نشرة “الإنسان والتطور”
11-8-2011
السنة الرابعة
العدد: 1441
النص: “ص 32” من الكراسة الأولى
بسم الله الرحمن الرحيم
نجيب محفوظ
نجيب محفوظ
ياليل الصب متى غده
أقيام الساعة مولده
الصبر من الايمان
ولكن لا حياة لمن تنادي
الله جميل يحب الجمال
نجيب محفوظ
28/2/1995
القراءة:
ها هو المنهج يتضج، وربما يحق أن نطلق عليه مؤقتا “سبر أبعاد الجبل القابع تحت قمة الوعى الظاهر”،
يعود إلينا شطر البيت “ولكن لا حياة لمن تنادى” بعد أن ظهر فى صفحة “6” من الكراسة الأولى للتدريب (نشرة 14-1-2010) وقد ناقشنا حينذاك كل البيت بشطريه ثم البيت الذى يليه وهما:
وقد أسمعتُ إذ ناديت حيا ولكن لا حياة لمن تنادى
ولو نارا نفختَ بها أضاءت ولكن أنت تنفخ فى رماد
نبهنا أنذاك إلى أن ما جرى فى التدريب على يد الأستاذ بعد “لا حياة لمن تنادى” مباشرة هو “سبحان الله الوهاب” وربطنا بين شطر البيت وبين أنه: “إن لم تكن حياة لمن تنادى”، فالوهاب – سبحانه – هو واهب الحياة وباعث الموتى، فتتذكر أن البيت أو الشطر يستحسن أن يقرأ فى سياقه:
الذى سبق هذا الشطر هنا فى هذه الصفحة (32) هو: أن “الصبر من الإيمان” والذى تلاه هو “الله جميل يحب الجمال”، لا أرجح أن شيخنا قد نفد صبره حتى يئس ممن ينادى – كما ألمحنا فى قراءة الشطر السابق – لأن الصبر لا ينفد طالما هو من الإيمان، ثم إن الذى لحق هذا الشطر وختم به التدريب هنا هو: أن “الله جميل يحب الجمال”.
وقد وصلنى أيضا أن وضع هذا البيت الذى ظاهره اليأس من إحياء المتبلدين الموتى بين إيمان الصبر وجمال الخالق وحبه للجمال يكاد يمحو الموت أو هو يبعث الموتى فيبطل ما يقوله شطر بيت الشعر المذكور الصبر هنا هو إحياء آخر، وهو تحدِّ مثابر، الصبر فى القرآن الكريم وُصِفَ بالجمال ” فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا” (الآية 5 سورة المعارج)، واقترن الصبر أيضا بالصلاة “وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ” (الآية 153 سورة البقرة)، كما صاحب التواصى بالمرحمة “وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ” (الآية 17 سورة البلد)، إذا اجتمع الصبر مع الجمال مع الرحمة وأحاطوا بموات اليأس: وبعثوا الحياة بعثا فيمن تنادى، وأضاءت النار نورا من الرماد، وتكاملت اللوحة فى رسالة دالّة.
تركت عامدا البيت الذى بدأ به الأستاذ تدريبه اليوم وهو “يا ليل الصب متى غده .. أقيام الساعة موعده” وهو مطلع القصيدة الداليّة للحصرى الضرير القيروانى (1029 – 1095)، وقد عارضها أحمد شوقى فى قصيدته “مضناك جفاهُ مرقده”، وغناها محمد عبد الوهاب (ثم آخرين وآخريات) بلحن هائص راقص جميل، لكننى حين عدت أراجع القصيدة الأصل، (للقيروانى) وقصيدة أحمد شوقى أعجبت أكثر بالأصل برغم شدة جمال قصيدة شوقى، ولو قمت بهذه الدراسة وشيخنا مازال معنا لسألته عن علاقته بهما وعن أيهما أحب إليه.
