الاهرام:25- 9-2000
قبول الآخر أم جدل العلاقة؟
(القاتل ينفى نفسه كـ “آخر”؟)
نتحدث كثيرا وطويلا عن “قبول الآخر”, مرة ونحن نتجرع كأس السلام الصعب, والمر, بعد كأس الحرب الملتهب, والمدمر, ومرات ونحن نحاول أن نتقبل بعضنا البعض حين تتصادم آحادنا النافرة المتعصبة على حساب وحدتنا الوطنية .
كنت قد كتبت هذا المقال قبل انتفاضة القدس, وحين حدث ما حدث , قدرت أنه لم يعد له مكان ولا معني. نحن فى ماذا أم ماذا؟ بل إنه قد يساء فهمه وكأنه يدعو إلى تحمل ما يجرى تحت هذا العنوان. ولمن يخشى مثل ذلك كل الحق.
فأى آخر هذا الذى يمكننى قبوله وأنا أعزل أحضن طفلى فيقتله بين يدى ؟ أى آخر هذا الذى لا يتردد فى إطلاق الرصاص على أمى وهى تتعثر فى مشية شيخوختها ؟ أى آخر هذا الذى أظهرت استطلاعات الرأى عنده أن ناسه (لا جيشه فقط) يوافق بنسبة 79 % على إطلاق الرصاص الحى على الفلسطينيين العزل إلا من حجر ليس أكثر من رمز, وصرخة ألم تضيع وسط دوى الرصاص, ورعد الصواريخ, وقرارات مجلس الأمن الهشة والرجراجة؟.
أى آخر هذا الذى لكى يصل إلى البيت الأبيض لا بد أن ينحنى على قدم إسرائيل يقبلها وهى ملوثة بدماء الأطفال , دون أن يجرؤ أن يرفع رأسه ليرى وجوههم وهى عليها غبرة , ترهقها قترة,.من آثار نسف وهدم منازل الأبرياء أصحاب الأرض.
عدلت عن نشر المقال . ثم تراجعت عن التراجع, فقد انتبهت أن مثل هؤلاء القتلة قد اختاروا أن ينفوا أنفسهم ابتداء.
فى بلدنا يردد الأطفال عند تقسيمة التنافس فى اللعب أرجوزة التحدى التى تقول: “يا حنا ياهم ياكوم الريش, هم يموتوا ,واحنا نعيش”. هذه لعبة أطفال لم تعد تصلح للتعايش معا, نحن لا نتمنى لأعدائنا الموت, لا نحترم هذه القيمة الطفلية البدائية بنفس القدر الذى نأبى أن نستدرج إلى قيمهم المعلنة والخفية التى موجزها: “كن مثلي, بل كن تابعي,عبدي, خادمي, آلتى, وإلا قتلتك”
عدت إلى المقال وقد تستبعدت منه من نفى نفسه بالقتل والغباء, عدت وأنا أستشعر أن واجبنا الأول هو أن نواصل نحن مسيرتنا الحضارية تحت كلالظروف, ونحن نحاول أن نتقن “جدل العلاقة” فيما بيننا بديلا عن رفع شعار ـ”قبول الآخر”. بما يحمل من احتمال تسويات سطحية, وقد تكون خادعة.
إن قدرتنا على الاختلاف الحقيقى تزيدنا قوة فى القبول والرفض, فى الوعى والإبداع. قد نحيط هذا الشعار “قبول الآخر” بهالة من الحماس الواعد, إلا أنه ينبغى أن نميز تحت هذا الشعار ما يمكن أن يخدعنا أو يؤجل حقيقة الوعى بعلاقاتنا بعضنا ببعض. أسوق بعض الأشكال السطحية التى أحذر منها:
(1) علاقة التفويت المتبادل (فوت لى أفوت لك) : هذه علاقة غير مرفوضه, لكنها منذرة بخطر غامض, إنها تحرم المتعاملين من صدق المواجهة فى مناطق الاختلاف وهى تكتفى بالتعامل فى مناطق الاتفاق (إن وجدت). وتشمل هذه العلاقة تفريعات يعرفها أولاد البلد تحت بند “سيب وانا أسيب”. ونحن إن كنا نقبل بمثل هذه العلاقة فى المعاهدات السياسية وعلى مائدة المفواضات, فإنها, فى النهاية, قد تحرم الأفراد من اقتراب حميمى مغامر.
(2) علاقة كف الأذى الظاهر : أعنى بها إعلان تجنب المبارزات وألعاب الكر والفر المعلنة, مع الاستمرارفى التباهى بقصائد الفخر والهجاء سرا. هى علاقة تجعل السطح هادئا, ولكنها تـلزم أن يستمر الفريقان فى وضع الاستعداد .
(3) علاقة فض الاشتباك: قد يتفق الطرفان على تخليق مسافة بينهما, فلا يحتاج الأمر إلى وضع الاستعداد الدائم, لكن يظل “ما فى القلب فى القلب”.
(4) علاقة “خل الطريق مستور: هى علاقة قريبة من علاقة التفويت المتبادل, يمكن أن تكون تفريعة منها, لكنها ليست صفقاتية (فوت لى وأفوت لك) أو (سيب وانا أسيب) بقدر ما هى هروبية إنكارية. وهى قد تفيد فى تأجيل المواجهة, لكنها تحرم ممارسيها من الاستفادة من الاختلاف
(5) علاقة “خذه على قدر عقله”: وهذه المقولة عادة ما تصدر من الأقوى (الذى يعتقد أنه أقوي) إلى الأضعف, مثلا : من الشخص العادى (والطبيب أحيانا) إلى المريض العقلي. وهى بمثابة “وقف المعركة لعدم التكافو”(حقيقة أو تصورا) فليس فيها أية ندية أو احترام حقيقى وهى تحرم الأقوى من فرصة التكامل مع المختلف إذ يكتفى بالحكم الفوقى.
