“يومياً” الإنسان والتطور
7-4-2008
العدد: 220
قبل النقد:
…. عن ثلاثية أحلام مستغانمى
حين ظهرت رواية ذاكرة الجسد، وثار حولها ما ثار، اتخذتُ منها موقفا غبيا، إذْ رفضتُ قراءتها دون إبداء أسباب، ربما لغرور قبيح يحل بى أحيانا ويجعلنى أرفض أن أسير فى الزفة، مع أننى قد أزور العروسين إن أحببتهما (أو أى منهما) بعد أن تنتهى طقوس النفاق والفرح والتهانى والنقوط،
قلت لزفة الرواية حين ظهرت: “لا”. بل إننى حتى رفضت أن أقول للرواية:فيما بعد.
“لا ماذا؟” ؟ هكذا سألتنى ابنة لى (أ.د. سعاد موسى أستاذ الطب النفسى، الآن)، لماذا؟ هذه رواية فيها شئ يهمك جدا، لابد أن تقرأها،
قلت لها: عنوانها يبعث لى رسالة جيدة أخشى أن أكتشف أنها ليست فيها، ثم إنه ليس عندى وقت لما تدعونى إليه، فلتنتظرى يا سعاد حتى تنادينى (الرواية) يوما ما، هى وشطارتها.
هذا الموقف الحُكمى المُسبق الذى أتخذه غصبا عنى أحيانا، وتحديا أحيانا، يحرمنى من فرص كثيرة، وخبرات جديدة، وأشياء أخرى، وهو موقف غبى، أقاومه كل يوم أكثر فأكثر.
منذ أسبوعين أبلغنى د. مروان أحد زملائى وأبنائى بالمستشفى أن كتاب الندوة الثقافية لشهر ابريل 2008(مستشفى دار المقطم – جمعية الطب النفسى التطورى) هو روايتها الثانية “فوضى الحواس“، قلت فى نفسى: “هل هو النداء؟ لماذا جاء هكذا متأخرا؟؟”
متى ظهرت رواية الحواس يا مروان قال 1997؟
وذاكرة الجسد يا مروان؟ قال 1988
قلت يبدو أنه قد آن الأوان،
العناوين
عنوان الجزء الثانى (فوضى الحواس) شدَّ انتباهى أكثر، خصوصا هذه الأيام ، فمنذ أكثر من عشرين عاما، وأنا أتحسس طريقى إلى الجسد والحواس على كل المستويات، وبالذات المستويات المعرفية بالمعنى الأشمل، أو قل: وأنا أتحسس طريقى إلى المعرفة عن طريق الحواس كلها (وليس الخمسة فقط)، أما كلمة “فوضى” فهى الكلمة المكمِّلة لموقفى المعرفى المُواكِب لانجذابى للعلم المعرفى، نعم هى الفوضى سواء من مدخل علم الشواش (علم الفوضى فائقة التناسق) أو من مدخل الجنون (فوضى الذوات المتناثرة حتى لو توجهت خفية بغائية تدهورية عاتية)،
بدأت فى قراءة “فوضى الحواس“، وبعد عدد يسير من الصفحات، بل بدءا من الصفحة الأولى فعلا، شعرت بخجل شديد من موقفى السابق. ما هكذا يكون موقف شخص يزعم أنه يطرق أبواب المعرفة حيثما وجد إلى ذلك سبيلا، بأى حق احكم على كتاب/ رواية /كاتبة/ روائية/ مبدعة إلى هذا الحد، أحكم عليها من عنوان؟ وإشاعة؟ وصورة؟ وحكاية؟ بأى حق أحرمها من قراءتى، وأحرم نفسى منها؟
ما علينا
هذه مؤلفة مختلفة، كتبت رواية مختلفة .
