نشرة “الإنسان والتطور“
10-3-2011
السنة الرابعة
العدد: 1287
الحلقة السادسة والستون
الجمعة: 2/6/1995
… عدت من الندوة الشهرية بالمستشفى إلى بيتى بمجرد انتهاء المناقشة هاربا من القبلات والحوارات الجانبية، فاليوم هو الجمعة الأول من الشهر والأستاذ عندى: وجدت من بين مجموعة الحضور: د. مجدى عرفة، د. خالد الرخاوى، د. محمد عبد الوهاب، أ. يوسف عزب، د. أحمد عبد الله، كانت الندوة عن رواية ”هموم شخصية”، قدمها الدكتور إيهاب الخراط، ومحمد عبد الحميد، وبمجرد حضورى طلب منى الأستاذ بشغف شديد أن ألخص له ما دار فى الندوة، أصبحت هذه هى القاعدة منذ ندوة صلاح عبد الصبور وحتى الندوة الأسبق: فيلم توفيق صالح “المخدوعون”، أحسست من خلال هذه القاعدة أن الأستاذ يحضر معنا الندوة، ويبدو أن داخلى كان قد أحس بذلك قبلى، فقد لاحظت أثناء وجودى فى الندوة، أننى أتعمد التركيز على بعض ما أتصور أنه يهم الأستاذ، لأنقله له فى تلخيصى، وهكذا خف شعورى بالحيرة بين صحبته وبين الندوة يوم الجمعة الأول من كل شهر، وبالتالى خف شعورى بالذنب لتركى له لحساب الندوة، حكيت له أننى سمعت أول ما سمعت عن هذا العمل الذى قدمناه فى الندوة لأوى كنزابورو من يوسف القعيد، باعتبار أن كنزا بورو له طفل متخلف عقليا (مغولى)، وأنه يحكى تجربته فى ذلك العمل، لكننى حين قرأت العمل وجدته غير ذلك تماما فهو رواية بكل معنى الكلمة، وهى خبرة شديدة العمق والتفصيل، وقلت للأستاذ أن ثمة اعتراضا من أحد مقدمى الندوة (محمد عبد الحميد على ما أذكر) أثير على أساس أن الرواية لا تحمل بصمات اليابان، وأن أى أمريكى أو أوربى غربى يمكن أن يكتبها، وأن العمل افتقر إلى تلميحات أو أرضية تؤكد هوية محلية الرواية، كذلك نقلت للأستاذ اعتراض د.إيهاب الخراط على الترجمة من الإنجليزية، وأنها غيردقيقة، قلت للأستاذ : أولا إنه بعد تجربتى الخاصة لمحاولات ترجمة مقالتى عن نقد ملحمة الحرافيش إلى الإنجليزية زدت شكا فى كل التراجم على الإطلاق، لكن ما وصلنى بالنسبة لهذه الرواية هو أن المترجم اجتهد اجتهادا شديدا لإعادة الصياغة واستلهام روح النص، وهذا مطلوب جدا، أما مسألة أن العمل لم يعبر عن اليابان، فمن ناحية لقد أصبحت القرية العالمية المعاصرة (وليس النظام العالمى الجديد) أضيق من أن تعمّق اختلافات جسيمة، ثم إن الكاتب عبر خير تعبير عن ”اليابانى”، حتى وإن لم يعبر عن اليابان، ثم إن الرواية عكس ما أشار القعيد ليست رواية معاناة أب مع إبن متخلف عقليا بقدر ما هى مواجهة حادة مع الحياة لذاتها، وأنه ليس من حقنا، ولا فى مقدورنا، أن نتخلص من الحياة إن لم تعجبنا، أثناء إيجازى للندوة تذكرت أننى ناقشت الأستاذ فيها ذات لقاء سابق فالقصة – المواجهة- بدأت قبل الولادة، والأب ينتظر فى الشوارع أجبن من أن يواجه مسئولية الوالدية، أو مسئولية الإسهام فى استمرار الحياة، فيتركها للأم وأمها، ويكتفى بالاتصال للطمأنينة أو لإبراء الذمة أمام نفسه، وهو يكتفى