الأهرام 12/ 12 / 1998
في عيد ميلاده:
معني نجيب محفوظ: العادي الممتنع
بقلم : د.يحيي الرخاوي
أستاذ الطب النفسي
كلية الطب ــ جامعة القاهرة
لو أن أحدا لا يعرف ــ من هذا الشيخ, الجالس بيننا, ودخل علينا ونحن حوله نتكلم في أي شيء وكل شيء, وهو يشاركنا في كل مايصل إليه, وكل مايتصور أننا نتجادل فيه, لما ظن هو هو, ليس ذلك الآن فحسب بعد أن بلغه الكبر( فهو مازال أكثرنا شبابا وأملا ودهشة ونقدا) ولكنه كان هكذا مذ كان تلميذا صغيرا, ولاعب كرة, ورائد قهوة, وغاويا للغناء, وطالبا جامعيا, وموظفا روتينيا جدا جدا.
رجل عادي تماما, مصري جدا, طيب فعلا, لايمكن أن يتصور من يزوره في وزارة الأوقاف إلا أنه موظف خدوم حريص علي أكل عيشه وعلي مصلحة الناس معا, مع ذلك فهذا الانسان العادي جدا( جدا) هو هو الذي تذكر الناس( منذ بضعة أسابيع) مرور عشر سنوات علي ما أكرمنا به حين نال منهم لنا جائزة نوبل, ذكرناها ــ علي الرغم من أنه هو ــ شخصيا ــ لم يذكرها, ولم أسمعه مرة واحدة يتحدث عنها باعتبار أنها لم تك تصلح إلا له وكلام من هذا, مثل الذي بدأ من مصري طيب آخر فرح بجائزته حتي لمز آخرين, أما نجيب محفوظ فقد سمعته وهو يحمد الله أنه لم ينلها وبعض أساتذته من الرواد باق علي قيد الحياة0 طه حسين وتوفيق الحكيم مثلا) وهم ــ علي حد قوله ــ يستأهلونها أكثر منه, وحين ذكرناه بها بمناسبة الاحتفال ــ تحفظ علي ذلك لكنه لم يعترض, ثم تمني في كلمة رقيقة أن يتواصل العطاء حتي ينالها غيره من المصريين والعرب ممن يستحقونها يقينا, وهو في ذلك لايبالغ في المجاملة علي الرغم من أنه مجامل أكرم ماتكون المجاملة, حتي تصل مجاملاته إلي حد يملوني غيظا, بل وأظن أنه يعوق بذلك بعض المبتدئين أو هواة الابداع أو متشنجيهة, وذلك حين يمدح أعمالهم التي لاتمدح أو يقدم لاعمال فاترة بكلام يصلح لأي شيء وحين أختلي به وأثور عليه لما فعل ويفعل يبتسم في رقة صادقة ويدافع عن موقفه وعن الناشيء أو الهاوي أو المتشنج, وينبهني إلي أن له بعض المميزات فأكاد أقفز من مقعدي لأن كل واحد في الدنيا له بعض المميزات وأنه بمجاملاته تلك قد يغري ناسا بما ليس عندهم فيتمادون فيما لايصلح لهم, أو يكررون مايمسخهم, فيؤكد لي أن أبدأ, وأنه حتي لو حدث فطبيعة الأمور ومسار الحركة الأدبية والنقدية ستحد من كل هذه المضاعفات التي أتصورها وأبالغ فيها, وأن من رأيه أن يحاول ويستمر في المحاولة كل من يري في ذلك مايري, وعلي الرغم من كل هذا السماح المجاملاتي فهو ناقد أدق مايكون النقد, يفرز الغث من السمين من أول قراءة حين ظهر له مسلسل حكاية بلا بداية ولانهاية في رمضان ما, وقد حورها المخرج أو كاتب السيناريوونقلها إلي الريف وأدخل فيها إقطاعيا وسخرة وكلاما من هذا, قهقه شيخنا لما أخبرناه بذلك وقال أهكذا, وأنا القاهري الذي لايعرف الريف إلا من نافذة قطار!! ثم تطرق الحديث عمن ذا الذي يعرف الريف حتي كدت أنكر أن قاصا مصريا استطاع أن يغوص في نبض ماهو