نشرة “الإنسان والتطور”
26-7-2012
السنة الخامسة
العدد: 1791
ص 86 من الكراسة الأولى
بسم الله الرحمن الرحيم
نجيب محفوظ
توجد كتب علي الأرصفة
تعالج السحر ومس الجان،
ثم تسترسل فى وصف العلاج
وسائل واضحة السخف والخرافة
والرأى السليم أن يكتفى المسلم بتلاوة آيات ذكرت فيها الظاهرة سورة الحسد،
والجان ……. (كلمة غير مقروءة)
بعد ذلك بالأطباء المختصين بالأمراض العصبية أو النفسية، والله اعلم؟
نجيب محفوظ
27/4
القراءة:
ما هذا؟ مقال هذا أم تدريب مثلما اعتدنا؟
لماذا اختفت الاستعاذة مع أن طليق نشرة كلها عنهم، افتقدت اسمىْ كريمتيه، برغم أنهما ليسنا لازمتين. هل تراجع الشيطان والجان من أمام وصف شيخى لهم بالخرافة، أم أنهم انتبهوا أننى سوف أقرا هذه الصفحة فى غرة شهر رمضان المكرم؟ تُرى هل الشيطان الرجيم هو من مملكة الجان الذى تحدث عنه الاستاذ فى هذه الصفحة مما لا أريد أن اخوض فيه الآن؟
المهم كدت أرفض هذه الصفحة!، وهل هذا من حقى فى هذه المرحلة على الأقل؟ هل من حقى أن أنتقى؟ وهل كان هو يعرف أننى سأقرأ هذه الصفحات هكذا؟ أو حتى أننى سأجمعها أصلا أو أقرأها أصلا؟ مازلت أرفض مبدأ الانتفاء حتى لا يروح منى أى حرف مع أننا نقترب من الصفحة المائة.
أين التداعى؟ والقفز؟ وسحاب الوعى؟ ورذاذ الكلمات؟ الخط مرتب أكثر من كل مرة والسطور منظمة جدا وكأنه يكتب على السطر تماما، الجمل متتالية حتى وصلتنى فاترة تقريبا.
ماذا جرى يا سيدى اليوم؟
يحضرنى الآن من بعيد كم ناقشتك حول تفسيرى لمنظومة الجان هذه، وتحديدا تلك التى يشاع أنها تلبس البشر، ومن ثم يتم بعض العلاج الذى أشرت إليه هنا باستخراجهم، وكان ذلك فى سياق فرض وضعتٌه لذلك مبنى على نظرية (نظريات) تعدد الذوات.
فى نقدى لكثير من أعماله، وجدت حضورا لتعدد الذوات بشكل إبداع بالغ الدلالة بدءًا من “رأيت فيما يرى النائم” وتركيزا فى “ليالى ألف ليلة”، دون استبعاد الحرافيش أو لمحات الشيوخ العارفين والمتصوفة مثلما فى “اللص والكلاب” وغيرها، أقول بالرغم من كل ذلك، فإننى لم أجد فى نفسى أى ميل أن أقفز إلى استطرادات فى هذا الاتجاه
وصلنى المكتوب فى هذه الصفحة كمقال إرشادى بسيط يصف أو يختزل هذه الظاهرة الشائعة فى خانة سوء استعمالها فى وصف علاج ما يسمونه “بالمس” ويسميه الأطباء غالبا: “الانشقاق” وخاصة إذا كان المصدر هو تلك الكتب من على الأرصفة يقرأها المرضى (أو الهواة) أذكر أننى حين شرحت له تفصيلا فروضى المستمدة من خبرتى الاكينيكية فى علاج المرضى الذين يرجعون مرضهم إلى مثل هذا المس كان يتقبله بإعجاب متحفظ، ودهشة مجاملة، وأنه “لا يا شيخ”!!؟ لكنه كان كثيرا ما يسترجعنى فى مناسبات تالية لأعيد له شرح فكرتى وطريقتى.
وفيما يلى عينة مما دار حول ذلك بتاريخ 5/2/1995 سجلتها فى كتابى “فى شرف صحبة نجيب محفوظ” ونشرت هنا فى (نشرة 17- 6 – 2010 الحلقة الثامنة والعشرون – الأحد: 5/2/1995):
“….. ويتطرق الشرح إلى أنى أعتبر أن “الجان” هم ذواتنا الداخلية، وهم المقابل لتعدد الذوات الذى قال به كارل يونج وإريك بيرن وأخرون، وأننا قد نلاحظ – ناقدين – تعدد الذوات هذا عند المبدعين، دون أن يرصدوهم المبدعون أنفسهم فى ظاهر الوعى…..”
…………..
”… وأن الأستاذ – مثلا – حين يتكلم فى رواياته “رأيت فيما يرى النائم” عن أنه “حل وجود ثقيل” أو “ولد فيه مارد آخر” إنما يستشعر بحدسه الإبداعى هذا التعدد الذى أشير إليه، …. الخ
كنت أقول كل هذا بسرعة وإيجاز خشية أن أدخل فى تفاصيل تخصصية غير مناسبة، فيعاودنى الحرج السابق”
(وأطلت فى الشرح وضرب الأمثلة والرد على اعتراضات توفيق صالح… وتساؤلات زكى سالم).