هذه اللغة العربية جدا: القصيدة الممتدة
منذ البداية، غمرتنى أمواج اللغة العربية السليمة الجميلة فى تشكيلاتها البديعة القادرة، لم أصدق أنها جزائرية، تتكلم الفرنسية – ربما أو غالبا- داخل بيتها، ثم لابد أنها تتكلم اللهجة الجزائرية، مع أمها وجيل أمها على الأقل؟ متى تعلمتْ هذه العربية – وليست أى عربية” ؟ متى ملكت ناصيتها هكذا؟ هكذا! هكذا!!
أن تكتب شعرا، فلتكتب شعرا، أن تكتب رواية، فلتكتب رواية، أما أن تكتب هذه الرواية شعرا هكذا، فلا يكفى ما قاله نزار قبانى على غلاف “ذاكرة الجسد” من أن الرواية “قصيدة مكتوبة على كل البحور، بحر الحب، وبحر الجنس، وبحر الأيديولوجية، وبحر الثورة الجزائرية بمناضيلها ومرتزقيها، وأبطالها، وقاتليها، وملائكتها وشياطينها، وأبنائها، وسارقيها”،
هذا الوصف، لم يكن أحسن ماقاله نزار “رصًّا” هكذا.
قبل ذلك بسطور – على ظهر الغلاف أيضا – كتب نزار شعرا آخر قال ، بعد أن خرجت له أحلام من تحت الماء الأزرق كسمكة دولفين جميلة، وجسدها يقطر ماء، قال:
“..روايتها دوَّختنى..، (النص): مجنون، متوتر، واقتحامى، ومتوحش، وإنسانى، وشهوانى، وخارج عن القانون، مثلى“،
ثم أضاف نزار بيتا جميلا من الشعر يصف الرواية بأنها
“المُغْتسلة بأمطار الشِّعر”.
قرأت رواية الندوة أولا “فوضى الحواس” لأنها المقررة للتقديم، وحدث لى ما حدث.
ثم عدت إلى ذاكرة الجسد التى لم أكن قد قرأتها، وبهرتنى أقل من انبهارى بفوضى الحواس، لكنها هى أيضا، قد حضرت فيها الكاتبة بكلّها ، عثرت فى “ذاكرة الجسد” على مفاتيح لهذه الكتابة الجديدة شديدة الخصوصية، مفاتيح كنت أبحث عنها وأنا أقرأ “فوضى الحواس،
بعد انتهائى من ذاكرة الجسد رجعت إلى ما حذفتُه من رأى نزار، ومن ذلك قوله: أن “النص يشبهنى لدرجة التطابق” أو أنها (الكاتبة) “كتبتـْنى دون أن تدرى“، رفعت مثل هذا وذاك من تقديرى لما قال واستشهادى بما كتب، برغم أننى أحب شعر نزار جدا بقدر تحفظى عليه أحيانا. رفضت أن يستحوذ نزار على النص له هكذا، هذا النص مثل أى نص فائق، (فوضى الحواس، أكثر من ذاكرة الجسد) لا يشبه أحدا، لا يمكن أن يشبه أحدا، ولا حتى هو يشبه البطل نفسه داخل الرواية، وهو أيضا لا يشبه الراوى، ولا الكاتبة، بعض عبقرية هذا الجزء الثانى ، وإلى درجة أقل الأول، أن أحدا من الحاكين أو المحكى: لا يشبه نفسه !!!.
تقول الكاتبة على لسان الكاتبة “الأدب هو كل ما لم يحدث“، ص 7، وهى نفس العبارة التى تكاد تنهى بها الرواية “الحب هو ما حدث بيننا، والأدب هو كل ما لم يحدث” ص 403
زادتنى مثل هذه الأقوال رفضا لأن ينسب نزار الرواية لذاته:
صادقا؟أمجاملا؟ شاعرا؟ ناقدا؟
ولو..
لماذا الكتابة، وما ذى الكتابة ؟
فى أوائل ما كتبتُ فى هذه النشرات كانت نشرة: لماذا أكتب؟ لمن؟ وماذا بعد؟ (12-9-2007)، وقد طلبت من الزوار (القراء- الذين يكتبون، والذين هم مشاريع كـُـتّاب) أن يجيبوا علىّ، ولم يصلنى ردّ (إلا من واحد أو ثلاثة، لا أذكر) مِنْ أى ممن يكتبون؟ (ولا من الذين يخافون أن يكتبوا، أو ينوون سرا أن يكتبوا) .
