الوفد: 20/9/2001
قبل أن تقوم القيامة؟
أقسم بالله العلى العظيم أننى (مثل أهلى وكثير ممن أعرف) حزين على ضحايا الثلاثاء الأسود أكثر من حزن السيد دبليو بوش، بل إن حزنى ليس فقط أعق، بل هو أشمل
هؤلاء الأمريكان الشهداء هم أهلنا وإخوتنا دون حاجة بنا للحصول على الكارت الأخضر إلا من ربنا، حزنى أشمل لأنه يمتد بعد الشهداء الأمريكيين، إلى هؤلاء الشباب اليائس الذى اصر أن يصحب كل هذا العدد معه وهو مسافر إلى هناك. ما يبرر قسمي هذا هو أننى استقبلت الحدث باعتباره أكبر من أمريكا، وأكبر من أوربا، وأكبر من الصين. المصيبة عامّة، وهو حدث ممتد من قبل ومن بعد، من أيام سيربنسكا فى البوسنة حتى أبو مصطفى وبعد أبو مصطفى.
لكن حزنى هذا لم يمنعى من أن أحسن الإنصات لصرخة التحذير الذى لا بد أن تصل للبشركافة، تلك الصرخة التى هى موضوع هذا المقال.
بمَ تقاس الكوارث وكيف تُفهم.
لا تقاس هذه الكوارث بعدد الضحايا، وإنما تقاس بتوابعها، وبمدى نجاحنا – كلنا- فى التعلم من دلالاتها. إن ما يصلنى حتى كتابة هذه السطور (16 سبتمبر) هو أسوأ ما يمكن أن يتصوّره عاقل.أنا لا أعرف من الجناة بعد، مثلي مثل غيرى، ، وهم عندى مسئولون أيا كانت تبريراتهم، ليس هناك فرق بين أن يكونوا مسلمين أوعربا أو يابانيين أو أمريكيين، هذا آخر ما يهم، المهم أنهم شباب (فى الأغلب) و أنهم يائسون (تماما)، وأنهم أنهو حياتهم شخصيا وهم يأخذوا معهم من أخذوا من أبرياء، ولا يفعل ذلك إلا إنسان له رؤية (حتى لو كانت ظلامية)، وله قضية (حتى لو كانت خاطئة)، وليس عنده سبيل آخر. ثم لا تقرق إن أسمناه بعد ذلك إهابيا أم مجنونا أم مارقا أم كافرا، وقد يكون كل ذلك.
ليست المسألة فى العدد
“من قتل نفسا بغير نفس أو فسادٍ فى الأرض، فكأنما قتل الناس جميعا” . لم يقل الحق سبحانه وتعالى من قتل مسلما” قال ” من قتل نفسا” سواء كانت هذه النفس مسلمة أم يهويدية أم كافرة، إن المبرر الوحيد للقتل هو أن يكون “نفسا بنفس”، قصاصا لا شبهة حوله. إن مجرد قتل نفس واحدة ظلما، بغير نفس، هو قتل لكل البشر. هذا هو مقياس الحق تبارك وتعالى.
لو طبقنا هذه القاعدة الصارخة بالعدل الحقيقى، لعرفنا أن شارون حين قتل أبا مصطفى، أو الطفلة الرضيعة أو أى شاب فلسطيني أعزل، فهو قد قتل ستة مليارات من البشر (لا من الفلسطينين، ولا من المسلمين، ولكنه قتل الناس جميعا).
