نشرة “الإنسان والتطور”
الخميس: 11-9-2014
السنة الثامنة
العدد: 2561
ص 168 من الكراسة الأولى (3)
………………..
(سبقت التداعى على
هذه الأسطر فى نشرة
الأسبوع الماضى)
………………..
………………..
………………..
………………..
بهاء زهير
بهاء ؟؟ طاهر
فل على ياسمين
نجيب محفوظ
27 يوليو 1995
القراءة:
لأول مرة تستغرق صفحة واحدة تداعيات ثلاثة أسابيع متتالية ، لكننى ما زلت مقتنعا ان المسألة تستأهل: بهاء طاهر، وأغنية سيد درويش “فل على ياسمين”،
نبدأ ببهاء طاهر، هل يا ترى جاء اسمه عفوا بعد اسم الشاعر بهاء زهير، هذا كثيرا ما يحدث فى التدريبات، لكننى أعرف مكانة بهاء طاهر عند شيخنا، وحين يقدّر شيخ الرواية راويا بهذا التميز فهو أمر يستحق الاحترام والعناية، مع أننى لم أر وجه شبه بينهما، فكلاهما متميز بطريقته، وهذا من أروع ما نصادفه عند المبدعين الحقيقيين، أنهم مهما اقتدى الأحدث بالأقدم، فإنه يختلف، فإن حاكاه فقد وقع فى حرج شديد، لاحظت ذلك وأنا أكتب الجزء الثانى من نقدى على أحلام فترة النقاهة (1)، والتى اعتبرتها شعرا، وقلت ما دام الشعر لا ينقد إلا شعرا، فلآخذ راحتى، ومع ذلك فما زلت متحرجا من هذا العمل حتى الآن، المهم قابلت بهاء فى لقاء الثلاثاء (مجموعة عوامة “فرح بوت” ) الذين كانوا يحبون أن يسموا أنفسهم حرافيش الثلاثاء، ولم يكن شيخنا يعترض، وإن لم يذكرهم أمامى أبدا بهذه الصفة، وإنما كان ينعتهم عادة بأنهم، جماعة فرح بوت، أو أصدقاء الثلاثاء، وأنا لا أقارن بين مجموعة وأخرى، أو أفضل مجموعة على أخرى، ولا الأستاذ فعل ذلك – أمامى على الأقل- ولا بلغنى مثل ذلك عنه أبدا، فكلهم اصدقاء، ولكل مجموعة روحها وما يميزها، بل لكل صديق من الاصدقاء تَمّيُزهُ الخاص جدا، هذا ما وصلنى، ولم أتعلم منه كثيرا. المهم التقيت بهاء طاهر عدة مرات فى العوامة فرح بوت، وأنا الذى كنت مقلا فى الذهاب إليها بعد الأشهر الأولى التى كنت أرافق فيها الأستاذ فى كل اللقاءات دون استثناء، وكانت كل اللقاءات مفتوحة (يمكن حضور أى فرد إليها دون استئذان، بما فى ذلك لقاء الجمعة فى بيتى)، إلا لقاء الحرافيش كما ذكرت سابقا، واوضحت شروط وطقوس الدخول إليه. المهم مرة ثانية وجدت فى بهاء طاهر مصريا صعيديا دمثا، يعرف ما يقول، ويقول ما يريد، ويبدع ما يُشعّ. كنت قد عرفت بهاء قبل أن ألقاه من خلال نقدى لروايته ذائعة الصيت “خالتى صفية والدير”، التى نالت شهرة طيبة وانتشارا واسعا حتى قبل ان تصبح مسلسلا، طبعا كان ذلك لتميزها، وربما ايضا لتناولها تلك العلاقة الراقية جدا، الحضارية تماما، بين أقباط ومسلمى أهل مصر، دعيت لمناقشة هذه الرواية، بعد نشر نقدى لها فى دوريتنا الفصلية المحدودة الانتشار، “مجلة الإنسان والتطور” (2)، وحين عرف أننى كتبت نقدا فيها، طلبه منى، وحين اشرت له أننى تحفظت أن يلحق بهذه الرواية الملحق الذى عنونه بعنوان “…. وسأنتظر”، وصارحته بأنه على الرغم من أنه اقتطق العنوان من قصيدة عماد\ الغزالى فى حب ضحى، إلا أن نهاية خالتى صفية بلغتنى أكثر شاعرية، ثم خفتت هذه الشاعرية بهذه الإضافة” وأضفت له أن تنوييه للنقاد بتناول الرواية للبعد الطائفى، لم يكن ضرورييا، حتى كاد يختزل هذا العمل الجيد إلى ما ليس هو”، صارحته أيضا فى هذا اللقاء الذى تم فى ندوة فى معرض الكتاب بأننى تعرفت عليه شخصيا من خلال هذا الملحق، فقد وصلنى كأنه سيرة ذاتية للمؤلف، وقد وافقنى أثناء لقائنا على ذلك، وأورد هنا علاقتى النقدية بهذا الكاتب الجميل كما جاءت فى هذا النقد :
