نشرة “الإنسان والتطور”
الخميس: 2-10 – 2014
السنة الثامنة
العدد: 2588
ص 171 من الكراسة الأولى
نجيب محفوظ
أم كلثوم نجيب محفوظ
فاطمة نجيب محفوظ
نجيب محفوظ عبد العزيز
الحدائق الغناء تنعش الروح
الهواء الطيب والماء الطيب والحب الطيب
…………
الكنز الحقيقى هو العثور على إنسان حقيقى
يقوم فى أكبر صراع فى الوجود
لا دواء مثل الطرب
ولا انتصار مثل الايمان
نجيب محفوظ
31/7/1995
القراءة:
ها هو شيخنا يعود يكتب اسم والدهُ فيعود بنا إلى صفحة “128” (وقبلها صفحة 47، 51، 61) وفى كل هذه الصفحات كتب اسم والده، لكن فى صفحة 128 كتب اسمه وسلسل كل اسماء من تذكر من أجداده “نجيب محفوظ عبد العزيز إبراهيم أحمد”، وذلك بعد أن كتب “نجيب محفوظ يقول بعض ما يخطر له” ولم ألاحظ آنذاك كلمة “يقول” بدلا من “يكتب” فحضرنى الآن أن ما أستوحيه مما سطره فى هذه التدريبات هو “قول” و”أقول” أكثر منه كتابة وتسجيل، وهأنذا أثبت ما حدث لأصححه، مع أننى ألمحت إلى مثل ذلك حين قلت:
ثم يقر شيخى أو يطمئننى إلى محاولتى، حين يعلن بضمير الغائب (وليس الكاتب أو المتكلم) أنه: “نجيب محفوظ يقول بعض ما يخطر له” هذا هو ما وصلنى فعلا، فهو طبعا لا يقول كل ما يخطر له، وإنما بعضهولا هو كتب: “أنا أكتب ما يعن لى” لكنه يحكى عن واحد اسمه نجيب محفوظ فيصفه بأنه “يكتب” وأنه “يكتب ما يخطر له” وهكذا: أطمأنئنت لما أفعل لا أكثر ولا أقل، ثم كأنه شك أن تصلنى، تصلنا، مغزى استعماله ضمير الغائب فكتب اسمه كاملا، أنه يعنى تحديدا “نجيب محفوظ عبد العزيز إبراهيم أحمد” وليس نجيب محفوظ نوبل ولا نجيب محفوظ الروائى المبدع الفذ، ولا نجيب محفوظ مشِّرف مصر ورافع رايتها ومستوعب تاريخها وحاضرها، لكن هذا الذى يكتب ما يخطر له ليس إلا نجيب محفوظ بن عبد العزيز بن إبراهيم بن أحمد.
مراجعة:
وهأنذا أراجع نفسى فأكتشف أنه “يقول” لا يكتب.
أنا أسف
ولقد أعدت هذه الفقرة لأصحح نفسى لأننى اكتشفت بعد عامين ونصف (إلا صفحتين) أننى وأنا استلهم ما كتب إنما اسمعه بأذنىّ، فأحاوره أكثر مما أقرأه بعينى وهذا يعطينى حقا أكبر فى استلهامه والانطلاق من إيحاءات وعيه وليس فقط من مسطور قلمه.
فاجأنى شيخى اليوم بأن كل ما قاله (كتبه) هو جديد – اليوم – تماما، من أين تأتى يا شيخنا بهذا الفيض من الجديد الطازج هكذا.
نبدأ واحدة واحدة
- الحدائق الغناء تنعش الروح
علاقة شيخنا بالطبيعة ليس كمثلها شىء برغم ندرة أسفاره وغلبة علاقته بالإنسان المصرى أكثر مما حوله، وأنا لم ألحظ عمق علاقته بالطبيعة إلا فى مقدمات بعض فصول رواياته وهو يصف النقلة بين فصول السنة مثلا، أو وهو يرسم أرضية الأحداث وهى تتلاقى وتتجاذب وتتنافر وتتصارع على خلفية لا يمكنك فصلها عن أرواح حركية البشر التى تمثل أعلى مراحل جمال الطبيعة.
الربط بين نبض الطبيعة وبين روح الإنسان وبين العلاقات البشرية المكثفة والجدلية والتشكيلية بمثل الشعر الذى يكتب به محفوظ رواياته هو من أهم ما يميز محفوظ، وهنا فى صفحة واحدة يفيض وعيه بما يؤكد هذا الفرض الذى طالما أشرت له فى نقدى لأعماله من أول الشحاذ حتى أحلام فترة النقاهة، ثم حضرة المحترم.
الحدائق تغنى حين يطأها محفوظ ترحيبا به، هذا ما بلغنى من تعبير الحدائق الغناء، لم أسمع غناء الطيور وزقزقة العصافير، ولكننى سمعت غناء الشجر الوارف ترحيبا بقدومه فتنتعش الروح.