أرجع إلى قصيدة القيروانى، وأتوقف عند أبيات يبدو لى كل بيت منها لوحة تشكيلية لا تضاهى مثل:
نصبت عيناى له شركا فى النوم فعز تصيُّدهُ
أو
فبكاه النجم ورق له مما يرعاه ويرصده
أو
ينضو من مقلته سيفا وكأن نعاسا يغمده
فيريق دم العشاق به والويل لمن يتقلده
ثم أعود لقصيدة أحمد شوقى فأجدها شديدة الجمال أيضا، لكننى ألاحظ أنها تركز أكثر على جسد حى أكثر مما ترسم لوحة لحبيب عجيب قريب بعيد يتشكل فى لوحات بالغة الدقة والجمال الجسدى وغير الجسدى فهى ليست بالضرورة لوحات تشكيلية مثلما كان الحال فى قصيدة القيروانى، نقرأ مثلا فى قصيدة شوقى:
جَحَدَتْ عَيْنَاك زَكِيَّ دَمِي أكذلك خدَّك يحجده؟
قد عزَّ شُهودي إذ رمَتا فأشرت لخدِّك أشهده
وهممتُ بجيدِك أشركه فأبى، واستكبر أصيده
وهزَزْتُ قَوَامَك أَعْطِفهُ فَنَبا، وتمنَّع أَمْلَدُه
أو نرى وصفا بديعا لجمال الجسد أكثر وهو يقول:
وقَوامٍ يَرْوي الغُصْنُ له نَسَباً، والرُّمْحُ يُفَنِّدُه
وبخصرٍ أوهَنَ مِنْ جَلَدِي وعَوَادِي الهجر تُبدِّدُه
وقد عارض القصيدة أيضا ما بين القيروانى وأحمد شوقى كثيرون منهم أديب نجم الدين القمراوى وآخرون مثل: ابن الأنبار، واسماعيل الزبيري اليماني، شمس الدين الحسيني، اسماعيل صبري، نسيب أرسلان) وغيرهم وغيرهم لايتسع المقام هنا لذكر قصائدهم.
فأنتقى من كل ذلك معارضة إسماعيل صبرى لسابق إعجابى به شاعرا مصريا جميلا مخترفا بشعره وبتاريخ حياته (سنة 1854 – 1923) ومطلع قصيدته يقول:
قريبٌ مـن دَنـفٍ غَـدهُ ………. فَاللَيـلُ تَمـرَّدَ أَســودُهُ
فيصلنى منها حركة مقبلة مدبرة أكثر من التشكيلات والوصف السالفى الذكر، ومن ذلك:
والامَ يُصـارِعُـه أَلــمٌ …………. إن هـمَّ يُقيـمُ وَيُقـعِـدهُ
في القَصرِ غـزالٌ تُكبِـرهُ …….. غِزلانُ الرَمـلِ وَتحسـدُه
صَفِرَت كفّي منه وَمضـى …….. وقد امتـلأَت منّـي يَـدُه
ثم
مَولايَ أُعيذُكَ من ضَـرمٍ ………… لا يَرحـمُ قلبـا مـوقِـدُه
أَدرِك بحياتكَ من رَمقـي ………… ما بـاتَ هـواكَ يُهَـدِّدُه
أتوقف عند هذا الحد وقد منعت نفسى من أن أثبت القصائد الثلاثة كاملة مع أنها تستأهل كلها لمن يحب الأستاذ، ويحب ما أحبه الأستاذ، فجعلنا نحبه وهو معنا جسدا، ثم وهو معنا الآن بما شئنا كيف شاء، لأنتقل إلى ختام قراءتى بما ختم هو به تدريب اليوم.
لم أتحدث مع الأستاذ فى “معنى الجمال عنده” بشكل مباشر، وإن كان قد غلب على ظنى أنه معنى إلهى بشكل متميز تماما، الجمال الذى ينتمى إليه الاستاذ وصلنى من جميل إبداعه سواء فى عمل بأكمله أو فى جمل قصيرة لمعت أمامى مثل اللؤلؤة الفريدة التى تزين القلادة بندرتها وإشعاعاتها، حين يكتب الأستاذ أن الله جميل يصلنى أنه يدعونا أن نتعرف على الجمال ونحن نسعى لنرى وجهه سبحانه، هو يدعونا لمعنى آخر للجمال.
فى مقال لى (الأهرام 8/4/2002) قرأته عليه فى حينه بهذا العنوان نفسه “معنى آخر للجمال” كتبته وقد تجسد لى جمال استشهاد وفاء إدريس وآيات الأخرس فى فلسطين قلت فيه ما قرأته وأثبته مما يلى:
“… لا أعرف ما الذى جعلنى أخاطب وفاء إدريس فى نهاية مقال نشر لى فى موقع آخر(الوفد 6/ 2 / 2002) قائلا ‘ما أروعك يا وفاء، وأنت تقلبيين كل خططهم بكل هذا الجمال’، راجعنى بعض الأصدقاء والقراء عن مدى تناسب هذا الوصف مع صورة وفاء وقد تناثرت أشلاؤها بما يثير آلام وحسرة ذويها وكل من يحبها، لم أجد إجابة جاهزة حتى أننى كدت أراجع نفسى كأن اللفظ قد قفز منى رغما عني. لكننى حين طالعت بعد ذلك بأسابيع وجه آيات الأخرس وعشت – تقمصا ما أمكن ذلك – خبرتها وهى تودعنا لتلحق بأختها منال وإخوانها بلا حصر، عاد إلى وعيى ذلك الوصف الذى غمرنى وأنا أشير إلى رحيل منال رغم الدم والأشلاء والآلام .
