“نشرة” الإنسان والتطور
24-12-2009
السنة الثالثة
العدد: 846
عودة واعتذار
فى شرف صحبة نجيب محفوظ
عودٌ على بدء، وإعادة ضرورية
مقدمة:
منذ أوائل صدور هذه النشرة، خصصت لنجيب محفوظ يوم الخميس، يوم حرافيشه الأصليين، وقد بدأتُ يوم 21 سبتمبر فى نشر قراءتى النقدية لأول أحلام النقاهة، ثم عدلت فورا لصعوبات فى الوقت والمنهج، وشرعت فى نشر ما أسميته “فى شرف صحبة نجيب محفوظ”، وهو عبارة عن ملاحظات وذكريات كنت أسجلها بعد لقائه اليومى (تقريبا) فى الثمان أشهر الأولى من تعرفى عليه بعد الحادث، وتواصل نشر شذرات من ذلك لثلاثة أخمسة متتالية (نشرة 27-9-2007 “فى شرف صحبة نجيب محفوظ 1”)، (نشرة 4-10-2009 [11 / 12/ 1994 – الجمعة: 17 / 8 /1995] شيخنا يعود إلى بيته، وتعود إليه – إلينا- ضحكته)، (نشرة 11-10-2009 “تحت سفح الهرم”).
ثم حل نقد أحلام النقاهة بعد هذه الأخمسة الثلاثة محل هذه النشرة، واستغرق نشرها المسلسل أكثر من سنتين كاملتين، حتى انتهيت بنشرة 5-10-2009 إلى آخر حلم وصلنى (الحلم رقم 209، مع أنه قد بلغنى لاحقا ما لم أتأكد منه، أن ثمة بضعة أحلام نشرت بعد ذلك) وهكذا انتهت مهمة النقد مرحليا والعمل فى طريقه الآن إلى النشر فى نسخة ورقية، إن شاء الله تعالى.
فى هذه الأثناء حقق الله أمنيتى ومطلبى فأصدر المجلس الأعلى للثقافة دورية نقدية لمتابعة نقد أعمال نجيب محفوظ، ويرأس تحريرها أ.د. جابر عصفور، ونائب رئيس التحرير: أ. د.حسين حمودة، وقد أسهمت فيها بما تيسر، لكننى، وأنا صاحب اقتراح إصدارها منذ نوبل، قصرت فى حقها بعد العدد الأول، وحتى الآن، وكنت قد وعدت د. حسين حمودة بدراسة مقارنة بين السيميائى، لكويلهو وبين ابن فطومة لمحفوظ، ولم أوف بالوعد حتى الآن.
فى العدد الأول من هذه الدورية النقدية كتبت دراسة عن كيف عاد محفوظ للكتابة من جديد بعد أن مرّن يده اليمنى بتدريبات معجزة، ونشرت مع المقال صورة بخط يده لبعض هذه المحاولات،
ثم حل مؤخرا يوم عيد ميلاده (11/12/ 1911) هذا الشهر، فكتبت تعتعة للدستور بمناسبة هذه الذكرى بعنوان “كيف استطاع نجيب محفوظ أن يحب كل هذا الحب”، (بتاريخ 9/12/ 2009) ، كما كتبت فى الوفد مقالا بعنوان: “كم نحتاجك يا شيخنا الآن أكثر من أى وقت مضى” (بتاريخ 9/12/ 2009)، وكان كل منهما يحتوى نصا من نفس المصدر الذى كنت أستلهم منه ما أنشره هنا فى هذه النشرة بعنوان: “فى شرف صحبة نجيب محفوظ”، وما إن نشر هذا وذاك فى الوفد والدستور، ثم لاحقا فى هذه اليومية كما اعتدنا، حتى وصلتنى تعقيبات ورسائل تذكرنى بهذه البداية فى هذه النشرة منذ أكثر من عامين، وتطالبنى بإكمال ما بدأت لما رأوه فيه من أهمية ودلالة .
قبل هذه المطالبات، كانت حلقات “فقه العلاقات البشرية” (شرح ديوان سر اللعبة) قد احتلت يوم الخميس بالقوة الجبرية، دون إذن من شيخنا مستغلة سماحته المعروفة، وحبه غير المشروط، لكننى – بصراحة- كنت أجد حرجا كل خميس منذ انتهت دراسة الأحلام النقدية، وكأنى تطاولت على عرينه بما لا يليق.
ثم التقيته شخصيا منذ أيام ليس فى المنام: مال علىّ كما كان يفعل حين يريد أن يبلغنى أمرا خاصا، أو أن يسمع ما يهمه، ووضع يده على كتفى وهو يقول: “إفعل ما تريد يا يحيى بيه، فأنا أعرف أين أنا منك، مهما حدث” خجلت ولم أعقّـب، وانحنيت على يده أقبـّلها، وإذا به يسارع ويقبلنى فى خدى وهو ينتزع يده منى”، اعتذرت له فرفض، وكاد يعاتبنى على الاعتذار، وليس على التجاوز.
منذ أسابيع جاءتنى باحثة من جامعة هارفارد (على ما أذكر) مرسلة من قبل الصديق المهندس حسن ناصر أحد أهم أصدقائه، وصديقى، وأخبرتنى أنهم قد خصصوا فى جامعتها بالولايات المتحدة ركنا أو حجرة فى مكتبة أو قسماً أو شيئا من هذا القبيل لتراث نجيب محفوظ، وأن هذا تقليد تعمله هذه الجامعة للخالدين، وأنها جاءت تبحث عن أية مخطوطات بخط يده شخصيا، حكيت لها حكايتى مع كراريس تجاربه لاستعادة قدرته على الكتابة، وكيف أننى سلمت الأصول بعد وفاته مباشرة إلى أ.د. جابر عصفور رئيس لجنة الحفاظ على تراثه، وأننى استسمحته للاحتفاظ بصورة فقط، وإذا بها تأسف وتحتج، وتبلغنى أن القانون يعطينى حق الاحتفاظ بها ما دام هو الذى سلمها لى شخصيا، وحين أفهمتها أن اللجنة الرسمية أوّلى، والدولة أحرص، نبهتنى إلى أن الإهمال المصرى يمكن أن يضيع هذا الكنز، فأكدت لها ثقتى بالأستاذ الدكتور جابر عصفور، والأستاذ الدكتورعماد أبو غازى، و الأستاذ الدكتور حسين حمودة، وطمأنتها، وإن كنت أنا لم أطمئن.
أذكر كل ذلك لأننى وأنا أرجع إلى معاودة الكتابة اليوم “فى شرف صحبة نجيب محفوظ”، خطر لى أن أضمِّن بعض ما سجلت من خواطر بعد كل لقاء، بعض ما كتب بخط يده أثناء تدريبه، وبهذا أحفظه ضمنا إن صدق شك هذه “الخواجاية الأروب”.