“….هز توفيق رأسه دون اقتناع على ما يبدو وهنا مال الأستاذ إلى ناحيتى، فاكتشفت أنه كان يتابع كل هذا رغم الصعوبة، وقال فجأة ضد توقعى: نعم قد تكون نظرية تعدد الذوات وتفككها سليمة أو معقولة فى الصحة والمرض والإبداع، وأنا أشهد أن هذا وارد تماما، لكن هذا لا يمنع أن يحدث التفكك نتيجة لاضطراب كيمياء. (وشرحت وجهة نظرى أنه لا تعارض!!)
ما أروع هذا الرجل، كيف يلتقط – برغم كل الصعوبات – ما رفضه توفيق بهذ الشكل، سارعت بالتأكيد على أننى لا ألغى إطلاقا دور التغيرات الكيميائية فى المرض ولا دور التعديلات الكيميائية فى العلاج، كل ما أرجوه وأفعله هو أن يكون ضبط الكيمياء هو عملية تهدف إلى توازن “الطاقة” و”الفاعلية” لكل من مستويات المخ المتعددة وبانتقاءات محددة، فى إطار عملية علاجية متكاملة، وهادفة لإعادة تمحور الذوات حول محور غائى فى لحظة بذاتها، وهذه هى الصحة.
لن أتطرق إلى تقديس هذا الرجل للعلم، وهو يعتبر الطب علما أكثر منه فنا بشكل أو بآخر، وعموما فإنه يعتبر العلم عموما، ربما انطلاقا من سلامة موسى هو الحل الأمثل لإنسان العصر وقد ذكرت ذلك فى مواقع كثيرة، وبينت معارضتى له فى مواضيع كثيرة، وتناقشنا طويلا حول كيف أن ما يسمى العلم أصبح مؤسسة أيديولوجية لخدمة أغراض مغتربة مالية، فى كثير من الأحيان.
ورد إلى ذاكرتى الآن ما حضرنى إلى الرجوع إلى بدايات باكرة، فوجدت فى نشرة 1-12-2011 أخرى فى صفحة تدريب رقم (47) ما يلى:
………….
“… دون اختزال، ودون الاحتجاج بعلم مغترب، بل من واقع الممارسة عدت اقرأ كل الآيات التى وردت فيها الجن، وباستثناء سورة النمل لم أجد آية واحدة فى طول القرآن وعرضه إلا وتطمئننى على وجاهة هذا الاستلهام الذى أفرز هذا الفرض (الجان موجودون فعلا لكن بداخلنا فى سوى وعى آخر، ولهم حضورهم الذى لا يتعارض مع أى من النص القرآنى مهما اختلفت التفاسير).
ثم دعونى أختم بهذه القفلة:
“…. شرحت له رأيى فى بداية سورة الجن بالآية الكريمة “قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنْ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً”، وهى الآية التى يستعملها المتعجلون باعتبارها تبريرا لكل هذه الممارسات وما خلفها من تننظير وتفسير، وقلت له: أنا أقرأها بهدوء على أنها من أروع ما يفتح لنا آفاق ما ذكرت عن الواقع الداخلى فى الإدراك جنبا إلى جنب مع تعدد الذوات، وبالذات أفهم منها أننا نستمع إلى القرآن الكريم – كما وصلنى مؤخرا – وعيا خالصا منظما مصاعداً مناغما، نستمع بما هو ظاهر منا، وفى نفس الوقت بكل طبقات وعينا الأخرى التى نسميها “حالات الأنا”، وحاليا حسب لغة الطب العصبى المعرفى “حالات العقل”، وأيضا “أنواع العقول” (نشرة 25- 12- 2007 “أنواع العقول وتعدد مستويات الوعى”)، (نشرة 2-1-2008 “أنواع العقول – وإلغاء عقول الآخرين- الطريق إلى فهم الوعى”) فإذا استمعت هذه المستويات إلى هذا الوعى الخالص دون تركيز فى رموز الألفاظ ومعانيها المعجمية وصلها ذلك النغم الخالص المنظم، فيكون تعقيبها إنا سمعنا قرآنا عجبا، (ويكون إعادة التوازن فالإسهام فى الشفاء).
وبعد
تجنبت مناقشة هذا التدريب اليوم الأشبه بالمقال المدرسى، واكتفيت بتقليب هذه الصفحات القديمة حتى لا أجنح أكثر أو أعلن رأيى أكثرا اعتراضا، فحتى نهاية المقال (التدريب) ظل الفتور يصلنى وقد أكده أن شيخى أنهى هذه الصفحة بنفس طعم البداية بنصيحة مدرسية وعظية فوقية بأن يحيل هذه الحالات إلى المختصين بالأمراض العصبية والنفسية.
لكنه يترك لى – لنا – الباب مفتوحا بأن “الله أعلم” (فأشعر برقته وسماحه وأنه لا يمانع أن أواصل تطوير فرضى).