نشرة “الإنسان والتطور”
الخميس: 12-1-2017
السنة العاشرة
العدد: 3422
فى رحاب نجيب محفوظ
“التناصّ النقدى“
قراءة أخرى للأحلام الأولى (1-52)
وهو النقد الذى لم ينشر قبلا
نص اللحن الأساسى: (نجيب محفوظ)
مقدمة:
أعذرنى شيخى الجليل فأنت أعلم بظروفى هذه الأيام، ودعنى أعتذر لك عن مواصلة نشرة نقدى “ليقين العطش لإدوار الخراط” مع أننى أعتبر أنه كان من أهم ما أردت توصيله لك، لكننى وجدت تقديمه مسلسلا هكذا فى نشراتنا اليومية، ربما يـُفـقدهُ وحدته الضرورية، لأنه نقد يتناول صعوبة العلاقات البشرية حتى الاستحالة وحتمية مواجهة هذه الاستحالة لتكون هى الممكن الوحيد الذى يجعل من البشر بشرا، حتى أن العنوان الأصلى كان هو “استحالة الممكن وإمكانية المستحيل”.
السبب الثانى الذى دعانى أن أتوقف عن مواصلة نشر هذا العمل هو أنه احتل، وسوف يحتل أضعاف ما احتله نقد رواية “أسم آخر للظل لـ حسن حسنى”، وهذا احتلال لليوم الذى خصَّـصْـتـُهُ للقائنا كما كنا نلتقى كل خميس كل خميس، وكنت أتصور أننى بذلك أهدى إليك محاولاتى – كما اعتدت – طمعا فى تقديرك وكرمك وترحيبك، وأننى بذلك سوف أستطيع مواصلة صحبتك فى نفس اليوم الذى اعتدنا عليه، لكننى بعد هذه النشرات الأربع أو الخمس وجدت أننى ابتعدت برغم حسن النية، وافتقدت تعليقاتك كما اعتدتها، وأبى خيالى أن يضعها على لسانك.
رجعت لتدريباتك المتبقية، ومازال عندى منها خمس كراسات، لكننى حين عدت أراجعها، وصلنى نفس ما وصلنى سابقا حين قررت أن أتوقف، وهو أننى خشيت التكرار فالإملال.
فجأة تفتحت لى آفاق جديدة وأنا أتصفح نقدى لأحلام فترة النقاهة الجزء الأول(1)) كانت بخط يدك شخصيا، ووجدت المنهج الذى أتبعته فى قراءة أغلب الأحلام (الفصل الثالث من حلم 53 إلى حلم 210) وهو منهج أنه “لا ينقد الشعر إلا شعرا”وهو الذى استلهمته من قصيدة أستاذى محمود شاكر على قصدة الشماخ، وهو هو المنهج الذى تناولته بعد ذلك وأنا أقدم “النفسمراضية” من خلال ما أسميته “نقد النص البشرى”والذى اعتبرته نوعا من “التناص“، وجدت أن هذا المنهج هو أقرب إلىّ، وإن كنت أعتقد أنه أدعى للرفض من محيط النقاد وعموم المثقفين (غالبا) وبرغم كل ذلك وجدته أقرب إلى ما أريد توصيله لك، وللناس، وأيضا هو الذى يتيح لى إبلاغ ما أتصوره ضرورة فنية عندنا فى الممارسة المهنية الأعمق “الوعى البينشخصى”.
لكل ذلك – وبعد إذنك – قررت بدءًا من هذه النشرة أن أعود للأحلام الأولى (الفصل الأول 52 حلما) وهى الأحلام التى قرأتها بالطريقة التقليدية فأعيد قراءتها من خلال هذا المنهج الذى أرى أنه الأفضل، والذى أسمح لنفسى الآن أن أسميه منهج “التناصّ” نقدا.
هذا بالنسبة للمجموعة الأولى التى كتبتها أنت يا شيخنا بخط يدك، فهى أقرب إلىّ وأحبَ، أما المجموعة الثانية التى ظهرت مؤخرا بعد سنوات من رحيلك (2)والتى أمليتها على الحاج صبرى فأنا لم أصاحبها بعد، كما أننى تحفظت على بعضها بشكل غير مباشر.
والآن:
دعنى أبدأ بما فاتنى نقده تناصًّا من المجموعة الأولى، وقد كنت أنوى أن أنشر كل حلم بنصه التقليدى، ثم بما استجد الآن من حلم على حلم أو نص على نص أو تناص ، لكن بما أنك سوف تسمح لى بالتراجع أو التعديل فى أى وقت، فسوف أؤجل هذه الخطوة خاليا، وهذا هو فضلك دائما على كل من يحاول ، وربما أعود لنشر النقد التقليدى مع هذا النقد الإبداعى للمقارنة لكننى متردد جدا خشية أن يُفسد بعضُه بعضَا.
