نشرة “الإنسان والتطور”
الخميس: 12-5-2016
السنة التاسعة
العدد: 3177
ص 236 من الكراسة الأولى
بسم الله الرحمن الرحيم
نجيب محفوظ
أم كلثوم نجيب محفوظ
فاطمة نجيب محفوظ
العلم نور والمعرفة حياة
الصبر جميل الحزن جليل
ما مضى فات والمؤجل غيب ولك
الساعة التى أنت فيها
الفرح الحقيقى ان تحسن التعامل
مع الحزن وحذر العراف الأعمى
قيصر من الذهاب الى مجلس الشيوخ.
نجيب محفوظ
5/10/1995
القراءة:
بالرغم من أننا فى صفحة (236) إلا أننى فوجئت أن الصفحة كلها جديدة بما فى ذلك عبارة أن: “العلم نور”، لأنه أتبعها مباشرة بإضافة أن “المعرفة حياة”، وهكذا أنتبه كيف يفّرق شيخنا بوضوح بين العلم والمعرفة، وأنه – ضِمناً – يقّر أنهما مختلفان، وأتذكر حوارى مع مولانا النفرى الذى يميز طول الوقت بين “العلم” و”المعرفة” و”الحرف” و”الوقفة” و”الرؤية” و”المشاهدة”، وأفرح لأننى حين أتداعى مع شيخنا محفوظ يحضرنى بشكل أو بآخر شيخنا النفرى، وأحيانا – كما يلاحظ من يتابعنا – أشير إلى ذلك.
لا أذكر تحديدا أننى حدّثته ذات مرة عن الكنز الذى عثرت عليه وحاولت أن أهديه لمن أحب، فإن كنت قد فعلت فدعونى أذكر أنه أخذه مأخذ الجد، ولا مانع أن أعيده هنا وهو: عثورى على كنز يمكن أن يمتلكه أى شخص دون مقابل، وأن يمارسه دون إذن، وقد أهديته لكل من يهمه الأمر قائلا: أولاً: هو ” أن تحب” – دون استئذان، أو إخطار من تحب ، وثانياً: “وأن تعرف” جديدا وتُدْهش له سواء وصل إليك مسطورا فى ورقة، أو مشرقا من وجه، أو باهرا من طبيعة. حين يقول شيخنا هنا أن المعرفة حياة يصلنى هذا المعنى الذى لاح لى فى هذا الكنز.
وهو حين يقول أن العلم نور، وقد سبق أن تكلمت عن نقاشى معه حول مقولة كان يكررها بإصرار وتفاؤل وهى أن “الحل هو العلم”(1)، أقول: ثم يردف هنا بعد “العلم نور”(2)أن “المعرفة حياة” لا يفاضل بينهما، وإنما يحدد المعالم التى تجعل لكل من العلم والمعرفة دور متميز لا يغنى عن دور الآخر.
* ثم انتقل إلى الحزن الذى وصفه هنا بأنه “جليل”، وهذا الوصف لم يرد فى تداعياته السابقة عن الحزن بهذا النص:
ففى صفحة التدريب رقم (179) نشرة 4-12-2014 العدد: (2652) جاء فى تداعياتى على جملة وردت هناك تقول ما يلى:
“وتدثرتْ برداء الحزن الذى خرجت معه”
جاء فى تداعياتى ما يلى:
“…. توقفت عند تعبير “تدثرت برداء الحزن الذى خرجت معه” إذ لاحظت استعمال “معه”، وليست “به”، وأن تتدثر الفتاة التى تأخر عليها قطار الزواج بالحزن، بل مع الحزن، غير أن نصفها بأنها حزينة، لعل هذا التعبير يوصل لنا رقة العواطف التى رأت الحزن رفيقا لهذه الحسناء تتدثر معه فى ألم إنسانى شفيف”.
أليس فى ذلك بعض ما يفسر لنا كيف يوصف الحزن بأنه “جليل”
وفى صفحة التدريب رقم (191) نشرة 26-2-2015 العدد (2736) فقد جاء ما يلى:
“الحزن على الدنيا وما فيها ضد الحكمة”
فرحت أتداعى على هذه الجملة قائلا:
“….أنا بصراحة لم أره حزينا على الدنيا أبدا، على أىٍّ مما فيها، هو يحزن للناس وعلى الناس، للبلد وعلى تدهور القيم، لكنه لا يحزن على دنيا لم يصبها.
