نشرة “الإنسان والتطور”
22-12-2011
السنة الخامسة
العدد: 1574
ص 50 من الكراسة الأولى
بسم الله الرحمن الرحيم
——-
نجيب محفوظ
حسبي الله ونعم الوكيل
نجيب محفوظ
اهدنا الصراط المستقيم
نجيب محفوظ
له ملك السماوات والأرض
نجيب محفوظ
الحياة جهاد
نجيب محفوظ
20/3/1995
القراءة
لا يوجد فى صفحة اليوم من جديد إلا أنه: “حسبى الله ونعم الوكيل”،
وأن: “الحياة جهاد”،
يا خبر!! وهل يكفى هذا؟
يكفى ونصف.
كانت والدتى تتعرف منى على جدول الامتحانات بالساعة، وكانت تجلس على السجادة مع بدء كل امتحان بالدقيقة، وهات يا دعاء، وحين تكون المادة صعبة، أو أكون مقصرا فيها ، أرجوها أن تظل تدعو لى طول فترة أداء الامتحان (ثلاث ساعات أحيانا)، وكنت إذا أسأت الإجابة أنحو عليها باللائمة، أنها لم تتفرغ للدعاء طول الوقت، أما والدى فكان يوصينى أن أكرر ترديد “حسبى الله ونعم الوكيل” طول طريق ذهابى إلى لجنة الامتحان حتى أنقلب بنعمة من الله وفضل لا يمسسنى سوء، وحين سألته كيف ذلك، قرأ علىّ الآية الكريمة: (…. وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ…) وحين كنت ألبخ، كنت أعزو بعض ذلك إلى تقصيرى أو نسيانى أو عدم تركيزى فى هذا الدعاء،
هكذا بدأت علاقتى بهذا التفويض إلى الله، حسبى الله ونعم الوكيل لكنه اختلط أيضا بموقف آخر لأمى حين كانت “تحسبن على من آذاها، أو أذى أحد ذويها، “روح يا شيخ حسبى الله فيك وف عمايلك”.
كلما وجدت جملة لها معى تاريخ هكذا فى تدريبات الأستاذ سألت نفسى يا ترى ما هو تاريخها معه، أشهد أننى رأيت توكله على رب العالمين، ورضاه به حسيبا بشكل متميز رائع طول الوقت، ولم أره أبدا طوال عشر سنوات، قد فوّض أمره إلى الله انتقاما من أحد، حتى لو كان فى هذا الانتقام حق مشروع، لا أريد أن أذكر أشخاصا، لكننى كنت أسمعه يناقش جمال الغيطانى، وأحيانا زكى سالم، فى بعض التجاوزات المالية التى أضير منها مثل سرقة إنتاجه وطباعته بغير إذنه، أو اختلافه مع ناشر مهما كان قريبا منه، أو غير ذلك، وكان يفوض أمره إلى الله دون أى “حسبنة” من حسبنات أمى، ربما كان أقرب إلى توصية أبى وهو يرجو من الله أن ينقلب هو بنعمة منه وفضل لا يمسسه سوء ممن أراد به ضررا ما، بل إننى أظن أنه حين رفض عرض الدولة عليه أن يعينوا عليه حراسة خاصة قبل الحادث، كان يجسد لى فى كثير من الأحيان اكتفاءه بأنه حسبه الله حارسا “… فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ” وقد ذكرت – غالبا – من قبل موقفه بعد الحادث، وكيف أنه لم يتغير توكله على الله دون غيره، وتفويض أمره للذى خلقه، وكم ناقشته فى وجود هذا الإبن الأمين الحارس الشخصى معنا طول الوقت، شفقة على هذا الإبن من ناحية، ولثقتى من عدم جدوى وجوده من الناحية العملية، وكنت أختبر ذلك أحيانا فى أى يوم جمعة في بيتى، حين يفاجئنا غريب فى حجرة اجتماعنا بشيخنا فى ملحق الصالة، فيقدم هذا الغريب نفسه، أو يقدمه أحد الحضور القدامى ويكون عادة هو الذى دعاه، فأتساءل: وما فائدة الحارس إذن، وأحيانا أبلغ تساؤلى هذا للأستاذ، فيوافق ويضحك وهو مطمئن، لكنه لا يقرّ أبدا أى اقتراح بتدخل فى ترتيبات الدولة والاستغناء عن “محمد” الحارس، وأحيانا كنت أنبه الأستاذ على ثانوية دور الحارس فى تأميننا بأن ألفت نظره إلى انشغال “محمد” معظم وقت اجتماعنا بمتابعة ماتش كورة للأهلى فى أقصى صالة لقائنا دون أن يعير أى داخل أو خارج جديد أو قديم أهتماما، وكنت أعابث الأستاذ أحيانا حين أقول له إننا لو تمادينا فى قبول حرص الدولة هكذا، فقد يوصوا بتركيب آلة كشف الأدوات الحادة فى مدخل بيتى، فلا أستطيع أن أدخله أنا شخصيا طول أيام الأسبوع لكثرة ما أحمل من مفاتيح، ويلتقط السخرية، ويضحك، ولا يعلق “وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً” هكذا كنت أرى توكل شيخى على الله دون سواه، وفى نفس الوقت مجاراته – بعد الحادث- لاجراءات الدولة الأمنية التى كنت أعتبرها شكلية، فالله تعالى وحده كان حسبه دائما أبدا، وقد كان على يقين بحكمة قدره مهما حدث، ومهما بدا لنا هذا القدر غير مفهوم أحيانا.
