نشرت فى الوفد
21-09-2011
فلاح خيرى شلبى وفلاح مجلس الشعب؟؟!!
رحل خيرى شلبى، ليحضر فى وعينا أكثر وأعمق، خطفك منا يا خيرى ذلك الذى لا يستأخر ساعة ولا يستقدم، خطفك وأنت تمسك القلم على مكتبك تكتب للوفد مقالك الأسبوعى، ولو كان أخذ رأى أية مليونية من المليونيات التى ازدحمت بها مصر هذه الأيام، لفزنا بإبقائك معنا بنسبة ديمقراطية غير مسبوقة، لم يمهلك صاحبنا ليسألنا كم نحن فى حاجة إليك بوجه أخص هذه الأيام، على الأقل: ربما تعرف القائمون على أمرنا على من هو الفلاح المصرى ومن هو العامل من واقع إبداعك، ما دام وقتهم وخيالهم لم يسعفهم أن يتعرفوا عليه من واقع الواقع. بصراحة يا خيرى أنا أحس بإهانة شخصية حين ينطق هؤلاء بكلمة فلاح أصلا. إيش عرفهم هؤلاء بهذه الكلمة، من أصله، إهييييييه؟!
ذات أمسية فاتحت شيخى نجيب محفوظ: ألم يفكر أن يكتب عن القرية أو عن الفلاح، أظن أن ذلك كان بمناسبة مسلسل اقتبسوه من قصته “حكاية بلا بداية ولا نهاية”، (لست متأكدا) حيث بلغنى أنهم جعلوا أحداث القصة فى المسلسل تدور فى قرية ما، فقال لى بأمانة نعلمها عنه جميعا أنه قاهرى صرف، وفهمت منه أنه لا يكتب عن مكان أو إنسان أو يستلهم هذا أو ذاك إلا إذا اختلط بوعيه حتى النخاع، ثم تطرق الحديث إلى المبدعين الذين كتبوا عن الفلاح المصرى بما هو، وجاء ذكر رواية الأرض لعبد الرحمن الشرقاوى، وترددت قبل أن اقول له رأيى فى أنها لم تصلنى منها صورة الفلاح المصرى كما أعرفها، وأنا أدعى أننى فلاح جدا، قلت له رأيى بحذر وأنا أعلم مدى تقديره لعبد الرحمن الشرقاوى، فخيل إلى أنه وافقنى حين أضاف: أنه يبدو أن الشرقاوى قدم لنا فلاحا مستوردا من الكتلة الشرقية أكثر منه الفلاح المصرى بجذوره الضاربة فى التاريخ الممتدة من الأرض إلى كل السماوات، تشجعت ورحت أسأله عن الروائى الذى نجح فى تجسيد الفلاح المصرى بكل كثافته وتناقضاته وحيله وطيبته وكرمه وحرصه وإصراره ولؤمه وصبره، وذكرت له ملامح من نقدى لرواية عبد الحكيم قاسم “أيام الإنسان السبعة” ، فذكرنى هو بخيرى شلبى، وتحدث عنه بكل إعجاب واحترام، ولم أكن قد قراته بما يكفى.
لم أعرف خيرى شلبى عن قرب، أول ما التقيته كان سنة 1980 حين حصل على جائزة الدولة التشجيعية فى أدب الرحلات، وكان ذلك فى لقاء إذاعى غالبا مع الأستاذ فاروق شوشة بمشاركة الأديب المبدع جمال الغيطانى وشخصى بمناسبة حصولنا على نفس الجائزة التشجيعية فى نفس العام فى الأدب الروائى، وكنت محرجا منهما، وخاصة لما أثير حول ظروف نيلى الجائزة، وإذا بى أجدنى وسط مصريين أمناء عدول يغمرنى قبولهم وكرمهم وتقديرهم، لم تصلنى يومها ملامح فِـلح خيرى العريقة كما وصلتنى بعد ذلك من إبداعه، لكن وصلنى تواضعه وحضور ذهنه وحدة ذاكرته.
المرة الثانية التى التقيته فيها كانت بعد أكثر من عشرين عاما حين حضر ذات يوم جمعة ليشارك الأستاذ نجيب محفوظ مجلسه المنتظم فى بيتى، كان خيرى ليلتها مقلا فى الحديث، لكنه أشار لى وسط بضع الجمل التى تبادلناها أنه يحب أن يكون لى رأى فى إنتاجه الأحدث، وفرحت، واعتبرتها شهادة أعتز بها، وتمنيت أن أفعل.
