نشرة “الإنسان والتطور”
3-2-2011
السنة الرابعة
العدد: 1252
قبل النشرة:
صممت بدءًا من اليوم أن أعود إلى الإيقاع الطبيعى للنشرة، وأن أبدأ بأن أعاود نشر صحبة نجيب محفوظ بالذات فى يومية (الخميس)، تيمنا به، وإحياءً لعشقه لمصر، حيث شعرت أنه يدعو لها وهو حيث هو، يارب استجب لنا وله فأنت تحبه وتحبها وتحبنا برغم كل شىء.
الحمد لله
الحلقة الواحد والستون
الأحد: 21/5/1995 نوفوتيل الهرم
د.منال- مشيرة – زكى سالم – مصطفى أبو النصر – نعيم – أنا، اليوم هو اليوم الذى أدعو نفسى فيه على الغداء على حساب ” صاحب المخل” (أنظر الأحد الماضى)، فرصة لقراءة ترجمة مقالى النقدى عن الحرافيش من جديد، وللتأمل، وللانتظار، وربما لإعادة الحسابات
اليوم شديد الحرارة.
ذهبت فوجدتهم سبقونى بدقائق لا أكثر، الكلام عن الجو، وأنا فى حال يسمح أن يمدح كل الأجواء (حسب درجة الحرارة دون الرطوبة والغبار)، مايو هذا العام ليس له سابقة، اليوم فقط هو الحر ويقولون غدا، أقول للأستاذ إن للحر حلاوته، وأننى حين كنت فى زيارة لرأس الخيمة فى الإمارات، وجدت بعض الصفوة – ومنهم الشيخ نفسه (ملك الإمارة!) - يجلسون أمام المنزل قرب المغرب والحرارة تتعدى الأربعين تاركين التكييف فى الداخل، لكن هذا جيل كان عمره تجاوز الأربعين على الأقل (كان ذلك سنة 1976 على ما أذكر) وهم كانوا يفضلون ذلك على الهواء البلاستيك البارد بالداخل، وهز الأستاذ رأسه، أكملت: وفى بلدنا كنا نغنى للحر، ومازلت أذكر مديحة ذات الخدود البارزة قليلا، والعيون الناعسة قليلا، والنداء الهامس منكسرا، والدلال الواعد حثيثا، ونحن نجنى القطن، ما زلت أذكر كل ذلك يتجمع فى وجهها فيجعله “يزنهر” من الحر وهى تجنى القطن ونحن نغنى معها :
الحر طلع عليّا وانا اعمل ايه فى الحر،
لمّا الهدوم تنعصر لمّا الخدود تحمر.،
وأردد هذه الإغنية بنغمتها للأستاذ بعد أن حكيت الحكاية، فيطرب لها، ربما لاكتشافه من خلالها بعض ما هو الريف المصرى الذى لم تتح له معايشة مباشرة بما يكفى، يفرح الأستاذ بها فعلا.
بدأ الأستاذ حديثه مشيرا إلى زيارة المستشار الثقافى لجمهورية شيلى له، وقال من الذى قال عن شيلى إنها حلت مشكلات ديونها واعتماديتها بزراعة العنب؟ فقالوا له إنه حافظ عزيز غالبا، فقال لقد زارنى اليوم مستشارها الثقافى، ـ ويبدو أنهم ما زالوا يعانون من مشاكل خطيرة مثلنا فعلا، كما يبدو أنهم يعانون كذلك من عدم الإقبال على القراءة، وأن التليفزيون ووسائل أخرى قد حلت محل القراءة، تماما مثلما كنا نتناقش فى هذا الموضوع”، انبرى مصطفى أبو النصر يرجح أنه لا يوجد بديل عن القراءة، وأنها تسمح بالتوقف والخيال والعودة والمراجعة، قلت له: ليكن، لكن المطلوب منا الآن أن نحترم التحول لا نوقفه أو نستبدله بما أفادنا نحن، فأنت – وأنا من جيلك- نمارس القراءة لأن مخك تبرمج على هذه الصورة، فإذا كانت أدوات المعرفة قد انتقلت إلى الكومبيوتر، وإلى التليفزيون وما أشبه، فلا بد أن نفترض أن أمخاخ هذا الجيل الذى نشأت فى ظل غلبة هذه الأدوات، سوف تتبرمج لتتكيف مع هذه الأدوات، والذى علينا هو أن نطور أداء هذه الأدوات ومحتواها وأخلاقياتها لتقوم بنفس