“يوميا” الإنسان والتطور
3-4-2008
العدد: 216
قراءة فى أحلام فترة النقاهة
(حلم 45)، (حلم 46)
حلم 45
على سطح البحيرة ينطلق قاربى البخارى وذاك قارب آخر يتبعنى أو هكذا خيل إلى، وأسرع فيسرع وساورنى القلق. ولكن لماذا يتبعنى؟
ووجدتنى أقترب من مرسى فخم فرسوت وصعدت سلما إلى شرفة واسعة وعرفت أنها تتبع السفارة الروسية، وكانت الشرفة مليئة بالمعزين الذين جاءوا يعزون فى وفاة فقيدة عزيزة.
وسلمت على السفير وجلست أسمع ما يقال عن الفقيدة. وأنظر إلى البحيرة فلا أرى أثرا للقارب الآخر فاطمأن قلبى.
وقمت فى الوقت المناسب إلى قاربى وانطلق بى فى اتجاه الشاطئ الآخر ونظرت خلفى فرأيت القارب الغريب وهو ينطلق ورائى وكنت بلغت وسط البحيرة فرأيت من الأفضل أن أسير إلى الشاطئ عن الرجوع إلى السفارة وقلت أنه عند الشاطئ يتضح حقيقة الموقف المواجهة بكل قوة.
****
القراءة
هى البحيرة هذه المرة، ليست البحر ولا النيل كما كان الأمر فى خلفية أحلام أخرى كثيرة (مثلا 21، 11، 44…الخ)، وصلتنى حركية هذا الحلم باعتبارها إحدى تشكيلات المطاردات التى أصبحت ملمحا متكررا فى أحلام النقاهة بصفة عامة، تنوعت المطاردات بكل الأشكال ولم تقتصر على من يَتْبَعُهُ، بل امتدت إلى من يَتَقَدمَّه (حلم 23، يسبقه لكنه يسحبه إليه، وهو يضمر أمرا)
تحضرنى هذه الصور هكذا لتعلن أن ثم “آخرا بداخلنا” مُسقطا يواكبنا ليعلن حركية قدرنا الجدلى الرائع، ليس بالضرورة أن يكون هذا الآخر هو الذات الطفليه داخلنا، أو ذات الوالد، أو حتى القرين، لكنه مجرد “آخر”، هو أيضا ليس الضمير، لم يكن كذلك أبداً.
هو ذلك “الحضور الآخر”، هو إعلان الازدواج أو التعدد، فليكن النقيض، أو المراقب، أو البديل، أو ما ليس “كذلك” والسلام.
المهم أنه “آخر”
بدا لى أن هذا هو ما عبر عنه الحلم هنا بهذا الزورق الآخر.
فقيدة السفارة الروسية هى فقيدة عزيزة، لكن موتها ليس نهاية المطاف.
كانت الشيوعية: العدل، الناس، اللااغتراب، كانت أمل أى إنسان لم يتنازل عن وعيه، أو لم يُسرق منه وعيه، لاحت أملا لكل عاقلٍ لتحقيق العدل وكسر الاغتراب وشل السلطة المسيطرة على أقدار البشر لمجرد أنها سلطة، لكن حين اختُبر تحقيق هذا الأمل وانقلب حلما يوتوبيا روسيا شموليا واختُبِر على سطح الأرض فى شكل حكومةٍ وناسٍ وشهواتٍ وضعفٍ بشرى، مات الحلم الطوبائىّ،
لكن ليس معنى هذا أن يموت الأمل،
هل كان حلما اختفى بالاستيقاظ؟ أم كان حَمْلاً نزل قبل أن يكتمل؟ أى أنه أُجهض؟
أم أنه كان حملاً خارج رحمه الطبيعى فلم ينته بولادة طبيعية؟
مات الحلم ولم يمت الأمل فى العدل،
فنُصب السرادق فى السفارة الروسية (وليس فى كل الدنيا) وتقبل محبوا الميت العزاء، فى سرادق موته، وليس فى محافل احتمالات ولادته من جديد.
