نشرة “الإنسان والتطور”
الخميس 5-6- 2014
السنة السابعة
العدد: 2470
ما تبقى من ص 156 من الكراسة الأولى ( 2 من 2)
أخر الصفحة (المشكلة)
مقدمة:
أرجأت قراءة السطرين ونصف قبل السطر الأخير من هذه الصفحة إلى اليوم حتى أعرض بعض صعوبات المنهج، وفضل
المثابرة، ثم أقدّم الشكر لشيخنا، والحمد لله، على ما أتاحه ويتيحه لنا من فرص إطلاع على ما كنا لا نحلم أن يكون فى متناول وعينا أصلا.
حاولت قراءة هذا النص المتداخلة حروفه بأى شكل فلم أستطع أن أكوّن منه جملة مفيدة لأول وهلة.
هيا نحاول معا أولا لو سمحتم
قرأ أحد مساعدىّ أول كلمة “واحسرتا”، ثم فوّت كلمة، ثم قرأ “فى الفلاه العلاج” ومنعته من الاستمرار، ثم عاودتُ أنا المحاولة شخصيا من جديد، وفشلت، وقررت أن أضع رسم الكلمات غير المقروءة كما اعتدنا بين قوسين.
لكننى وجدت أننى سألغى بذلك فرصة قد تتيح لنا العثور على اللؤلؤة التى طفت على وعى شيخنا فى هذه الصفحة، ورجعت أستعطف سيدنا جوجل وأنتقى أى كلمتين متماسكتين لعلى أستدل على احتمال ما قبلهما وما بعدهما، وإذا بى أقرا “واحسرتا” على وجه آخر هو “وارحمتا”، وذلك حين عثرت على جزء من شرطة مائلة تحت الحاء، فرجعت إلى عمنا جوجل ثانية، وجاءت المفاجأة حيث عثرت على أصل الكنز يقول:
وَاِرَحمَتا لِلغَريبِ في البَلَدِ النازح ماذا بِنَفسِهِ صَنَعا
فارَقَ أَحبابَهُ فَما انتَفَعوا بِالعَيشِ مِن بَعدِهِ وَلا اِنتَفَعا
هما بيتان من الشعر العربى الجميل القديم الأصيل للشاعر على بن الجهم 188 – 249 هـ / 803 – 863 م وهو مولود في سنة 188 للهجرة في بغداد، سليسل لأسرة عربية منحدرة من قريش أكسبتة فصاحة لسان وأحاطت موهبتة الشعرية بالرزانة، وقد فوجئت أنه هو هو قائل بيت شعر كنت أحبه صغيراً، وكنا نتندر به ونحن نتوقف عند لفظىْ “الكلب” و”التيس”،
وإليكم حكاية هذا البيت أولا:
قدم علي بن الجهم على المتوكل – و كان بدويًّا جافياً – فأنشده قصيدة قال فيها :
أنت كالكلب في حفاظـك للـود و كالتيس في قراع الخطوب
………………
فعرف المتوكل قوته ، و رقّة مقصده و خشونة لفظه ، وذ لك لأنه وصف كما رأى، ولعدم المخالطة وملازمة البادية . فأمر له بدار حسنة على شاطئ دجلة فيها بستان يتخلله نسيم لطيف والجسر قريب منه ، فأقام ستة أشهر على ذلك ثم استدعاه الخليفة لينشد ، فقال شعراً رقيقا جميلاً منه:
عيون المها بين الرصافـة والجسـر
جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري
إلى أن قال:
كفى بالهوى شغلاً وبالشيب زاجـراً
لو ان الهوى ممـا يُنَهْنَهُ بالزجـر
بما بيننا مـن حرمـة هـل علمتمـا
أرق من الشكوى وأقسى من الهجر ؟
و أفضح من عيـن المحـب لسّـره
ولا سيما إن طلقـت دمعـة تجـري
فقال المتوكل : أوقفوه ، فأنا أخشى أن يذوب رقة و لطافة !!!!!!!!
والقصيدة طويلة وتذوب فعلا رقة وحياء وجمالا،
بالله عليكم:
هل رأيتم كيف أنه بفضل شيخنا تعرفت على هذا الشاعر الفحل الجميل الذى أذابت خشونته رقة الطبيعة وجمال الزرع وكرم المتذوق.
نعود إلى بيتىْ هذه الصفحة:
وَاِرَحمَتا لِلغَريبِ في البَلَدِ النازح ماذا بِنَفسِهِ صَنَعا
فارَقَ أَحبابَهُ فَما انتَفَعوا بِالعَيشِ مِن بَعدِهِ وَلا اِنتَفَعا
فيحضرنى كل أدب الهجرة والغربة والحنين للأرض الوطن من أول “عصفور من الشرق” (توفيق الحكيم) حتى “الحب فى المنفى” (بهاء طاهر)، مرورا “بموسم الهجرة للشمال” (الطيب صالح)، وأمنع نفسى من الاستطراد فهذا يحتاج كتابا كاملا فى النقد المقارن.
“غريبُ” على بن جهم هو أول من دفع ثمن فرقة أحبابه، فهو قد شد الرحال، غالبا ضد مقاومة داخله، وعادة ضد نصائح ذويه وأحبابه، فحرم نفسه منهم كما حرمهم من حضوره بينهم، ومع أن ألفاظ البيتين تركز على النفع الذى أصبح فى أيامنا هذه اقرب إلى المكسب المادى والنجاح الاجتماعى والمهنى فحسب، فإن النفع فى البيتين وصلنى أكثر على أنه عائد التواصل الحميم الحقيقى المنغرسة جذوره فى الوجدان البشرى النابض الدافىء بالودّ..
قلبت هذه الاستطرادات علىّ المواجع وأنا أتابع هجرة أحفادى غير المبررة تحت زعم الدراسة أو بحثا عن الأمن، وأمنع نفسى عن التفاصيل.
وبعد
هكذا تعلمنى يا شيخى العزيز – تعلمنا– حتى بعد زعم رحيلك كيف تحيل الطبيعة الجميلة الإنسان من كل هذه الخشونة إلى كل تلك الرقة.
أتعلم أتعلم أتعلم
وأدعو لك
وأعترف بفضلك حيا قريبا، وحيا هناك
ربما أقرب
والحمد لله.