أما فى صفحة التدريب رقم (223) نشرة 4-2-2016 العدد (3079) فقد جاء ما يلى:
“لا تحزن لشىء فلا شىء يستحق الحزن”
قتداعيت لاحقا قائلا:
“….بدأتُ اليوم بآخر الصفحة لتفسر لى ما جاء فى بدايتها، ذلك أن بدايتها جاءت تقول: لا تهتم بشىء فلا شىء يستحق الاهتمام، وأنا أعلم عنك يا شيخنا مما عانيتَ، كما وعرفت عنك ومنك أنك تهتم بكل شىء، بكل أجزاء الثوانى وكل نبضات القلوب من حولك حتى آخر الدنيا، فكيف أقرأ ذلك خاصة وقد ألحقتها بالجملة التالية بما يؤكدها أنه لا شىء يستحق الاهتمام، نعم: أنه لا شىء مما اعتدنا أن نهتم به يقارن، بالهواء والفرح الذى يمكن أن يملأ الوجود.
على نفس القياس أقرأ “لا تكثرت لشىء فلاشىء يستحق الاكتراث”، وأكاد أقرأها لا تكترث لشىء – مما اعتدت أن تكترث له – فلعل هذا هو ما لا يستحق الاكتراث، وعلى نفس القياس أقرأ “لا تحزن لشىء” مما اعتدت أن تحزن عليه – فلاشىء من ذلك يستحق الحزن”.
*****
وقد تناولت موضوع الحزن الإيجابى، والحزن العلاقاتى، والحزن الإبداعى وأنا أرفض اختزل أى من هذا إلى ما هو “اكتئاب”، والألعن إلى ما هو بــ”دبْرِشَن” (3)وأكتفى من كل ذلك باقتطاف بعض ما اقتطفته فى هذا الصدد، وأيضا بعض ما كتبت،
يقول صلاح عبد الصبور فى “أغنية إلى الله”:
……………
لقد بلوت الحزنَ حين يزحم الهواء كالدخانْ
فيوقظ الحنينَ،
…………
وهل يعود يومنا الذي مضى من رحلة الزمانْ؟
………
ثم بلوت الحزن حينما يفيض جدولاً من اللهيبْ
نملأ منه كأسنا، ونحن نمضي في حدائق التذكّراتْ
ومن اجتهادى الشخصى قلت شعرا فى ديوانى “شظايا المرايا”، من قصيدة: “حزنـى كلــِمةْْ..”
………….
يكفينى حرفٌ ضلَّ طريق الكلمهْ.
أجمعُ أطرافََ المعنىَ.
………….
لأصارع موتى وحدى
- دون غيابكْ-
يصرعُهُ حزنى الأشهبْ.
8/12/1982
الحزن جليل فعلا يا شيخنا الجليل
ثم أنتقل إلى الجديد الفريد
* ما مضى فات، والمؤمّل غيب، ولك الساعة التي أنت فيها
قرأت هذا الكلام على أنه نثر مرسل، وحين هممت أن أتداعى للتأكيد على ما كررته له مرارا، وأكرره الآن فى كل ثانية وهو أهمية ما هو “هنا والآن” عن أى شىء أو زمن سواه، خطر لى أننى مررت على مثل هذا الكلام شعرا، وفورا لجأت إلى عمنا جوجل وإذ به بيت شعر فعلا للشاعر إبراهيم بن يحيى (ولد 441 وتوفّي 524 ببلاد بَلْخٍ ) وأنه غزّاوى قديم (ولد بغزة) وإذا بى أتعرف من أبن عساكر على أنه يوجد فى غزة قبر هاشم جد النبى صلى الله عليه وسلم (إذن ماذا؟!).
حين بدات علاقتى تتميز بما هو “هنا والآن” فى العلاج الجمعى وكانت البداية سنة 1971، تطور حضور هذا المصطلح مع بقية قاعدة العلاج الجمعى “أنا – أنت”، “هنا والآن” حتى كادت تصبح كشافا يضيئ وعى اللحظة انطلاقا من بؤرة الوجود إلى كل ركن فيه وما بعده من مجهول رافع.
أقول تطورت علاقتى بـ “هنا والآن” حتى تعرفت على بعض ماهية الوعى الذى لا يمكن التعرف على عمق بؤرة لحظته إلا من خلال هذه الـ “هنا والآن” فى حضور آخر – فعلا- “أنا <==> أنت”، بل أننى عرفت الله أكثر فى “هنا والآن”، وكان حضور الله فى “أنا – أنت”، “هنا والآن” فى العلاج الجمعى هو الذى يسهل علينا التواصل بالوعى البينشخصى ثم بالوعى الجمعى إلى وجه الله، الذى ليس مثله شئ، وهو يمتد إلى الغيب حيث وسع كرسيه السماوات والأرض.