حلم (1)
أسوق دراجتى من ناحية إلى أخرى مدفوعا بالجوع باحثا عن مطعم مناسب لذوى الدخل المحدود،(3) ودائما أجدها مغلقة الأبواب، وحانت منى التفاتة إلى ساعة الميدان فرأيت أسفلها صديقى، فدعانى بإشارة من يده فملت بدراجتى نحوه واذا به على علم بحالى فاقترح علىّ أن أترك دراجتى معه ليسهل علىّ البحث، فنفذت اقتراحه وواصلت البحث وجوعى يشتد،وصادفنى فى طريقى مطعم العائلات، فبدافع من الجوع واليأس اتجهت نحوه على الرغم من علمى بارتفاع أسعاره، ورآنى صاحبه وهو يقف فى مدخله أمام ستارة مسدلة، فما كان منه إلا أن ازاح الستارة فبدت خرابة ملأى بالنفايات فى وضع البهو الفخم المعد للطعام، فقلت بانزعاج:
– ماذا جرى؟
فقال الرجل:
أسرع إلى كبابجى الشباب لعلك تدركه قبل أن يشطّب، ولم اضع وقتا فرجعت الى ساعة الميدان، ولكننى لم أجد الدراجة أوالصديق.
التقاسيم:
….. تلفتُّ حولى، ونظرت إلى ساعة الميدان ووجدت عقاربها تتسابق وهى تتذبذب، وأحيانا كأنها تتراجع ، أو تدور بشكل غير منتظم، تسرع مرة، وتبطئ مرات، فتصورت أن بها خلل بالغ، وسألت عجوزاً يمسك عصا وينظر فى ساعة يده بين الحين والحين “كم الساعة”، فتعجب وقال: “الساعة أمامك يا ابنى”، وأشار إلى ساعة الميدان، لكننى نبهته أننى أريد أن أتأكد أن ساعة الميدان سليمة، لأن عقاربها تدور بغير نظام، فرفع حاجبيه وسألنى “ولماذا تريد أن تعرف الساعة”، فقلت له لأننى أبحث عن “كبابجى الشباب” فقال لى: وما علاقة الساعة بكبابجى الشباب؟ فقلت “أخشى أن يكون قد شطب لو أننا فى ساعة متأخرة”، فقال: “إنه لا يوجد كبابحى باسم كبابجى الشباب فى هذا الحى” وأن علىّ أن أبحث عنه فى سيدنا الحسين، قلت له: لكننى جوعان منذ الصباح، وقد أشار علىّ صاحب مطعم العائلات بهذا الكبابجى، فرفع العجوز حاجبيه وقال: إذن فقد وقعت يا أهبل!!، هذا هو!! أهكذا؟ تستأهل!!.
رجعت إلى مطعم العائلات وأنا خائف، ولست فاهما، طلبت مقابلة صاحبه وانتظرت فى البهو الخرابة فحضر متضررا وبادرنى قائلا: ما الذى جاء بك ثانية “لا تجعلنى اتصرف معك بما تستحق”، فاعتذرت له وسألته عن تحديد أكثر لعنوان كبابجى الشباب، فقال لى: هل جننت، إيش عرفنى، وهل ترانى أمامك شابا؟
خرجت خائفا أكثر، ركبت أول تُـكْ تُـكْ مرّ بى وطلبت أن يوصلنى إلى كبابجى الشباب فضحك الصبى بصوت مرتفع، وحين أكدت له أننى سوف أدفع أى أجر يطلبه قال “إركب وأمرى إلى الله، سأوصلك إلى حيث تريد على شرط أن تدلنى على ما تريد بالضبط،، قلت له: قلت لك كبابجى الشباب، فضحك أعلى من سابق وقال: صباح الخير بالليل، لكننى ركبت رغم ذلك وأنا أرجو فيه خيرا، وتعجبت حين وجدت التكْ تكْ يتجه ناحية المقابر، وزاد عجبى حين لمحت صاحبى والدراجة فى ساحة مهجورة بجوار المقابر مباشرة، فأوقفت التك تك واندفعت نحو صاحبى ودراجتى، لكنه أنكرنى وأنكر ملكيتى للدراجة، وحين قلت له ” تذكر تلك القبور التى سوف تحتوينا”، صفعنى بشدة حتى كدت أفقد وعيى، وانطلق بالدراجة مسرعا ولم أستطع أن ألحقه عدوا.
اشتد ظمئى أكثر، حتى كاد يحلّ محل جوعى ، واقتربت منى فتاة شابه فائرة، ممزقة ثيابها من أعلى حتى نفر منها بعض ثدييها، ومدت يدها كأنها تتسول،
وقالت: جائعة يا سيدنا الأفندى،
قلت لها: وأنا أكثر.
[1] – يحيى الرخاوى: “عن طبيعة الحلم والإبداع”دراسة نقدية فى “أحلام فترة النقاهة”نجيب محفوظ – دار الشروق سنة 2009
[2] – نجيب محفوظ “أحلام فترة النقاهة: الأحلام الأخيرة” دار الشروق سنة 2015
[3] – علامات الترقيم، والخطوط التى تحت بعض الكلمات أو العبارات هى إضافة من عندى – وذلك لزوم النقد حتى أسهل على القارئ الرجوع إلى ما أردت الإشارة إليه.