بهذا المقياس الإلهى، كان ينبغى أن يفزع العالم للظلم أيا كان حجمه وموقعه، وأن ينتبه إلى أن قاتلا معترِفا بجريمته بقتل واحد فقط بغير محاكمة ، هو قد قتل الناس جميعا. نحن لا نحتاج فى حالة شارون إلى البحث عن القاتل، فهو يقتل بعد اجتماع مجلس الوزراء، وبعد أن يقرر هذا المجلس الموقر، بمباركة أمريكا، أن يقتل فلانا الفلاني بدون محاكمة، وبغير نَفس، ثم إن مجلس الوزراء الموقر المدعوم من أمريكا ، يهنّئ أفراده بعضها بعضا بعد تنفيذ قتل الستة مليارات بنى آدم فى شخص أبى مصطفى مثلا (هذه حسبة الحق سبحانه وتعالى)
المسألة ليست أن من يملك الإعلام ، والسلاح، والمال الأوفر تعطيع الحق أن يمزمزم علنا فى أرواح الناس دون حياء أو ردع. لا يكفى أن يبرروا تكاتفهم وراء هذه الجرائم بالمصالح المشتركة ، إن مصالح العالم كله أصبحت مشتركة، والظلم الذى يقع على فرد واحد ، حتى القتل، هو إبادة للبشرية، هكذا صوّرها رب العالمين منذ أربعة عشر قرنا ويزيد.
كما تبحث أمريكا عن المحرضين والذين آووا وموّلوا هؤلاء الشباب اليائس الذي ترتب علي يأسه قتل الآلاف ، فإن مهمتنا أسهل في البحث عن الذين حرّضوا علي قتل الناس جميعا ، ذلك أن كل من أمدّ بالسلاح، كل من استعمل حق الفيتو، وكل من التمس العذر بعد القتل ، هو مشارك أساسى في “قتل الناس جميعا. مع سبق الإصرار والتبجح. هذا الظلم هو الذي يفتح الباب على مصراعية لهؤلاء اليائسين من الشباب لقتل الآحاد فالعشرات فالآلاف .
ومع كل ذلك فلا أحد يوافق على ما حدث مهما كانت مبرراته. لهذا كان حزننا على أهلنا الأمريكيين الضحايا أشرف وأعمق. هؤلاء الذين قضوا نحبهم للأسف حتى داخل وزارة الدفاع (وهى وزارة الحرب) ليسو هم بالذات الذين استعملوا حق الفيتو، وليسو هم الذين قتلوا أطفالنا ، وزهرة شبابنا، وليسوا هم الذين استولوا على أرضنا، حتى لو كانوا هم الذين انتخبوا ذلك الدبليو زفت. هم قد انتخبوه لأهداف أخرى غير قتل الأبرياء. ليس هناك أدنى شك أننا كنا نرجو لهم حياة أفضل مثلما نرجو لأنفسنا، هم موظفون يعولون أطفالا، قد لا يكون أحدهم قد سمع أصلا عن شىء اسمه شارون، بل إن بعضهم لا يعرف اسم رئيس أمريكا، ما جريرتهم إذا كان حكامهم بكل هذا العمى، وهذا الظلم، وهذا الغباء؟ هل كان يمكنهم أن يتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا خاصة، لا أظن. ليس عند أغلبهم فكرة عن أثر استعمال “فيتو” حكامهم وكيف يبيح قتل الأطفال، ومنع الصلاة، والاستيلاء على الأرض.
إذن ، فكل ما عمله السفهاء منهم لا يبرر فعلتهم مهما كان. لكن لكل حرب ضحايا من الأبرياء. هذه مصيبة الحروب، بل إنني أحيانا أشعر أن جنود الأعداء الذين قد يقتلون ابنى فى حرب صريحة لا ذنب لهم في ذلك ، فأى منه، لا يستطيع أن يعصى أمر قائده. ومع ذلك فقد حلّت الكارثة، واندفع شباب يائس، لم تتحدد هويته بعد، ليفعل ما فعل. رحم الله الجميع.
هل تعلّمنا ؟ وهل تتعلّم أمريكا
ما أنوى أن أجتهد فيه فى هذا المقام هو موجّه إلى أمريكا أساسا. أمريكا ليست هى-بالضروة- الولايات المتحدة الأمريكية . أمريكا هى كل قوة عمياء ، لا هم لها إلا أن تزداد شراسة. قوة لا تحسن الاستماع، وتبيع للبلهاء مبادئ مغشوشة، ومواثيق مضروبة، لتتمادى في عماها وإذلال الأضعف”
بهذا التعريف فإن أمريكا هى يوغسلافيا الصرب، وهى روسيا (المجر 968)، وهى طالبان (قهر المرأة والناس) وقد تكون الصين غدا. إن ما حدث – رغم أنه تصادف أنه حدث فى أمريكا – هو إنذار للبشر كافة : أنهم إما أن يفيقوا لما انحدروا إليه، وإما أن ينتظرو مصيرا كارثيا من مجهول ، مهما تحسّبوا له.
