نشرت فى مجلة العربى الكويتى
عدد أبريل – 1998
فى صحبة نجيب محفوظ: حين يصبح الوجود إبداعاً حياً
تهنئة حارة إلى أديبنا الكبير نجيب محفوظ
بمناسبة عيد ميلاده السادس والثمانين
فى أصداء السيرة الذاتية يقول نجيب محفوظ: (تذكرت كلمات بسيطة، لا وزن لها فى ذاتها، مثل (أنت)، (فيم تفكر)، (طيب)، (يالك من ماكر).. ولكن لسحرها الغريب الغامض جن أناس، وثمل آخرون بسعادة لا توصف).
كانت تلك بداية الانتباه إلى فضل الله علينا بمعاشرته بعد ما كان، فكانت مفتاح تهنئتى له بعيد ميلاده السادس والثمانين، فقد شاء سعد حظى أن أرافقه ثلاث سنوات وشهرا، عدة مرات كل أسبوع، لأتعلم منه كل هذا: هكذا، وأنا لا أظن – ولا أذكر – أننى جلست مثل هذا الساعات مع أبى شخصيا – طوال خمس وثلاثين سنة – لا تسعة وثلاثون أسبوعا – هكذا وجهاً لوجه، قلبا لوجدان، لسانا لأذن، وبالعكس.
عرفته بكل هذا القرب بعد الحادث القدر، وكان قد توقف عن القراءة قبل ذلك، ثم توقف عن الكتابة بعد الحادث، ففزعت أشد الفزع وآلمه، ورحت أتساءل كيف يمكن لهذا العقل البشري، لهذا الوعى الخلاق، لهذا الإنسان الحاد التلقى الغامر الإبداع، كيف يمكنه أن يستمر ? وقد ظل أكثر من سبعة عقود يتلقى ليرسل، يتمثل ليقول، يستوعب ليبدع، كيف يمكنه أن يستمر دون قلم وورقة ? دون نشر وهجه المتجدد يضيئ وعينا المتلهف، دون تلوين وتشكيل وإعادة تشكيل ? دون استلهام إلهي، أو وجد نبوى ? وحين لم تسعفنى الإجابة جزعت، وصبرت، وأملت، وثابرت، فإذا بعشرتى له وتلمذتى على هدى خطاه الوديعة على أرض الواقع اليومى تخفف عنى ما أصابنى من ألم، وما تصورت من عجز، إذ راح شيخنا الجليل يجيب عما حيرنى بما هدانا الله إليه، فجاءت إجابته – من واقع حركتنا اليومية – تحقق لى فرضا طالما شغلني، وهو: إن الحياة الحقيقية هى الإبداع الحقيقي: قبل ودون أى ناتج إبداعى آخر خارج عن ذات صاحبه. (خارج (عن)، وليس (من)ذات صاحبه).
قيل وكيف كان ذلك ?
التعايش مع القدر:
رحت أتأمل اختراقه لكل ما أصابنا إذ أصابه، رحت أتابعه وهو يروض القدر بفعل هادئ طيب صبور، ساعة بعد ساعة، يوما بعد يوم، جلسة بعد صحبة، حديثا بعد نكتة، فعاينته وعايشته وهو يبنى معمارا جديدا هو ما أسميته فى رثائى لأستاذنا محمود شاكر: الإبداع حى – حى (استعارة من التعبير صواريخ جو – جو)، أعنى الإبداع الذى يصل مباشرة من وعى يتخلق إلى وعى يتشكل، دون حاجة لأن يصاغ فى رموز خارج ذات صاحبها، وأنا لا أعنى بذلك – فقط – ما يشبه العلاقة الصوفية التى تتم بين الشيخ ومريديه، ولكنى أتذكر أيضا علاقة الطفل بأمه (وكلاهما يعاد تشكيله إذا صحت العلاقة الجدلية) كما أتذكر علاقة الولى بحوارييه قبل الوحى وبعده، وبمعايشة هذا الحل الرائع الذى وفقنا الله إليه بفضل حيوية وشجاعة شيخنا الجليل تأكد لدى ضرورة التنبيه لخطأ شائع: حين يقتصر استعمال كلمة (إبداع) على ما ينتجه البشر لا على ما (يكونونه)، ما ينتجه من يسمون: (المبدعون) فى المجال الثقافى أو الأدبى أو الفنى أو العلمي.