“…هى فرصة جديدة أن أضطر لقراءة هذا القاص الشديد الإتقان عميق الأداء، واضطرارى هذا هو اختيار ضمني، إذ لابد أن أعترف أن أفضل ما أنجزت فى النقد خاصة كان اضطرارا حقيقة وفعلا، وعلى الرغم من معرفتى بالإنسان “بهاء طاهر” مذيعا مثقفا ومصريا متميزا وإنسانا “خاصا”، فأنا لم أقرأه قاصا إلا هذه المرة (فيما عدا بعض القصص القصيرة المتفرقة التى لم أعد أذكر أيها تحديدا، ربما مثله فى ذلك مثل المرحوم الرائع :أحمد عادل، مع أن الأخير، رحمه الله لا يكاد يعرفه أحد ، وقد عهـدت نفسى أننى: حين أٌضطر، أتمادى، وعادة ما أختار اضطرارى، فقرأت مجموعة أنا الملك جئت ثم “قالت ضحى”، ولم أكمل سائر أعماله خوفا من التمادى فى الاستطراد على حساب إنجاز قراءتى لهذه الرواية (خالتى صفية).
فى محاولة أن أنفى – كالعادة – عن هذه القراءة الحالية صفة النقد النفسى (رغم أنه نفى مكرر يتزايد إثبات فشله) أعلن أننى عشت – الرواية بطفولتى الكامنة (وأنا أكبُر الكاتب بسنتين وبضعة أشهر) بما أتاح لى أن أنغمس فى طبقاتها حتى حسبت أننى ملكت ناصيتها، بما سمح لى أن أكتب قراءتى المحمـَّلة بجرعة شخصية زائدة …”، ولا أنكر أن الرواية وصلتنى شكلا جميلا أقرب إلى الشعر، من كوْنها معالجة للاحتقان الطائفى فى مصر وقت ظهورها، حتى أنى استعرت قول الجاحظ فى مدح شعر جميل حين قال”….أنشدتُ هذه الأبيات أبا شعيبا القلال (3)، وكان عالما شاعرا، فقال: “يا أبا عثمان، هذا شعر لو نـُقِـرَ لطنّ، فقلت له: “ويلك ما تفارق الجرار والخزف حيث كنت”، وكانت طفولتى قد استيقظت وأنا أقتطف هذا القول، وأنا أتقمص راوى خالتى صفية مرة، وأتقمص الكاتب …. قلت لنفسى “هذا قصُّ لو نـُقِـرَ لطنّ”، فقد وقفت على صقل وحبكة بلا شرخ واحد (مع المبالغة) إذ حضرنى عم عبد الرحيم وأنا فى مثل سن الراوى فى بداية الرواية، وهو ينقر القلل والزلع بعد حرقها ليطمئن لعدم وجود شرح فيها. قلت لبهاء ذلك فى ندوة معرض الكتاب، فغلبه الحياء شاكرا، وفغلبنى مثل ذلك فرِحاّ، واطمأننت إلى ما وصله من إعجابى بالرواية.
وتصورت بهاء طاهر وهو يكتب هذه الرواية هكذا:
هى قصة قصيرة تصاغ وتتشكل بسرعة وحذق، حتى تكبر رواية كاملة، ثم تُحرق فلا تُشرخ، فلو نـُقرتْ لطنَّت (كما قال القلاّل للجاحظ)، فهى تبدأ مثل قطعة الطين الصغيرة اللينة فى بداية عمل عـم عبد الرحيم، ونحن ننظر إليه فى دهشة وقامتنا لا تكاد تصل إلى طول الطبلية العليا ونزداد دهشة وإعجابا، وهو يدير بقدمه الطبلية السفلى، وأنامله ممسكة بكرة الطين الصغيرة المدورة، فإذا بها تمتد وتتجوف وتتشكل حتى تصبح قلة أو إبريقا، ونطلب أن يخص كلا منا بواحدة مميزة، بأن ينقشها لكل منا نقشا مختلفا، فيفعل، وحين ننصرف تظل الوصلة بين هذه العجينة الكرة الصغيرة، وتلك القلة المزينة ماثلة فى وعينا مدة طويلة تأكيدا للمعجزة.