الكتابة بديلاً عن الحياة، الكتابة الحياة، الكتابة الواقع الآخر، الكتابة الواقع الأوقع من الواقع،
إذا كانت الكتابة بديلا عن الحياة، فالحياة هى وقود الكتابة،
الكتابة القتل، الكتابة الخلْق، الكتابة الفتح، الكتابة الارتياب …
هذا بعض ما كشفتْ عنه الكاتبة فى روايتها الأولى والثانية أساسا (دع جانبا الآن الرواية الثالثة).
الواقع الإبداعى (واقعٌ أوقعٌ من الواقعْ):
نجحت الكاتبة معظم الوقت فى رفع الحواجز بين الكتابة والواقع (ولا أقول الخيال والواقع) ، كنت قد وصلتُ من قبل فى بعض نقدى (خاصة لنجيب محفوظ) إلى ما اسميته “الواقع الإبداعى“، حين اعتبرت أن الواقع الخارجى الذى يستقبله المبدع باعتباره يمثل كل ما هو: “لا..أنا” وأيضا الواقع الداخلى الذى يتحوِّل فيه هذا “اللاأنا” إلى “أنا..مشتمِلة”، اعتبرت أنه لا هذا ولا ذاك هما الواقع الذى يمكن أن نقيس به الأدب (والشعر)، ثَـمَّ واقعُ آخر يتخلَّقُ منهما بهما ليبرز واقعٌ جديد (ليس خيالا كما يشاع عن الخيال)، واقع لو أمعنا النظر فيه لوجدناه واقعا أوقع من كل واقع (مقابل واقع الجنون الذى يعتبره الأطباء أعراضا !!).
من هذا المنطلق بالذات، وصلنى نص هذا الجزء الثانى “فوضى الحواس” بوجه خاص، وأيضا الجزء الأول، “ذاكرة الحواس” وإلى درجة أقل جداً الجزء الثالث (من الثلاثية التى هى ليست ثلاثية) ، وهو المعنون بعنوان ملتبس: “عابر سرير“.
هذا الجزء الثالث: “عابر سرير” كان أضعف الأجزاء، وبالذات بالنسبة لهذه النقطة التى أشير إليها فى حديثى عن الواقع الإبداعى، كنت أتمنى أن تنتهى الرواية (الروايتين) بهذه الخاتمة الرائعة التى اختتمت بها الكاتبة “فوضى الحواس” ص 375
انتهت هكذا: (…وهى تقف أمام مكتبة بائع الدفاتر الذى بدأت به الرواية حين اشترت دفترا أغواها بكتابة قصتها القصيرة)، تقول:
“. كنت سأطلب منه.. ظروفا وطوابع بريدية، عندما…”
وتنتهى الرواية بكلمة “عندما“..
هذه نهاية ينبغى ألا تشوّقك إلى جزء ثالث أو جزء رابع، لوأحسنت قراءتها، هى النهاية المفتوحة لك أنت، وليس للكاتبة ..
فلما أتت “عابر سرير” بعدها أغلقت هذه النهاية المفتوحة بغير وجه حق.
“عابر سرير” وصلتنى مـُـقحمة بشكل أو بآخر، وقد انتهت فى مطار بوضياف بنداء أنه:
“الرجاء إبقاء أحزمتكم مربوطة، لقد حطت بنا الطائرة فى مطار محمد بو ضياف”.
تركتنى هذه النهاية المغلقة مربوطا بحزام وصاية خطابيةٍ ما.
