يحيى الرخاوى طبيب نفسى
نشرة “الإنسان والتطور”
الخميس: 29-12-2016
السنة العاشرة
العدد: 3408
منتدى النقد:
فى رحاب نجيب محفوظ
ضيف اليوم: حسنى حسن
رواية: “اسم آخر للظل”
الجزء الخامس: دور الجنس، وخلاصة الرواية
مقدمة
فى الجزء السابق، الاسبوع الماضى، تناولنا كيف تجاوز الكاتب التحليل النفسى الكلاسى، فلم تشده عقد مثل عقدة أوديب أو غير ذلك من هذه اللغة الشائعة، لكنه استطاع بحدس إبداعه أن يدعم الكشف الأحدث للنمو النفسى من منظور مدرسة العلاقة بالموضوع (المدرسة التحليلية الانجليزية: ميلانى كلاين وآخرين)، كذلك أوضحنا مدى مهارته فى تناول “جدل العلاقة الانسانية” حين يتداخل التناقض تفاعلا لا تصادما ليصير جدلا، وأخيرا أشرنا إلى كشف المؤلف عن آلية محورية من آليات النمو البشرى والعلاقات التواصلية: وهى آليه “الذهاب والعودة” المرتبطة ببرنامج “الدخول والخروج”، النمائى وأخيرا لم يغب عن الكاتب عمق آخر عن تعدد الذوات فهو مفهوم أحدث من مجرد تقسيم النفس أو تشريحها إلى مكوناتها.
واليوم نتقدم إلى كيفيه تناول المؤلف الجنس فى هذه الرواية
تناولت الرواية موضوع الجنس بعمق ابداعى جيد، دون الانغماس فى نظرياته أو حتى فى موقف التحليل النفسى منه حيث يمثل الجنس عموما أقوى الدوافع التى تقوم بدور التواصل البشرى، فالوظيفة التناسلية للجنس عند الإنسان تكاد تكون ثانوية إذا قيست بوظيفته التواصلية، بل إن الوظيفة اللذية للجنس تكاد تتوارى بجوار وظيفته التواصلية أيضا، حتى أننى رجحت أن أفتراض أن الطبيعة قد وهبت الجنس البشرى بالنسبة لوظيفته الجنسية خاصتين للحفاظ على الوظيفة التواصلية، وهما اللذة المصاحِبَة، والقدرة على التواصل بغض النظر عن الحاجة إلى الإنجاب أو الاستعداد للتلقيح، فالجنس البشرى عموما يتجاوز وظيفة التكاثر لمجرد حفظ النوع.
فى هذا العمل بدا لى أن ذلك كان واضجا تماما فى حدس الكاتب، حتى أنه أفشل كل المحاولات الجنسية المنفصلة عن التكامل، وللأسف فإن موضوع الجنس ليس واضحا حتى عند المثقفين والمختصين اللهم إلا من الناحية الفسيولوجية، وإلى درجة أقل من الناحية النفسجنسية، فى حين أن الجنس من المنظور التكاملى هو أكبر من أى تصور، ولعل فرويد كان يقصد ذلك فى بداية تنظيره، لكنه ابتعد هو، والأكثر ابتعد تابعوه عن توظيف الجنس لغة، وتكاملا.
ولن نبدأ بمتابعة تسلسل التاريخ الجنسى مع تاريخ الراوى، ولا مع ظهور ظاهرة الجنس طوليا فى الرواية، ولكن نبدأ مع سناء فمنذ أحلام القبلات فى طنطا، مستدعيا إرادة العشق الذى استولى على الراوى لسنوات ونحن نسير معا فى شوارع طنطا وأسواقها، حتى خبراته المتنوعة والمجهضة جميعا وقصته مع الجنس تقول أشياء كثيرة.