طيبة، وطيبة
قد يؤكد ذلك ما لحق هذه الجملة مباشرة بأنه كرر “الهواء الطيب، والماء الطيب، والحب الطيب”، أن تصف شخصا بالطيبة هذا أمر شائع فى ثقافتنا وكثيرا ما يوصف الإنسان المصرى أو الشعب المصرى بأنه طيب، لكن يقفز تعقيب شعبى شائع ورائع للتحذير من المعنى السلبى للطيبة، بل هى أغنية ساخرة كنا نرددها – كما ذكرت سابقا فى إحدى اليوميات (1) عن كلمة طيب فى ثقافتنا كما يلى:
نبدأ بأمثلة متعددة وهى ترد فى سياقات مختلفة فى ثقافتنا بالعامية والعربية.
1) سيبه ما تدقش عليه أصله “طيب”.
2) لا .. لا .. دا ما يعملش كده، أنا عارفه، دا طيب جدا.
3) كل سنة وانت طيب (فى الأعياد)
4) كل سنة وأنت طيب، يا راجل يا طيب (أغنية صباح)
5) “الطيبون للطيبات” صدق الله العظيم
6) الشعب المصرى شعب طيب
7) أنا عمرى ما حابقى طيب تانى
8) “كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء” صدق الله العظيم
9) البنت دى: من أصل طيب
10) ونختم بأغنية من أغانى رحلات الشقاوة، زمان:
أتوبيس الرحلات يتمايل والطلبة والطالبات يصفقون مع أغنية مرحة، ثم يفسد المذياع ويتوقف، فيبدأون المداعبة، وتقع الفريسة تلو الأخرى فى “ملقف” الطيبة:
يقول الحادى : فلان ده طيب
يرد الجميع (تقريبا): دا لا هو طيب ولا حاجة دا اهبل وعبيط
فيؤكد الحادى: والله دا طيب
فيرد الكورس: دا لا هو طيب ولا حاجة دا اهبل وعبيط
وريالته نازله على صدره أربع قراريط
فيعود الحادى: والله العظيم باقولكم طيب
فيرد الكورس: …. الخ
هل رأيتم مدى ذكاء الوعى الشعبى وهو ينقد قيمة ملتبسة، برغم حدة السخرية التى لا يخففها إلا أن تستعمل نفس الأغنية لزعيم الرحلة أو حتى المشرف، وليس فقط لصديق يبدو عليه الهدوء فيسلخه الأشقياء بقدر ما يحبونه.
وبعد
لأن شيخنا ذكر الطيبة هنا بكل هذا الجمال والتسبيح فقد انتفى هذا المعنى السلبى للطيبة تلقائيا حيث حلت الطيبة بالهواء والماء والحب فنقلنا شيخنا من التحذير المصرى الساخر إلى حقيقة الطيبة الأولى إلى وجه الله الطيب، إلى الكلمة الطيبة، إلى الطيبون للطيبات، إلى الرزق الطيب.
حين تذكرت الحديث الشريف “إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا” وأنا أضحى فى الحج سنة 1976 (1396 هـ) (2) وفهمت أن مال الأضحية لابد أن يكون طيبا، أخذت أراجع مصادر نقودى كلها لأنقى الستين جنيها ثمن الأضحية من مال طيب، فلم يحضرنى أطيب من أتعابى فى العلاج الجمعى، وكل ما عدا ذلك بدا لى أنه ليس بنقاء طيبة هذا المال، وابتسمت لحدة محاسبتى لنفسى واستغفرت .
وحين مرت بى أربعون عاما حتى الآن ووجدت أن هذا العلاج الجمعى أصبح هو المصدر الأول لمعرفتى بالوعى الجمعى إلى وجه الله احترمت محاسبة نفسى وحدسى منذ أربعين عاما.
وأخيرا ما دام شيخنا قد أدخلنا الحدائق الغناء التى تنعش الروح وهى نسمة الهواء الطيب ومشرب الماء الطيب وتعايش الحب الطيب تحت شجرة الطيبة الكبرى فقد منحنا كلمات طيبة، ربما ترتقى إلى ما ضرب الله بها مثلا:
“أَلَمْ تَرَى كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ* تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ”.
……………
…………..
أتوقف هنا لأكمل الأسبوع القادم
فبعد غد هو عيد الأضحى المبارك وكل عام وأنتم بخير
صحيح لم يبق إلا أربعة أسطر لها علاقة بكل ما سبق وهى:
الكنز الحقيقى هوالعثور على إنسان حقيقى
يقوم فى أكبر صراع فى الوجود
(ثم)
لا دواء مثل الطرب
ولا انتصار مثل الأيمان
بالله عليكم ألا تستأهل هذه الأسطر نشرة مستقلة؟
مرة أخرى
كل عام وأنتم طيبون.
(من عنده فكرة أو اقتراح كيف نقرأ هذه الأسطر المتبقية أو نستلهمها أو نسمح لتداعياتنا أن تنطلق منها فأهلا به وسهلا).
[1] – نشرة 6-5-2008 العدد: 249 (تجربة جديدة : لعبة الطيبة بين أصدقاء الموقع 1 – 2)
[2] – الترحال الثالث “ذكر ما لا ينقال” (الفصل الخامس …بعض ما تبقى مما لا ينقال)