وَجَبَ العزاء
لكن لم ينته التاريخ
العزاء فى ماذا؟
فى التجربة الروسية التى تمثل التطبيق العاجز أو التطبيق الناقص أو التطبيق قبل الأوان، وليس العزاء فى جنين العدل مهما تأجلت الولادة،
كانت العزيزة الفقيدة تثير صراعا جيدا أنَّ ثم حلا آخر فى نظام آخر، ومن ثم يحضرنا الصراع الذى يتخلّق منه الجانب الآخر (القارب الآخر) ليتابع المسار فى تحفز للانقضاض، أو فى شغف لمعرفة النتيجة، لكن حين تعلن النتيجة أن العزيزة ماتت، ولو فى هذا الموقع فقط، فى هذه المرحلة فقط فإن الصراع يتراجع ولا يتوقف نهائيا، لا يبقى فى هذه الوقفة المؤقتة إلا واجب العزاء، وبالتالى يختفى الزورق الآخر، ويعلن أمثال فوكوياما نهاية التاريخ.
التاريخ لم ينته، والنقيض ليس هو الحل مهما تأكدنا من موت العزيزة “النسخة الروسية”،
لابد من مراجعة لا تراجعا.
ها هو الانسان يتوجه إلى الشاطئ فيظهر الصراع من جديد،
الانسان وهو يسعى للعدل لا يقبل أن ينتهى لاجئا ساكنا فى المرسى الفخم لأى سفارة، وهو يرجع لا يتراجع ليبدأ آملا فى اشتراكية أخرى، وعدل حقيقى آخر،
من حق الناس أن تحافظ على حياتها على حركتها، على تعددها، على جدلها، على حلمها، على قيامها أبدا بعد سقوطها.
الراوى لم يخَفْ من المطاردة الجديدة، التى تعلن حيوية التناقض، والأمل فى جدلٍ خلاّق وهو لم ينتكس إلى التجربة الفاشلة (الرجوع إلى السفارة) بل هو مضى يواصل سعيه الدؤوب إلى الشاطئ الآخر محتفظا بأمله، مهما كانت حدة المطاردة تغريه بالرجوع والتخلى عن الصراع، والرجوع عن إعادة المحاولة.
لا مفر من احتمالات جديدة، وتجارب جديدة، تثبت أن العزيزة التى ماتت هى تجربة واحدة، وليست الفكرة الأصل الواعدة.
إذا لم يكن الأمل قد تحقق من خلال هذه المحاولة أو تلك (النموذج الروسى) فماتت عينة محدودة من المنظومة العزيزة مبتسرة، ماتت قبل أن تكتمل، فليكن الوصول إلى الشاطئ من جديد هو إعلان الحق فى المحافظة على الأمل فى مواصلة السعى فى اتجاه آخر وآخر وآخر،
هذا الشاطئ “الآخر” لا يعلن نهاية الحركة، لكنه ربما يكون تحديدا أننا لابد أن ننطلق من أرض الواقع ونحن نعاود البداية، رافضين التسليم لأحد الجانبين.
الزعم بنهاية التاريخ هو بمثابة إعلان موت التاريخ.
التاريخ لا يموت،
وإنما يتجدد وهو يتعلم من أخطائه.