ما ضرّ لو كانت ثنائية، وخلاص؟(1)
ما الذى يُضطر الكاتب أن يكتب بعد أن يكون قد كتب ما كتب ؟
ألم تعلّمنا أحلام مستغانمى “أن الأدب هو كل ما لم يحدث” ، فلماذا أحدثت –ثالثا- ما لا يحدث؟
نهاية الجزء الأول “ذاكرة الجسد“، كانت فى المطار أيضا حين أجاب الراوى على سؤال الجمركىّ العصبىّ:
– بماذا تصرِّح أنت؟
….
فتكاد دمعة مكابرة …. تجيب لحظتها.
– أصرح بالذاكرة يا بنىّ..،
ولكنه يصمت…
“ولكننى أصمت .. وأجمع مسودات هذا الكتاب المبعثرة فى حقيبة، رؤوس أقلام، ورؤوس أحلام.. ” باريس 1988
رؤوس الأقلام هذه ورؤوس المواضيع صنعت رائعتها “فوضى الحواس”
لكن جملتها البديعة التى أنهت بها فوضى الحواس “. كنت سأطلب منه.. ظروفا وطوابع بريدية، عندما…” أفضت بنا إلى إلى حكاية ثالثة متواضعة وفاترة، وربما خطابية بشكل ما.
الجزائر واللغة العربية
حين أسمع اسم بلد قريب أو بعيد، أغلق حواسى لتمتنع عن الحكم عليه أو على أهله بما اعتادت من التسرع والتعميم: المصريون كذا، واللبنانيون كيت، لا !! إنما الألمان تجدهم لست أدرى ماذا، أما الانجليز فهم هكذا وهكذا ومع ذلك، وبرغم حذرى من كل ذلك، فأنا أنجح أحيانا وأفشل كثيرا أن أحول دون استجاباتى تلك. يبدو أن هذه العادة القبيحة هى من صفات المخ البشرى الحديث: الاختزال والتعميم ، ربما هى عادة اقتصادية مفيدة بشكل ما، وإلا ما انتشرت كل هذا الانتشار برغم أنها مضللة وغبية.
جزائر وجزائر
أنا لا أعرف الجزائر رأى العين، لم أزرها، وحتى لم أعش ثورتها بحقها، برغم أنها كانت من أهم علامات مطلع شبابى حين كان يغمرنا الأمل ويعلـّمنا الألم، قبل أن ينطفئ الأول وينغرس الثانى فى المجهول. فى جيلى، اختلطت ثورة الجزائر بثورة يوليو، وقبل أن أفيق من صدمة الإحباطات المتتالية جاءت التعرية الكبرى فى 1967، فكادت تمسح كل الأحلام بغير تمييز.
عرفت بعض ما هو جزائرىّ – عن بعد- فى باريس (1968 – 1969)، وكنت أسكن فى الدائرة الثامنة عشرة (18) ما بين ميدان كليشى و المونمارتر والبيجال، كانوا هناك بكثرة لأسباب يعرفها من يعرف هذه الاسماء الثلاثة “كليشى – البيجال – مونمارتر”، للأسف كان هذا التعرف من أسخف مداخلى إلى ما هو جزائرى، فقط بدأت فى المراجعة حين قابلت عامل بناء شاب جزائرى فى السوق العملاق (الهال -ليزال) . تكلمنا معا بصعوبة شديدة، ومع ذلك وصلتنى إنسانيته وبؤسه وعروبته وشرفه وقوته ورقته وعناده، سألته يومها عن راتبه، فقال لى إنه حوالى 700 فرنك (أيامها 1968)، وأنه طبعا بلا زوجة هنا، ولا أولاد هنا أو هناك. فزعت للرقم وللشقاء، فأنا كنت أسكن حجرة إيجارها أربعمائه فرنك، وحين تذكرت ذلك أردفت: “كيف إذن؟” فأبلغنى أنهم يسكنون جماعة فى حجرة واحدة، وكذا وكيت….الخ الخ، يومها قررت أن أتقمصه، وأن أعيش شهرا كاملا بمبلغ 400 فرنكا (غير إيجار الحجرة طبعا) حتى أشعر بما يشعر به ذلك المكافح العظيم، وفعلتها شهرا كاملا، وراح يصاحبنى هذا الشاب معظم هذا الشهر، فقط لم أكن أشاركه عمله الشاق، كان يصاحبنى وأنا آكل رغيف الباجيت فى الشارع بلا جبن ولا شىء، وأنا أمشى عدة محطات لأوفر تذكرة المترو ..إلخ، تعلمت من هذا الشهر الكثير جدا حين امتنعت عن كل شىء إلا ما يسمح لى بالحركة والقراءة، ونجحت، وبقى معى من الأربعمائة فرنكا ستين فرنكا بالتمام، وفهمت معنى الأرقام، وأن الجزائرى ليس هو من ألقاه على أبواب البيوت المفتوحة الأبواب فى الشوارع الجانبية فى البيجال وكليشى، وتأكدت أكثر أن أى تعميم هو استسهال غبى، خاصة لو كانت وراءه أيديولوجيا قومية أو عنصرية أو دينية، صرت كلما سمعت ضمير الجمع أصاب بنوع من الحساسية التى تصل إلى أعراض جسدية أحيانا.
