نشرة “الإنسان والتطور”
الخميس: 28-4-2016
السنة التاسعة
العدد: 3163
ص 234 من الكراسة الأولى (2)
بسم الله الرحمن الرحيم
نجيب محفوظ
أم كلثوم نجيب محفوظ
فاطمة نجيب محفوظ
ـــــــــــــــــــــــ
اغــالب فيك الشوق والشـوق
أغلب. طـــوى الجزيـرة حتى
جاءنى خبر. صحب الناس قبلنا
ذا الزمانـا وَعَناهُمْ مِن شَأنِـهِ
ما عَنانا ثم وَتَوَلَّوا بِغُصَّةٍ كُلُّهُم منهُ
وَإِن سَرَّ بَعضُهُمْ أَحيانا.
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
ألا ليت الشباب يعود يوما فاخبره
بما فعل المشيب. بانت سعادُ
فقلبي اليومَ متبولُ مُتَيَّمٌ (??)
نجيب محفوظ
3/10
القراءة:
ذكرت الأسبوع الماضى، أننى فضلت تأجيل تداعياتى على بقية الصفحة واكتفيت ببعض قصيدة: كعب زهير بن أبى سلمى “بانت سعاد” لأخصص اليوم لما جاء من شعر المتنبى، وهو الذى ملأ الصفحة تقريبا.
سجلت فى كتابى فى شرف صحبة نجيب محفوظ عن أحمد مظهر وقد أشفقت على نحافته يوم 23-2-195 ما يلى:
”….. هذا الفتى الفارس الملاكم الفنان كاد يذوى جسده حتى كاد يختفى لولا يقظة ذهنه الفائقة وهو يتكلم فى التاريخ واللغة والفن، وأذكر له قول المتنبى وهى يستدر عطف سيف الدولة وأن جسمه هزل (من فرط حبه لسيف الدولة!!) وهو يقول “كفى بجسمى نحولا أننى رجل، لولا مخاطبتى إياك لم ترنى”، وأضيف لمظهر منبها أننى أحيانا أكاد أرى صوته وفكره أكثر مما أرى حضوره جسدا وهو بكل هذا الذبول، ويحترم ملاحظاتى، ويعدنى خيرا، ولا أثق فى وعوده مرة أخرى، إذ يبدو أن مخاوفه من الأكل، مع وحدته، مع فقد الشهية قد تضافروا عليه بلا رحمة”.
“وأنا لى تحفظاتى منذ شبابى الباكر على علاقة المتنبى بسيف الدولة (1) حتى وصل بى الأمر أن أتصور أن بها نوعا من التذلل المرفوض، وقد أشرت إلى ذلك فى مناقشاتى مع الأستاذ عن المتنبى وشعره، ودهشتى من فرط إعجاب معظم النقاد والشعراء بما فيهم الأخ الكريم الشاعر “عادل عزت” من أصدقاء الأستاذ يوم الأثنين (سوفتيل المطار) وحتى الأستاذ نفسه يحترم المتنبى ويحبه، كما ذكرت له أن قصيدته الميمية التى كانت مقررة علينا فى شهادة الثقافة العامة(1948) (ما يقابل الثانية الثانوية الآن) وهى التى مطلعها:
وَاحَرّ قَلْباهُ ممّنْ قَلْبُهُ شَبِمُ وَمَنْ بجِسْمي وَحالي عِندَهُ سَقَمُ
ومازلت أذكر إعجابى ببيت فى هذه القصيدة ظللت استشهد به طوال نصف قرن وهو الذى يقول:
أُعِيذُها نَظَراتٍ مِنْكَ صادِقَةً أن تحسَبَ الشّحمَ فيمن شحمهُ وَرَمُ
وبقدر إعجابى بهذا البيت كان رفضى للتذلل فى نفس القصيدة والمتنبى يقول:
ما لي أُكَتِّمُ حُبّاً قَدْ بَرَى جَسَدى وَتَدّعي حُبّ سَيفِ الدّوْلةِ الأُمَمُ
وربطت بين هذا البيت المهين (من وجهة نظرى حتى الآن) وبين بيت آخر ليس فى نفس القصيدة وهو البيت الذى وصفت به أحمد مظهر حالا، حين يقول المتنبى لسيف الدولة يقول: كفى بجسمى نحولا أنني رجل …. لولا مخاطبي إياك لم ترنى(2)
“وقد سبق أن اشرت إلى إعجاب شيخنا بهذا الشاعر الفحل،(3) وعدم مسايرتى له فى هذا الإعجاب برغم احتفائى بشعره وتحفظى على علاقته بسيف الدولة كما ذكرت، وكما أنى حكيت عن موقفى من كتاب طه حسين “المتنبى”، ثم كيف رد عليه أستاذى محمود محمد شاكر بكتاب كامل بنفس العنوان”.