ما الحكاية؟ أى جمال فى هذا الفعل الرائع؟
يمكن أن نتكلم عن البطولة، وعن الشجاعة، وعن التضحية، وعن الإيثار ، ولكن أن يوصف هذا الفعل بالجمال هذا هو ما توقفت عنده أحاول تفسيره دون الدخول فى تنظير حول فلسفة الجمال”.
أنتهى المقتطف الأول وأشهد الله أن ما وصلنى الآن وأنا أقرأ هذه التدريبات وأن “الله جميل يحب الجمال” هو المعنى الذى جاء فى هذا المقال من عشر سنوات (تقريبا) هكذا:
“.. وصلنى من خلال مغامرة القلم هذه أن الجمال ليس مجرد تناسق الأجزاء فى كلٍّ قادر أن يعيد تناسق وعى المتلقى بما تيسر، لكنه حضور جدلى بين وعى إنساني، ووعى إنسانى أو إلهى آخر فى حالة تصعيد بلا نهاية. الجمال حركة منفرجة ضامة مفتوحة النهاية قادرة على تحريك مواز ليواكبها. الجمال تآلف بطول الزمن الممتد، وبعرض الطيف غير المحدود ، كل هذا لا يتحقق بشكله المطلق إلا فى حالة من الوجد الصوفى الذى لا يوصف.
هل هذه هى الرسالة التى وصلتنى من وفاء وآيات وكل أولادى وأحبابى وأنا أنظر فى عيونهم بعد أن رحلت أجسادهم عن مجال حواسنا الأدنى لتتآلف فى المطلق غير المتناهى؟ ربما، وربما هذا هو الذى جعل الألم الذى يعتصرنى لا يمنعنى من استعمال تعبير الجمال فى وصف رحيل أجسادهم دون اختفاء دورهم.
لحن الاستشهاد هذا هو الذى يملأ الوعى بتأكيد العلاقة الوثيقة بين الحياة والموت، ليسا كضدين، ولكن بتوليد أحدهما للآخر، وهو هو الذى يؤلف بين الفرد وناسه، بين المحدود والمطلق ، بين الدنيا والآخرة، هذه العلاقة لا يمكن أن توصف إلا بالجمال، دون أن يحرمنا هذا التناغم من أن نتقطع ألما ونجزع فرقا”.
انتهى المقتطف الثانى: وهو ما جعلنى أراجع التفسيرات الاجتهادية لمعنى نص الحديث الشريف الذى ختم الأستاذ تدريبه اليوم به وأتعجب لهذه التفاسير التى اختزلت هذا الحديث البديع إلى مظاهر شكلية ولم تستوعب نبضه وروحه، وقد وجدتها بعيدة تماما عن ما جاء فى المقتطفين السابقين:
“إن الله جميل يحب الجمال” هو حديث شريف، وليس مجرد مقوله، حديث أخرجه مسلم في صحيحه رقم 131 عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ قَالَ رَجُلٌ إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنَةً قَالَ إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ قائلين أن الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ .
فالجمال هنا الذى شرحه رسول الله صلوات الله عليه هو “ضد الكبر وغمط الناس” وليس كما شرحه الشراح جمال الثياب وإظهار نعمة الله من ملبس ومظهر، حين يصف رسول الله صلوات الله عليه ربنا بالجمال ثم يردف أنه يحب الجمال فنحن فى رحاب معنى آخر، معنى يمكن أن يتجاوز ما هو ضد الكبر وغمط الناس، معنى يليق بوصف ربنا بالجمال، معنى يدور بنا فى لحن كونى يربط الجمال بالحب والإيمان، ومن ثم برقصة الاستشهاد تعجلا للقائه.
وبعد
يا شيخنا يا شيخنا
مازلت تعلمنا حيا قريبا، وحيا بعيدا لكنك أبدا فى متناول من طلب لقاءك ولقاءه
يا شيخنا
رمضان كريم، وأنت كريم والله أكرم