****
حلم 46
جمعتنا حديقة. درج صاحبنا يغنى ونحن نسمع ونطرب ويعلو منا هتاف الوجد والاستحسان. وأزعجنا العباد فشكونا إلى الشرطة. ورأينا الشرطة قادمة فتفرقنا لائذين بالفرار. جريت فى الاتجاه الذى اتفق وكلما نظرت خلفى رأيت الشرطى يجرى فى إثرى بكل قوة وإصرار، وظهر لى شخص يجرى أمامى وكأنه يفر منى. من يكون ذلك الشخص؟ ذكرتنى رشاقته وجميل قوامه بالحبيبة. وهكذا صعدنا البرج وفوق سطحه منتنى النفس باحتضان حبيبتى ولكنها تخطت السور وهوت من ذلك العلو الشاهق إلى الإرض. فقدت عقلى وزاد من تعاستى اقتراب الشرطى فوثبت من فوق السور وراء حبيبتى توقعت أفظع ألم وكان لارتطامى بالإرض دوى مثل قنبلة لكنى لم أشعر بأى ألم. وقمت واقفا فى تمام الصحة. تلفت فلم أجد لحبيبتى أثرا ونظرت إلى أعلى البرج فرأيت الشرطى يطل علينا وهو يغرق فى الضحك.
****
القراءة
يبدأ الحلم بهذه البهجة “الطفلية” الظائطة بلا حدود، تلك التى يمكن ألا تكون مقبولة حين تصبح مصدر كل هذا الإزعاج الذى يبرر حضور سلطة أبوية حازمة جاهزة للملاحقة للعقاب أو الضبط والربط.
الهرب من مثل هذه السلطة الوالدية لا يكون بالأمل فى الاختباء فى حضن حبيب مهما أغرتنا وعوده،
المطاردة هنا مزدوجه:
المنادهة (من النداّهة) من الأمام (الحبيبة)
والملاحقة من خلف (السلطة)، (قارن الملاحقة الجذب فى حلم 23)
هما ضلعان يكملان بعضهما فى نفس الاتجاه.
لكن أى اتجاه؟
الصعود وراء الحبيبه هنا بدا لى تسلقا لبرج الخيال الآملْ، فى أمان جاهز، أكثر منه طلبا لعلاقة أرضيّة صَعبة ورائعة.
تختفى الحبيبة هنا أيضا ربما مثلما اختفت فى العاصفة، (حلم 27)
أو حتى مثل تلك التى تكشفت عن هيكل هش تحطم فى حضنه، (حلم 14)
وإلى درجة أقل مثل اختفاء الحبيبة فى الزحام (حلم 2)،
أو حتى مثل اختفاء قائدة الزورق فى النهر (حلم 18)،
الإحباط الذى يلى هذا الاختفاء يختلف حسب كل موقف
المفاجأة هنا كانت فى تفاصيل خبرة السقوط من شاهق وراء الحبيبة النداهة، سقوط بلا ألم برغم مخاوف التحطيم المتوقع،
منظر السقوط هنا ذكرنى بمنظر ارتطام الملاك فى فيلم “مدينة الملائكة” (بطولة: نيكولاس كيج وميج ريان) وهو يسقط من شاهق بإرادته ليتخلى عن ملائكيته فيكون بشرا خليقا بحب حبيبته من البشر، لكن المسألة هنا معكوسة: إن اختفاء ألم السقوط وافتقاد آثار الارتطام ووقوف الراوى فى تمام الصحة البلهاء هكذا، قد أوصل لى أن الحل الهروبى إلى حضنٍ حامٍ، من سلطة قاهرة، هو بمثابة هذا الزيف الخالى من الألم.
الهرب من سلطة قامعة، بالاندفاع استجابة لعلاقة حاويه، ليس هو الحل،
الاحتياج للرِّى دون جدل لا يخلّق إلا علاقة خائبة متخيلة، وخاوية مادام لم يَدفع فيها صاحبها ثمنا كافيا.
لا علاقة بلا ثمن.
أما ضحك الشرطى هنا وهو فى موقع يراهما معاً، بعد أن اختفى كل منهما عن الآخر، فقد يكون اعلانا لعبثية الملاحقة هكذا بلا مقابل.
بدأنا الحلم بنكوص طفلى،
وانتهينا بجوٍع عاطفى لا يحقق شيئا إلا سقوطاً فى الهواء، تغلفه البلاهة أو البلادة.