باتصالات هاتفية مرتعشة، ثم حين يرزق بطفله ذى الفتق المخى، يتخلى عنه على الفور، ويفكر أن يتركه يموت ولا يعطيه فرصة التدخل الجراحى، ثم هو يدرك من خلال تنبيه زوجته أن الهرب مستحيل، وأنه لن يخدع نفسه بتصور أن سلبيته أرحم من إيجابية اتخاذ قرار التخلص من الوليد، فيقرر أن يسلمه لطبيب الإجهاض ليقضى عليه بالطرق الطبية، لكن الذى يوقظه حدث شديد التفاهة فى ظاهره، شديد الدلالة فى حقيقته، ذلك أنه بعد تسليم طفله إلى الطبيب ليقتله (بالسلامة) يتجنب أن يدوس فأرا ميتا، فيعلم أن الحياة تحافظ على نفسها، وأنه تجنب ذلك الفأر لعل احتمال واحد فى المليون أن يكون مازال حيا فلا يجهز عليه، فكيف سمحت نفسه أن يقتل إبنه لمجرد أنه ضعيف العقل، فيعود على أدراجه بسرعة ليتسلم إبنه ويسلمه للجراح لعل وعسي
وأعترض على النهاية بإعلان كلمة الأمل التى سمعها من المنشق المجرى، مع إضافة كلمة الصبر إليها ذكرتنى بنهاية الأفلام المصرية القديمة
بقى أن أشير – هكذا أكملت للأستاذ- إلى خلفيات ثلاث:
الأولى: الحلم الإفريقى الذى كان يمثل لى طول الوقت عرضا خفيا أن الحل فى البدائية، وأرى أن إفشال هذا الحل فى النهاية، وذهاب صديقته الحرة حتى تكاد تكون مومسا مع صديقها إلى إفريقيا بدلا منه هو إشارة جيدة إلى رفض البدائية
أما الخلفية الثانية: فقد كانت فى توظيف الجنس (وإلى درجة أقل السكر- الخمر) فى إبلاغ رسائل دالة عن النقلة من نوع الحياة المنفصلة العاجزة الجافة العقيم (الجنس الشرجى) إلى نوعية الحياة (/الجنس) الكلية المتكاملة المتواصلة الولود، ثم إنه من خلال الجنس قد أظهر الكاتب كيف أن الخوف من الإنجاب (من الحياة) قد يكون وراء العجز الجنسى فى بعض (أو كثير) من هذه الحالات.
أما الثالثة ( وإن كنت أحسب أنها ليست خلفية تحديدا)، فهى استخدام الكاتب الدقيق جدا لتشبيهات ومجازات نبض الحيوان والنبات، الأمرالذى أرجعنا مباشرة إلى مسألة الحياة للحياة، فى جذورها الحيوية العارية، بل والنباتية الرحيقية، وقلت للأستاذ إن كل ذلك يصبح له أهمية خاصة حين نتذكر أن هذه قضية “الحياة والموت” هكذا يتناولها كاتب يابانى، وهو عندى يمثل من انتقل قفزا من التخلف إلى الثراء، من عبادة الإمبراطور إلى صقل أدوات الرفاهية بأعلى وأتقن ما توصلت إليه التكنولوجيا، يعمل إثنى عشر ساعة ويسكر أربع ساعات،وينام ستا، ويكتب ويقرأ، ويتثقف، ويتواصل ويغنى وينجب وغير ذلك ساعتين اثتين كل نهار، النتيجة هى هذا الجفاف واللاحياة المتجسدة فى هذا المسخ ذى الفتق الدماغي
لم يعلق الأستاذ وإنما هز رأسه وحاجباه مرتفعان، خير!! لعلى نجحت أن أبلغه شيئا ما، اعترض زكى سالم على جرعة الجنس المفرطة فى الرواية، ولم أوافقه فقد وظفه الكاتب بأدق وأرق ما يكون، وأيضا بأكثر الصور جلبا للاشمئزاز والرفض لهذا النوع من الجنس.
قرأت للأستاذ بعد ذلك مقال السعدنى فى المصور، وهو مقال بعنوان : لكين الناس ظلمونى، وهو يعلن بوضوح رفض قانون الصحافة الجديد.