وقد شغلنى هذا الأمر من قديم حتى وضعت سلسلة من الفروض والنظريات تحاول التنبيه إلى ابداع الشخص العادى خلال اليوم العادي، فرحت أقدم الحلم باعتباره (إبداع كل الناس كل ليلة وكل غفوة)، كما ربطت بين الإيقاع الحيوى (العادي) ونبض الإبداع، كذلك دأبت على التأكيد على دور إبداع القارئ العادى باعتباره ناقدا مبدعا يعيد صياغة النص أبداً، كما كررت إصرارى على أن الفلسفة هى فعل حياتى يمكن أن يمارسه شخص أمي، من حيث إنها – الفلسفة – موقف نقدي، وتساؤل طازج، ورؤية شاملة، وكلما زعمت ذلك انقضت على الاعتراضات والاحتجاجات من أهل الصناعة وصفوة المتخصصين، وبديهى أننى كنت أتراجع أمام هذا الرفض الجماعى المتكرر، فلما عايشت هذه الخبرة الفريدة مع شيخنا الجليل، سمحت لنفسى أن أتراجع عن التراجع.
أكرمنى الله بصحبة هذا الإنسان المصرى الطيب الرائع كل هذا الوقت، صاحبته وقد كف عن القراءة والكتابة، ووهن سمعه وخفت بصره، لكنه لم ينهزم ثانية واحدة، فمنذ البداية حين وقفت متألماً منزعجا أتساءل بكل ألم: إذن ماذا ? أفاء الله علينا برحمته فألهم شيخنا هذا أن يمسك بيدى يقودنى إلى معايشة هذا النوع من الإبداع اليومى الذى لا يحتاج من الأدوات إلا صدق الوعى وعمق اللحظة، وبعد أن شكلنا معاً حركة جدول الأسبوع، وبعد أن سمح لى حظى أن ألقاه عدة مرات كل أسبوع ما بين جلسات مفتوحة (وحرفشة) خاصة، تركت نفسى أستوعب ما يمارسه شيخنا فينا إذ نتشكل – هكذا – فى حضوره الحى المبدع، فإذا بنا نتعرف على مقاييس أخرى للإبداع، مثل أن يخرج الواحد منا – من جلسته – غير ما دخل، أو أن يكتشف الواحد منا – وهو يتحدث إليه – غير ما قصد، أو أن يتذوق الواحد منا طعم الهواء الداخل إلى صدره غير ما ألف، كل ذلك من واقع هذه المعايشة البسيطة الصادقة العميقة، إذ راح شيخنا يقرؤنا ويكتبنا ثم يعيد كتابتنا، وهو لا يكتفى بهذا، بل يسمح لنا بأن نعيد قراءته واستقبالنا له، أى خبرة وأى تجربة!!.
تجربة الابداع:
وهكذا تصورت أنه قد تحقق (فرض إبداع الحياة فى ذاتها لذاتها – ولو بدرجة ما – من خلال هذه التجربة الفريدة، إذ تأكد لى بجلاء كاف أن الإبداع ليس مقصورا على ما يكتب أو ينشر، ولا هو مقصور على تشكيل اللون أو تنغيم اللحن، وإنما الإبداع أساسا هو نوع الحياة التى يحياها الشخص، فحين يكون التلقى طازجا، والدهشة حاضرة، والتعلم مستمرا، والأسئلة لها نفس احترام ويقين الإجابات، تصبح الحياة – مجرد مرور اليوم عليك وأنت حى – إبداعا فى ذاتها، مجرد أن تعى كيف تشرق عليك الشمس، أن تسمع همس أنفاسك، أن تتمتع بتأمل عروق ظهر يدك، أن تعنى لمن تقول له (صباح الخير) أن (صباح الخير)، أن تسمح لحلمك أن يبقى فى وعيك بعض الوقت كما هو دون إضافة أو تأويل أو تفسير، كل هذا إبداع فى إبداع، وقد عايشته مع شيخنا هذا، فى زمننا هذا طوال ما يقرب من أربعين أسبوعا، فأثرى ذلك كل من شاركنا هذه التجربة الرائعة، فوجدت أن خير تهنئة له فى عيد ميلاده هو أن أنشر خلاصة ما وصلنى منها – هكذا – على الناس.