صراع الناس <=> القوة
الصراع الآن أصبح بين الناس (كل الناس- عامة الناس) وبين القوة (المنفصلة عن الناس ، وحتي عن الحكومات). الصراع لم يعد بين دولة ودولة، ولا بين طبقة وطبقة، الصراع أصبح بين الناس من كل الأجناس والأديان والألوان في جانب، بين والقوة الصماء العمياء المتغطرسة المتمادية في جانب، آخر. يتم ذلك في وقت تتنامى فيه قدرات المعلوماتية والتكنولوجيا حتى تصبح سلاحا خطرا علي الجانبين
فشل احتكار التكنولوجيا والمعلوماتية
التواصل الذى تسارع حديثا فعمّ الكرة الأرضية دون استثناء ، جعل الناس من كل صوب وحدب، يشعرون ببعضهم البعض، شعروا بالخطر معا، ،شعروا باليأس معا، شعروا بالظلم معا، عبّروا عن ذلك بمظاهرات سياتل وجنوة، وتجمعات دربان غير الحكومية ، لكن الشباب اليائس تضخّم الخطر لديه حتي فزع فنفخ في صور البنتاجون ومركز التجارة، فكانت الكارثة.
كانت أمريكا (بالمعنى الأشمل السابق) تتصور أن الإنجازات الأحدث من تواصل ومعلوماتية سوف تكون فى خدمة مزيد من السيطرة والتحكم فى الناس، لكن الناس التقطوا الشفرة وراحوا يستعملونها لصالحهم. تصورتْ أمريكا القوة أن التكنولوجيا مسخرة لمزيد من تفوقها الأعمى، لكن الناس (هؤلاء الشبان اليائسين) استعدوا لما فعلوا، ثم فعلوه ، بفضل نفس لتكنولوجيا ومهارة التدريب ثم مهارة التوقيت.
لا أحد يستطيع أن يحتكر سلاحا أو أداة أو مهارة لنفسه حتى لو كان هو مخترعها، ولا حتى القنبلة الذرية (أنظر بعد)
اليائسون لا الإرهابيون
لا يمكن أن يصل الأمر بشاب أيا كانت عقيدته إلى كل هذا الإصرار، وهذا الصبر، وهذاالتدريب، وهذه المثابرة وهذا التخطيط، وهذه التضحية بنفسه وببنى جنسه، إلا إذا كان وصله حجم الظلم الذى يحيق به، وبأغلب بنى جنسه، بدرجة لا صلاح لها، وإلا إذا كان قد استقبل الخراب والدمار الذى تفرضه القوة على الضعفاء بأضعاف حقيقته، ومع ذلك فاليأس ليس كافيا لتبرير ما حدث.
ليس دفاعا عمّا حدث، فالله يعلم أننى -كما ذكرت- أكثر تألما له من السيد دبليو شخصيا، ومن شارون طبعا (يا فرحته يا هناه بما حدثََ، وهو يستغله لمزيد من القهر، ومزيد من القتل!!) ، لكن المسألة أنه ينبغي علينا أن ننتبه ونحن نواصل ترديد ما يصكون لنا من اصطلاحات تخدم ضلالهم، فنضيع جميعا.