ذكرت للأستاذ مازحا تصريح الرئيس مبارك هذا الصباح للصحفيين أننا لن نحارب تحت أى ظروف، وقلت له – لهم- إن هذه المبالغة والتعميم لهما معان سيئة، ثم أكملت مازحا، ماذا لو أن شخصا إسرائيليا (بتكليف من الموساد)، اغتصب والعياذ بالله شخصا عزيزا على رئيسنا الجليل، إننا بلا أدنى شك سوف نحارب ردا على شرفه الذى هو شرفنا، وانتقاما من المغتصب الأثيم، إلخ، فلماذا هذه التصريحات التى تذكرنا بعناد القدر والسادات يصرح أن حرب 1973 هى آخر الحروب؟ .
ويأتى الكباب، والله زمان!، ويدهش الأستاذ ولا يرفض، ويأكل الأستاذ -والجميع- بشهية كفتة وكبابا وخبزا وسلطة زبادى، وينبسط، وأنبسط
الإثنين 5/6/1995
المطار: عادل، محمد، حافظ، واحد لا أعرفه، زكى، نعيم، صوفى تل المطار، كان قد ظهر اليوم حديث أجراه فتحى العشرى بدأه مفتقدا نجيب محفوظ، شاجبا صمته واختفاء ضحكته وكان الحديث عن السينما، وقد جاء الوصف ضد ما اعتدته من الأستاذ هذه الأيام، فهو حاضر بقدر ما يكون جليسه حاضرا ومقدرا، وهو ليس مكتئبا كما وصفه العشرى، وهو وهو، وقد ألمحت بذلك إلى الأستاذ، وتعجب وقال إن بعض من يجرون الأحاديث معى يأتون وفى ذهنهم إجابات معينة يتوقعونها أو يتمنونها، ثم إذاجاءتهم الإجابات عكس ما توقعوا أو تمنوا انقلب حالهم وتململوا، وكذا وكيت، وقد جاء فتحى يسألنى عن رأيى فى الرقابة وفى الخصخصة، وهو ضد الرقابة وضد الخصخصة، لكننى مع الرقابة، وأرى أنه يستحيل أن تلغى، وأنها ليست لصالح المجتمع فحسب بل هى لصالح العمل ولصالح المنتج، إنها تحمى المنتجين من شطحات المخرجين مثلا، عندك واحد زى يوسف شاهين يروح شاطح الشطحة يطلع الفيلم يصادر، يعمل إيه المنتج؟ الرقابة تحميه، أما الخصخصة فهذا هو الاتجاه السائد فى كل شيء فلماذا نخص السينما بغير ما نخص به بقية النشاطات، شجعنى رأى الأستاذ فذكرت له وصف فتحى العشرى لحالته المهمومة والمنقبضة فى بداية المقال، فقال الأستاذ مازحا، لقد كانت حالتى كذلك ” بس لما شفته”
حدثت الأستاذ عن ندوة (جمعية نهضة مصرالطبية!!) كنت قد حضرتها فى الصباح عن قهر الطفل، وقلت له إننى تكلمت عن قهر الكبار، فأطفالنا لا يعانون من قهر مثلما يعانى الكبار، وفاقد الشىء لا يعطيه، أما الأطفال فينبغى أن نهتم بمشاكل لها أولوية حقيقية مثل حرمان الأطفال، أو إجهاض إبداع الأطفال، ويذكرالأستاذ القهرالذى يتعرض له المدرس، ليس فقط من الناظر أو الوزارة مثل زمان، بل من أهل الحى وأولياء الأمور إذا هو منع الغش مثلا، وكنت قد حدثت الأستاذ عن ندوة يوم الخميس الماضى عن ميثاق الشرف للنفسيين والمربيين، وقلت له إنه إذا كان مبرر إعطاء الدروس الخصوصية هو مبرر واقعى من حيث غلاء المعيشة ومحدودية الدخل، فما هو مبرر تغشيش الأطفال بواسطة الكبار علانية وجماعة حتى فى الامتحانات العامة، وفى الصعيد خاصة؟
وانتقل الحديث إلى مشروعية ومعنى وفائدة ضرب الأطفال، وقبل أن أسرد بعض الآراء التى طرحت، ذكرت للأستاذ حديثا طريفا سمعته فى الصباح بين سيدتين كانتا تشاركانى المصعد إلى الندوة، كانت إحداهن تشكو من كثرة الندوات (بلا جدوى) حتى قالت الأخرى موافقة : حقهم يسمونها ( القاهرة) مدينة الألف ندوة بدلا من الألف مئذنة.