أنتقل بعد ذلك إلى الجملة الجديدة الثانية فى تدريب هذا اليوم، وهى “الحياة جهاد”، فيصلنى ما احترت فيه ردحا طويلا، من التفكير فى تنبيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لنا بأن الجهاد فى سبيل الله حروبا بالسيف حتى الاستشهاد: هو الجهاد الأصغر مقارنة بجهاد أكبر بعد العودة من أرض المعارك، وقد وجدت أن معظم ما ورد فى بقية الحديث الشريف أو محاولات تفسيره، هو أن الجهاد الأصغر هو جهاد النفس، وقد قبلت هذا التفسير بالمعنى المفيد والشائع عند العامة والطيبين، لكننى راجعتها طويلا وأنا أبحث عن معنى لما هو “جهاد أكبر”، يتجاوز كل التفسيرات التى اطلعت عليها مما شاع بين عامة الناس من معانى جهاد النفس، خاصة بعد أن تركزت هذه الفكرة عند كثير من المتعجلين على فكرة ما يتصورونه عن الصراع الاستقطابى بالمفهوم القائم داخلنا، بالمفهوم التحليلى مما اعتبرته سطحيا ولم أكتف به أبدا.
رجعت إلى ما كتبه الأستاذ فى كلمتين : “الحياة جهاد”، هكذا فقط، فاطمأننت إلى علاقتى بالحديث الشريف، وأيضا إلى محاولاتى تجاوز ما وصلنى عن التبسيط المحيط به ، ولم أتوقف عند بعض التشكيك فى صلابة رواية هذا الحديث خاصة، وأيضا لم تقنعنى الأسباب العديدة التى أوردها بعض الشراح لتبرير كيف ان النفس الخفية الخبيثة الأمارة بالسوء أقوى من العدو القاتل المقاتل عيانا بيانا، فقد وصلتنى بشاعة الحرب منذ قرأت رواية “كل شىء هادىء فى الميدان الغربى” تأليف اريك ماريا ريماك، وأنا فى الخامسة عشر حتى رواية الرفاعى لجمال الغيطانى، وذلك قبل أن أرى بشاعة اللاحرب الأصعب من الحرب سنة 1967.
أعترف بصراحة أن الذى وصلنى من صحبتى للأستاذ هو أنه مجاهد كبير عظيم طول الوقت حتى التعرض للاستشهاد كما حدث، بل إننى تصورت أن الشهادة قد كتبت له حتى بعد أن شاء العلى القدير أن يمد فى عمره من أجلنا هكذا،
…… وهل فَعَل هذا الرجل طوال حياته إلا أنه ظل يجاهد ويكشف، ويجاهد ويعرف، ويجاهد ويبدع، ويجاهد ويتحمل، ويجاهد ويستمر، ويجاهد ويكدح، ويجاهد ويعلم ؟
الذى يعرف حقيقة رعب وروعة وعمق عملية الإبداع من نوع إبداع هذا الرجل يعرف أنها وباستمرار معركة حياة أو موت، وأن الإبداع الذى يسمى أحيانا بالهواية، هو ليس ابداعا أصلاً، الإبداع جهاد لولادة جديدة دائما أبدا، وعملية الولادة هذه تتم دون تخدير (كما ينبغى أن تتم كل الولادات)، كما أن نتيجتها غير مضمونة نهائيا وإلا فَتُرَ الإبداع وتسطح ناتجه، فمسار الإبداع الحقيقى يحفه أبدا الموت والجنون، فهل هناك جهاد أكبر من هذا الجهاد ؟
هذا ما وصلنى الآن من شيخى وهو يكتب هذه الجملة فى تدريبات اليوم
لكن عندك
جاءتنى إضافة الآن: هو لم يقل حياتى جهاد، وإنما قال الحياة جهاد، فتذكرت بعض فروضى وبعض خبراتى وأنا أحاول أن أنقل بعض مرضاى من التوقف عن فكرة الصراع بين الذات والغرائز، أو بين اللذة والواقع، وهو ما يصور أحيانا على انه “جهاد النفس”، إلى واقع الكدح المتواصل للنمو الذى يشمل الموت والولادة باستمرار، “اللهم إن قبضت روحى فاغفر لها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين”، إذن فنحن نموت ونحيا كل ليلة، كما أن حركية الإيمان كدحا طول الوقت هى أيضا بل أساسا جهاد إبداعى مستمر.
إذا كان الأمر كذلك، فالحياة جهاد
ما دامت الحياة معركة إبداع متكرر لا تتوقف أبدا
شكرا شيخنا
****
(انتهت الخمسين حلقة التى وعدت أن ألتزم فيها بهذا المنهج، ولست أدرى ماذا يكون الأسبوع القادم !!).
ما رأيكم؟