الإرهابى لا يضحى بحياته، الإرهابى يقتل غيره، يفزغ غيره، يقهر غيره. الإرهابى هو الذى يضغط على زر وهو في مكتبه فيحصد الأرواح. سوآء كان هذا الذى يضغط هو رئيس وزارة أو رئيس عصابة مافيا أو أسامة بن لادن، أما اليائس البائس فهو الذي يفعلها بنفسه وهو لا يبقى على أحد، لا على نفسه، ولا على غيره، ليست المسألة مسألة “علىّ وعلى أعدائى”، فالذين ماتوا فى مركز التجارة ليسوا أعداء الذين قادوا الطائرات، المسألة أن هذا البائس المطحون المُهان، خصوصا إذا كان شابا، قد استشعر أن الظالم الأعمى لا يريد أن يكف عن الظلم، ولا عن العمى، وأن الغافل المسالم الذى يتبعه، لا يعرف إلى أين تقوده غفلته ومسالمته، هذا الشاب اليائس قرر، وبعد أن حسم أمره بالنسبة لحياته شخصيا أن يصحب معه عددا من بنى جنسه من لون ودين، ليصيحوا جميعا : أن انتبهوا أيها السادة. هذا الشاب استيقظت فيه ، قبل أن يذهب، خلايا نوعه وهو يرى بنى جنسه مهددون بمصيره وهم أحياء، أو وهم يظنون أنهم أحياء. قرر أن يطلق صرخته منذرة مهما كانت التضحية، قالها ، بغباء الطيور المهاجرة المنتحرة جماعيا، فليذهب معى الآلاف ربما استيقظ الباقون. هذا خطأ صرف ، لكن الصرخات الأقل لم تصل إلا الصم العمى العتاة القساة الذى لا يفقهون.
مرة أخرى هذا خطأ تطورى جسيم، لكن التهديد بالانتقراض هو أكبر من حسابات اليائسين.
هذه الصرخة ، علي جسامتها، يمكن أن سوف هباء إذا لم يحسن الاستماع إليها من يملكون مقاليد القوة ومصائر البشر. وما بدا لى حتى الآن (16 سبتمبر) أنهم ازدادوا صمما.
ماذا قالت الصرخة تحديدا؟
إن دلالة ما حدث (بالنسبة لى على الأقل) هى شديدة الوضوح أستطيع أن أوجزها فيما يلى، تقول الصرخة بصوت كل هذا العدد من الضحايا:
أولا : إن أمريكا (بالمعنى الأشمل) تتمادى في تصور خاطئ عن نفسها وعن العالم ، لن يتوقف خطره خطؤه عندها.
ثانيا : إن الصراع بين الناس (كل الناس) وبين القوة (العمياء المتغطرسة). هو صراع غير متكافئ.
ثالثا : إن قوة خفية تحكم العالم ولا تهمها إلا نفسها ، وحين تزلزل الأرض زلزالها لن تستثنيها القيامة.
رابعا: إن الاحتمال الأكبر هو أن هذه القوة التى تحكم العالم ليست أمريكا الحكومة، وليس أمريكا الناس الأمريكيين (الغلابة مثلنا) ، لكنه المال المتمثل فى اندماج الشركات العملاقة ، وألعاب المغامرة والمقامرة بالأوراق المالية دون ربط ذلك بالإنتاج وصالح الناس. و مركز التجارة العالمى هو رمز هذه القوة المالية العمياء،
خامسا: إن الرمز المكّمل لما هو أمريكا هو البنتاجون باعتباره رمز قوة السلاح.
سادسا: إن التكنولوجيا الأحدث هى ملك لمن يحسن استخدامها لا أكثر.
سابعا: إن الصيحات السابقة، بما فى ذلك ما حدث فى فيتنام، ثم فى إيران. لم تتعلم أمريكا منها شيئا.
معالم التهديد بالانقرض
هل يمكن أن يصدق أحدا أن صرخة هؤلاء اليائسين كانت تحمل كل هذه التفاصيل؟
بلغة التطور : ليس بالضرورة أن يصل إلى وعى أفراد النوع المهدَّد بالانقراض تفاصيل ما يهدده، لكنه، بفطرة الحياة التلقائية، ودافع البقاء العنيد، يتصرّف وكأنها تصله. الإنسان قادر على أن يقلّب صفحات وعيه الأعمق ليكتشف بعض ما تعنيه علامات الإنذار من حوله، ومنها على سبيل المثال:
(1) حين تصبح السلطة فى أيدى أصحاب المال (المجهولين) دون الحكومات، ودون الناس.