بعد لقائه السالف الذكر، قررت ارجاع الحق لأهله، وها هو ذا شيخى يعود ليحتل يومه (الخميس) بعد أن قبل عذرى، بل بتعبير أدق بعد أن رفض أن أعتذر أصلا، قررت الآتى فى محاولة الوفاء ببعض دينى إليه، أن يعود إليه خميسه التاريخى طالما تصدر هذه النشرة وأنا على قيد الحياة وذلك بــ…:
1- أن أعود إلى إكمال سلسلة “فى شرف صحبته” من البداية، وليس فقط حين توقفت.
2- أن أحاول أن أوفق بين ذلك، وبين بعض ما كتب بخط يده وهو يدربها، ومنحنى شرف الاحتفاظ به.
3- أن أعد نفسى، ومن الآن، أن أتمم الأعمال النقدية الناقصة عندى، لأواصل نشرها ولو مسلسلة بعد الانتهاء من نشر “فى شرف صحبته”، لتنزل بعد هذا العمل مباشرة، حتى لا يجرؤ أحد أن يعتدى على يومه هذا بعد ذلك أبدا
4- أن أشرع فى استكمال قراءتى النقدية لما تبقى لى من أعماله الأخرى، استعدادا لنشرها تباعا.
5- أن أدعو الله له بالرحمة، ولى بالقدرة، ولكم بالصبر والمتابعة الناقدة.
وبعد
إعادة: الحلقات الثلاث الأولى: فى حلقة واحدة
أستأذن أصدقاء الموقع أن أبدأ اليوم بإعادة نشر أغلب ما سبق نشره منذ أكثر من سنتين، بعد أن أستبعد منه الاستطرادات، حتى أختصر الثلاث حلقات فى نشرة واحدة، هى نشرة اليوم، ثم أواصل بدءًا من الأسبوع القادم، وعلى من يريد أن يقرأ الثلاث نشرات مكتملة أن يرجع إليها بمعرفته، عبر الروابط: (27-9-2007، 4-10-2007، 11-10-2007)
من نشرة: 27-9-2007
فى شرف صحبة نجيب محفوظ (1)
………………
تحفظات منهجية
1 – هذا العمل ليس نتاج تسجيل لا بالصوت ولا بغيره، فى أية مرحلة من مراحله، فقد كنت أتحرج من التسجيل الصوتى تماما، بل وأرفضه غالبا، رغم أن شيخنا كان يسمح به أحيانا، ويتغافل أحيانا أخرى فلا يمنعه دون سماح صريح، إلا أننى كنت دائما قلقا من هذا أو ذاك، برغم ثقتى الهائلة بأمانة محبيه ومسئوليتهم المطلقة. المسألة ليست سهلة، حتى أن التسجيلات التى أخذت منه قبل ذلك بسنوات فى بيته بقصد النشر (رجاء النقاش) تم فيها انتقاء غير دقيق، أو قل غير موفق، ولا أقول غير أمين، الانتقاء المتحيز أو المتخبط، بغير قصد، يكون أحيانا ألعن من الكذب أو التلفيق، وقد كتبت فى هذا محتجا، مع أنه شخصيا لم يحتج على ما نشر بعد ما نشر بفضل حيائه وحبه لرجاء النقاش، وربما احتراما لسماحه السابق له وثقته فيه، أقول لى ولكم مرة أخرى بالنسبة لما أكتبه الآن: لم يكن هناك تسجيل إلا فى وعيى، حتى أننى لا أستطيع أن أعتبره تسجيلا فى ذاكرتى.
أثارت هذ المسألة وهذه المحاولة المحدودة عندى ما أثارته حول حقيقة ما يُسَجَّل عن أنه تاريخ حوارى شفهى محكىّ باللفظ بعد سنوات، وأحيانا عشرات السنين، وأحيانا بعد مئات وليس بعد ساعات، طول عمرى أشك فى مصداقية ما يحكى لنا من تاريخ، أو حتى ما يسجل طول عمرى أعرف أن التاريخ – على أحسن الفروض-، هو “وجهة نظر” (المؤرخ غالبا)، هذا بالنسبة للتاريخ عامة، أو حتى لعلم يسمى “علم التاريخ”، فما بالك بالتاريخ الذى يزعم نقلا لفظيا لنصوص غير مسجلة بأية طريقة، ما علينا، ليست هذه قضيتى الآن، فقط أقر وأعترف أنه حتى ما جاء هنا بصيغة “قال” و “قلت” ليس بالضرورة أن يكون حرفيا.
2 – كنت أعود أحيانا فى جلسة تالية لاستيضاح ما غمض علىّ فى لقاء سابق، كما كان أغلب ما أفضل تدوينه هو ما يتم فى جلسات الحرافيش المغلقة، حيث كانت الفرصة تتاح لى أقرب فأقرب، فالعدد محدود، وكثيرا ما يقتصر على ثلاثة: أنا وهو والحرفوش الأقدم “توفيق صالح”، فى بيت الأخير فى تلك المدة التى سجلت فيها هذه الانطباعات، إما فى شرفته صيفا فى الدور العاشر على النيل وهى تطل على كوبرى الجلاء، وإما داخل الحجرة الملحقة بالشرفة!! (فقد كنت اعتبر الشرفة هى الأصل) شتاء، وكانت هذه الاستعادة تفيدنى أيضا فى التحقق مما تبقى فى وعيى، مرات بالإثبات ومرات بالنفى.
3- وجدت نفسى أكتب كثيرا من الحوارات باللغة العربية الفصحى، وكنت قلقا من ذلك، فأنا أعجز عن الكتابة بالعامية إلا فى الشعر العامى، حتى الحوار فى رواياتى هو بالفصحى، وقد أفادنى هذا العجز الذى ألجأنى غالبا للترجمة إلى الفصحى فى أن أنفى عن نفسى أن هذا ما دار حرفيا، إذ من غير المعقول أن نلتقى لنتحاور بالفصحى، وقد نجحت فى التدوين بالفصحى بصفة عامة، إلا أننى أحترت أحيانا، هل كانت ضحكته المجلجلة، بالفصحى أم بالعامية!! بصراحة كانت ضكة مصرية واسعة، تصلنى بالعامية المصرية جدا، ولا تحتاج إلى الترجمة إلى الفصحى لأنها أيضا كانت بالفصحى.