فلاح مصري سواء كان فلاح العشرينيات والثلاثينيات الذي هو ما احلاها عيشته كما كان يخدعنا عبد الوهاب بأنه متهني قلبه ومرتاح أم فلاح السبعينيات والتسعينيات العائد من الخليج, فيسكت شيخنا حتي أتصور أنني أصبت هدفا ثم ينبهني إلي أيام الانسان السبعة لعبدالحكيم قاسم فأقرؤها وأخجل أنني لم ألتقطها من قبل, ونقدم هذه الرواية الرائعة في ندوة يحضرنا فيها مولانا السيد البدوي شخصيا( هكذا تصورت) من فرط واقعية نبضها الحي,ثم يذكرني شيخنا بخيري شلبي الذي قدم لنا أهلنا أحياء كما خلقوا حتي خلدهم في كتاباته أكثر مما خلد الفراعنة أنفسهم وآلهتهم, وأنتبه أنني كنت أعترض علي فلاح الأرض في الأغلب لعبد الرحمن الشرقاوي فيهز شيخنا رأسه ولايقول إنه فلاح مستورد سابق التجهيز, ربما هو مستورد من بلاد الشمال الشرقي, لايقول هذا لكنه يصلني, فأقوله أنا, فيهز رأسه ويبتسم, أي قدرة بالله عليكم تجعل هذه العين الناقدة جدا, الفرازة فعلا, تتمتع بكل هذا السماح الذي نتج عنه أن تشوهت أعماله في مسلسلات وأفلام كثيرة, حتي وصل سوء استغلال بعضهم لهذا السماح أن أصدروا أعمالا باسمه أو من إبداعاته دون الرجوع إليه أصلا( مثل مسرحية اسموها أصداء علي أصداء السيرة الذاتية) الخ… الخ
ليس هذا موضوعنا, وإنما ما أردت أن أكشف عنه هو مايمثله لنا هذا الشيخ الجميل النبيل الجليل من معادلة صعبة وهو ما اسميته العادي الممتنع, والذي لم أر مثله إلا يحيي حقي, وأنا حين أحب أحدا عن بعد أتعمد عدم الاقتراب منه حتي أظل محتفظا بصورته, سعيدا بما تخيلته به وما تخيلته عنه, وقد تأكد لي أني علي حق, حين اقتربت صدفة من يوسف ادريس أو يحيي الطاهر عبد الله, رحمهما الله, وربما لهذا السبب, ولأسباب شخصية أخري لم أقابل نجيب محفوظ إلا مرة واحدة في الأهرام في أوائل السبعينيات مع أني كتبت في مقدمة كتابي عن بعض أعماله قراءات في نجيب محفوظ, كتبت أني تعرفت علي نفسي من خلاله: القاهرة الجديدة, فالسراب, فخان الخليلي ثم خذ عندك حتي تاريخه!! وتحسست مصر الحارة( الدنيا معه, ممسكا بيده معظم الوقت, لا أتبع ولا أفلت.. لست أدري لم تصورته شيخا مليئا بالفتوة واليقظة وحب الاستطلاع, يمسك عصا بيمينه عصا يتحسس بهاجدران بيوت الحارة وأسوارها المهدمة, والوشيكة البناء ويتجنب بها( العصا) عثرات الارصفة والحجارة,ويمسكني بيده الاخري طفلا ناظرا يدعي البصر, ثم لا الطفل يكف عن القفز والتلفت والتساؤل ولا الشيخ محفوظ يكف عن الشرح والاعادة, كتبت هذا الكلام في1990/3/16 ونشرته في مقدمة لنقد حاولت من خلاله أن أعرف عن النفس البشرية أكثر ما تعلمته في تخصصي, واذا بهذه الرؤية تتحقق الآن حرفيا وأنا أسير بجواره أمسكه, وهو الذي يقودني, لا أتبع ولا أفلت فعلا, ويبدو أن عزوفي عن الاقتراب منه سالفا هو الذي سمح لي أن أغامر ناقدا فاكتشف حيويته بدون أن تحول دماثته دون ماتبين لي من عنفوان عدوانه المغير صانع الحياة لامدمر الكون, كان ذلك مثلا في قراءتي