(6) علاقة قسمة الغنائم (إن كان هناك غنائم): وهذه أيضا قد تصلح فى المعاهدات بين القادرين على حساب الأضعف , هذه علاقة تحالف الأقوياء على حساب أى ثالث, فيصبح “قبول الآخر” هو قبول القوى الآخر, دون الضعيف الآخر. (راجع تقسيم مناطق النفوذ بين الدول الكبرى تاريخا).
(7) علاقة القسمة الضيزى (تلك إذا قسمة ضيزي): وهذه أيضا علاقة قوى بضعيف يفرض شروطه طول الوقت, ولا يخجل من رفع شعار قبول الآخر, وهى تتجلى بأوضح صورها فيما يجرى حاليا فى المسألة الفلسيطينية منذ مؤتمر مدريد وحتى كامب ديفيد الثانية فالثالثة فالمائة .
وبعد , فهل ثم بديل جاهز؟ الاجابة بالنفى.
لا يوجد بديل جاهز بالمعنى السهل: لا الديمقراطية المسيرة بمليارات الأقوي, ولا حقوق الإنسان المكتوبة دون الممارسة الحقيقية بمقياس العدل على أرض الواقع, ولا وصاية الست أمريكا لحماية الأقليات الموصى عليها, ولا الشفافية التى تسمح برؤية المسموح به فقط, مع احتمال تغيير الشفرة فى أى وقت.
أرى أن ما أسميته “جدل العلاقة” هو الحركة الأعمق والأصدق فى التعامل مع الاختلاف, ولهذا الجدل محكات يمكن أن تميزه عما لحق بشعار قبول الآخر من زيف.
أولا: تختبر نفسك وأنت جالس وحدك, يا حبذا مع ربك سبحانه , فإذا وجدت الآخر (المختلف) يمثل جزءآ من وعيك. فهذه بداية طيبة.
ثانيا: يتأكد حضور الآخر فى وعيك حقيقيا مجادلا إذا استطعت أن تناقشه فى غيابه وأنت تتقمص وجهة نظره, فتقدم لنفسك حججه, لا حججك.
ثالثا: ثم تجد فى نفسك ميلا متزايدا لاحترامه, سواء اقتربت من فكره أم لا.
رابعا: وفى نفس الوقت لا تتنازل عن رأيك, لمجردمجاملته, ولايبعده ذلك عنك.
خامسا: فإذا غاب عنك اكتشفت آثار رأيه (لا رأيك) وقد احتلت مكانا طيبا فى وعيك. فوضعت احتمال أنه كان أقرب إلى الحق. ولو فى أجزاء منه.
سادسا: ثم إذا بك تعدل رأيك أو تتنازل عنه, أو تخرج برأى ثالث من خلال كل هذا.
إن جدل الآخر هو الذى يخرج منه الطرفان مختلفين . يتجلى فى وعى كل منهما ما يتجلى بطريقة أخرى غير ما بدآ به حوارهما.
ثم لا تقتصر نتائج المنفعة على الطرفين دون سائر البشر.
إن طبيعة ومسار اختلافنا عن بعضنا البعض ينبغى أن نفهمها من خلال النظر فى أربع مراحل يمكن أن تهدينا إلى طبيعة المسار الذى يمكن أن نسلكه معا على الرغم من الاختلاف الصريح والعميق والشديد فى كثير من الأحيان. تلك المراحل هى :
(أولا) وحدة الأصل (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثي).
(ثانيا) حتمية الاختلاف (وجعلناكم شعوبا وقبائل).
(ثالثا) تعارف المختلفين (لـتـعارفوا) .
(رابعا) التوجه الضام (إنك كادح إلى ربك كدحا, ثم : إنا لله وإنا إليه راجعون).
وسوف نجد فى كل دين وشرع وأيديولوجية وعلم: هذه المراحل بأسماء مختلفة:
”وحدة الأصل” لا جدال حولها, حتى لواختلفت التفسيرات العلمية وشبه العلمية حول نشأة الحياة, فهى لا تختلف على “وحدة الأصل”.
ثم إن “حتمية الاختلاف” بين الأفراد والجماعات هى كما كانت دائما – بديهية عامة, يعرفها العلماء (علوم الفروق الفردية والفروق الثقافية والإثنية) مثلما يرددها العامة: (“هى صوابعك زى بعضها”؟).
أما تعارف المختلفين فهو ليس مرتبطا بالتراسل بالبريد الإلكترونى أو تبادل القبلات والأحضان فى طرقات وردهات تجمع الوفود والمنافقين أثناء المؤتمرات والمؤامرات, وإنما هو المحاولة الدائبة لاستيعاب معنى الاختلاف واحترامه.
ثم يأتى توحد التوجه” (وليس توحد اللغة, ولا توحد القيادة), وهذا يتعلق بالقيمة التى طالما رددت أنها هى التى تعطى لأى أداة حقيقة جدواها, إنه لا يكفى أن نفرح بالتواصل والشفافية لمجرد التواصل والشفافية, أو أن نزعم قبول الآخر لمجرد تجنب المواجهة, بل علينا أن نختبر علاقتنا ببعضنا البعض ونحن ننتبه إلى من يدير الدفة, وفى أى اتجاه؟ .
هل نحن نسير فى اتجاه الفطرة السليمة أم المصالح المتحيزة المشبوهة؟.
هل التوجه هو ضام فعلا نحو ما هو أفضل للكافة؟.
أم أننا نتبع نمطا سابق التجهيز من قبل مجهول أو معلوم خبيث الطوية؟.
ثم : هل ثم عدل يقام؟
أم تأجيل وتسويف يراد به ما يراد؟.