(2) حين تصبح حقوق الإنسان هى سطور مكتوبة فى المواثيق (وسبوبة، وتكئة للتدخل السافر فى شوون الغير) وليست الممارسة التلقائية فى الشوارع وداخل البيوت.
(3) حين تتوهم الدولة أنها أحن على الأطفال من ذويهم (أو يكون ذلك حقيقة!!).
(4) حين تصبح الأساطير المزعومة والمنسوبة إلى بعض الأديان هى مبرر للاستعمار وطرد الناس من ديارهم
(5) حين تتجمع الشركات المتعددة الجنسية -بلا جنسية- (خصوصا شركات السلاح والدواء والمعلومات) وتتعملق لتذل كل صغير، وتنشر كل زيف ، وتزكّى كل صراع لجمع مزيد من المال لا يعرف أصحابه أين ينفقونه.
(5) حين تحل الديمقراطية الشكلية الممولة بالشركات السالفة الذكر محل الحرية الحقيقة الداخلية والخارجية.
(ملحوظة : قال لى ضيفى ليلة أمس- هو أستاذ بريطانى فى تخصصى يزور مصر لأول مرة- إن الديقراطية الغربية أصبحت “دينا زائفا” وليست ممارسة حرية حقيقية !!).
(6) حين يصبح مجلس الأمن (والمؤسسات الرسمية العالمية) ديكورا للخطب، وتسخّر قراراته لخدمة من بيده القوة والفيتو دون الناس.
(7) حين تصبح الحرب أزرارا تُـضغط لخدمة المال وأوهام العنصرية السرّىة، دون مواجهة أو فروسية.
(8) حين يصبح الغمّر بالمعلومات الجاهزة بديلا عن تعميق الوعى بالمعرفة الأشمل، والسعى إلى الهارمونى الأعظم (بالفن، والإيمان)
كل هذا يجرى حولنا الآن، لا تخطئه عين، ولا يغيب عن وعى شاب، يائس أو مستسلم، حتى لو يستطع أن يعبر عنها بالألفاظ مثلما أفعل أنا الآن.
إن ما قبل الإنسان من أحياء تستشعر الخطر المحيق بها دون أن تملك ألفاظا تصفه بها. إن هذا الخطر الذى أشير إليه ليس خطرا على الفقراء والمستضعفين دون غيرهم، إنه خطر على النوع البشرى ذاته. إنه خطر على المتغطرس الأقوى بنفس القدر وأكثر، لأنه سيخسر أكثر.
لماذا يكره الناس (كل الناس) أمريكا؟
الناس، عموم الناس تكره أمريكا فعلا. الناس الفرنسيون يكرهونها مهما قبّل الحكام بعضهم بعضا حين يلتقون وحين يذيعون قرارات اتفاق وجهات النظر المثمرة والبنّاءة عمّال على بطّال، الناس الروس يكرهونها ويحقدون عليها، الناس العرب يكرهونها وهم يعلمون أنها مصدر خرابهم الآن أو فى المستقبل وهي تستنزف مواردهم، كما يعلمون أنها سبب بلواهم بإسرائيل، بل إننى أتصور أن الناس الأمريكيين أنفسهم يكرهون أمريكا (ليست بالضرورة أمريكا الوطن الأرض، وإنما أمريكا المال والسلاح والمعلومات المغتربة).
إذا كانت أمريكا هى هذه الرمز، وإذا كانت الكراهية قد تجمّعت تجاهه هكذا من كل حدب وصوب، فكيف يتصرف الناس؟
المحاولات والإحباط
..وصرخ الناس، واحتجوا، وتظاهروا ، وكتبوا الروايات، وأطلقوا صيحات التحذير ولم يسمع أحد، بل تمادت القوة فى نفس الاتجاه موهمة نفسها أن الناس سوف يسكتون حين تلوّح لهم بشعارات الديمقراطية والرفاهية وحقوق الإنسان. يسمع الناس هذه الشعارات وهم يعانون طول الوقت من الكيل بمكيالين ، فيتظاهرون ، ويتجمّعون فى الهيئات غير الحكومية، ويحتجّون ، ويصرخون من جديد ، بلا طائل، قطع المعونات يهددهم بالمجاعة، وعجزهم عن الاستقلال يهددهم بالذل.