وقد كان فشله مع سناء لمدة شهرين واضحا ومهينا:
- “ألا تحس أتركنى فى حالى . أرجوك” (ص 126)
إلى أن قالت: والجنس قريب وجاهز ومنتظر
”طلقنى كن رجلا مرة واحدة” (ص 127)
ثم تتطور تجربته مع سناء على الوجه التالى:
ينقذه الشاب الشاذ جنسيا حين يثيره - رغم رفضه من حيث المبدأ-، ولكن نجاحه هذا كان قصير العمر بشكل دال، وفى ذلك نقول:
إنه لم يستطع أن يقتحمها إلا بعد أن آثاره الشاذ جنسيا الذى عرض نفسه عليه، لكنه نجاح لم يدم طويلا، وتفسير ذلك يمكن أن يكون كالتالى :
(1) إنه بالإثارة الخفية من الشاذ رغم الرفض الظاهر – استطاع أن يخترق حاجز العلاقة بالآخر، وهذا دليل على أن المشكلة هنا – وعادة – هى فى العلاقة بالآخر وليست فى العلاقة الجنسية مع جنس مخالف حتما.
(2) أنه لما أثيرت فيه الشبقية الذاتية حين رأى نفسه فى الشاذ جنسيا: نجح، فكأنه لم ينجح مع سناء، بل نجح مع ذاته، فقد كان يضاجع نفسه إذ يضاجع سناء، لكن هذا لم يدم بعد ذلك مما يؤكد أنه لم ينجح مع سناء، بل مع ذاته، التى سرعان ما طغت عليها الذات الجثة فى الداخل.
(3) إن العلاقة لما نجحت وضعتهما فى اختبار أعمق، فأُعْلِن فشلها إذن فقد كانت العلاقة التى وصفها مجاهد بأنها تكافلية “تعطين الحب والأمان، وأعطى العبادة والإذعان” أو “ستكونين الحياة وأكون سلبها”، ثبت أنها ليست علاقة تكافلية بالمعنى الإيجابى وإنما هى علاقة تقع ما بين العلاقة المواتية والعلاقة الطفيلية، وبالتالى فشلت حين قرر أحد أطرافها (سناء) أن ينجو بجلده، وإن كان الفضل يرجع أيضا لعجز وإصرار الراوى على خيبته شبه المقصودة.
نرجع إلى تفصيل هام بالنسبة لدور الجنس قصير العمر، حين نجح بعد أن أثير بالشاذ (لأنه آخر وذاتى فى نفس الوقت): “كان برغم إنقسامه، أو ربما بسببه، شقيقا بالروح” ….. ”لم أكن مستعدا لتلبية ندائه لمجاراته فى جنونه الإنقسامي”.(ص 128)
أثار فيه هذا الشاذ مواقف ودفاعات مختلفة منها:
أولا :التقمص (شقيقا بالروح).
ثانيا: عمق الرؤية (ص 128): “وبدا لى إمعانه فى تعميق التباسه أمرا لا يليق بكرامة الإنسان، وموقفا مضادا لكبريائه، مهما كانت مقتحمة بجهل وقساوة الوحوش الصغيرة”.
ثالثا: التعاطف “قلبى يبكيه دون أن أسمح لدموعى بتحويل الموقف إلى مهاترة عاطفية سخيفة”(ص 129)
رابعا: الرفض: (كرهت ضعفه وهوانه، وأنا أفكر فى عاهتي) (ص 129)
وأخيرا: إطلاق الوجه الإيجابى فى العلاقة بالآخر بحفز الاقدام “زمن البكاء والشكوى قد آذن بالرحيل، وأن زمنا للعنف والتقتيل يوشك أن يظل روحى لعتامته” (ص 129).
وهنا لمسة جديدة للعلاقات البشريةعادة ما تقابل ممن يسمعها منى بالرفض، وهى ما يتعلق بدورالقتل (العدوان) فى العلاقات البشرية.
والكاتب هنا حين يرسم هذه المراحل التى انتصر بها على عاهته يجعل الحل مرتبطا برفضه لسلبيته.
”.. أن زمنا للعنف والتقتيل يوشك أن يظل روحى بعتامته”. (ص 129)
إذن فإطلاق سراح القتل هو الذى تحقق من خلاله رفض الوجه السلبى فى الشذوذ رغم التقمص الكامل به، (كان برغم إنقسامه شقيقا للروح)،
وهو الذى فجَّرَ إنتصابه
(يكاد يفجر شظايا جسده، كما جعل شبكته فولاذيه، وهو الذى أعانه على ألا يستسلم للغل الذى انطلق من نظرتها (سناء) إذ قصدت أن تكويه بها.