4 – كان اهتمامى أساسا هو بأحاديث الأستاذ معى ومعهم، على حساب آراء وأقوال سائر الحضور، فمن ناحية لم يكن كل ما يدور هو فى بؤرة تركيزى، كما أنه لم يكن من الممكن أن أستوعب كل ما دار مهما كان الزمن قصيرا.
اليوميات
تنويه قبل اليوميات
لم أكن قد قابلته شخصيا قبل ذلك إلا مرة واحدة فى أوائل السبعينات، فى مؤسسة الأهرام بناء عن طلب لقاء سهـّله لنا أحد الزملاء، وكنت أتعجب كيف لدى هذا العملاق وقت لمقابلة أمثالى، ولم أكن أعرف أنه – شخصيا- فى متناول كل الناس هكذا، هذه المقابلة التى أشرت إليها فى مواضع أخرى، كانت قصيرة ومفيدة وتركت أثرا فى نفسى لم أتبينه إلا بعد عشرين عاما وأنا أزوره هذه المرة بعد الحادث بفترة ليست قصيرة. كنت قد عشت الحادث المجرم مثل أى مواطن مصرى، عشته بكل تفاصيله فى خيالى، وكتبتُ فيه ما كتبت ونشر فى الأهرام، (وقد نشرت نصه فى النشر الأول من سنتين لكننى الآن أكتفى بهذا الرابط (الأهرام 18-10-1994 “يا شيخنا: أبى الله إلا أن يحفظك، ليشرق نوره علينا من خلالك”)
(من الذاكرة القح: قبل كتابة اليوميات) 16 نوفمبر 1994
كلمنى أ.د. سامح همام بشأن هذا المقال، وشكر لى بعض ما ذكرت عنه، وما اعترفت به من فضله وما أقررت من مهارته وسألنى: هل زرت الأستاذ، فقلت له: لا، لماذا؟ أنا أحب أن أحافظ على حبى له عن بعد، وقد لا أحتمل أن أراه إلا كما رسمه خيالي، وأنا أسمع عن حالته الآن كل خير بفضلك، فليتمم الله عليه/علينا نعمته، ويقوم بالسلامة، قال أ.د. سامح أفضّـل أن تزوره فقد أصبح أكثر إسهاما وأطول صمتا بالمقارنة بالأيام الأولى بعد الحادث. برغم ذلك تغافلت، وحسبت أن أ.د. سامح قد لمح عواطفى فى مقالتى فأراد أن يكرمنى بإتاحة زيارته، وفى نفس الوقت لم أتصور أن أزوره إلا تلميذا أو مريدا أو محبا أو تابعا، أما أن أزوره طبيبا، و”طبيبا نفسيا” فهذا أكبر من طاقتي، “طنّشت”.
فى اليوم التالى: كلمنى العميد د. محمد الحسينى من مستشفى الشرطة لم يجدني، وقلت لنفسى: ربك يستر، ترك رقم هاتفه فتباطأت فى الرد، ثم كلمته بعد إلحاح رسائله، ما باليد حيله، يارب حافظ على الرجل أكرم وأطيب: وإن أجريت فَضْلَك – ربى- على أيدينا فالشكر لهم، والحمد لك من قبل ومن بعد.
ذهبت بعد “أوامر” الشرطة، (يعنى!!) ذهبت طفلا يخاف أن يواجه أباه رغم يقينه بعفوه وحبه وطيبته، هذا الطفل كتب عليه أخيرا أن يعود أباه مريضا ليكون تحت أمره ويطلب رضاه، لا أكثر، أليست هذه هى الصورة التى رسمتها له قبل ثمان سنوات فى مقدمة قراءتى النقدية لبعض أعماله (كتاب قراءات فى نجيب محفوظ: “المقدمة”)؟ لكن يا تُرى ما الذى منعنى قبل الحادث أن أسعى إليه لأغترف من فضله مثلما يفعل الآخرون؟ أجابنى داخلى كالعادة بمثل الذى قلته للدكتور سامح: ربما خفتُ على صورته التى رسمتها له فى خيالى، ثم إنى لست من رواد المقاهى الثقافية، ولا أحذق فن الحوارات التى تدور فيها، وأخاف من نفسى أن أحكم مضطرا على روادها الأفاضل. إذن أنا الذى منعت طفلى أن يرى والده طول هذا العمر؟ لكن حين آن الأوان كان ما كان، وبأمر الحكومة (العميد الحسينى شخصيا).
ما باليد حيلة، أذهب بالرغم مني، فأنا أرفض أن أكون طبيبه وهو الذى عالجنى دون أن يرانى كل هذا العمر، ثم استمرعلاجه لى حتى فصّلت ذلك شعرا فى أحد أعياد ميلاده “صالحتنى شيخى على نفسى” (الأهرام) فلأذهب من أجل خاطر عيون ذلك الطفل الذى بداخلى، وأيضا لعلنى أكون عونا لشيخى وطبيبى مثلما كان دائما عونا لى طول عمرى دون أن يدرى.
****
دخلت حجرته فى المستشفى، وكانت خالية منه، كان فى الحمام، انتهزتها فرصة لأسأل الممرضة عن أحواله – عموما – فقالت: “أحسن”، خرج من الحمام فوقفت لاستقباله، هو لم يرنى من قبل (اللهم إلا بضع دقائق سنة 1971 فى الأهرام كما ذكرت) عرفته بنفسى فهز رأسه ثم أردف بحشرجة خشنة “أهلا وسهلا”، وأمسكتْ قبضةّ مجهولة بكل قلبي، أمسكت به حتى عصرته، أزحت وجهى بعيدا وأنا أعرف أنه لن يرى ما ترقرق فى عينى ومنعته أن ينساب، جلست بجوار أذنه التى علق بها سماعة ما وأخذت أطمئنه، بل أطمئن نفسي، من خلال حضوره، بدا لى أنه أكثر طمأنينة مني، رحت – أستلهم من هدوئه ما يبرد قلبى، وتمنيت أن ينتهى هذ الموقف العصيب بسرعة.
سألته – كطبيب رغم أنفه – عن النوم، وعن السكر، وعن العلاج الطبيعى، وعن الضغط، وقالوا لى وأطلعونى على كل ما لزم، الأرقام كلها فى حدود الطبيعي، ولا شيء يبدو غير ذلك.
حضرت الزوجة الفاضلة، وعرفها بى مشيرا إلىّ “… دكتور فلان” بلهجة الذى يعرفنى من قبل، حتى شعرت أنه يعرفنى بحدْسه أرحب وأقدم، لم أمكث طويلا حرصا على راحته، انحنيت على يده أقبلها رغما عنه، ثم أقبل رأسه مستأذنا.
انصرفتُ وما انصرفت،
فقد ظل معى طويلا طويلا
وفى الأغلب سيظل كذلك حتى نلقاه على خير بقدر اجتهادنا إليه.