ماذا يفعل شاب في مقتبل حياته وقد واجه كل هذا الإحباط دون أن تلوح له بارقة أمل فى أن يسمع له ، ولمن مثله ، يوما ما؟
مثل هذا الشاب لا يمكن أن يفعل فعلته دفاعا عن قضية فرعية، أو عن أهل دين بذاته، أو عن أرض مغتصبة، إنها فعلة تكاد تنتمى إلا الكوارث الطبيعة مثل الزلازل والأعاصير، إنها أقرب إلى هجرة بعض الطيور وبعض الأسماك للانتحارالجماعى، بما لها من تفسيرات بقائىة أو انقراضية.
دلالة التوقيت ، وجماعية الهجمة
لو كان الأمر أمر إرهاب، أو اختطاف ، أو ابتزاز، لكان يكفى أن تُختطف طائرة واحدة، كان يمكن أن يضحى ثلاثة أفراد مثلا بحياتهم ، وقبل أن يفعلوها – مثلما تعوّدنا- يعلنون مطالبهم، وهات يا مفاوضات، وهات يا تهديد..إلخ. لكن هذا التوقيت معا، وهذه الجماعية ، ثم تعدد الأهداف معا، ثم هذا الانتقاء الشديد الذكاء، البالغ الدلاة والإحكام في التنفيذ، هو الذى ينبغى أن تقف أمريكا عنده قبلنا.
الرسالة الحقيقية
الرسالة التى ينبغى أن تصل إلى الجميع، وأولهم أمريكا (بالمعنى الأشمل، وليس بمعنى الولايات المتحدة الأمريكية) ينبغى أن تتجاوز حكاية الإرهاب وبن لادن وأفغانستان. هذا عبث لم يعد له مكان لمن وهب أى قدر من الذكاء. ينبغى أن تختلف الحسابات عن ضرب مقر القذافى، أو تدمير معمل كيمياء في السودان.
إن لم نـفهم الكارثة بحجمها الحقيقة ،إن لم تدرس أمريكا دلالة الانتقاء ،ومعنى أن يضحى هؤلاء الشباب بأرواحهم معا فى نفس الوقت ، آخذين معهم كل هؤلاء الأبرياء قربانا إلى القدر ليحفظ النوع، إن لم ترصد مئات المليارات لدراسة حقيقة الدوافع التى دفعت هؤلاء الشباب لفعل ما فعلوا بدلا من ، أو حتى إضافة إلى ، ما رصدته للبحث عن المحرضين والشركاء إن لم تفعل ذلك فهى معرّضة لما هو أخطر من ذلك.
سيناريو الخطر القادم
حتي نتبيّن مدى خطر التمادى في الطريق الخطأ ، دعونا نتصوّر السيناريو كما يلوح في الأفق على الوجه التالى:
(1) تعرف أمريكا الجناة، وتقبض على المحرضين، وتدمّر أفغانستان، وتقتل ألف بن لادن، وملايين الأفغان حتى لا يبقى فيها إلا بضعة آلاف من الرعاة المشردين .
(2) تتمادى إسرائيل في القتل والتجويع، وتهدم المسجد الأقصى، وكلما قام شاب بعملية انتحارية تروح إسرائيل تذكّــرالعالم بأن هذا هو النموذج الأصغر للخراب الأكبر الذى حــلّ بأمريكا يوم الثلاثاء الأسود..
(3) تزداد شركات السلاح والدواء والمعلومات ثراء، وتزداد أمريكا قوة وانفرادا، ووصاية على الأخلاق والأقدار والأديان والقيم وأحلام اليقظة وهواجس النوم،
(4) تزداد دول العالم تبعية ونفاقا، و”تعظيم سلام ، وحقوق إنسان، وكلام .
(5) تسد أمريكا الثغرات التى سمحت بما حدث أن يحدث، بزيادة ميزانية المخابرات، وتطوير عيون التجسس، وتأمين المطارات إلخ .