الدور الإيجابى الذى نحكيه عن القراءة، أما أن نفرض على تطور الإنسان وأدواته مرحلة سابقة فهذا تعطيل من ناحية وهو مستحيل من ناحية أخرى، مضى أبو النصر مرة أخرى يضرب الأمثال بقراءة ديستويفسكى أو الحرافيش، وقارن بين الإخوة كارامازوف كما ظهرت فى السينما وكما كتبها ديستويفسكى، وبين بعض روايات الأستاذ وبين ظهورها فى مسلسل أو فيلم، وهنا نبه الأستاذ إلى خطأ المضى فى هذه المقارنات قائلا: يقول لك يحيى بيه إن المخ سيبرمج، وبالتالى هذه المقارنات نفسها ستتبع أسلوبا آخر بمقاييس أخري.مضى أبو النصر يتكلم عن تيار الوعى، وعن استحالة إخراج دفقات اللاشعور كما ظهرت فى عوليس مثلا بأية وسيلة أخرى، بمعنى استحالة الغوص إلى أعماق النفس كما يفعل الكاتب بالقلم والورقة، ثم كما يفعل القارئ بالنظر والقراءة، انتهزتها فرصة لأمضى إلى شرح وجهة نظرى أكثر: رجعت إلى فكرة (أمل/حلم) إخراج الحرافيش كفيلم، وقلت إن المسألة ينبغى أن تفهم على أنها إعادة صياغة وليست نقل نص، وحتى يتضح الأمر، لا بد أن نفرق بين نوعين من الإبداع، أو من الفن، الأول هو ما يمكن أن أسميه “سبْرُ غَوْر”، والثانى ما أطلق عليه (الآن): ” فَتْحُ آفاق”، ففى حالة سبر الغور، وهو ما يدافع عنه أبو النصر وهو ما يصلح له أسلوب الكتابة عادة: حيث يمضى المبدع إلى طبقة وراء طبقة، وإلى بئر وراء كهف، يكشف ويصف، ويكشف ويصف، بما لا تتيحه أداة أخرى، أما فى النوع الآخر (فَتْحُ آفاق) فالمبدع يزيح غطاء من هنا، ويضيء زاوية من هناك، ومهما كان صغر الزاوية أو حدود الغطاء فإن رسالة الإبداع تتناسب مع المساحة والمدى اللذان تتيحانها للمتلقى وليس مع كم المعلوات ومدى العمق، والذى كنت أتصوره لنقل الحرافيش إلى فيلم من ثلاث ساعات وليس مسلسل من مائة حلقة هو هذا النقل من نوع إلى نوع، أو ما يمكن أن أسميه الإبداع الموازي.
ويعود الحديث إلى يوسف شاهين، ويعود اللمز إلى سر قبوله عند إخواننا الغربيين، وأنه ممن يشيرون ولا يفصحون، ولكننى أخاف من يفهم رأيى على أنه مناصرة لهذا اللون من الإبداع اليوسفشاهينى الذى لم أحبه حتى فى فيلمه الباكر ” عودة الإبن الضال” الذى أشارت إليه د. منال باعجاب وتقدير باعتبار أنه النقلة الهامة عند يوسف شاهين، وأذكّر الأستاذ بالخبر الذى حكيته له سالفا عن الذى أخذ أربعة ملايين دولار لفكرة فيلم كتبها فى صفحة ونصف صفحة، فالمسألة ليست بكم الصفحات، وإنما بأصالة الفكرة وتكثيفها، فيقول الأستاذ إن فكرة الفيلم قد تأتى من كلمة، وأنه يذكر أنه كان جالسا مع حلمى رفلة (الذى ذكر مرة أخرى تاريخ حياته من كوافير إلى ماكيير إلى منتج مع إضافة أنه ظل يسرح الست أم كلمثوم حتى بعد أن أصبح منتجا له شأن ذو رنين)، يقول الأستاذ أنه كان جالسا معه، وكان أيامها السيرك الرومانى قد حضر إلى القاهرة فإذا بساقى القهوة يقول مازحا: إسماعيل يس فى السيرك، فيلتقطها حلمى رفلة، ويرسل فى اليوم الثانى مصورينه وهات هات هات، قبل أن يتفق مع إسماعيل يس أو غيره، ثم يخرج فى النهاية الفيلم