لليالي الف ليلة وليلة, حتي عنونت قراءتي لها بعنوان مستلهم من فقرةفيها فجاء العنوان القتل بين مقامي العبادة والدم جاء ليعلن اكتشافي لهذا الشلال المتدفق الزاخر الذي يضرب يقلب بين جنبات شيخنا هذا بادي السماح, نعم زخم الحياة المقاتل من أجل الحياة, والمختفي وراء هذا النبل الجميل, والهدوء الرائق, وكم كنت أعجب حين يهاجمونه باعتباره من دعاةالسلام المتخاذل, أو من مؤيدي الحلول الوسط, مع أن الرجل مقاتل لم أر له مثيلا, هو مقاتل فعلا علي شرط أن يقاتل هذا كل مافي الأمر, عرفت هذا من كتاباته قبل أن أعرفها من موقفه وجها لوجه, وحتي ما أخذ عليه وبولغ فيه بالنسبة لحرب الاستنزاف, وهو ما التمست له عذرا, وكتبت ذلك في هذه الصفحة, باعتبار أنه لم يلم بكل أبعاد هذه الحرب فلم يقدر دورها, لكنني اكتشفت هنا تفسيرا آخر, فهو لايعرف من القتال إلا القتال, وليس الاستنزاف, هذا كل مافي الأمر, ومن هنا جاء تحفظه, وهو مازال حتي هذه اللحظة يكرر أنه: ياجماعة: إما أن نحاربهم وليكن مايكون, وإما أن نتحمل مسئولية أننا لا نحاربهم وليكن مايكون كلمات واضحة محددة تلخص موقفه الشجاع الرائع الصريح المتحدي. هذا هو بعض نجيب محفوظ في عيد ميلاده السابع والثمانين أطال الله عمره, معقول87 سنة وهو أكثرنا شبابا, وأحدنا ذاكرة,وأدقنا نقدا, وأظرفنا حضورا, وأجرؤنا رأينا, وأصلبنا عنادا, ثم إنه لاينظر إلي هذا اليوم ــ عيد ميلاده ــ بتميز خاص حتي إنه ينساه مالم يذكره أحد به وفي نفس الوقت هو يقبل فيه مجاملة المريدين والمحبين والمحيطين بدماثة بالغة, وقد كتبت في غير هذا المكان عن مشاركتي إياه الاستهانة بما هو طقوس هذا اليوم( عيد الميلاد) مفضلا علي ذلك الاحتفال بإعادة ميلادنا المرة تلو المرة بما نفعل وما نكون, وهذا مايمارسه شيخنا حتي بعد أن توقف عن الابداع المرصود رمزا في الورق, ليستمر مبدعا إيانا بما أسميته إبداع: حي= حي حيث نتشكل من حوله كل يوم بفضل حضوره المتجدد المجدد لنا ابدا.
وأخيرا, فإني أتصور أن الاحتفال بهذا الشيخ الجليل الجميل هو بأن نستوعب معناه, لا أن نقدس شخصه, وأعتقد أنه أصبح معني باقيا أكثر منه شخصا متميزا, أما ماذا يعني نجيب محفوظ فهذا يحتاج إلي حديث آخر أكثر تفصيلا, فأكتفي بأن أضمن هذه الكلمة بعض ما خطر لي في عيد ميلاده هذا, هكذا نجيب محفوظ: يعني أن مصر قادرة أن تنجب مثله.
نجيب محفوظ: يعني أن الانسان العادي هو كنز كامن, علينا أن نكتشفع ليصبح غير عادي جدا, مبدعا فعلا
نجيب محفوظ يعني ان الله موجود فينا وقبلنا وبعدنا, وحولنا, ومعنا, في كل مانتوجه به الي وجهة وحده.
نجيب محفوظ: يعني أن الحلال بين والحرام بين
نجيب محفوظ: يعني ان الشجاعة هي الشجاعة, وليست الكلام عنها.
نجيب محفوظ: يعني ان الدنيا بخير ما أردنا ذلك, وتحملنا مسئولية تحقيقه
نجيب محفوظ: يعني أن علينا أن نكون أهلا لكل مايعنيه شيخنا هذا, هكذا
وكل عام وهو بيننا استلهم منه معاني جديدة, ورؤي جديدة, ونبضا جديدا