منذ ذلك الوقت، حين تـُذكر أمامى كلمة جزائر أو جزائرى تقفز إلىّ هاتين الصورتين بشكل مستفز، ولا أتوقف كثيراً لتغلب إحداهما الأخرى، ثم إنى حين زرت الدار البيضاء، وكان مؤتمرا علميا، أتذكر أن بوتفليقه كان حاضرا على هامشه، أو لعله كان يحضر مؤتمرا موازيا، لا أذكر، ورأيته يتبخطر بالفرنسية، قلت هذه جزائر ثالثة، ثم إنى حين كنت فى شوارع ومع ناس الدار البيضاء، كنت أتصور الجزائر التى لم أزرها. لماذا ؟ تصورت (خطأ غالبا) أن اللهجة واحدة فى كل المغرب العربى، ثم خطر لى نفس الخاطر فى شوارع صفاقس (تونس).
هذه المقدمة الطويلة هى لأثبت مدى صدمتى الجميلة وأنا أتعرف على جزائر رابعة اسمها “أحلام مستغانمى”.
هل معقول أن هذه اللغة العربية الفصحى، الحية الحيوية التى تتغنى بها هذه المؤلفة هكذا، أو قل التى هى هى المؤلفة هكذا، قد تجاوزت كل الجزائر التى أعرفها أو أتصورها، لتكتب لنا “نفسها” بهذا الجمال كله ؟ كنت قد سمعت عن الثورة التعريبية التى اجتاحت الجزائر بعد الاستقلال حتى كدت أقارنها بإحياء اللغة العبرية فى اسرائيل، لكن أن تحيى لغة تراثية شىء، وأن تبعث لغة موؤودة لتقفز هكذا، فارعة فاتنة بكل هذا الجمال، شىء آخر،
هذه المعجزة لا يكفى لتحقيقها دافع فردى.
غيرةٌ ثم ائتناس
من أول الإهداء لأول رواية ” ذاكرة الجسد” فوجئت بأن “حبيبتى” لها محبين كُثْر جدا، ملأتنى الغيرة – أى والله – ثم الفرحة والإتناس (فلا هبطتْ علىّ ولا بأرضى، سحائبُ ليس تنتظم البلادا) ، فرحت بالمحبين المنافسين حين تأكدت أنهم يحبونها فعلا بهذا القدر الذى ذكرته المؤلفة فى إهدائها، ثم أثبتته فى أدائها:
“مالك حداد” أهدته أحلام عملها الأول وهى تصفه بأنه:
“..إبن قسنطينة الذى أقسم بعد استقلال الجزائر ألاَّ يكتب بلغة ليست لغته ..