هل يمنع ذلك كله من أن يتكرر ما حدث بشكل آخر؟
نقرأ بقية السيناريو وكيف كان تفاعل الناس (كل الناس) في مواجهة هذا النجاح الساحق للقوة التى هى :
بقية السيناريو
(6) يزداد الناس(كل الناس) شعورابالظلم فاليأس فالضياع
(7) تفقد الحياة معناها- حتى لو طعموا من فتات موائد الكبار
(8) ُتمتهن كرامات عدد أكبر وأكبر من البشر
(9) يحيط اليأس بالشباب خاصة بدرجة أكبر مما كان قبل الكارثة.
النهاية (المفتوحة) للسيناريو
[: إذا كان لنا أن نتعلّم مما حدث، فإن أهم ما نتعلمه هو :(ا) إن الواقع أغرب من الخيال( ب) إن غريزة البقاء أن تخترق أى احتياطات( جـ) إنه بقدر ما كانت كارثة الثلاثاء الأسود ليست في الحسبان. فلا بد أن الكارثة القادمة تكون أبعد فأبعد عن الحسبان (الدنيا تتقدم، والتكنولوجيا تتقدم، والبقاء للأجسر!!)
لا أحد كان يمكن أن يتصوّر أن ما حدث يمكن أن يحدث . وبالتالى لا أحد يستطيع أن يجزم بما فى جعبة “الناس” (كل الناس) ضد القوة (غَشَم القوة) للخطوة القادمة،
بقية السيناريو
إذا مضى السيناريو مثلما أوضحتُ حالا، فمعنى ذلك أننا سنصل إلى حال أسوأ مما كنا عليه قبل الكارثة، حال سيفرخ شبانا آخرين ، يبلغون من اليأس مبلغا أكبر من السابقين، فيبحثون عن ثغرة جديدة، فى نظام الأمن الجديد وسيجدونها، ثم يبحثون عن وسائل أكثر دمارا، وأشد فتكا لهم ، وللقرابين التي يقدّمونها كإنذارات تنبه إلى خطأ وخطورة المسار، وسوف يجدونها.أقول لكم كيف:
على نفس القياس (المفاجأة، والحسابات الأخرى، واالاستفادة من الشفافية وتقدم العلم) ، يمكن للشباب الذكى اليائس بعد أن تتمادى أمريكا(أى أمريكا) فيما كانت فيه، ويتمادى الناس في يأس أخطر يجرى السيناريو كما يلي
(10) يحصل شباب يائس ذكى أعمى على سر صناعة القنبلة النووية
(11) يحصل هذا الشباب على ممولين عقائديين أو نصّابين (لا يهم الشباب تصنيف من يمولهم)
(12) يصنعون القنبلة الذرية بعد جهد وتطوير (لا تقول لى أىن، هل كنا نعرف أين تدرب السابقون)
(13) يلقون القنبلة على أمريكا (أى أمريكا) فيموت عشرات أو مئات الآلاف ويصيب الإشعاع الباقين
(ملحوظة : يموت أيضا من فعلها فورا، أو بأثر الإشعاع لاحقا )
(14) تنشط أمريكا للبحث عن الجناة ، وعن الذين باعو ا لهم سر تفجير الذرة، وعن المكان الذى حضّروا فيها القنبلة، وعلى العلماء الذين ساعدوهم، (ولا تعلم شيئآ)
(15) تقبض على أغلبهم
(16) تقوم بضربة عسكرية جدا على دولة يأسونيا المُهانيا (دولة صغيرة فى جزيزة معزولة)
(17) تختفى الجزيرة فى جوف المحيط بمن عليها
إعادة النص
يعاد السيناريو من جديد (من 1 إلى 17)، مع الضرب فى نسبة تتناسب مع عدد الضحايا، وبالمقابل يعاود الشباب اليائس نفس النص (سكريبت) ، فيحصل على سر القنبلة الهيدروجينة. القنبلة النيوترونية ،… وهكذا
وكلما أصر أهل القوة على عدم التعلّم، وأصر الناس على عدم الاستسلام ، زاد حجم القنبلة وقوة تدميرها.
و تقوم القيامة.