أولا: يصبح الوجود اليومى إبداعا حيا: إذا خرج الواحد من مجلس هذا المبدع مختلفا، وأظن أن هذا ما يحدث فى كل جلسات شيخنا الجليل، يحدث بدرجات مختلفة لمعظم من يحضرها فلا يخرج منها إلا وقد تغير فيه شيء ما، شيء طيب وعميق: أحيانا بدرجة ما من التحديد، وأحيانا يصل إلى وعيى رغما عنى منه أو أفرح به، وأحيانا أرجح أنه حدث ولا أدرك تفاصيله، فانتظر تراكماته مع غيره حتى أستبين.
ثانيا: يصبح الوجود اليومى إبداعا حيا: حين لا تمل من صحبة صاحبه رغم جدية أغلب ما يدور فى جلسته، وأراهن لو أن أحدا جلس مع نجيب محفوظ ونظر فى الساعة مرة واحدة يستعجل الوقت (بشرط ألا يطغى على جلسته جسم غريب لحوح لا يعرف طبيعتها).
ثالثا: يصبح الوجود اليومى إبداعا حيا: حين يستطيع المختلفون من الحاضرين حول هذا المبدع الحى أن يتحاوروا بشكل آخر، فيتحمل كل منهم الآخر بدرجة أكبر مما لو تواجهوا بعيدا عنه. ومجلس نجيب محفوظ يشهد له بذلك.
رابعا: يصبح الوجود اليومى إبداعا حيا: حين تصبح التفاصيل الإنسانية البسيطة لها نفس أهمية ودلالات القضايا العامة، ففى عز انهماكنا – مثلا – فى تعريف المثقف، أو مناقشة السوق الشرق أوسطية، يسأل نجيب محفوظ عن نتيجة فحص قلب جمال الغيطانى وعن مرض ابنة يوسف القعيد، وعن أخبار ابنى فى نيوزيلاندا، وعن صورة أشعة صدر توفيق صالح، وعن حالة معدة أحمد مظهر، وعن توقيت معاش جميل شفيق، وعن صحة عادل كامل فى أمريكا، كل ذلك فى جدة رقيقة عميقة، لا تشعر معها أنها مجاملة عابرة، أو واجب راتب، فنغوص دون أن ندرى فى عمق وجداننا معا، فنتخلق أرق وأقرب.
خامسا: يصبح الوجود اليومى إبداعا حيا: حين لا يسمى كذلك، حين يفقد المبدع صفته الشائعة فلا يبقى إلا حضوره الإنسانى العادي، فأنت فى جلسة نجيب محفوظ، لا تملك إلا أن تنسى أنك تجلس مع نجيب محفوظ الذائع الصيت الحاصل على نوبل، الكذا وكيت، بل إنه هو شخصيا أكثر واحد لا يلاحظ أنه (نجيب محفوظ) بل مجرد واحد منا: يقوم لكل قادم، ويرد على كل سائل، مهما صغر أو كان ضيفا يحضر لأول مرة. وبالتال يطغى هذا الحضور الإنسانى الرقيق للمبدع الحيوى على بريق إبداعه المعلن الناتج منه بعيدا عنه، وكأن هذا الإبداع العادى هو الأرضية الأصل التى يمارس مثل هذا المبدع من خلالها حضوره الإيجابى فى الحياة، فيصبح أحد مظاهر إبداعه – لا كلها – هو الناتج الإبداعى الذى يظهر فى الأسواق عن طريق دور النشر، لكن أدوات هذا الإبداع الأصل المحيط تختلف عن تلك الأدوات الذائعة الصيت، فمحفوظ يقرؤنا ويكتبنا بكل اللغات، وكل من عاشره أكثر من مرة لابد أن يلاحظ لغات تحاوره المتعددة من أول الكلام السهل الممتنع فعلا، حتى الصمت المفعم، مارا بالإيماءة والتفويت، منحرفا إلى القفشة والنكتة، عائدا إلى المباشرة الشجاعة فى الاختلاف وإعلان الرأى ورفض أية رشوة لمسايرة الأعلى صوتا أو الأكثر تشنجا، مع أنه لو ساير ووافق وشجب لرفعوه على الأعناق بطلا قوميا لا مأخذ عليه والعياذ بالله.