فاغتالته الصفحة البيضاء .. ومات متأثرا بسلطان صمته ليصبح شهيد اللغة العربية, وأول كاتب قرر أن يموت صمتاً وقهراً وعشقاً لها
المُهدى إليه الثانى كان أبوها
وإلى أبى ..عساه يجد “هناك” من يتقن العربية , فيقرأ له أخيراً هذا الكتاب … كتابه
أبوها كان حاضرا طول الوقت فى تجليات متنوعة، وقد تصورت، كما بلغنى أنه لا يتقن – أو لا يكاد يعرف العربية- تصورت أن هذا الحضور الوالدى طول الرويات هو حضور لغوى أكثر.
الصمت واللون الأبيض
طوال الجزء الثانى بالذات (فوضى الحواس) كانت اللغة الظاهرة تشى معظم الوقت بلغة داخل اللغة، كانت تطل علينا بين الكلمة والكلمة، قال الصمت أحينا أكثر كثيرا مما قاله الصوت، تركت لنا أحلام اللون الأبيض مسرحا غفلا بلا نص خانق، تركته يغرينا بتشكيل لوحتنا الخاصة عليه: كلٌّ بطريقته، فنؤلف معها ما أرادت، وما لم ترد.
علاقة الصمت بيقظة الحواس فى فوضى معبرة أشرت إليها من قبل (حوار/بريد الجمعة 28-3-2008)، أما اللون الأبيض فهو صمت ولود آخر ألم يمت أبوها “..صمتا وقهرا وعشقا للغة اللعربية، أبوها اغتالته الصفحة البيضاء”.
أحلام لم تكتب الكلمات بل كتبتها الكلمات
“..الكلمات التى سأنكتب بها”
الحروف كانت ألوانا وبالعكس، نسمعها وهى تقول:
” غادرتنى الحروف كما غادرتنى الألوان”
ها هى تتركنا بين الصمت والبياض.
حين تتكلم عن “..الأنفاق السرية للكلمات”، فإنها تشير إلى “ما تخفيه الكلمات” ، لتقول أبلغ من الكلمات !!
وأيضا هى تعبر صراحة عن ما هو “الكلام بدل الكلام،
وأخيرا (ولنا عودة) هى ترسم بالكلمات وتقول بالألوان،:
“لهذا نحن لا نكتب، ولهذا نحن نرسم، ولهذا يموت بعضنا أيضا” .
قفْ !
لا تقترب الآن من الموت والقتل والكتابة، فهذا حديث يطول وسنعود إليه عندما نحاول نقد النص كما ينبغى، يكفى أن نشير أيضا هنا فى هذه المقدمة إلى قولها:
“نحن نكتب لنقتل الأشخاص الذين أصبحوا عبئا علينا، نحن نكتب لننتهى منهم”
أو
“كل رواية ناجحة هى جريمة نرتكبها تجاه ذاكرة ما”
أو
لماذاعلمتنى أن “أغتصبك على ورق”
احترت وأنا أتساءل عن كتابتنا نحن العرب جدا، فى المشرق خاصة (فهو ما غلب على قراءاتى) ؟ لماذا لا نكتب بهذا العشق المحب – إلا فى بعض الشعر الشعر- لماذا لا نكتب بكل هذا الصدق الجميل؟، لماذا لا نكتب “هكذ” نحن الذى ولدنا من أم عربية، ثم رضعنا لبنا عربيا، ثم عشنا العربية مختارين أو مرغمين؟، أين لغتنا المفروض أن تحتل مساحات مناسبة من وعينا ، لنتخلق منها وبها؟
خطر ببالى خاطر سخيف، أحجمت عن التصريح به إلا حين اضطررت أن ألمح له فى مناقشات الندوة أول أمس. خطر لى أن هذه الكاتبة نشأت تفكر بالفرنسية، بوعى حر حركىّ جسدى حسى رائق متحفز، ثم إنها امتلكت أدوات اللغة العربية فيما بعد بعشق بالغ، فأحبتها حتى امتلكت ناصية كل أبجديتها ونغماتها وآلاتها، فراحت تعزف فى وعيها الإنسانى الطليق لحنها الجميل بما امتلكت من كل هذا، فجاء اللحن متحررا من أصنام اللغة بعد أن صارت تلك الأصنام موادا خاما مرنة قابلة للتشكل بحرية متحررة.