ويقول نعيم متحمسا إن ضرب الأطفال جريمة ليس لها أى مبرر، ويوافقه عادل عزت بحماس شديد، وأقول إن المسألة أعمق من ذلك، فالمسألة ليست ضرب أو لاضرب، وإنما هى مسألة توظيف هذا الاقتراب الجسدى الذى يأخذ شكل الضرب، توظيفه فى ترسيخ العلاقة من ناحية، وفى تعليم الصواب والخطأ والالتزام والعبث من ناحية أخرى، يقول عادل عزت إن الطفل مثل الصفحة البيضاء نشكله كيف نشاء، فأقول إننى لا أرى الطفل كذلك، وإننى كتبت قصيدة فى هجاء البراءة، فينبهنى عادل عزت إلى أن مقولته لا تعنى البراءة بوجه خاص، ويتساءل الأستاذ عن هذه القصيدة فأعد بإحضارها، وأزعم أن الأستاذ وأنا، وما نمثله من أجيال استفدنا من الضرب بشكل أو بآخر، ويذكر الأستاذ ضرب المدرسين المتفنَّن فيه، كما يذكر كيف أن مدرس الحساب كان يتفنن فى إعطائهم مسائل الواجب يوم الخميس حتى يحرمهم – بشكل أو بآخر- من فسحة الخميس وراحة الجمعة، ويقول الأستاذ إن النهى عن ضرب التلاميذ قانونا صدر من قديم، ربما فى الثلاثينات، وأن الطلبة كانوا يرسمون بأيديهم (السبابة والوسطى) رقم 8، ورقم 8، إشارة إلى المادة 88 التى تمنع الضرب. ويسأله زكى سالم عن رأيه فى الفرض الذى طرحته : إن للضرب فى الطفولة جانب إيجابى، فيوافق على أن له جانب إيجابى لكنه لا يستطيع أن يحدده.
ويشارك محمد يحيى فى الحديث من موقع المضروب (وكان قد ثار هذا الموضوع من منطلق آخر أثناء إحدى خروجاتنا بعد جلسة الجمعة مع الأستاذ)، ويقول محمد إن ضرب المدرس غير ضرب الوالد، فالمدرس يضرب لتقصير معين فى وقت معين أما الوالد فقد يضرب عموما والسلام، والمدرس يضرب وهو غير مغيظ عادة، أما الوالد فهو يفرغ غيظه بشكل أو بآخر، والمدرس يضرب وهناك مساحة من الزمن والمكان فى علاقته بالتلميذ غير موقع الضرب وتوقيته، أما الوالد فهو محيط بطفله قبل وبعد الضرب، وحواليه، لذلك فضرب الوالد أصعب وأخطر، وأتذكر كيف ضربته وهو فى سنة أولى ابتدائى أو قبلها، ضربته بعقلة إصبعى الوسطى على رأسه (وفهمت حينذاك ماذا يعنون حين يقولون على أم رأسه)، وأخجل لأننى ساعتها فعلا كنت فى حال، لكننى أذكر أيضا أنه كان رافضا المدرسة “من أصله”، وإن لم يعلن ذلك، لكننى استنتجته، وأنا لى تاريخ قديم فى رفض المدرسة حتى دخلت المدرسة الأولية فى سن السابعة ثم بعدها دخلت مدرسة الجمعية الخيرية الإسلامية فى طنطا فى الملحق، ولكن الأمور اختلفت ونحن فى القاهرة، وإبنى فى مدرسة الفرير، ثم إن المسألة ليست ضربا أو لاضرب، وإنما هى مسألة أن آباء هذه الأيام قد لا يضربون ليس لأنهم أكثر إيمانا بالحرية وما يسمى التربية الحديثة، وإنما لأنهم أكثر ميوعة وتخلٍّ عن المسئولية، ويرفض نعيم هذا الاحتمال، ويشير إلى أنه ربى ابنته الوحيدة بالزغر والتأنيب المتصاعد المُصِرّ طول الوقت، وأن زغرة مناسبة قد تفعل ما لا يستطيعه الضرب، ويتدخل ابن اختى: د. خالد الرخاوى ويرحب بفكرة الزغر الملاحِق، لكنه يضيف: إن أطفالنا يتصفون بالزّن أكثر مما نسمع عن أطفال الخواجات، وأن ناتج الزن هذا هو استسلام الآباء والأمهات لطلباتهم، أو الضيق بهم والانفجار فيهم، وأقول للأستاذ إننى فى ممارستى للعلاج الجمعى مررت بخبرة مفيدة تناسب هذا السياق وتوازى مسألة ضرب الأطفال، ذلك أن ثمة مرضى راقدون فى الخط تماما ولمدة سنوات، وهم