لكننى لم أخفِ إعجابى ببعض شعره: أنظر كيف يصور المتنبى أنه: حين يشتد الأسى يصبح لا مبالاة أو بلادة.
أصخرةٌ أنا ؟ ما لى لا تحركنى …….. هذى المدام ولا هذى الأغاريد’
أو حين يتقزز الموت من نتن جثة فاسدٍ تفوح رائحته حتى بعد موته.
ما يقبِض الموت’ نفساً من نفوسِهِمو…….. إلا و فى يَدِهِ مِن نتنها عود’
وأكتشف الآن أننى مازلت عند موقفى من المتنبى مهما حسن شعره وتقعر
وأذكر أن شيخى وأنا أصارحه بموقفى الرافض لهذه العلاقة قد نبهنى برقة أن هذه العلاقة مقبولة حسب الثقافة السائدة آنذاك، لأن شاعر الخليفة فى ذاك الزمان كان بمثابة وزير الإعلام لدى رئيس الدولة لدينا الآن، فماذا تنتظر من وزير الإعلام فى علاقته برئيس الدولة؟، وتحضرنى علاقة محمد حسانين هيكل بالرئيس جمال عبد الناصر رحمهما الله، ولا أعقب.
* * * *
ثم نعود إلى هذه الصفحة ونبدأ بما جاء فى أولها (بعد البسملة والأسماء)
– أغالب منك الشوق والشوق أغلب:
وهو مطلع قصيدة قالها المتنبى فى كافور مادحًا بعد أن قبل مَنْ حَمل إليه “ستمائه دينار ذهبا” يقول مطلع القصيدة:
أُغالِبُ فيكَ الشَوقَ وَالشَوقُ أَغلَبُ.. وَأَعجَبُ مِن ذا الهَجرِ وَالوَصلُ أَعجَبُ
وَيَــومٍ كَلَيـلِ العاشِقيـنَ كَمَنتُـهُ … أُراقِـــبُ فيـهِ الشَمـسَ أَيّــانَ تَغـرُبُ
فأرجع مغيظا إلى شعر هذا الرجل وسيرته وأعجب مرة أخرى من علاقته بسيف الدولة لكننى أقبلها بصعوبة حتى لو كان بمثابة وزير الإعلام كما شرح لى شيخى، وأعزو هذا الحب لسيف الدولة إلى شعوره بالامتنان والعرفان، فما وصلنى أنه لم يمدح سيف الدولة نفاقا طول الوقت، ولعل امتداد مديحه إلى رثاء والدة سيف الدولة كان بمثابة أنه اعتبر نفسه “من العائلة”!! وقد أورد شيخنا فى نفس هذه الصفحة الحالية الشطر الأول من بيت من قصيدة الرثاء هذه، يقول فيه:
طَوَى الجَزِيرَةَ حتى جاءَني خَبَرٌ فَزِعْتُ فيهِ بآمالي إلى الكَذِبِ
وقد رجعت إلى القصيدة، فإذا بالمتنبى يبالغ حتى قال:
حتى إذا لم يَدَعْ لي صِدْقُهُ أمَلاً شَرِقْتُ بالدّمعِ حتى كادَ يشرَقُ بي
أفهم ذلك وأعجب بتركيبه لكننى أقبل مناسبته “بالعافية”،
وحين أرجع الآن إلى علاقة المتنبى بكافور ومديحه له، اعجز عن الفهم، حتى عثرت على ناقد (لا أعرف اسمه) يبين كيف أن أغلب (أو كل) مدائح المتنبى لكافور كانت هجاء خفيا، فأفرح بذلك وأعجب بخبث الشاعر وذكاء الناقد.