”وبقوة غضبى الأزلى اقتحمتها، وهتكت سترها الذى ظل متأبيا عنيدا كل تلك الدهور”(ص129)
لكن بالرغم من هذا النجاح المحدد ”غرقنا فى راحة لذيذة كسلي، كمصارعين انتصرا معا”، وإنقلبت تلك المرأة الجدار التى تكوى بنظرات الغل إلي تلك التى “أثارتنى رقتها”، فأندفع فى جنس لا يهدأ، أهم ما فى هذا أنه بعد كل هذا النجاح أصبح الجنس أشبه بالوسواس القهرى ”مطاردا على درب شهوتى العنيدة التى لا ترتوى ولا تموت” (ص 129)
“أنت إنسان غريب ألا تشبع أبدا” (ص 130) إذن فقد انفلت الجنس منه، إنفصل عنه ربما لأنه انطلق عبر ثورة إطلاق “العنف والتقتيل” وإذكاء “قوة الغضب”، ونفذ إلى أعماقها، لكن بدلا من أن يرسى علاقةً ما، ذهب يشرب من ماء مالح
“صحراء روحى القاحلة لايرويها كل مائك”؟ (ص 130)
وحين ينفصل الجنس عن الوجود التكاملى يصبح جسما غريبا مشحونا بذاته لذاته، وربما كان هذا هو ما أسماه: “مائه العكر” أو “دمه الملوث”. وسناء تلتقط ذلك تحديدا، وترفضه، وهو يعجب لرفضها إياه: ”لماذا تريدين لى أن أخجل من دمي؟ أن أهيل التراب على بئر لذتى الذى ما سمم أحدا سواى”
فهل صحيح أنه ماسمم أحدا سواه؟
وهل يمكن أن يكون قد التقط ذلك فتمنى عدم الإنجاب؟ وأين أحلامه بالعمل اليدوى البسيط وإنجاب طفل ثم يردف ”كم كنت عادلا معك لأنني لم أسمم دمك يكفى هذا لنقول: …. إذن فالجنس لم ينجح أن يكون عاملا تواصليا، ويؤكد هذا أيضا تجربته مع نجوى (1) :
فمن ناحية هى التى دعته إليها ومن ناحية أخرى كانت هى التى توقفت لذتها تثبيتا على جنس محرم مع خالها فراحت تطلبه (لا تشعر بالذنب إزاءه) حتى مع زوجها، فلا تجده، فتثبتت عند اشتهاء هذا الألم الثاقب فراحت تستعمل جسدها مغتربا منقوصا بدلا من سفسطة عقلها، فكانت تستعمله دون أن تسمح بالنهاية أعلى القمة، “وعندما تفتحت مسام وجودها، أصطدم بحاجز شفيف صلب،لا أعرف كيف ولماذا تقيمة فى وجهى قبل لحظة الحسم ومع التهديد بالترك، ونجاحه واستسلامه لما أشارت به من إيلام، وفى لحظة واحدة كنت قد فتحت قلعتها وهدمت آخر تحصيناتها لكن ذلك أيضا لم يمثل علاقة إنسانية طبعا وإنما كان أشبه بالتدريب العنيف الناجح لمباراة لم تقم أبدا.
وهكذا عجز الجنس عن أن يكون تواصلا، ولم يتعد لعبة النصر السلطوى والاقتحام الرجولى العاجز عن الامتدادإلى النبض البشرى المتكامل.
وحتى الجنس الذى كان فى خلفية القصة، كان منفصلا وجسما غريبا لا تواصلا جسديا سواء مع سعاد الشغالة أو بالسمع مع ممدوح ابن الخالة أوتبريرا لزواج أبيه الثاني، أو ذلك الجنس الذى مارسه والده ليلة واحدة فأتى بأخته نُهَى المصروعة.
خلاصة وإضافات:
أرجو أن أكون قد استطعت أن أقدم فى هذه العجالة كيف عرض هذا العمل تعقيد العلاقة الإنسانية (العلاقة بالآخر) بالموضوع بشكل شديد التكثيف شديد العمق رائع التداخل فى الحضور، وأوجز فى النهاية ما حاولت تقديمه فى هذا الجزء كما يلى :
أولا: إن العائش منا فى الظل هو كائن بشرى له كل معاناة وحضور وآلام ومخاوف وطموح وآمال وتعدد وحركية وتطور وخلود إنسان القمة أو الإنسان فى النور أو الإنسان الشاخص فى المقدمة.
