نشرة “الإنسان والتطور”
الخميس: 13-4-2017
السنة العاشرة
العدد: 3512
فى رحاب نجيب محفوظ
قراءة أخرى للأحلام الأولى (14- 52)
تقاسيم على اللحن الأساسى
نواصل تقديم الــ 52 حلما الأولى بأسلوب: “التناصّ النقدى“
نص اللحن الأساسى: (نجيب محفوظ)
الحلم (14)
تريضت على الشاطئ الأخضر للنيل. الليلة ندية والمناجاة بين القمر ومياه النهر مستمرة تشع منها الأضواء. هامت روحى حول أركان العباسية المفعمة بالياسمين والحب. ووجدت نفسى تردد السؤال الذى يراودها بين حين وآخر. لماذا لم تزرنى فى المنام ولو مرة واحدة منذ رحلتْ؟ على الأقل لأتأكد من أنها كانت حقيقة وليست وهما من أوهام المراهقة. وهل الصورة التى طبعت فى خيالى هى الصورة الحقيقية للأصل؟
وإذا بصوت موسيقى يترامى إلىّ من ناحية الشارع المظلم. صارت أشباحا ثم تجلت مع ضوء أول مصباح صادفها فى طريقها أدهشنى أنها لم تكن غريبة على، هى الموسيقى النحاسية التى كثيراً ما استمعت إليها فى صباى ورأيتها تتقدم بعض الجنازات، وهذا اللحن أكاد أحفظه حفظا، أما المصادفة السعيدة غير المتوقعة فهى أن حبيبتى الراحلة تسير وراء الفرقة. هى هى بطلعتها البهية ومشيتها السنية وملامحها الأنيقة، أخيراًً تكرمتْ بزيارتى وتركت الفرقة الجنائزية تسير ووقفت قبالتى لتؤكد لى أن العمر لم يضع هدراً، وقمت واقفا منبهراًً وتطلعت إليها بكل قوة روحى. وقلت لنفسى إن هذه فرصة لا تتكرر لألمس حبيبة القلب.
وتقدمت خطوة وأحطتها بذراعى ولكنى سمعت طقطقة شئ يتكسر وأيقنت أن الفستان ينسدل على فراغ. وسرعان ما هوى الرأس البديع إلى الأرض وتدحرج إلى النهر وحملته الأمواج مثل ورد النيل تاركة إياى فى حسرة أبدية.
التناصّ (التقاسيم): (يحيى الرخاوى)
جلست على الأريكة الرخامية وأنا لا أصدق، الحسرة حسرة، وهى شعور أقسى من الحزن والألم والحرمان، رحت أنظر إلى دوائر الماء التى انزاحت الواحدة تلو الأخرى من أثر سقوط الرأس البديع برغم أنه لم يعد هناك بعد أن حملته الأمواج مثل ورد النيل، وأنهمرت من عينى الدموع فحمدت الله أنها خففت من مرارة الحسرة قليلا، شعرت يدا صغيرة تلمس جانب ذراعى فالتفت ناحيتها فإذا بها طفلة لم تتعدى السادسة تقريبا، ووجهها يشرق بابتسامة عذبة لم أر مثلها فى أى طفلة فى سنها ولا فى غير سنها، ترددت أن أكلمها وتمنيت ألا تكلمنى هى أيضا، وألا تلتفت بوجها بعيدا عن مجال رؤيتى فقد كانت ابتسامتها تقول ما لا يحتاج لزيادة، تقول كل شئ احتاجه فى هذه اللحظة، وفوجئت بالطفلة تسألنى: “مالك يا عمى”، قلت لها وأنا لا أجرؤ أن أحيطها بذراعى برغم أننى همست بذلك، “لا شئ يا حبيبتى، لكنها كانت حبيبتى”، قالت: “وهى كانت أمى”، فتأملت وجهها أكثر فإذا بى وكأنى أراها هى هى كما عرفتها منذ زمن المراهقة وحتى اختفت الآن، هممت أن أسأل الطفلة عن اسم أمها، ولكنها كانت قد اختفت دون أن تنطق، فزعت وغمرتنى حسرة جديدة، وكأنى أفقدها مرة أخرى، قمت دون أن أدرى، وتوجهت كالمنوم نحو سلالم كانت قريبة تنزل إلى النهر، ونزلت حتى انتهت السلالم فواصلت سيرى نحو الماء، وبدلا من أن أبتل أو أغرق وجدتنى أسير فوق سطح النهر، وكأنه بساط أمتد تحتى من السماء،
ولم أبال بالبرقْ الذى لمع فى السماء مرارا،
ثم هبطت الأمطار كأنها الطوفان