نشرة “الإنسان والتطور”
الخميس: 24-3 – 2016
السنة التاسعة
العدد: 3128
ص 230 من الكراسة الأولى
بسم الله الرحمن الرحيم
نجيب محفوظ
أم كلثوم نجيب محفوظ
فاطمة نجيب محفوظ
ولم أكن اعلم فى ذلك الوقت
أى معلومة عن عبد الواحد فاستقبلته
بحذر وحاورته بسوء ظن و
خسرت بذلك خسارة كبيرة كانت
السبب فيما تعرضت له من
آلام شديدة غيرت مجرى حياتى
ولبثت مع ذلك حتى زارنى مصادفة
فى دار الطاهر حتى دلنى على موقع كل
شىء فاستطعت ان أنقذ ما يمكن إنقاذه
نجيب محفوظ
26/9/1995
القراءة:
أنا محتار فى هذه الصفحة، فباستثناء البسملة واسمه واسمى كريمتيه لا يوجد أى تكرار من الصفحات السابقة (229 صفحة)، ثم أن شيخنا بعد أن استثار فينا فى الصفحة السابقة مباشرة اختبار “تداعى الكلمات” عاد يلوح الآن ربما بجنين جديد لحلم (إبداع) يتكون ، لكنه لا يبدو أنه مثل الأجنة المبتسرة فى صفحات (176) و(177) مثلاً، فهو أكثر ترابطا وفى نفس الوقت أغرب دلالة!
جنين اليوم – إن كان جنينا – بدأ باسم علمٍ تحديدا هو “عبد الواحد” حتى تصورت أنه أحد معارفه الحقيقين، وأنا لا أعرف له صديقا – أو معرفة – اسمه عبد الواحد، ومع ذلك هذا ما خطر لى لأول وهلة حتى كدت أرفع السماعة وأهاتف أحد أصدقائه الذى قضوا معه أضعاف ما أتيح لى، أسأله عن الاسم، لكننى عدلت، وإذا به يواصل سرد أحداث ليست كنظام تشكيل أحلام النقاهة، ولا هى تحمل علامات زخم وإدهاش إبداعه المعتاد ، فخطر لى خاطر تذكرته من قراءتى النقدية لأصداء السيرة الذاتية فرجعت إليه، وهو فقرة 27 بعنوان “الزيارة الأخيرة”، حيث تذكرت ما دار بين المعلم “عبد الدائم”، ومساعد البواب “عبد الله”، وقد شغل عبد الله هذه الوظيفة بفضل كرم وتوصية المعلم عبد الدائم ، فرحت أعيد قراءة ما كتبته سالفا وأنا أربط بين ما جاء فى هذه الفقرة وبين “زعبلاوى” و”أولاد حارتنا” ومحاولات محفوظ الدؤوب لرفض موت الله كما زعم نيتشه، لم أتمادَ فى هذا الربط، ولكن بدا لى أنه محتمل بشكل ما، على الوجه التالى:
كأن محفوظ فى مشروع هذه الصفحة: يعلن أن ما بلغه عن “عبد الواحد” هنا مما لم يكن يعلم عنه شيئا، جاءهُ جاهزا من خارجه مفروضا عليه، مما أثار شكوكه ومحاذيره، ولم يسلِّم بوجوده تسليما سلبيا بل إنه مال إلى الحذر منه والشك فيه، وحين حاوره حاوره بسوء ظن، فخسر بذلك خسارة كبيرة حين ابتعد عنه، فلاحقته الآلام وأشواك وخز النشاز التى كادت تغير مجرى حياته، لكن عبد الواحد هنا (أى عبد الدائم هناك أى الجبلاوى حيث هو) هو الذى عاد يزوره بما عده مصادفة، وهى فى رأيى رحمة سابغة نتيجة كدح خفى، فالتقى به فى دار الطاهر، وحين دَلَّهُ على “موقع كل شىء” اكتشف سبيلا آخر للتعرف عليه، غير سبيل الإخبار السلبى عنه من آخرين، لا يعرفونه غالبا، وهو إذ يتعرف على موقع كل شىء يتطهر من شكوكه فى “دار الطاهر”، وهكذا ينقذ ما يمكن انقاذه بعودته إليه واعترافه بفضله .
كما قلت، هذا قياس لعل فيه بعض التعسف، بعكس قراءتى لفقرة الأًصداء التى رأيت أن أثبتها هنا كما هى، ولكم أن تحكموا على سلامة الربط، أو احتمال التعسف، ولكلٍّ امرٍئ ما يرى!
