الأهرام: 11/12/2001
فى عيد ميلاده التسعين
يا شيخنا: لا تبخل علينا بالمزيد…!
من فرط يقينى بعلاقته بربنا، أشعر أنه لو أقسم على الله لأبره، يشطح بى خيالى فأحمد الله أنه سبحانه قد أبره وهو يتفضل علينا بكل يوم يبقى بيننا فيه، أحس أن الله تعالى يمد فى عمره يوما بيوم بناء عن موافـقـته، وأنه -نجيب محفوظ- ما وافق على ذلك ليستزيد من أيامه، وإنما هو فعل ويفعل ذلك لأنه يستشعر مدى حاجتنا إليه، يقول لى خيالى إن هذا الرجل يقسم على الله أن يبقى بيننا يوما آخر من أجل خاطرنا نحن (كل الناس)، والله جل وعلا يبرنا به يوما بيوم، إكراما لقسمه. مع أنه كل يوم من هذه الأيام يتكبد مشقة أن يتحملنا وأن يصبر علينا، كما يصبر على وهن جسده، و على تواضع حدة حواسه.
أسهل على أن أحمد الله على فضل الاستجابة، من أن أشكر نجيب محفوظ على كرم الدعاء. أسارع فأضم صوتى إلى الضارعين أن يمن الله علينا بيوم آخر، فيوم آخر، فيوم آخر، وهو بيننا يمارس هذا النوع الخاص جدا من العطاء صامتا ومنصتا، متحدثا ومعقبا، ضاحكا وصابرا.
فضل هذا الرجل على شخصى، مواطنا مصريا تشكل وعيه فى رحاب عطائه، هو فضل أكبر من قدرتى على رد جميله، أنا لا أملك ما يعيننى على بعض ذلك. أحيانا حين أكتب شيئا يلوح لى أنه قد ينفع ناسنا، هنا أو فى كل الدنيا، أهبه له، بمعنى أنني- بينى وبين نفسي- أرجو أن يتقبله منى اعترافا بفضله، بل إننى كثيرا ما أستحضره ليجالسنى وأنا وحدى أكتب منفردا بنفسى وهو يبتسم على رأسى، فأخاف من تعليقاته، وأحسب حساب رأيه، وأتردد فى مخالفته، لكننى أواصل الكتابة مطمئنا إلى رحابة صدره، ومساحة سماحه. تحتد أزمتى حين أقترب من المقدسين الخالدين لديه، ‘الديمقراطية:، و”العلم”. لكننى حين أكون معه لحما ودما، وجها لوجه، لسانا لأذن، أسمح لنفسى أن أعاود مناقشته حول زيف الديقراطية الغربية، خصوصا ديمقراطية الإنابة، واغتراب المناهج العلمية التقليدية الوصية المتجمدة، وألاعيب أرقام الإحصاء، ولا أخلاقيات تمويل الأبحاث لصالح خدمة السلطة والتجار، فيستمع ولا يريد أن يصدق، فإذا عدت أختلى بنفسى من جديد حضرنى خياله يحذرنى من الاقتراب من معشوقيه المقدسين، أشعر أنه يمسك بأذنى، يقرصها بحنان حازم، وهو يكرر السؤال الذى لا أملك له إجابة : هل عندك بديل ؟ أخجل وأصمت، ولا أكرر ردى الخائب: حتى لو لم يكن عندى بديل فهما ليسا إلا صنمين ما لم ينصلح حالهما وتنبض فيهما روح أخرى. أكف عن الكتابة، فيربت على ظهرى مبتسما مشجعا، فأواصل معتذرا، جسورا وأنتظر حتى ألقاه ليقرص أذنى. أطال الله عمره.
أسمع له وأنا وحدى فأطيعه، وحين ألقاه، يسمح لى سماحه أن أخالفه، فأفعــل.