****
شيخنا يعود إلى بيته، وتعود إليه – إلينا- ضحكته
قررت ألا أذهب إلا إذا استدعونى ثانية، فى الزيارة الأولى: لم أضف دواء واحدا، ولم أغير نظاما، ولم أحدد نصيحة، حتى بدا لى أننى لم أقدم عونا طبيا ذا بال. كان غاية ما عشته أنْ عصرنى الألم. هل كنت أشفق على نفسى، أم عليه؟ لعل كل ما ملأنى أثناء هذه الزيارة وبعدها أننى دعوت الله لى وله، (ولم أتوقف عن الدعاء حتى الآن أكتوبر – 2007، وقت كتابة النشرة، وأضيف حالا حتى الآن: 21 ديسمبر 2009، علما بأننى أثق فى الإستجابة لما أدعوه لنفسى، حين أدعو له فى نفس الوقت)
بعد الزيارة الأولى، انشغلت فى مؤتمر من تلك المؤتمرات التى هى ليست إلا “تحصيل حاصل”، أو على أحسن الفروض: بوفيه مفتوح، وأحضان، وأحيانا أشواق فى الأروقة بين الجلسات….، سعدت بانشعالى هذا لأننى اعتبرته حجة أبرر بها انقطاعى عن شيخى المصاب، ربما حتى لا أعانى ما عانيت أول زيارة، ثم إننى قررت ألا أزوره ثانية بصفتى الطبية إلا إذا استدعيت لجديد لا قدر الله، ثم إننى لم أفتِ بمشورة طبية خاصة جدا، مهما تصوروا غير ذلك، فلماذا العودة؟
رغم كل ذلك،لم تفارق صورته خيالي،
لست متأكدا هل هو خيالى أم وعيى الأعمق،
كانت صورة صعبة، رقيقة، وحية، ومؤلمة، ومتألمة، وقوية فى آن واحد.
“روشتة الناس”
إنتهى المؤتمر، وكنت قد أبلغت العميد د. الحسينى به اعتذارا مؤقتا تمنيت أن يكون ممتدا، ساورنى هاجس فجأة، وشعرت باحتمال أنانية هرابة أوتخلٍّ، انتهى المؤتمر ولم يعد عندى حجة، رفعت السماعة وطلبت سيادة العميد، قال أين أنت ومتى نراك إذن، الأستاذ يسأل عنك، قلت: حاضر،
وذهبت.
لم تكن الحال أحسن بل العكس، سألنى العميد د. الحسيني، ألا تنصح بعقار معين أو إجراء معين؟، فأخبرته بعد تردد: إن أستاذنا عاش طول عمره، يتزود بجرعة محسوبة من “الناس” الأوفياء، ومن عامة الناس، وأن ما يعانى منه الآن هو“فقر ناس“ علينا أن نحترمه كما نتكلم عن فقر الغذاء، وفقر الفيتامينات … الخ،
ضحك د. الحسينى وقال: هل نضيف له على التذكرة جرعة معينة من الناس؟ “عدد كذا من الناس” ثلاث مرات يوميا مثلا؟ وضحك،
أخذت ضحكته مأخذ الجد، وقلت له: هذا بالضبط ما يحتاجه أستاذنا،
ذلك أن إدارة المستشفى كانت قد منعت الزيارة بعد أن توافد الناس عليه بكل الحب يطمئنون ويتبركون ويدعون بما تيسر، وهو – بتواضع سمعه وبصره معا-، لا يستطيع أن يلاحق كل هذه الإحاطة العاطفية، ناهيك عن الرد على الأسئلة، أو الدخول فى أى حوار مهما قصُـر، وفى نفس الوقت هو بما يتمتع به من أدب ورقة ومجاملة لا يستطيع إلا أن يحاول طول الوقت أن يتابع ويستجيب فينهك حتى اعى، ربما هذا هو ما دعى المستشفى إلى اتخاذ القرار المعتاد فى مثل هذه الظروف بمنع الزيارة إلا على الأهل وبعض الأصدقاء الذين بالغوا هم بدورهم فى عدم الزيارة حرصا على راحته، ولكنى أدركت، ثم تأكدت، مدى افتقاره للناس، وأنه لا شفاء ولا تقدم إلا بالناس، مع الناس: فكيف السبيل؟
قلت للدكتور الحسيني، نضبط جرعة تعاطى الناس الأصدقاء الطيبين، الذين يدركون من هو، وكيف هو الآن، ونبدأ بالأحوج إليهم فالأحوج، نضبط ذلك بجدول: بالاسم والساعة يوميا،
وقد كان،
عملنا جدولا بأسماء الأصدقاء ومواعيد الزيارة ومدتها، وذلك بعد أن اتصلت بمن يعرف التفاصيل اكثر، اتصلت بالأستاذ جمال الغيطانى – معرفة قديمة حذرة من جانبى- ….. اتصلت به وأخبرته بالوصفة التى وصفتها للاستاذ، وهى “جرعة كافيه من البشر” الطيبين الملتزمين، واتفقنا على جدول بسيط محكم، بالاسم واليوم والساعة والمدة، فلان يوم كذا الساعة كذا لمدة كذا، وهكذا، وانتقينا الأقرب فالأقرب من الذين حفظوا الأستاذ صامتا ومتكلما، منصتا ومفكرا، منحنيا ومعتدلا، إن من يعاشر الأستاذ ينطبع ويتكيّف ويتكامل حتى مع وضع جلسته، وزاوية ميل جسمه،
اتصلوا بى، وأبلغونى أنه قد تم تنفيذ تعاطى جرعة الناس كما أشرت (تقريبا). ذهبت واطمأننت من حيث المبدأ، وحمدت الله، وقدرت أن الحالة إما ثابتة أو تتحسن، لكننى لم أطمئن تماما كعادتى، ورحت أراجع احتياجاته الطبية فيزيقيا، وتمريضيا، ومتابعة، فلم أجد أن هناك من التهديدات، أو احتمالات الطوارئ ما يمنعنى أن أتساءل: إلى متى المستشفى؟. برغم أننى شعرت أننا نسير فى الاتجاه الصحيح، إلا أن الإجابة عن تساؤل “إلى متى”، وضعنى أمام حتم المواجهة.