وأبدأ بعينة من هجائه الصريح لكافور قائلا:
صار الخَصِيّ’ إمامَ الآبقينَ بها …….. فالحـر مستعبدٌ و العبد’ معبود’ (15)
نامتْ نواظير’ مِصرٍ عن ثعالبِها …… فقد بَشِمْنَ و ما تفنى العناقيد’ (16)(4)
يقول الناقد الذى كشف داخل المتنبى وموقفه من كافور واحتقاره له حتى وهو يمدحه، يقول:
نبدأ بقصيدته التي هنأ فيها كافوراً عندما بنى له داراً أو قصراً:
قال:
إنما التهنئاتُ للأكفاءِ ولمن يدَّني منَ البُعداءِ
وأنا منك لا يُهَنِّي عضوٌ بالمسراتِ سائرَ الأعضاءِ
مستقِلٌّ لك الدِّيارَ ولو كان نجوماً آجُرُّ هذا البناءِ
يقول الناقد: قف معى – أيها القارئ – لتلمس سخرية الشاعر المتنبي من كافور إذ لا يراه كفؤاً لتهنئته بهذه الدار، ويقول إنما التهنئة للأكفاء وأنت لست كفؤاً للتهنئة، وإنما التهنئة للأجانب وأنا قريب منك فلا يصح لي أن أهنئك (ثم يردف أيضا)
خذ – مثلا – هذه القصيدة التي مطلعها ويذكر البيت الذى بدأ به محفوظ هذه الصفحة وهو:
أُغالِبُ فيكَ الشُّوقَ والشوقُ أغلَبُ وأعجبُ مِنْ ذي الهجرِ والوصلُ أعجَبُ
ويختار الناقد من هذه القصيدة هذه الأبيات:
وما طرَبي لمَّا رأيتُكَ بِدعةً لقد كُنتُ أرجو أنْ أراكَ فأطربُ
وتعذلُني فيكَ القوافي وهِمَّتي كأني بمدحٍ قبل مدحِكَ مُذنِبُ
ولكنَّهُ طالَ الطَّريقُ ولم أزَلْ أُفَتَّشُ عن هذا الكلامِ ويُنهَبُ
ثم يعقب الناقد: فهو يخاطب كافوراً: ليس طربي لما رأيتك بدعة، ولكن كنت قبل أن أراك أتمنى أن أراك لأطرب، ويستمر في أسلوب سخريته، وإن لامتني القوافي في مدحي أياك حتى بلغ من لومها كأني عندما مدحت غيرك قبل مدحك مذنب، وقد طال طريقي وأنا أفتش في هذا الكلام، ولكنه يفر مني، ولكنه ليس فرار القوافي وإنما ينهب مني نهباً. لحظةً نقف مع المتنبي فنسأله: لماذا يطرب إذا كان كافور بدعة؟ وما هي البدعة؟
ويفقس الناقد خبث المتنبى وهو يقول ذاما فى شكل المديح:
ولولا فضولُ النَّاسِ جئتُكَ مادِحاً بما كنتُ في سِرِّي به لك هاجيا
فأصبحتَ مسروراً بما أنا مُنشِدٌ وإن كان بالإنشادِ هجوكَ غاليا
ثم يعقب: لولا فضول الناس، أي تدخلهم فيما لا يعنيهم وإيثارتهم غبار الفتنة بين الحاكم والمحكوم فإنّ الصورة التي جئتك بها مادحا هي معكوسة المفهوم والمنطوق فهي في سري هي هجو لا مدح لك، وإن كنت – يا كافور – في هذه الصورة فرحاً بما أنشدك به من مدح ولكنّ هذا الإنشاد ليس مدحا
* * * *
ثم ننتقل إلى شعر آخر للمتنبى ورد فى وصف مصر فى نفس الصفحة:
* صحب الناس قبلنا ذا الزمانا وَعَناهُمْ مِن شَأنِهِ ما عَنانا
* وَتَوَلَّوا بِغُصَّةٍ كُلُّهُم منهُ وَإِن سَرَّ بَعضُهُمْ أَحيانا
وقد قالها فى مصر وفيها أيضا تغلب الحكمة التى تتخلل شعر المتنبى كثيرا وبعمق جيد.
وَلَوَ أَنَّ الحَياةَ تَبقـى لِحَيٍّ لَعَــدَدنـا أَضَلَّنــا الشُجـعــانــا
وَإِذا لَم يَكُن مِنَ المَوتِ بُـدٌّ فَـمِنَ العَجـزِ أَن تَكــونَ جَـبـانـــا
كُلُّ ما لَم يَكُن مِنَ الصَـعبِ في الأَنــفُسِ سَهلٌ فيها إِذا هُوَ كان
لقد أحب مصر بغض النظر عن علاقته بكافور .
وسوف أحاول أن أصالحه يا شيخى الكريم من أجل مصر، ومن أجل خاطرك.
[1] – تداعياتى على كراسات التدريب صفحة (27) من الكراسة الأولى: بتاريخ 30-6-2011
[2] – (ملحوظة: أكتب من الذاكرة وأعتقد أن احتفاظى بهذه الأبيات بهذا الوضوح هو مرتبط بغيظى من أبى المتنبى،
ونوع علاقته بسيف الدولة، حتى أننى فرحت والأستاذ يعلمنى من خلال تدريباته، حين عرفت عن أبى فراس بكل فروسيته وشجاعته وإباءه وبأسه، كيف أنه كان يذاكر الشعراء ، وينافس الأدباء ، وقيل إنّه كان يُظهر سرقات المتنبي الشعرية ، فلا يجرؤ المتنبي على مباراته).
[3] – تداعياتى على صفحة (34) من الكراسة الأولى: بتاريخ 25-8-2011
[4] – (بَشِمْ من الطعام أكثر منه حتى اتخم)