لا أحسب أن نجيب محفوظ يحتاج إلى مزيد من المديح والشكر والثناء والتقدير، لقد نال وينال كل ما يحلم أى بشر أن يحصل عليه من كلمات تقريظ، ومواقف تقدير، وجوائز تكريم واعتراف. أذكر أن أحد مريديه، لعله المرحوم شريف الشوباشى، أو أ. د. صبرى حافظ، (لست متأكدا)، قال له: إن أحد الباحثين أو الناشرين بصدد عمل موسوعة أشبه بالمعجم الذى يحدد فيه ألفاظه ذات الدلالة، وأين وردت فى كتاباته هنا وهناك، أو لعل المشروع كان سيمتد إلى ماكتب عنه أيضا، لست متأكدا. فـرحت بهذا المشروع فرحا شديد فقد كنت بصدد مثل ذلك فى بعض أعماله عن طريق الحاسوب، لكن محفوظ خجل من هذا الخبرخجلا شديدا وهو يتساءل لماذا هذا التعب، وهلى الأمر يستأهل؟ امتد الحديث فحكى لنا ضاحكا كيف أنه كان يجمع القصاصات التى تـكتب عنه فى بادئ الأمر، لكنها حين زادت حتى ازدحم مكتبه بها، توقف عن جمع المزيد، بل إنه راح يمزقها، وصف ذلك وهو يضحك ويصف نفسه وهو يتخلص منها أن : ‘شرمط، شرمط، شرمط”، ثم حكى لنا كم مزق من مسودات ومشاريع أيضا، فانزعجنا من شجاعته، فنحن على يقين من أن أى حرف خطـه هو أولـى بالحفظ مهما كان. بلغه انزعاجنا فطمأننا وهو يقهقه، ثم أردف وهو يهز رأسه :’أنا فعلا أكبر مشرمطاتي”.
الاحتفال بعيد ميلاد نجيب محفوظ التسعين ينبغى أن يختلف عن مجرد المديح، والذكريات، لقد نال من ذلك ما لم يعد يحتاج إليه. إذا كنا حقا نحب هذا الرجل، فعلينا أن نطمئنـه إلى أننا نحمل رسالته. ماهى رسالته ؟ من هو هذا الهرم الحى بيننا هكذا؟ هل نحن تعرفنا عليه بالقدر الكافي؟ وهل يمكن لأحد أن يتعرف على أحد بالمعنى الشائع الذى نضحك به على أنفسنا، ونحن نحكى عن بعضنا البعض، ونحن نحكى مع بعضنا البعض؟ بل حتى ونحن نحكى عن أنفسنا (فيما يسمى أحيانا : السيرة الذاتية؟.)
أى مبدع، يتجلى لناسه فى عصره بأكثر من حضور، ونجيب محفوظ بالذات حضر فى الشارع والمقهى والوظيفة ووعى الناس بالطول وبالعرض، بأبسط وأعمق ما يكون الحضور والتجلى معا. عاشرته مؤخرا جدا فى المواقع المختلفة التى أتيحت لى فى هذه الظروف الخاصة المحدودة بالسن، وبالإعاقة، وبضيق الوقت، ويعجزى عن استيعاب بعض بعضه. كنت قد عشت معه قبل ذلك من خلال كلماته التى ساهمت فى تشكيل وعيى مثل كل جيلى، وربما كل الأجيال.
حين عرفتـه أقرب فى هذه السنوات الأخيرة لما أكرمنى الله بصحبته، عرفت أنه هو هو لا أكثر ولا أقل. لم أفاجـأ بشىء جديد عن الصورة التى رسمها له خيالى منذ كنت أسعل مع أحمد عاكف فى شوارع ‘خان الخليلى” فى الأربعينات، حتى صاحبت ‘الشيخ عبد ربه التائه” إلى مجالس الأنس والتهجد فى أصداء السيرة الذاتية، مرورا بجلوسى على الطبلية بحوار ‘فهمى السيد أحمد عبد الجواد”، وتجسسى على ‘كمال” أخيه حيث كان يعس ليلا أو يسرح نهارا، وغيرتى من غزوات يس عبد الجواد وقدرته على التمتع بلا مراجعة. ثم إننى حين عايشت مؤخرا خالق هذا العالم الذى نمى وعيى فى رحابه، حين عاشرته لحما ودما طوال السنوات السبع الأخيرة وجدته هو هو كما رسمه خيالى، لكن من هو حقيقة وفعلا ؟
إننا نحن البشر لا نعرف عن بعضنا البعض إلا المـتاح فيما بيننا، المتاح بسماحنا، وغصبا عنا، ومن وراء ظهورنا، وجميع هذا لا يمثلنا. نحن نوجد ونمضى لا يطلع علينا إلا خالقنا، نحن أنفسنا لا نطلع على ما هو نحن !!.