ثم ينتقل الحديث إلى رمسيس نجيب وكيف نشأ ريجيسير، وشارك ممدوح الليثى وكانا من أمهر وأحذق المنتجين فى رجال الأعمال، حتى وقع رمسيس نجيب فى حب لبنى عبد العزيز، وهات يا إعلانات ليس عن الفيلم وإنما عن الست (المدام)، مما أدى إلى انفصال ممدوح الليثى إنقاذا لما تبقى من أمواله
ويحكى أبوالنصر عن معرض سلفادور دالى المقام حاليا بقصر الفنون بالزمالك، وكيف أنه يحوى من اللوحات الرائعة والنادرة كذا وكيت، وتأخذه الحماسة حتى يقول إنه لا يوجد فى مصر ولا واحد فى الألف من هذا الفن، وأثور فى داخلى وقبل أن أنطق يذكره نعيم بالفنان التشكيلى الجزار (أظنه عبد الهادى الجزار) ثم أذكر أنا جميل شفيق، وأنبه إلى خطورة هذا الاندفاع إلى الانبهار بالشائع هكذا، فلوحة دالى إن صلحت لبنك يابانى أو ملياردير سويسرى فقد تكون دلالتها وجمالياتها غير ذلك عند ناس مثلنا. ثم أردت أن أستوضح - استطرادا- نقطة شغلتنى عن أثمان هذه اللوحات، وسألت من يفهم فى هذا الأمر أكثر منى عن القيمة الفنية لما هو النسخ بتصوير متقن تماما للوحات الفن الأصلى بحيث لا يمكن أن يميز الفرق إلا خبير متخصص، (وقد شغلنى قبل ذلك نفس السؤال عن الجواهر المقلدة) وأسمع الإجابات التى لا تشفى غليلى، وأتساءل أليست وظيفة هذه النسخ المصورة هى أن تنشر هذا الفن الراقى، وترتقى بذوق المتذوق الشخص العادى الذى قد لا تتاح (بل من المؤكد أنها لا تتاح) له أدنى فرصة لسماع شيء عن هذا الفن النادر والثمين ناهيك عن مشاهدته، ناهيك أكثر عن اقتنائه؟ وقد ذكرت للأستاذ اعتزازى بمجوعة كروت صغيرة اشتريتها من المونمارتر المرة تلو المرة، لكل من أحب من الفنانى وخاصة فان جوخ، وأننى أتأملها وكأنى أشاهد اللوحة الأصلية، بل إننى مع استعمال هذا الجمال المقلد فى الحيلة العادية ولو كقاعدة للقهوة والشاى الساخنين، لأن الإلحاح على الحواس بالجمال من أى مصدر وفى أى وقت خليق بأن يشكل الحواس كما ينبغى لما ينبغى، ويوافقنى الأستاذ بتواضعه، فى حين يتحفظ أهل القيمة (وليس بالضرورة أهل القمة)، ونذكر بالمناسبة فضل ما جمع ثروت عكاشة من مجموعات من المتاحف والتاريخ خليقة بأن تؤدى دورا هاما مهما كانت مستنسخات غير أصيلة.
وأسأل أهل التقصى عن حقيقة استعمال ثروت عكاشة لجهد غيره فى معظم ما أخرج، فيأتى الرد بالإيجاب، وأنه كان استعمالا مأجورا أجرا سخيا، وأقول إنه بالرغم من تحفظى من ناحية الأمانة واستغلال الحاجة إلا أنه من حقنا أن نتصور أنه لو لم يستعمل هؤلاء هكذا، إذن لكان من الممكن ألا يفعلوا شيئآ، وتُذكر أسماء لا أذكرها لكن واحدا من هذه الأسماء ذكر أن هذا الاستعمال السرى، ربما قد ساهم فى قرار أحد هؤلاء المستعمَلين الانتحار، ذلك أن الإنسان حين يرى نفسه وجهده وقد تذيل إسم غيره مهما كان، فإن أى تعويض مادى لا يجزيه، ونظرا لاستمرار حاجته، فإنه يستمر فى بيع إسمه وقدراته حتى ينتهى إلى لا شيء، ولتحقيق اللاشيئية كان الانتحار، ربما، وأنا أرفض عادة مثل هذا الربط السببى المسطح، وبالتالى أرفض هذه الرواية وأرجح أنها إشاعة.
واستأذنت وأنا فى حالة راضية من محتوى الحديث وحماس النقاش، وكنت قد أشرت إلى الدكتورة منال أننى اليوم - هكذا- أستأهل عزومتى لنفسى على الغداء المجانى (البلوشى) الذى تناولته فى الفندق المجاور قبل أن أحضر إليهم.