أما لماذا رفضتُ أن أصرح بهذا الخاطر ابتداء ، فهى الغيرة مرة أخرى. غيرة ليست قاصرة على مزاحمتى فى حب حبيبتى فقط، بل امتدت إلى حسد الكاتبة على موسوعيتها وهى تستشهد بشعر الثقاة وأقوال الأقدمين والمحدثين دون افتعال أو حشر ، خذ مثلا: كاسباروف، الإمام الشافعى، نيتشه، إسخيليوس، بروست، هنرى ميشو، مارسيل، بانيو، شانمال، أندريه جيد. هذه الموسعية أيضا دعمت هذا الفرض السابق بأنه الوعى الحر يعزف بالعربية .
هذه الكاتبة عشقت حبيبتى من ورائى، دون إذن منى، وهل كنت سآذن؟ ربما كنت آذن لها إذا تيقنت أنها تحبها أكثر منى.
“أن نحب” هذا شىء، و”أن نعشق” هذا شىء آخر، لكن أن نعشق بحب، هذا شئ مختلف ، إن كنتَ عاشقا محبا بجد، فستجد نفسك تمتزج بالمعشوق المحبوب لتتشكل معه، فتخرج أنت منه به حين يخرجك منك إليك.
هذا ما فعلته أحلام باللغة العربية، وبالعكس.
بدا لى أن هذا العشق المحب، أو الحب العشق، غير قاصر على اللغة العربية الفصحى، بل هو ممتد معها إلى لهجتها الجزائرية الخاصة. حين كنت أقرأ بعض حواراتها (خاصة مع أمها.. “..مّا “) كانت تصلنى العامية الجزائرية بجرسها البديع بنفس الجمال ونفس الموسيقى، حين أجاب صديقى جمال التركى على لعبة التغيير (حوار/بريد الجمعة 21-3-2008) فى هذه النشرة (الإنسان والتطور) باللهجة التونسية، واقترح أن اكتب نفس الألعاب باللغة الفصحى، رددت عليه أننى بعد أن سمعت نصيحته ونفذتها، وجدت أن العامية (المصرية أو التونسية) تحرّك المشاعر (والحواس طبعا) أعمق وأقرب، قلت له ذلك وأنا أمتلئ غيظا، تماما كما أشعر حين يقتحمنى الشعر باللغة العامية فاضطر أن أعتذر للفصحى (انظر الهامش فأنا أخجل أن أثبت ذلك مرة أخرى فى المتن(2)
اللغة فى فوضى الحواس خاصة ترتبط بالحواس الوعى المتعين فى حركية إبداعية نابضة، وكأنها جزء منها،
هكذا تصبح اللغة جسدا يتشكل باستمرار
حين حاولت أن أقتطف ما أعلن به أن هذه الرواية قصيدة جسدية موسيقية، وجدتنى داخل داخل الحس، والهمس، والصمت، والفوضى ، تلك الحرية القادرة
نقرأ مثلا ما يلى ( ص 16) من فوضى الحواس:
“ بين ابتسامتين لفّ حول عنقه السؤال ربطة عنق من الكذب الأنيق وعاد إلى صمته، أكان يخاف على الكلمات من البرد؟ أم يخاف عليها هى من الأسئلة؟
أو، فى الصفحة التالية
“يومها حفظتْ الدرس جيداً وحاولت أن تخلق لغة جديدة على قياسه، لغة دون علامات استفهام”
ثم
“لذا بعيد يصبح الصمت معه حالة لغوية، وأحيانا حالة جوّية تتحكم فيها غيمة مفاجئة للذكرى”
إلى أين تذهب بنا مثل هذه اللغة؟
قبل الدخول إلى المحتوى نقدا، ألا تشعر معى أن هذه الجزائرية القادرة المبدعة التى نشأت فى بلد كان الكلام فيه بالعربية جريمة، الذى ظل محتلا 180سنة فى محاولة محو هويته، هذه الجزائرية ترسل لنا رسالة تذكرنا بكنوزنا التى لم نعد نعرف أنها ملكنا أصلا؟
المسألة ليست فى الفصحى أو العامية، ليست فى الصمت مقابل الكلام، أظن أن بعض ما آل أغلبنا إليه هو نوع من البلادة الحسية، ماتت الحواس فمحت (أو أخفت) كل اللغات وليست الفصحى فقط، مسحتها حتى لم يعد يصدر منا إلا تلك الطرقعات التى تقفز على سطح وعينا مثل حبات الفشار تقفز فوق طاسة سوداء نحمّيها طول الوقت بالخوف والتردد والكسل العقلى والجسدى والوجدانى. من هنا جاءت حاجتنا إلى تثوير الحواس كلها كلها ، حتى لو مرت بمرحلة الفوضى. لا سبيل غير المغامرة بذلك إذا أردنا أن نستعيد لغاتنا كلها: الفصحى، والعامية، والأجنبية، لغة الجنس، ولغة الرقص، ولغة العمل، ولغة الإيمان، ولغة اللغة.