شعرت أن بقاء أستاذنا فى المستشفى أكثر يحتاج إلى حسابات موضوعية أعمق وأدق، خاصة وأننى استشعرت أن الزوجة الكريمة الفاضلة تخشى ما ينتظرها بالمنزل، الخبرة مؤلمة، والله معها، والمسألة ليست تمريضا فحسب، بل أمن وأمان أيضا!! لكن لابد مما ليس منه بد، لابد من ضبط توقيت العودة إلى منزله الطيب ليعاود تدريجيا حياته حيث اعتادها، وبأسرع ما يمكن، برغم كل الظروف.. أعلنت عن رأيى هذا لبعض محبيه، فوجدت مثل ما عندى فى رأى الصديق جمال الغيطانى (أصبح صديقا، أو كان صديقا طول الوقت وأنا لا أدرى، ما أسخف سوء الظن!!) حدثنى بمثل أفكارى هذه، وكأنه طبيب زميل حاذق يشير بما ينبغى ويحسن التوقيت، فحمدت الله على ما أكد لى أن المنطق السليم هو أساس كل فعل سليم، وعلم سليم، وطب سليم، ولم أكن أعرف آنذاك متانة علاقته بصديقه الدائم حتى البنوة د. زكى سالم.
رحت أمهد للقرار بزيارات متلاحقة منى للمستشفى على غير ما كنت قد قررت.
حدثُ عارض ولكن …
لم أجد فى ناس مستشفى الشرطة إلا أقصى درجات الاحترام، والعلم، والتمريض، والإمكانات، والرقة، لدرجة أننى عجزت عن شكرهم، فلم يكونوا يحتاجون شكرا، وقد خيل لى أنه هم كذلك لأنهم كذلك، وليس فقط لأنه “الأستاذ”، ففرحت بهم أكثر.
على النقيض من ذلك، وبمحض الصدفة حدث ما يلى:
كنت جالسا فى مكان إدارى أنتظر خروج الأستاذ من فحص روتينى ما. كان يزور الإدارة فى نفس المكان شخصية بوليسية كبيرة جدا جدا، كانت تشغل منصبا عاليا (من المعالى) مهمّا جدا، فى فترة صعبة جدا، تعرفت هذه الشخصية علىّ، فتعجبتُ، ولم أرحب بأكثر من التحية، فهو ليس هو الذى ..، صدق حدسى حين سألنى عن سبب تواجدى فى المستشفى، وأية خدمة، وكلام من هذا فقلت له السبب، راح يكمل حديثه مع آخرين، فانصرفت إلى شأنى، لكن بعد لحظات انتبهت إلى صوته الجهورى وهو ينطلق بكلام جارح يصف به شخصا ما، وكأنى سمعت اسم الأستاذ، فاستفسرت غير مصدق، فقال إنه يقصد “نجيب محفوظ” الكذا والكذا، يا ساتر!! لماذا؟ من هذا؟ أين نحن؟ هل يعرفه؟ ما هذا الذى يجرى علانية هكذا؟ بكل بساطة، بكل تلك الوقاحة؟ بأى حق؟ هذا الحكومى السابق، يلعن شيخى ويسبه دون أى سبب، لم يسأله أحد رأيه أصلا. هل مجرد أننى ذكرت له سبب وجودى جعله ينطلق بكل هذه القذائف!!! لم يرع حتى ظروف مرضه، أو الحادث، لم يرع حتى أصحاب الفضل هؤلاء من أطباء المستشفى وممرضيه، لم يراع عامة الحضور، ولا المكان الإدارى الرسمى الذى نحن فيه، أهكذا؟ أهكذا؟
برغم مهنتى وطول خبرتى مع الوجه الآخر للناس، لم أكن أعرف أن الناس بعض الناس، مهما انحدروا يمكن أن يصلوا إلى مثل هذا؟ لم أتصور أنه حتى ذلك الذى أفتى بكفر أستاذنا، يمكن أن يحمل هذا القدر مما لا أستطيع وصفه أكثر، ياعمنا نجيب، ستلقاها من أين أو من أين؟ صحيح أن هذا الحكومى جدا (السابق والحمد لله)، لا يمثل الحكومة (أو لم يعد يمثل الحكومة رسميا)، ولكنه – فى هذه اللحظة – كان يمثل لى أبشع ما يمكن أن تمثله سلطة تلقى حممها على من حولها بدون مبرر أصلا، لم أعرف لم امتدت يدى ساعتها إلى الجانب الأيمن من رقبتى، مكان طعنة الأستاذ، ربما – من فرط أننى لا أصدق – ربما كنت أريد أن أذكّـر هذا الصاروخ الملتهب أن الرجل الذى يسبه، هو مطعون فى رقبته، ومازال راقدا فى المستشفى، لكن ما هذا الوخز فى رقبتى أنا؟ شعرت أن طعنة الشاب الغبى الذى دعى له أستاذنا بالرحمة والهداية، شعرت أن طعنته أخف من صواريخ هذا البولدوزر القبيح ذى الرائحة الكريهة الخانقة السامة معا.
أخذت أذكر نفسى مرة أخرى بأنى طبيب نفسى – المفروض– وأننى شاهدت ما شاهدت فى مرضاى من تشكيلات فقدان المشاعر، والتبلد، وانحراف الأخلاق، والقسوة حتى القتل، لكن الشعور الذى انتابنى ساعتها كان فظيعا حتى استبعد أن يكون هناك إنسان من نفس نوعنا بهذه البشاعة، التى بدا بها هذا المسئول سابقاً!.
رأيت الاستياء مما جرى على كل الوجوه التى لم يكن مسموحا لها– بطبيعة الحال وتسلسل الرتب- إلا بالاستياء الخافت الصامت، ازداد عزمى أن أسرع بالأستاذ إلى بيته وكأننى أهرب به بعيدا عن مرمى هذه القذائف، مع أنه كان حادثا عابرا، ما أغبانى، ما هذا البولدوزر إلا زائر عابر، صحيح أنه مهم جدا، أو كان مهما جدا، ولكن لا يوجد أى داع لأن أربط بين قذائفه وبين قرار الإسراع بمغادرة المستشفى، كثيرا ما يأتينى مثل هذا الربط العشوائى دون مبرر، بل إنى شعرت أن الأستاذ يعرف كل ما جرى دون أ ن يخبره به أحد، هو لا يعرفه إزاء شخص بذاته، أو إزاء سلطة ما، لكنه يعرف ناسه بكل ما هم، حتى لو كان منهم مثل هذا “الشىء”، وأنه (الأستاذ) بوعى خاص، استطاع أن يحتمى بإبداعه وطيبته وبيته من شرورهم دون أن يكرههم كل هذه الكراهية التى اعترتنى، وأنه لو سمعه، فسوف يسامحه ويدعو له كما فعل مع الشاب القاتل، وبرغم كل ذلك تأكد لى أن الإسراع بشيخنا إلى عالمه الخاص جدا، إلى مملكته، إلى حصنه الحصين، هو القرار المناسب، الآن، وليس بعد.