المقتطف من “نقد أصداء السيرة الذاتية”:
27- الزيارة الأخيرة (المتن من أصداء السيرة الذاتية)
لولا المعلم عبد الدائم لضاع كل وافد على المدينة القديمة، يستقبل الوافدين فى مقهى المعز، ثم يفتح لكل مغلق الأبواب، وكان عبد الله أحد أولئك الوافدين، ما لبث أن ألحقه بوظيفة مساعد بواب، فحمد الرجل ربه على الرزق والمأوى وحثه على الرشد والتدبير حتى زوجه من بنت الحلال، وجعل عبد الله يزوره فى المقهى من حين لآخر إعترافا بفضله وإحسانه، غير أنه لما استغرقه العمل وتربية الأولاد ندرت زياراته حتى انقطعت، وقبل الرجل الحياة بحلوها ومرها، وتصبر حتى وقف الأولاد على أقدامهم وانطلق كل فى سبيل،
ومع تقدم السن شعر عبد الله بأنه آن له أن يستريح وينفض عن رأسه الهموم، وفى فراغه تذكر المعلم عبد الدائم فشعر بالخجل والندم وصمم على زيارته داعيا الله أن يجده متمتعا بالصحة والعافية. وقصد مقهى المعز وهو يعد نفسه للاعتذار، وطلب العفو، لاحظ من أول نظرة ما حل بالمقهى من تجديد وفرنجة فى الأثاث والخدمة والزبائن ولم يعثر لصاحبه على أثر، ووضح له أن أحدا لم يسمع به، وظهر عجوز يسرح بالمسابح والبخور، وكان الوحيد الذى تذكره، والوحيد الذى يعرف منزله بالإمام، ولا يعرف عنه أكثر من ذلك، ولم تحل تلك الصعوبات بين الرجل ورغبته فمضى من فوره إلى الإمام، كان يقوده شعور قوى بالوفاء، وبأنه ذاهب إلى غير رجعة..
القراءة:
أطـلّت علىَّ “أولاد حارتنا “من هذه الفقرة بشكل أو بآخر، فعبد “الدائم” وقهوة المعز”، واحتمال اختفاء عبد الدائم فى (مقابر) الإمام، وما حل فى قهوة المعز من تجديد مفرنج، بحيث بدا أن المقهى لم يعد يذكر أو يحتاج لا إلى “الدائم” ولا إلى “المعز”، كل ذلك يغرى بتصور هجوم محفوظ على من يدعى “موت الله” (نتشة مثلا) أو الاستغناء عنه، لأنه لا بديل له إلا هذا “اللاشيء” الذى ملأ القهوة بالقبح والنسيان،
إلا أن عبد الله الذى يعرف أن “كله من عند الله”، والذى لا يستطيع إلا أن يعترف بالفضل، لا يستطيع أن يشاركهم فى الإنكار، أو النسيان أو الغفلة، وإفاقته هنا وعودته للبحث عن صاحب الفضل يذكرنا من ناحية بالبحث الذى شغل محفوظ طوال رحلة إبداعه، بدءا من “زعبلاوي” ثم الطريق، مارا بأولاد حارتنا فالحرافيش، ومن ناحية أخرى هو ذكرنى بمعنى الحديث الخاص بصهييب، وكيف أن صهيب قد خلط الإيمان بلحمه ودمه، ومتى نسى فإنه إذا ذُكِّـرَ ذكر، وهنا يذكر عبد الله فضل المعلم عبد الدائم دون أن يذكــره أحد، فهو قد رفض أن يستسلم للإنكار فى نهاية النهاية،
العودة هنا للاعتراف بأنه “كله من عند الله” هى أقل درامية من عودة عرفة لمحاولة إحياء الجبلاوي، لأن عبد الله لم يشترك فى إنكار فضل عبد الدائم، ناهيك عن إلغاء وجوده.
وأخيرا فإن الفقرة لا تنتهى بلقاء بين عبد الله والمعلم عبد الدائم فى القهوة أو فى الدنيا، لكنها تعد بلقاء ما، فالآخرة خير وأبقى، وليكن اليقين به والاعتراف بفضله سبيلا للقائه بعد اللحاق به عبر مقابر “الإمام”.
ويظهر الموت هنا وكأنه الوفاء والحنين إلى صاحب الفضل، دون رجعة – طبعا- إلى هؤلاء الناكرين. “كان يقوده شعور قوى بالوفاء، وبأنه ذاهب إلى غير رجعة.”