يشاركون فى هذا العلاج الجمعى، وأننى كنت أحيانا أسمح بجذبهم أو الضغط عليهم جسديا حتى أنتزعهم من قوقعتهم وأفرض عليهم نوعا من المشاركة، وحين يشعرون بجدية الموقف وقوة معنى الحركة، يستطعمونها، ثم يقبلون عليها ويتواصل السعى فى طريق الشفاء.. إلخ، لكننى لا حظت أن هذا الضغط من جانب المعالج أو من مريض آخر قد ينقلب إلى إيذاء وقسوة، فتراجعت رويدا حتى منعته تماما، اللهم إلا بشروط شديدة الإلزام، مثلا: انتبهت إلى أن وجود مسافة بين الضارب والمضروب يخلق نوعا من الانفصال بحيث يصبح الالتحام الجسدى أكثر مفاجأة وأشد قسوة وأقل شرعية، وقد اشترطت لاستعمال الأيدى أو الجسد فى العلاج أولا: أن تكون هناك علاقة حقيقية وطويلة وواضحة بين المعالج والمريض، ثانيا أن تلغى المسافة قبل أى ضغط (لم يعد إسمه ضربا بل ضغطا أو دفعا) بمعنى أن يشبك الاثنان أيديهما ببعضهما البعض، ثم يبدأ فى الضغط أو الجذب أو الدفع وهكذا، ثالثا: أن تكون المعاملة بالمثل فما يفعله المعالج للمريض يحثق للمريض أن يفعله للمعالج لكن هذا أيضا لم يمكن ضبطه حتى منعته نهائيا مؤخرا، حذرت من هذه الرقة المصطنعة التى يتكلفها الآباء والأمهات المعاصرين، فتبدو معالمهم مهتزة وليست متسامحة كما يتصورون (وتذكرت فيما بعد: إن هناك شرطين آخرين لتقييم مسألة الضرب هذه، أولا: أن يتألم الضارب مثل المضروب وأكثر، وأن يتحمل مسئولية فعل الضرب ويمضى فى إرساء العلاقة بعد حادث الضرب بما يبرره، وأخيرا ألا يعتذر عن الضرب حتى لو كان خطأ، فالاعتذار عادة يختلط بالشعور بالذنب، والطفل قد يستقبل الضرب بقبول معقول وفهم مناسب حين يجد له ما يبرره، أما إذا اعتذر الوالد فإنه يؤكد للطفل اهتزاز موقفه وبالتالى يزداد عند الطفل شعوره بالظلم والامتهان، وأخيرا نبهت إلى أن ما ندعو إليه هو احترام الطفل وليس فقط حبه كما يشاع، الأم (والأب) لا ينقصهما حب الطفل وفى عمقه قدر كبير من الامتلاك (وهم يسمونه حبا أيضا) لكن الذى ينقص الوالدين هو الانتباه إلى خطورة تذبذب أو ميوعة أو لامسئولية موقفهما.
ثم قرأت بعد أيام (الآن) رأى د. هـ. لورنس فى هذه المسألة فى كتابه فنتازيا اللاشعور Fantazia of the Unconscious يقول فى ص 72 من الترجمة العربية (كتاب الهلال نوفمبر 1992 ترجمة عبد المقصود عبد الكريم) “إن العقاب الرقيق بالطريقة الروحية، عادة، أكثر بذاءة وخطورة من الضرب الخيّر، إن استنكار الأم المؤلم والمستسلم بالغ السوء عادة، إنه أسوأ من صيحات غضب الأب، إن إرسال الطفل إلى السرير وحرمانه من الحلوى لمدة أسبوع..إلخ أكثر وحشية ودلالة من الضرب على الرأس بعنف، وفى العقاب الرقيق لا يعانى الأب، ويقتل الطفل، إن تنمر الإرادة الروحية الكريمة الرقيقة نقد لاذع للروح ببساطة، إلا أن الأبوين يدبران ذلك بكل فضيلة الاستقامة والشدة الخيرة، مبررين نفسيهما تماما ثم يقول:
إن دفعك طفلك لتوبيخه توبيخا حقيقيا،فعليك توبيخ الطفل توبيخا حقيقيا، وعليك أن تدرك طول الوقت ماذا تفعل، وأن تكون مسئولا عن غضبك دائما، لا تخجل منه أبدا، ولا تتخلى عنه أبدا……، وبعد أن ينتهى غضبك العميق لا تستمر أبدا على هذه الحالة، القاعدة الوحيدة: إفعل باندفاع ما تأمل أن تفعله حقا، بإخلاص دائما على مسئوليتك وتحمل شجاعة عاطفتك القوية، إنها تغنى روح الطفل”.