* الفرح الحقيقى ان تحسن التعامل مع الحزن،
ثم نرجع إلى شيخنا فى نفس الصفحة فنلتقط هذا الاهتمام الرائع لفكرة ثنائية الوجدان التى نتهم بها مرضنا حين لا نفهم كيف تجما مشاعرهم بين النقيضين: “الفرح الحقيقى ان تحسن التعامل مع الحزن”
فنعود إلى أن يقول شيخنا أن عبد الصبور وهو يقول:
ثم يمر ليلنا الكئيبْ
ويشرق النهار باعثًا من المماتْ
جذورَ فرحنا الجديبْ
ومن شعرى فى قصيدة ” حزنـى كلــِمةْْ..” فى ديوانى “شظايا المرايا” قلت:
حُـزنى كلمَه،
تمحو صَمتََ الموتْ.
حزنى أقَوى، أظهرُ من شمس البهجهْ.
حُزنى أصل الأشياء.
ها هو شيخنا يذكرنا بأن ثم فرحا غير حقيقى وهو ما أحسه أحيانا يطل من خلال الابتسام الغائر أو الخبيث أو عبر السخرية الجارحة، أو وهو يتجلى فى ضجيج القهقهة والفهلوة، أما الفرح الحقيقى فهو الذى يشرق من عمق الحزن الأصيل، ونحن نحسن التعامل معه، لا نسارع بالشكوى منه أو بمحوه.
أما كيف نحسن التعامل مع الحزن فيشرق الفرح دون أن نريحه، فإليك يا شيخنا بعض تنظيرى فى هذه المسألة:
“…….. وصل بى إلى الحال أن أضع فرضا يقول إن ما يميز وجدان الكائن البشرى بعد هذا المشوار الطويل من التطور هو أنه يستطيع أن يحتوى الفرح والحزن معا، يغذى أحدهما الآخر،
وما وصلنى هنا هو هذه الدعوة لقبول الحزن ليس بمعنى الرضا والصبر، ولكن بمعنى المسئولية وتحمل التناقض مع دوام الحركة، وأعتقد أن هذا هو بعض حسن التعامل مع الحزن الذى يقصده شيخنا هو من هذا القبيل.
* ثم يختم شيخنا هذه الصفحة بكل ما فيها من جديد فريد بنقلة غير متوقعة تقول: “وحذر العراف الأعمى قيصر من الذهاب الى مجلس الشيوخ”
هكذا ينتقل بنا وعى شيخنا الغامر الجميل إلى شكسبير فجأة، ليقتطع وبذاكرة كالماس النقى جملة من مسرحيته “يوليوس قيصر”، وأنا لست متأكدا هل “العراف” هذا هو الذى فسر حلم زوجة قيصر، أن “ماء ينهمر من تمثاله والرومان يغسلون أيديهم بدمه فى نشوة والسعادة وتغمرهم، أم أن العراف هو ذلك الذى كتب له رسالة لم يقرأها وأعطاها له أحدهم وهو فى طريقه إلى مجلس الشيوخ، وأنها من صديقه، فلم يفتحها، وبدا لاحقا أنها كانت تحذيرا من المؤامرة التى تنتظره فى مجلس الشيوخ، وهى المؤامرة التى تمت بنجاح وانتهى بها أجله فعلاً،
ولمعرفتى بشيخى وكراهيته المطلقة للدكتاتورية، لا يخطر لى أى خاطر أنه كتب هذه الجملة تعاطفا مع يوليوس قيصر، أو أسفا على مقتله، برغم انتصاراته وبطولاته، لكنه – شيخى – فى نفس الوقت يكره القتل مهما كان القتيل يستحقه.
المهم هكذا نرى كيف ينقلنا شيخنا من “العلم” و”المعرفة” و”النور” و”الحياة” إلى “الصبر الجميل” إلى عمق كل ما هو “هنا والآن” إلى الحزن الجليل إلى الفرح الذى هو احتواء للحزن وليس ضده إلى جزاء الدكتاتور وأحكام القدر.
أى وعى هذا وأى سيمفونيات تلقائية وأى موسوعية وأى جمال
عشت يا شيخنا تعلمنا كما كنت دائما أبدا، ولا تزال.
[1] – انظر مثلا: “فى شرف صحبة نجيب محفوظ” أو هنا فى تداعياتى على تدريباته
[2] – العلم نور: ورد هذا النص فى صفحة التدريب رقم (82) بتاريخ: 23-4-1995، نشرة 28 – 6 – 2012، وأيضا صفحة التدريب (99)بتاريخ 5-5-1995، نشرة 18-10-2012، وايضا صفحة التدريب (ص 132) بتاريخ: 7-4-2016، وإن لم تلحقه أية إشارة عن “المعرفة”!!
[3] – Depression