اشتد عزمى، وتأكدت أنها مجرد مصادفة لا معنى لها، إلا أن الأوان كان قد آن.
يوم الجمعة بعد الصلاة
أخطرت المستشفى بما نويت، وشرحت مبرراتى، ولم يكن لديهم اعتراض، وطلبوا منى أن يظل الموعد سرا لأسباب أمنية، وفرحت لأننى انتويت أن تكون مفاجأة، أتحمل كل تبعاتها، بدلا من أن أشغل الأستاذ وآله بحسابات قدلا يدركون تفاصيل أبعادها أو مبرراتها.
يوم الجمعة، بعد الصلاة، ذهبت كما اتفقت مع الإدارة، صعدت إلى جناحه، وكأن قلبه كان شاعرا، فوجدته ممددا على السرير رغم أن قيلولته لم تحن بعد، قلت له بهدوء حازم: إن الأمور قد استقرت وسنخرج الآن، فزع كما توقعت، وقال “لا .. إنهم أخبرونى أن الأمر ما زال يحتاج إلى نقاش”، فأجبته أننى كنت أحد أطراف هذا النقاش، وأننا أنهيناه بقرار الخروج الآن، فقال لى مقاوما أن الدكتور المدير كان عنده منذ قليل، وأخبره أنهم لم يستقروا بعد، فاستأذنته لأعود للمدير حتى أطمئن إلى انه قد بلغه ما استقر عليه المعالجون، وأحصل على موافقته النهائية (وكنت قد حصلت عليها)، ونزلت وأنا أعرف أن المسألة منتهية، وحين عدت وجدت الأستاذ ما زال على السرير وقد غطى وجهه بالملاءة تماما كأنه يستجلب النوم. كنت قد اصطحبت زوجتى معى – وهى لم تره من قبل – لكننى رجحت أن اصطحابها معى قد يضيف إلى الموقف لمسة من حميمية مصرية بسيطة تسهل لنا الأمر بشكل أو بآخر، راحت زوجتى تبادل زوجته الحديث وتطمئنها، وتقدمت أنا أقترب منه وجلا وأنا أكشف الملاءة، ولم يكن نائما طبعا، كان يبدو كما لو كان مختبئا من مواجهة العالم الخارجى، مثل طفل يرفض الذهاب إلى المدرسة، أبلغته أننى أعدت التأكد من المدير، وأنه موافق مائة فى المائة على القرار، وأنه مقتنع أن القرار علمىّ وعلاجىّ ونهائىّ، فجأة، – أى والله – انقلب الخوف والتوجس إلى انفراجة بسمة هادئة، وإن كانت بعيدة، راحت تتقدم حثيثا حتى ملأت وجهه، يصاحبها استسلام طيب، وكأنه هو الذى اتخذ القرار قبلنا، ولمحت المقاومة تتراجع، وكأنها تستأذن لا تنزاح.
البيت البيت
البيت، (الذى هو يختلف لو سميته المنزل، هكذا خيل إلى وأنا أكتب الآن) يقع على الناصية المقابلة فى الدور الأول، لم يكن الأمر يحتاج إلى كل تلك “الموتوسيكلات”، أو إلى تلك العربة الرسمية التى تتقدمنا، نجيب محفوظ رجل بيتىّ، البيت هو قلعته، وأمانه، وبرجه، ومهبط وحيه، لكنى أيضا أعرف أن الشارع والناس هم كل شىء فى حياته، بدت لى أنها معادلة تبدو صعبة، لكنها الحقيقة، فلم أستغربها منه وله.
بمجرد أن وصلنا البيت انفرجت البسمة التى كانت مترددة فملأت صفحة وجهه كلها، وارتاحت كل الأسارير، حتى ملأت أرجاء البيت كله، ما ظهر، وما خفى من زواياه وأركانه،
. . . . .
شيخى عاد إلى قلعته وكأنه لم يفارقها أبدا، أخذت أداعبه لأول مرة منذ زرته، وذركدت له أن المرحومة خالتى كانت ترد علىّ حين أضعط عليها لتمكث فى بيتى بضعة أيام، وتصر هى على العودة إلى بيتها (وهى وحيدة، وليس لها أولاد إلا أنا)، قلت له ما كانت تقوله لى خالتى: “يا دارى، يا ستر عارى، يا منيمانى للضحى العالى”. مال إلى الخلف وجلجلت ضحكته حتى ملأت الشارع وعبرت النيل إلى السماء كنت قد سمعت عن ضحكته هذه لكننى لم أعشها بحجمها لتملأنى كما أمتلىء بها هكذا إلا اليوم.
عادت ضحكته وهو يعود إلى بيته
شيخنا يعود إلى بيته
وتعود إليه - إلينا- ضحكته
الحمد لله.
****
…. تحت سفح الهرم
ما زلنا قبل اليوميات:
رجعت الحياة راتبة بنظامها الجديد، وراح الأستاذ يعيد تنظيم أوقاته على مواعيد الممرضة، وأخصائى العلاج الطبيعى، وحين تضطرب مواعيد الأولى أو يتغيب الثانى كان يقلق حتى الضجر، دون احتجاج صريح أو لوم لأحد، لكنه كان كمن ينبه بالتزام هادئ إلى حقه كمريض فى الرعاية فالنقاهة، ولم يكن كل المحيطين يدركون مدى رقته ولا بالغ حرصه على وقت الناس وضبط إيقاع يومه، التقطتُ كل ذلك بسرعة، وحاولت أن أثبِّت كل شىء، وأن أضبط جرعة الانتقال من الاعتماد على الممرضة، وأن أؤجل انقطاعها، وأن أطمئنه على أن أتعاب المستشفى تصلها وستصلها بلا تأخير، وأنْ ……. وأنْْ ….. ولكنه كان يريد أن يستوثق طول الوقت من أمرين: الأول: أنه ليس ثقيلا على أحد وأنه لا يأخذ من حق ضباط الشرطة وعائلاتهم ما خصص لعلاجهم، وأن التكاليف تأتى من مصدر آخر بعيد عن أن يعتدى على حق أحد، والثانى: أنه يأخذ حقه الطبيعيى البسيط فى التأهيل والمتابعة الطبية والنقاهة.
أخذت أكتشف أوضح وأعمق من هو نجيب محفوظ فى روعته العادية، وصدق الإحساس بالآخرين، حتى وهو أولى الناس بكل رعاية من كل واحد كل الوقت، “إلا أبدا”: شخص عادى، يؤكد واجبه أولا، وينبه إلى حقه، وحق الناس، بحياء لا مثيل له، لا أكثر ولا أقل !!