أعتقد أن الأستاذ قد التقط ما أعنيه، وإن كنت أرجح أنه لم يمل إلى التسليم به.
انتبهت أنه علىّ أن أمارس بعض الضغط على الأستاذ حتى يأكل، قال إنه أكل كفاية، لم أصدق، طلبت شيئآ به جبن، ذهب حافظ وأحضره، لم يتناوله الأستاذ معتذرا أن معدته أصبحت صغيرة الحجم، وقال إن الظاهر أن من يلزم نفسه برجيم طول هذه المدة لا بد أن تصبح معدته صغييرة جدا، أى شيء يملؤها فيشعر الإنسان بالشبع من لقيمات قليلة، ووافقته على ذلك شارحا بعض العلميات الجراحية التى تجُرى للمفرطين فى البدانة ومنها استئصال جزء من البطن، أو بعض التجارب لإنقاص حجم المعدة مثل إدخال بالون فيها حتى يتم صد النفس فالنحافة.
فى طريق العودة، عرجنا مع د. خالد الرخاوى (إبن أختى، أستاذ الرمد) إلى عيادته فى روكسى وكشف على عينى الأستاذ بهدوء وإتقان، وقرر أنه لا عملية، وأن الضمور للأسف قد لحق بؤرة العين، وأنه لا علاج له حاليا، وأنه ليس بسبب السكر، وأنه لا توجد أية علامات تدل على مضاعفات السكر، وأنه إذا أهمل السكر لمدة خمس وعشرين سنة من الآن، قد تترب عليه مضاعفات محدودة، وضح الأمر للأستاذ ونزل راضيا صابرا.
أثناء نزولى على السلم مع حسين حمودة قلت لحسين إن هذا الرجل نادر المثال، ثم أضفت: إن أهم ميزة فيه أنه هو هو: الظاهر والباطن، الكاتب والإنسان، الصديق والوالد، هو هو، وهذا رائع، وافقنى، قلت له أيضا: إن هذه الفرصة التى أتيحت لى وله ولنا بأن نكون بالقرب منه هكذا هى فرصة نادرة ورائعة، وافقنى، قلت له: إننى أتمنى أن آخذ منه بعض ما يمكن، إننى أخشى أن تضيع الفرصة قبل أن نستوعب قيمتها، قال لى حسين: إننا كلنا نأخذ منه فعلا كلّ بقدر تحمله، وربما بقدر رؤيته، وأن الدرجات تختلف والمناطق المنتقاة تختلف، ووافقته.
قلت له إننى أتعلم من الأستاذ أكثر حين أرى نقيضه فى فترات متلاحقة، فمثلا أنا كنت مع سعد الدين إبراهيم هذا الصباح، وتساءلت أهذا الإنسان هو من نفس العجينة أو الفصيلة التى ينتمى إليها الأستاذ؟ إننى أحيانا أضبط نفسى متلبسا بتصنيف الناس إلى ما هو ” نجيب محفوظ”، وما هو “ضد نجيب محفوظ”، بدرجات متفاوتة، ولو علم الأستاذ ذلك لنهرنى، لأننى أتصور أن أفخر ما يفخر به شيخنا هو أنه شخص عادى، الآن فهمت كيف أن النبى بجلالة قدره، عليه الصلاة والسلام، كان يفخر بأنه رجل عادى يمشى فى الأسواق. ومع هذه المقارنة حضرنى مائة إسم مثل سعد الدين إبراهيم، ولم يحضرنى إسم واحد مثل الأستاذ،
هذا هو ما حدث!!
أعمل ماذا؟