هذه الصورة هى لتى وصلتنى وأنا أتخيل كتابة بهاء طاهر لهذه الرواية، فخالتى صفية والدير رغم أنها رواية، إلا أنها قصة قصيرة امتدت، حتى تشكلت فى رواية، دون أن تفقد علاقتها – فى وعيى على الأقل – بأصلها المتناهى فى الدقة والصغر رغم ما أضيف إليها من تجاويف ونقوش تمت بمنتهى الحبكة والإحكام والصقل.
وقد ظلت هذه الصورة معى حتى فى قراءتى الثانية والثالثة وخاصة وأنا أتتبع حبكة اللغة وندرة الإطناب (وقد كنت مازلت غارقا حتى الاختناق فى إطناب ديستويفسكى فى كرامازوف بالذات قبل هذه القراءة مباشرة)،
وقد يؤكد هذه الصورة تسمية الكاتب فصول القصة باسم أجزاء: الجزء الأول…،…، الجزء الرابع، فبالرغم من وضوح التسلسل الطولى للزمن، إلا أن تسمية الفصل أو الباب باسم ”الجزء”، يدعو وعى القارئ لرص الأجزاء بجوار بعضها البعض حتى يراها معا بشكل أو بآخر، وهذا – أيضا – مما ساعدنى على جمع أطراف الصورة السالفة الذكر: بين كرة عجينة الطين … والقلة الكاملة المزركشة.
(انتهى المقتطف بأقل تعديل)
آخر مرة التقيت فيها ببهاء مصادفة كانت فى حجرة انتظار قناة الحياة الفضائية، الساعة الرابعة بعد ظهر يوم 11 فبراير 2011، قبل ساعات من إعلان تنحى الرئيس مبارك، كانت مصادفة افرحتنى هذه الأيام، فقد كنت فى اشد الحاجة إلى لقاء أى “مصرى جدا”، وبهاء هو كذلك، وبعد أن تبادلنا التحية، وبعض الذكريات عن شيخنا، حيث كانت لقاءاته – كما ذكرت حالا هى التى أتاحت لى فرصة مجالسته مددا أطول، أذكر أن قال لى فى هذا اللقاء ونحن فى حجرة الانتظار “..وددت لو كان الأستاذ بيننا حتى يشهد هذا الجارى الذى شارك طول عمره وعلى مدى إبداعه فى الإعداد له” ، فقلت له “ما هذا يا بهاء؟ ألا تعلم أنه بيننا، يتابع ما يجرى حدثا حدثا ويباركه، فالتقط التعليق باشَّا، حتى شعرت أنه صدقنى واقعا”
وبعد
أن الأوان أن أنتقل إلى آخر سطر فى هذه الصفحة (قبل التاريخ) وقد كتب فيه شيخنا ما يلى: “فل على ياسمين” وقد بحثت عن أقرب أغنية فيها هذا المقطع فلم أجد أنسب من أغنية سيد درويش ” يا ورد على فل وياسمين” كلمات: بديع خيرى، ألحان: سيد درويش، غناء: سيد درويش سنة 1919، وحين استمعت إليها فى اليوتيوب (شكرا يا شيخنا) فرحت فرحا مناسبا، وكأن شيخى يسمعها معى ويطرب مثلما طربت، والأغنية لا يصح أن يشار إليها بالكلمات، وإن كانت كلماتها فيها من الرقة والشعبية والسخرية ما يمكن أن يصل إلى القارئ حتى بعيدا عن اللحن، وهى تبدأ:
يا ورد على فل وياسمين الله عليك يا تمر حنة
قرَّبْ هنا تعالى عندنا
قرب هنا تعالى عندنا
خد وردة يا بيه خدي فُلة يا هانم
ثم اسمع هذه السخرية المصرية الجميلة:
وحياتك أنت ما تكسفني
خد لك عودين دانا اسمي نرجس
والله ان ما كنت تنفـَّعـْنى
لازْعـَقْ وأقول راجل مفلـِّس
خد وردة يا بيه خدي فُلة يا هانم
شكرا يا شيخنا، علّمتنا، وفرّحتنا، فادع لنا ربنا يخليك .
[1] – يحيى الرخاوى “عن طبيعة الحلم والإبداع” دراسة نقدية فى: “أحلام فترة النقاهة” نجيب محفوظ – مكتبة الشروق – 2011
[2] – على مسرح البصم والتقمصات فى (خالتى صفية والدير) (بهاء طاهر) مجلة الإنسان والتطور عدد (63) أكتوبر 1998.
[3] – القلال : صانع “القلل” جمع “قـُـلّة”