ثانيا: إن العلاقات الإنسانية التى تبدو غير سوية هى أساس فى التركيب البشرى وكأنها هى الأساسية، وقد أظهرها هذا العمل باستعمال أدوات الإبداع بحذق شديد، لكنه لم يخترع علاقات شاذة أو يفتعل تركيبات خاصة بأبطاله، لا يستثنى من ذلك الشذوذ الجنسي، أو مضاجعة المحارم، أو العنة، أو ارهاصات القتل.
ثالثا: إن اختزال العلاقت الإنسانية إلى تسطيحات ثنائية (أب وإبن :صراع الأجيال..إلخ) أو ثلاثية أب وأم وإبن (أو بنت) (أوديب- إلكترا ..إلخ) وقراءة بعض الأعمال من خلال هذه التركيبة المختزله هو نوع من التبسيط المخل بفهم النفس الإنسانيه.
رابعا: إن التنويعات والاحتمالات التى تناولها الإبداع فى هذا العمل فى عرضه واختباره لما هو إنسانى للشخص العادى حالة كونه فى الظل هو أعمق من عدد هائل من المراجع المتخصصة فى تشريح النفس الإنسانية.
خامسا: يبدو أن مشاكل الانسان المعاصر فى عصر “العولمة” “والشفافية، والمشتبكية” سوف تتخطى القيم التى ألفنا تناولها سواء قيم البطولة أو الوطنية أو العدل أو الحرية أو الحب، وهى تتخطاها لا بمعنى إهمالها أو التقليل من شأنها، ولكن بمعنى أن هذه القيم لتتحقق، لابد من العمل فيما تحتها وحولها وأعمق منها حتى لايلهينا الاستغراق فيها عن رؤية أصل التشويه الذى لحق بالطبيعة البشرية.
سادسا: إن الحب بمعناه المعروف سواء كان حب حنان أم سناء أم نجوى أصبح قصير العمر، وهو لا يثرى الطبيعة البشرية بأى قدر يناسب تعقيدها الذى عرضته الرواية، وإن كانت الرواية لم تقدم بدائل ممكنة، فلا حب الذوبان فى المجموع: مجاهد (ص118) “… ولأول مرة فى فى حياتى أرانى نقطة ذاتية في بحر مائج وتراجعت أحاسيسى بالغربة”، ولا الحب الذى بدا وكأنه يحاول تخطى كل الحواجز حتى حواجز الدين (حب حنان)، ولا الحب الجسدى المنفصل عن الحركة الدؤوب لإرساء علاقة (حب نجوى).
وكانت العلاقات البديلة ليست جاهزة على مستوى الممارسة الواقعية كما كانت المؤسسة الزواجية مضروية بلا هوادة، كما ظهرت:
(ا) فى الأسرة الكبيرة (الأب، وزواجه الثانى الذى لم يغنه عن حاجته للزواج الأول بلا طائل فى الناحيتين)
(ب) ما تمثله “حنان” وهى تدعى احتقارها (المسيحي) للحم والدم “نعم احتقرهُمَا، ولكنى أخافُهُما”
فيكمل هو لنفسه: “وفى يوم غير بعيد سيصلك الفارس المعتبر من دائرتك الحميمة وكنيستك المقدسة سيمتطى صهوة أشواقك وفانتازياتك الدينية ليندفع بك على طريق اللحم والدم الخ” (ص19)
سابعا: إن الجنس إذا فقد وظيفته التواصلية واقتصر على دوره الَّلذِّى أو الاقتحامى أو التفريغى أو الرمزى يصبح جسما غريبا لا ينفع إلا للتناسل أو التسكين والتأجيل.
وبعد
انتهت الدراسة يا شيخنا العزيز،
وقد عدلت عن عمل أى مقارنة مع السراب لأسباب لا تخفى عليك، أطال الله عمرك.
[1] – لاحظ هذا الفرق الدال فى قوله (لنفسه) لأنى مكتوب أنى أحبك وأنى أقتلك “ (ص 125) وليس مكتوب أن أحبك وأن أقتلك، لعل فى إستعمال ياء المتكلم ما يعنى ما أريد