فى يوم آخر، أيضا: قبل اليوميات
كان منزعجا هذا الصباح، قال لى: “ماذا فعل يوسف (الصديق محمد يوسف العقيد) مع رجال المستشفي؟”، (انتظرت أن يكمل فأكمل( “أخشى أن يكون قد آذى شعورهم”، لقد أُبْلِغْتُ ما شغلنى” وحين استفسرت عن مزيد من التفاصيل قال:” إنه يبدو أن مشادة قامت بين القعيد وبين إدارة المستشفى حين طلبت الإدارة بعض التفاصيل عن المبلغ التقريبى المقرر للعلاج، فإذا بالقعيد أو رسوله يرفضون الإجابة محتجين على مجرد السؤال أو شئ من هذا القبيل، لم أفهم بوضوح الموقف حتى بعد أن أضاف الأستاذ!!، “إن هذا الطلب لا ينبغى أن يضايق أحدا، أنا “كموظف” أفهم ذلك تماما، لابد أن يخاطب المدير مديرا مثله، وأن يخاطب وكيل الإدارة من هو فى مستواه من وكلاء الإدارات، وهكذا”. وابتسمت وأنا أسمع هذ التعبير الدال الذى سمعته عنه دائما “أنا كموظف!!!” ، والذى أعتقد أنه أسهم فى إبداعاته الرائعة، كما أعتقد أن له الفضل فى إدامة التصاقه بالناس، عامة الناس، طول الوقت، وربما كان له الفضل أيضا فى إحساسه بإيقاع الفعل اليومى الذى بدا لى أنه يقدسه لذاته, ما زال نجيب محفوظ شخصيا يقول بعد كل هذا: “أنا كموظف”، بعد نوبل، وبعد .. وبعد، وبعد..، يصف نفسه بهذا الوصف البسيط المتواضع “أنا كموظف” …. أعذرهم وأفهم موقفهم .. إلخ.”
وعدته أن أذهب لشكرهم وللاعتذار، وإزالة سوء الفهم إن وجدته أصلا، وذكّرته أنهم حين طلبوا منه دعوة طيبة أثناء خروجنا، أجابهم أنه يدعو الله أن يظلوا كما هم، (يفضلوا كده) وأنهم وصلتهم هذه الدعوة غير المألوفة ، واعتبروها شهادة تقدير رائعة تعنى أنهم وصلوا إلى قمة ما يُنتظر منهم ، وما يرجوه لهم، ليكونوا للناس ، سائر المرضى، كما كانوا له !.
فى اليوم التالى سألنى عما فعلت معهم وطمأنته من جديد، وأن ما بلغه لم يصل إلى درجة سوء التفاهم، فعاد يؤكد شرح وجهة نظره قائلا: “هذا هو الفرق بين الموظف والحر”، ثم يبدو أنه أدرك ما فى المقابلة من غموض، أو ربما خشى أن أتصور أن الموظف ليس حرا، فاستدرك: أعنى الفرق بين الموظف وغير الموظف”..، وفرحت بدقة وعيه واستمرار علاقته بانتقاء اللفظ المناسب واحترام المستمع، والحرص على توصيل ما يريد تحديدا.
وبدأت تسجيل اليوميات يوما بيوم:
11/12/1994
يوم مولده
كنت قد أخبرته أمس أننى حضّرت له مفاجأة، ودهش وسأل، وأجّلت الإجابة، ولمحت فرحةً مختلطة بدهشة ما تطلّ من بعيد خلف وجهه، مع أننى تخايلت وراء فرحته هذه ما يشبه التوجس الطيب، لكن الفرحة غلبت، وكنت قد اتفقت مع يوسف القعيد وجمال الغيطانى وزكى سالم أن نخرج صباح هذا اليوم ”الأحد” إلى الشمس ليكون ذلك أول خروج له بعد الحادث، ليستعيد بالتدريج إيقاع حياته العادية ما أمكن ذلك.
لم يتردد فى الخروج برغم المفاجأة، وكنت أحسب أنه سيقاوم أكثر، لكننى لمحت وراء استجابته للمفاجأة التى ملأت وجهه فعلا بفرحة طفل يوم الإجازة، لمحت ظلا من توجس أمس، لكن ما إن احتوتنا السيارة حتى تنفس بعمق وكأنه لا يصدق أن هذا هو هواء الشارع من جديد.
ذهبنا إلى الهرم، وتذكر أيام رحلات التلمذة فى المدرسة الابتدائية (وربما مع الأسرة) منذ أكثر من ثمانين عاما، ها هى الذكريات تعود به إلى سن السابعة أو التاسعة!!!كما ألمح إلى زيارته المتحف المصرى مع المرحومة والدته، لم يخطئ ظنى فى تحديد سن فرحته، رائع الاحتفاظ بالطفولة الدائمة هكذا، (تأكدت فيما بعد أن هذا هو من أعظم ما يميزه)، كان يلبس عباءة المرحوم حماى التى أحضرتها له معى ألفه بها خشية البرد (نحن 11 ديسمبر) ولم يطل مكوثنا فى سفح الهرم، التقطنا صورا قليلة للذكرى، ثم توجهنا إلى ميناهاوس، وهو لا يكاد يصدق.
ما زلت برغم تصاعد دفء العلاقة وإزالة الحواجز، لا أعرف كيف يتحاور معه المريدون، فأنا – كما ذكرت- لم أحضر مجالسه معهم قبل ذلك أبدا، وكل لقاءاتنا منذ شرفنى بمتابعة أيامه كانت بالمنزل، كما كانت معظم أحاديثنا حول مواضيع النقاهة والرعاية مثل التى ذكرتها حالا. كنت أجلس بجواره فى الميناهاوس، أميل على أذنه كما تعودت، وقد سمح لى الأصدقاء أن أتولى ضبط جرعة الجلسة، ربما لظنهم أننى أعرف متى يُنهك، ومتى نتوقف ومتى نعود.إلخ. لم أجد ما أقوله فى هذا الموقف الذى لم أعتدْه، فرحت أحكى له (ولهم) كيف أننى ، ذات يوم عُدْتُ مريضا مهما فى هذا الفندق، وأنه كان ينزل فى “جناح مونتجمرى” والذى سمى بهذا الاسم لأن مونتجمرى نزل فيه أثناء الحرب العالمية الثانية، وكيف أننى حين ذهبت للحمام ووجدت أغلب أدواته ومحتوياته وحوائطه من خشب شديد الوقار والجمال، خيل لى أنها حجرة نوم، وأننى دخلت خطأ، فهممت بالخروج دون أن أقضى حاجتي، لكننى شككت فى نفسى وتراجعت إلى ما يشبه (ولا مؤاخذة) المرحاض، وشددت “السيفون” فانْشَدّ!، فتأكدت أنه الحمام، ومع ذلك فقد أبت أجهزتى الفسيولوجية أن تصدق، وخرجت كما دخلت وأنا لم أخدش حياء كل هذا الخشب الأنيق، وضحك الأستاذ عاليا وجميلا، ولم أكن قد تعودت بعد ضحكته المجلجلة هذه بهذا القرب بعد.