روح يا زمان، تعالى يا زمان، قرأت رائعته “لحس العتب” التى صدرت طبعتها الأولى سنة 1991. وقال عنها خيرى: “إنها لم تقرأ جيدا”، وكان رأيه هذا هو الذى جعلنى أبدأ نقدى المقارن لها مع “قنديل أم هاشم” ليحيى حقى بتوجيه خطابى إليه أنه “…ها نحن نحاول يا عم خيرى، أن نقرأها معا لنرى لم هى “الأحب” إليك،..،…”. رحت أجتهد فى الدراسة النقدية المقارنة، وإذا بى أفاجأ ليس فقط بهذا الإبداع المستحيل، بل بأننى أكتشف من خلالها عن تركيب النفسى الإنسانية وأمراضها وعلاجها (خاصة الشعبى منه) ما عجزت عن أن أحصل عليه من كل ما مررت به من مراجع متخصصة خلال عدة عقود، فأنا أتعلم أعماق ما يهمنى فى تخصصى النفسى الدقيق من الأدب (ومن مرضاى) أكثر مما أتعلمه من المراجع النفسية بكل تصنيفاتها. رحت أتعرف من جديد على أبعاد أخرى غير التى عرفتها من ديستويفسكى ونجييب محفوظ وغيرهما، أبعاد أعمق شديدة الحركية والتكثيف لما يسمى “النفس الإنسانية” فى الصحة والمرض (الجسمى والنفسى جميعا)، وطمأنتى الرواية على كثير من فروضى، كما أضافت إلى معرفتى بالنفس ما عجزت كتب علمى أن تقبله ولو كفروض عاملة، كما أضافت لى الرواية ما دعم منطلقى النقدى الذى أطلقت عليه اسم “التفسير الأدبى للنفس” لأناقض به المصطلح الشائع “التفسير النفسى للأدب”، وهو المنطلق الذى بدأت أجمعه نقدا منتظما وصدر لى منه أول كتاب بعنوان “تبادل الاقنعة” من منشورات قصور الثقافة”،
كشف خيرى فى هذه الرواية بتلقائية سلسلة، وحدس رائع عن المنظور البيولوجى الإيقاعى فى صورتيه الإيجابية والسلبية، وهو يتعامل بإبداع فائق مع الصحة والمرض من خلال التقابل بين هارمونية الصحة واستلهام الإيقاع الحيوى الكونى مع تمام القمر، فى مقابل نشاز المرض حين يتمثل فى نيزك ضال يزيد انفصالا عن جاذبية هارمونية الصحة بالغوص فى الخرافة المتمثلة فى القاذورات المتجمعة على عتب مسجد سيدنا، انفصالا نشازا عن دوائر الذات والكون الإيقاعية الحيوية، فى مقابل ما وصل إليه حدس خيرى من إيجابية العلاج الشعبى حين يرتبط بالإيقاع الحيوى، وظهور القمر وصلاة الجمعة ، وقارنت كل ذلك بما ذهب إليه حدس يحيى حقى فى قنديل أم هاشم (مجلة وجهات نظر مارس 2005)
أضاف لى هذا العمل إضافات أخرى تمنيت أن يصل بعضها إلى الجالس على مقاعد مجلس الوزراء فمجلس الشعب ليصله أن الإنسان (وأى موضوع) لا يوجد إلا وهو ملتحم بمكانه، فإذا حالت انشغالاتهم أن يعايشوا بعض ذلك لحما ودما ليتعرفوا على فلاحينا، فلا أقل من أن يتعلموا من مبدعينا قبل وبعد أن يرحلوا.
استطاع خيرى أن يُحضر القارئ معه فى هذا العمل داخل المندرة والخزنة، وحتى تحت الترابيزة، سواء فى حركة مواكبة، أو من خلال دعوة مباشرة مثل وصفه لداخل المكان ، نقرأ معا: “… فإذا انفتح النصف العلوى من الشباك، …. حينئذ يندهن شكل الضحى بلون السماء الصافية، … وما أسرع ما تفوت الشمس غارقة فى خجل الحياء تاركة فوق الحائط المواجه بقعة من دمائها كالكرة الحمراء، تظل تضيق وتضيق إلى أن تمحوها ظلال المغيب، هذه الظلال التى ظلت تسكن المندرة منذ سنوات طويلة، منذ أن كفت مندرتنا عن استقبال الضيوف المهمِّـين ..إلخ”.
لو كان الأمر بيدى، لطلبت من كل من يتصدى لإصدار الحكم تلو الآخر وهو يتفاخر بأنه يحجز نسبة 50 % من المقاعد للعمال والفلاحين، لطلبت منه أن يحضر فعلا إلى حيث الفلاح ملتحما بمكانه الأصلى، أو حتى أن يقرأ من عطاء خيرى مثلا ما يسمح له أن يتمثل جلسة ضيوف عبد الودود أفندى والد فخرى حول الترابيزة المحور التى دارت حولها الرواية. صوّر شلبى مجالس السياسة فى الريف المصرى بحيوية يفتقدها الجميع الآن، وحين عينوا والد الراوى “عبد الودود أفندى” رئيسا للوزراء ولم يفعل سوى أن هتف لوزارته باسم عائلته “تحيا الوزارة الزعلوكية” لم يردد أحد هتافه، فأقسم بالطلاق أنهم يكرهونه (بما فى ذلك من دلالات) وانتهى الموقف تقريبا بقول محمود جميل “قدر يا أخى أننا لقيناك ما تصلحشى للوزارة حانسيبك ولا نرفدك”؟ كان للكفيفين الشيخ محمد بقوش (كعبلها) والشيخ زيدان زيدان (عالم الأزهر) دورهما السياسى الرائد ، كذلك قدم خيرى خفة ظل الفلاحين الساخرة غالبا، جنبا إلى جنب مع قوت يومهم من الحقد الطبيعى، والشماتة الصعب إخفاؤها. ولم يفت خيرى رسم حضور الاهتمام السياسى الريفى البسيط، الذى يتجاوز الشأن المحلى إلى السياسية الخارجية (الحديث عن الحاج هتلر).
هذا هو الفلاح المصرى الحقيقى! فما هى يا ترى ملامحه الأخرى البلاستيك؟ على مقاعد مجلس الشعب؟ أو فى أعلى القوائم؟
يا أسيادى العظام: إن لم تعرفوا من هو الفلاح المصرى فى الواقع المصرى على أرضنا الطيبة فلا أقل من أن تقرأوا من كتب عنهم من المصريين المبدعين العظام، قبل أن يرحلوا عنا وفى قلوبهم تلك الغصة التى خطفت منا هذا العزيز وهو يكتب مقاله للوفد، ولعل هذه المقارنة حضرته، فقضى نحبه.
يا للخسارة!! رحمه الله، وغفر لنا.