أريد أن أبالغ فأقول إن الكاتبة حين كانت تسرب أيضا جملة فى حوار بالفرنسية، ولا تلزم نفسها بترجمتها إلى العربية، كانت تبدو لى أكثر أمانة مع نفسها باعتبار أن هذه الفرنسية هنا وهناك هى العامية الباريسية العربية بشكل ما.
حين تختلط الكلمات بالحواس فى فوضى لتخلق لغة جديدة، فنحن أمام الشعر بلا زيادة ولا نقصان.
حين تكون اللغة بحرا رحما يتخلق فيه، وعلى تموجاته: المعنى، لا يعود اللفظ يحتوى معناه، بقدر ما يعد بما يمكن أن يشكله فى وعيك من خلال حواسك.
تعالو نسمعها وهى تقول ما يبرر هذا الاستنتاج بصريح العبارة ص 21
“… أو ليست اللغة أداة أرتياب”!!
كان ذلك لمجرد أنها اجابته:
الحمد لله “
على سؤاله فى الصفحة السابقة .
وكيف أنتِِ”
وبعد
هذه المقدمة الحماسية لم تقترب من نقد النص لأى من الروايات الثلاثة، وأرجو ألا تعنى أية درجة من التقديس او التنزيه كما سيتضح فيما بعد مما سنقدمه من نقد وتساؤلات ، وحوار.
إن العناصر التى وضعتها لقراءة هذا النص تكاد تربو على الثلاثين.
سألتكم الدعاء أن أجد الوقت لأغطى بعضها فى وقت ما ،
عسى أن يكون قريبا.
[1] – توجستُ خيفة – بصراحة – أن أكون قد اخطأت أنا أيضا حين اضطررتُ (من الذى اضطرنى؟) لكتابة الجزء الثالث من ثلاثيتى “المشى على الصراط” باسم:ملحمة الرحيل والعود والذى ظهر مؤخرا،
[2] – طب وحبيبتى.. راح اقول لها إيه؟
إِللى ما عمرها قالت لأ،.. ولا “مِشْ قادره”
ولا فيها شئ يتعايبْ: حلوهْْ، وغَنِـيّهْ، وبنت أصولْ!
معْلشِّى النُّوبةْ، المّرا دى سَمَاحْ.
أصل الَحُّدوَتةْ المّرا دِى كان كُلهَّاََ حِسْ،
والحِسْ طَلِعْ لِىِ بالعَامَّى بالبَلَدى الحِلْو.
والقلم اسْتَعْجلْْ.، ما لحِقْشِى يتْرجمْْ، لَتفوتُـه أيُّهاَ هَمْسَةْ،
أَو لَمْسَهْ، أو فَتْفُوتِة حِسْ.
معلشى النوبه.، وَاهِى لسَّهْ حَبِيْبتِى..،
حتَّى لَوْ ضُـرَّتْها غَاِزيهْ،
.. بِتْدُقْ صَاجَاتْْ.