الشيخ الطفل:
ثم إنك لابد أن تدهش لهذا الإنسان المصرى الشيخ الطفل الطيب وهو يسألك عن تفاصيل اهتماماتك، ويشاركك فى صلب همك، ويفرح – ربما أكثر منك – لفرحتك، رأيت ذلك وهو يتابع مشروع شركة سينمائية كلف بالإسهام فى إنشائها توفيق صالح، وما كدنا نفرح – نحن الحرافيش – باحتمال عودة توفيق إلى الإخراج من خلال الفرصة المتاحة حتى أجهضت المحاولة، ونجيب محفوظ يتابع الأمر وكأنه هو الذى سوف يعاود الإخراج، ويأسف لإجهاض المحاولة وكأنه هو الذى ضاعت منه الفرصة، ثم إنى عاينت فرحته الغامرة وهو يتابع عودة ظهور مجلة (الإنسان والتطور) التى أتشرف بحمل بعض مسئوليتها، ثم وهو يبعث لى شخصيا ببرقية تهنئة عبر الإذاعة: أننى قد وجدت ناشرا ينشر كل أعمالي، وهو يبتهج لتعليق محمد سلماوى على رواية نعيم صبرى الأولى، وكأنه هو الذى يرى عمله الأول ينوه به فى الأهرام.
هذا هو نجيب محفوظ الإنسان العادى، غير العادى.
فماذا يمكن أن يصل إلينا من إيجابيات هذه الخبرة ?
وهل استطعت أن أغرى من يعتقد أنه حُرم ملكة الإبداع أن ينظر فى نفسه فإذا هو مبدع فريد ليس كمثله أحد ?
وهل هذا هو بعض ما ينقصنا فى عالمنا العربى اليوم: أن نتجاوز هذه الفجوة المزعومة بين صفوة مبدعة، وجمهرة تابعة ?
يا شيخنا الكريم:
كنت قد كتبت هذا المقال بمناسبة عيد ميلادك السادس والثمانين، أطال الله عمرك، لكنك رفضت كل مظاهر الاحتفال بهذا اليوم، مشاركة لأحزاننا أمام أحداث الأقصر الأليمة، فعدلت عن نشره، ثم لما عدت إليه، وجدت أن به هدية منك إلى الناس، كل الناس ليكونوا كما خلقهم الله: مبدعين إذ يعيشون صحيحا، وما أروع ذاك.
وهذه الحيل النفسية قديمة الإنسان ذاته، وهى متأصلة فى عاداته وسلوكه من قديم الأزل، وقد أدرك الأقدمون هذه الحقيقة وصاغوها فى تعقيبات متداولة مما تمثل فى الأمثال العامية والأغانى الشعبية العريقة فى مجتمعنا، وهذه ظاهرة تدل على عمق جذور الاستبصار عند الإنسان على مر العصور ومع اختلاف مراحل التطور، كما تدل كذلك على قدرته الفائقة على التعمق فيما وراء السلوك الظاهرى من دوافع خفية ملتوية.
وتبدا كل الحيل النفسية بعملية أساسية، وهى “الكبت”، فالكبت حيلة دفاعية أساسية تحدث وحدها أو تسبق.