تحديدا .
[1] – بعض النساء المعاصرات لا يشعرن بالاستثارة التلقائية (لدرجة المبادأة الجنسية) إلا أثناء فترة التبويض (حين تكون البويضة جاهزة للتلقيح)، وإن لم تكن هذه هى القاعدة إلا أنها إشارة إلى هذا التاريخ البيولوجى العظيم الذى يوظف الجنس عند الأنثى خاصة لحفظ النسل أساسا (أو تماما، فعلا، أو تخيلا بيولوجيا).
[2] – بدأ مظاهر الانقراض فى التواصل عبر انترنت دون التقاء جسدى، والبقية تأتى
[3] – خطر ببالى أن يكون ظهور الإيدز، دلالة ظهور الفياجرا (هكذا) هى من المنذرات الخطيرة التى قد يجدر بنا أن ننتبه لدلالتها التطورية (أعنى التدهورية).