نظر إلىّّ الأستاذ وهو يأخذ شهيقا عميقا كأنه يتأكد أنه ما زال هو هو هواء الخارج (خارج البيت) مع أننا كنا داخل الفندق، نظر مترددا فعرفت أنه يريد أن ينتهزها فرصة ويتخطى الحواجز، وفعلا: سألنى مترددا، بمناسبة هواء الحرية، (هكذا قال) هل تضر سيجارة واحدة لا أكثر؟ وحين وافقت لمحت وجهه يشرق وكأننى أمام تلميذ يطلب إذنا من المشرف لم يتوقع الاستجابة له، أسرع – ربما خوفا من أن أرجع فى كلامى- وأخرج سيجارة من علبة سجائر كان يحتفظ بها فى جيبه فى سرية تامة طول هذا الوقت، وفوجئنا، وتساءلنا فضحك وهو يخبرنا أنه لم يجد داع للإعلان عنها خشية ألا يؤذن له، أشعل له السيجارة أحد الأصدقاء (أعتقد أنه الإبن زكى سالم)، وهو لا يكاد يصدق، وراح يأخذ منها نفسا عميقا بطيئا، ثم يديرها بهدوء بين أصابعه، وكأنه التقى بحبيبة بعد طول غياب فمضى يتأمل وجهها، ويملس على شعرها ليتأكد أنها هى، وأنها عادت، أحسست ساعتها أنه – بهذه السيجارة التى لم يدخنها منذ الحادث- قد تأكد من عودته للحياة الطبيعية.
فوجئت فى اليوم التالى بذكر اسمى فى الصحف مقرونا بوصف “طبيبه الخاص” وتتالى ذلك بوصف آخر هو “الطبيب المرافق” وغير ذلك من صفات طبية، كما ذكروا على لسانى أننى صرحت بأنه يستطيع كذا، ولا يستطيع كيت وكل ذلك لا أساس له من الصحة، ليس هذا فقط، بل إننى شعرت أن به جَرْحُ ما لأستاذى وشيخى هذا، وأيضا حرج لى بشكل آخر، من حيث أنه يعطينى دورا أقل مما أتمناه فى صحبته، وأكبر مما أستطيع بخبرتى المحدودة، صحيح أن المرض النفسى ليس عيبا، وأننى خفت مرات متفرقة على أستاذى أن يكون قد تَقَمَّصَ شخوصه حتى عانى – مثلا – ما أتاح له وصف حالة “عمر الحمزاوى” فى الشحاذ بكل تلك الروعة والتفاصيل، وقد ذكرت مخاوفى هذه فى نقدى الأول (1970) لروايته “الشحاذ” (قراءة نفسية فى الشحاذ – كتاب قراءات فى نجيب محفوظ).
كنت قد سألته فى اليوم السابق عن كيف اعتاد أن يحتفل بهذا اليوم؟ فقال لى إنه لا يحتفل عادة بعيد ميلاده، وإنه لا يعرف معنى لهذا الاحتفال، حتى مع الحرافيش، اللهم إلا إذا تصادف أن جاء هذا اليوم يوم خميس، وهو يوم لقائهم، ثم لا شيء بعد ذلك، قلت له: حتى ولا “تورته”، قال: حسب التساهيل، زمان لم يكن هناك طقوس كهذه، وذكرت له وجهة نظرى فى فكرة الاحتفال بعيد الميلاد: ذلك أننى لا أرى لى فضلا فى أننى ولدت فى يوم كذا فيحتفلون بى ، وقلت له أننى سجلت رأيى هذا لعميد كلية طب قصر العينى (المرحوم) أ. د. هاشم فؤاد، حين آصر أن يرسل لى حتى عيادتى باقة ورد بمناسبة عيد ميلادى، وكان يعدّ بذلك لانتخابات دورة ثانية للعمادة، ويرسل لكل الزميلات والزملاء مثل ذلك، ولكن سيادة العميد هذا لم يهنئنى بحصولى على جائزة الدولة التشجيعية فى الأدب قبل عام أو أثنين (على ما أذكر)، فكتبت إليه، وعاتبته أنه اطّلع على تاريخ ميلادى من أرشيف الكلية دون إذنى، فى حين أننى ليس لى الحق فى الاطلاع على ملفه لأردّ له التحية فى عيد ميلاده، وأنه حين فعل ذلك مع زميلات لى قد تخطى كل الحدود، فلا أظن أن أيا مِنهُنّ تريده أن يعرف سنها، ثم إنه لم يهنئنى بإنجازى أنا فى نفس العام، (كنت حصلت على جائزة الدولة فى الرواية)، وهنأنى بفضل والدىّ فى ليلة شتاء ينايرية من عامٍ ما (ولدت فى نوفمبر)، وهو أمر ليس لى فضل فيه، بل ربما لم يكن ينويه والدىّ أصلا لأنى رابع أخ إذْ سبقنى ثلاثة إخوة ذكور، قلت ذلك للأستاذ وكان يستمع باسما، لكننى لمحت فى وجهه قرب نهاية حديثى ما يشبه الاحتجاج المهذب، بل الرفض، وفعلا، أحسست أنه يريد أن يقرص أذنى لأننى ذكرت والدىّ بهذه الاستهانة حتى ولو كان على سبيل الفكاهة، وخجلت، وحين تراجعت بعد ذلك عن رفضى لفكرة أعياد الميلاد خاصة للصغار، وذكرت ذلك للأستاذ لاحقا، سألنى كيف عدّلت رأيك، وكان يفرح بمثل ذلك كأنه يطمئن لمرونتنا حوله، فقلت له إنه بدا لى أن هذا الاحتفال يؤدى رسالةً ما للأولاد والبنات أساساً، فهو يبلغهم أن والديهم غير نادمين على قدومهم ، برغم ما يفعله الصغار بهم، فضحك واسعاً، فعرفت أنه عفى عن خطئى الأول وتجاوزى حدودى تجاه والدىّ، فأضفُت أنه حضرنى الآن – أيضا – وأنا أشرح له رأيى الجديد، أن هذا الاحتفال ربما كان – أيضا- اعتذارا لهم عن أننا أنجبناهم قسرا فى هذا العالم دون استئذان،
وترحمنا – الأستاذ وأنا – على عمر الخيام وأبى العلاء المعرى معا.