نجيب محفوظ هو أقرب من عرفت إلى نفسه، و إلى الناس، لم يبخل على أحد بنفسه، لم يعتذر أبدا عن إجابة سؤال سائل أيا كان. هو لا يهرب من نقاش، ولا يمتنع عن التعليق، لكنه فى نفس الوقت ليس كتابا مفتوحا كما يحسب أغلب محدثيه، ولا هو لغز بعيد المنال كما نتوقع أن يكون. هو نجيب محفوظ السهل الممتنع فى حياته، وفى إبداعه، وفى عبادته، وفى تجربته.
إذا كنا نريد أن نحمد الله على بقائه بيننا يوما بعد يوم، فإن خير سبيل إلى ذلك هو أن نحاول أن نتعرف على ما يمثله، (ليس بالضرورة عليه) وأن نجتهد فى أن نتبين كيف يمكن أن نستعيد شروط إنتاجه، أعنى إنتاج ما يوازيه أو يواصل مسـيرته فى زمن جديد، له ظروفه الجديدة. فى تصورى الآمل: أن نجيب محفوظ يمثل الإنسان المصرى الذى عاش إنسانيته بالطول والعرض، على كل المستويات. لو أننا افترضنا، بفرحة آملة، وتجاوز شاطح، أن هذا الرجل هو يمثلنا، إذن لانقلب حالنا أملا وعملا، حتى نحقق هذا الفرض، ونكون أهلا لمثل ذلك. هذا هو الرد الوحيد لفضله، وهو الشيء الوحيد الذى يمكن أن يطمئنه أن وجوده لم يقتصر على ما ترك لنا من أوراق مضيئة، وإنما امتد ليحفزنا لحمل أمانة ومسئولية صناعة أمثاله.
فى كلمتى فى جلسة تكريمه بمناسبة الافتتاح التجريبى لمكتبة الإسكندرية (4 أكتوبر) أنهيتها بقولي:
‘ هذا هو محفوظ المواطن المصرى، المسلم، المؤمن، المبدع، البسيط، السهل، الممتنع، الرائع، الطيب، القوى،القادر، الواضح، الذى يمشى بيننا بما هو، باحثا عن الحقيقة، بلا بداية ولا نهاية. وهذا هو ما دعانى أن أستغل حضوره هكذا فى وعيى فأطمئن نفسى – على الرغم من كل شيء – أننا ننتمى إلى ما انـتـمـى إليه هذا الرجل. حين تضيق بى السبل وأغوص فى رمال ضياعنا المتحركة، ثم أجالسه قليلا أو كثيرا أفيق على هاتف آمل، (ربما لا يعدو أن يكون شطحا حالما) يهمس لى قائلا : ‘….دعونا وسط كل هذا الركام من شظايانا الخامدة، وأمام كل هذه الأبواب التى تصفق فى وجه من يحاول منا، دعونا نفترض فرضا يقول : إن نجيب محفوظ ليس ماضيا يحكى، وهو ليس جائزة نتباهى بها، أو نتوقف عندها، وهو ليس صـدفة عابرة، وهو ليس لحنا منفردا. إننا نحن الذين أفرزناه، وهو يمثلنا، فنحن قادرون على إفراز مثله.’
هل صحيح أن هذه الأرض قادرة على إفراز نجيب آخر، وثالث ومائة، سألته هذا السؤال وأنا أعلم مدى مجاملته التى تربكنى حين أحاول أن أميز درجة قبوله الفعلى لقلم ما، أو لشخص ما، لكن صمته المبتسم ردا على سؤالى هذا عن قدرة مصر على استنساخه كان بالنسبة لى شديد الوضوح، شديد التواضع، شديد التحدى فى آن.
أمل نجيب محفوظ فى المستقبل، فينا، فى وطنه، فى الإنسان، ليس كمثله شيء.
هو لا يحب السلام خوفا من الحرب أو طلبا للسلامة، هو يتصور أن السلام هو الذى يتيح الفرص الحقيقية لبناء الحضارة الجديدة للبشر حيثما كانوا، يتصور أن السلام هو الذى يمنح الإنسان الوقت والمجال لانطلاق إبداعه، وتعميق وعيه، وحين أذكره بأن كثيرا من الشعوب صهرتها الحروب، حتى نضجت علاقتها بالحياة، فخرجت من كل حرب بقفزة حضارية عملاقة، يهز رأسه ولا يوافق، لكنه لا يصرح بذلك مباشرة، أراه يقتنع بجانب من رأيى لكنه يكاد يرفض أى خير يخرج من بين أشلاء شهيد. هو لا يأكل ثمرا روته دماء متصارعين مهما حسنت النوايا، أستمع، وأختلف وأحترم، ثم أصمت مستعيدا متعلما ما استطعت.
إن وجود محفوظ بيننا هكذا هو تاريخ فى ذاته، لقد جمع بطول تسعين عاما كل ما هو مصرى قاهرى جميل، ثم إنه كان، ومازال مهموما بتاريخ بلده، لا ليجتره متباهيا، أو يدعو إلى مثله مقلدا، ولكن ليستلهم منه ما يمكن أن نكونه الآن نصنع به غدنا ونحن مسئولون عنه، ثم تجلى التاريخ فى إبداعه بشكل مباشر وهو يحكى ويعيد صياغة بعض تاريخنا الفرعونى، ثم تجلى تاريخنا الحالى فى شخصه وهو يعيش بيننا بالطول والعرض، يحكى بعض نفسه من خلال إبداعه، والشاطر منا من يغترف من واقع حضوره.
حضور محفوظ ‘الشخص الواقعي” لم يتناقض أبدا مع حضوره المبدع، وهذه ظاهرة ليست متواترة بين المبدعين غالبا، محفوظ الماثل بيننا كيانا إنسانيا حيا يمشى بين الناس فى الأسواق، ويجالسهم فى المقاهى، هو هو محفوظ الذى يملؤنا حكيه بما هو نحن. نتعرف على أنفسنا من خلاله.
إيمان محفوظ ليس كمثله شىء
ذات خميس، كنت أجلس بجواره وحدنا فى ‘فلفلة” المنيل خارج حجرة المناسبات التى لم نتمكن من أخذ مقاعدنا فيها تلك الليلة لأنها كانت محجوزة لعرس متواضع، وحين حضر العروسان بدأت الزفة بأسماء الله الحسنى، ذلك التقليد الذى ظهر مؤخرا تبركا وابتهالا عند بعض الأسر المصرية. وصلته بالكاد بأصوات المنشدين. سألنى “ما هذه الغلبة؟”،، قلت له مازحا إنها زفة شرعية، قال: ماذا تعنى ؟ حكيت له عن التقليد الجديد بلهجة أحس فيها بعض ما يشبه الاعتراض، وكأنى أقول له أن هذه ليست مناسبة هذا الترديد المنتظم، لم يوافقنى، ثم راح يحكى و يتذكر الشيخ النقشبندى، وكيف أنه كان إذا سمعه ينشد أسماء الله الحسنى انخلع قلبه وراء كل اسم وهو فى وجد عظيم. ثم فهمت ما يشيرإلى موافقته على هذا التقليد الجديد فى الاحتفال بالزواج، وهو يتعجب من اعتراضى. لكن بسماحه المعتاد.
يا شيخى الجليل، ابق بيننا يوما آخر، وعاما آخر، وأعواما كثيرة.
ولا تبخل علينا بدعواتك أن تفرز أرضنا محفوظا آخر فآخر، فمحافيظ كثيرين، يحملون الراية بعدك، لنكمل ‘الطريق” ‘إليه”.